12/10/2009

شغب الشباب في اليوم الوطني


الشغب واعمال التخريب التي شهدتها مدينة الخبر يوم الاحتفال بالعيد الوطني ، بحسب المعلومات التي اوردتها الصحافة المحلية ، تؤكد الحاجة الى معالجة لا تقتصر على التعامل الامني الميداني. لا يمكن القطع بان اعمال الشغب تلك هي نتيجة لعمل منظم ومخطط له بشكل مسبق ، رغم اننا لا نستبعد هذا الاحتمال . لكن بعيدا عن الجدل في هذا الاحتمال او ذاك، فان تلك الحوادث تستدعي تاملا عميقا في الدواعي والظروف التي تحمل عددا كبيرا نسبيا من الشباب على اتباع سلوك من هذا النوع ، مع علمهم بالنتائج السلبية التي يمكن ان تترتب عليه ، ومن بينها الاعتقال او الفصل من العمل .
يمكن ان نناقش المسألة في اطار "تنامي الميل للمنازعة عند الشباب" وهي ظاهرة اجتماعية معروفة. او يمكن مناقشتها كواحد من انعكاسات الجدل النفسي الداخلي الذي يرافق اعادة تشكل الهوية الشخصية ، ولا سيما في ظرف التفكك غير المخطط للهويات التقليدية ومنظومات القيم لصالح اخرى متوائمة مع الظرف الثقافي والاقتصادي الفعلي الاقرب لظرف الحداثة . واخيرا قد يمكن فهمه كتعبير عن رغبة عارمة في تاكيد الذات والحصول على دور في الحياة العامة . هذه الاحتمالات كلها هي مخرجات وانعكاسات لظواهر اجتماعية طبيعية تشهدها المملكة في سياق تطورها الاجتماعي والسياسي ، وهي تحدث في كل مجتمع يعيش ظرف نمو احادي او غير متوازن.

وحتى لو اخذنا بفرضية كون تلك الاعمال منظمة ومخططة من قبل جهة ما ، وهو امر غير مستبعد كما سلف ، فانه لا يمكن القطع بان استعداد الشباب للانخراط فيها هو نتيجة لالتزام ايديولوجي عميق . لكن يمكن القطع بان التخطيط ما كان لينجح لولا وجود قابلية في نفوس هؤلاء الشباب ، سببها الرئيس هو احد الاحتمالات الثلاثة المذكورة. بعبارة اخرى فان الذين يمارسون الشحن الايديولوجي ، ويشجعون الشباب على التمرد ويبررون تخريب املاك الاخرين وايذاءهم ، يستثمرون استعدادا قائما في نفوس الشباب وقابلية متوفرة سلفا ، هي نتيجة للشعور بالاحباط او الاغتراب او انعدام التوازن او التضاد الثقافي او الاقتصادي.

 واذا اردنا اتقاء تكرار هذه الحالة في المستقبل او توسعها ، فاننا بحاجة الى اسراتيجية موسعة تشبه ما يسمى في دول اخرى بشبكة الامان الاجتماعي . شبكة الامان هي نوع من المبادرات التي تستهدف تقليل الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي غير المتوازن على الشرائح الاكثر عرضة للضرر. صحيح ان معظم الدول التي طبقت هذه الفكرة ركزت على الجانب الاقتصادي ، الا ان الفكرة بذاتها ترمي الى تعويض الفئات الاضعف ، التي لا تستطيع مواكبة التغيير في السوق او في الثقافة او في النظام الاجتماعي.

استراتيجية كهذه ينبغي ان تكون استثنائية ، اي غير ملتزمة بحدود القوانين والاطارات القائمة فعليا ، لانها قامت في الاساس بسبب الاعتقاد بعدم قابلية تلك الاطارات لاستيعاب كافة مخرجات النمو ولا سيما احتواء الحالة المراد علاجها. خلال السنوات الاخيرة شهدنا ظهور مبادرات عديدة تهتم – كما هو معلن – بالشباب . لكن يؤسفني القول ان معظمها مصاب بضيق الافق ، فقد تعامل مع الموضوع كحلقة منفصلة ، لا كجزء من ظاهرة اجتماعية اوسع. بعض هذه المبادرات ركز على توفير الوظائف وبعضها اهتم بما يشبه النشاطات الكشفية واخرى اهتمت بالرياضة . وهذه كلها علاجات لجوانب من المسألة  ، لكنها تفتقر الى الشمولية المطلوبة كما تفتقر الى قاعدة نظرية تفسر جوهر المشكلة وتداعياتها وتمظهراتها المختلفة .

واعتقد ان المدخل الاوسع لمعالجة قضايا الشباب هو تمكين المجتمع المدني من تنظيم نفسه واطلاق مبادراته الخاصة. ولهذا فقد يكون من الضروري التعجيل باصدار نظام الجمعيات الاهلية الذي اقره مجلس الشورى منذ زمن طويل نسبيا . هذا النظام هو الاطار القانوني الذي يمكن ان يستوعب المبادرات الاجتماعية وينظمها في الاتجاه المطلوب.
اما على مستوى الحدث نفسه ، فان توقيته يكشف عن تفارق بين مفهوم الوطن والاحتفال به بين المستويين السياسي الديني . ولا اظن ان مبعث هذا التفارق هو اجتهادت او اراء فقهية مجردة عن الانعطاف السياسي . لكن هذا بحث يطول ، و ربما يكون موضوعا لمقالات تالية .
عكاظ 12 / 10 / 2009

مقالات ذات علاقة

·         تجارة الخوف
·         تجريم الكراهية
·         طريق التقاليد
·         فلان المتشدد


05/10/2009

مشروعات في صحافة غافية


تلعب الصحافة المحلية الدور الأبرز في صياغة وعي الجمهور بالدولة والإدارة العامة وبالواقع الذي يعيشه. الصحيفة اليقظة ترصد ما يقال وتبحث عما يمكن أن يكون وراءه، وتحقق في سلامته قبل أن تعرضه على القارىء. والصحفية الغافية أو المتثائبة تكتفي بالفرجة والنقل بل ولا تجد حرجا في «تلوين» ما يقال حتى يصبح المنشور جذابا أو ربما خداعا.
ليس لهذا الكلام مناسبة سوى تكرر الأخبار التي تنشرها الصحافة المحلية والتي بدا لي أنها تنطوي على الكثير من نقاط الشك. وأجد في بعض الأخبار والتعليقات مثالا على الصحافة الغافية أو الغافلة، وفي بعضها الآخر مثالا على الصحافة اليقظة الواعية. الغفلة المقصودة قد تتمثل في نقل أمنيات لأحد المسؤولين وعرضها على القراء باعتبارها خبرا عن واقعة. وقد تتمثل في تغيير صيغة كلام المسؤول بتحويله من صيغة «سوف نفعل» إلى صيغة «قد فعلنا»، وأحيانا من صيغة «نفكر في» إلى صيغة «نعمل على».
وقد تتمثل الغفلة في تضخيم عمل صغير وعرضه كحل نهائي وتاريخي لمشكلات كبرى. مثل ذلك الذي تحدث عن مشروع غير مسبوق لإصلاح الثقافة العربية، وتبين في نهاية المطاف أنه يتحدث عن «كتاب» يعتزم تأليفه. أو ذلك الزعيم الذي قال أنه توصل إلى الحل النهائي لإيديولوجيا الحكم وفلسفة السياسة في العالم كله ووضع ما أسماه «النظرية العالمية الثالثة». وحين اطلعت على تلك الجوهرة التي طال انتظار العالم لها، وجدتها تتلخص في ثلاثة مقالات تفتقر إلى التماسك العلمي والاستدلال، بل تفتقر إلى أي أساس يسمح باعتبارها «نظرية» بالمقاييس العلمية المعروفة. لكن الناس تتكلم وتكتب، والناس تقرأ وتضحك، أو تقرأ وتبكي، أو تقرأ ثم تذهب إلى السوق للاستفادة من ورق الصحف في لف الخبز والخضراوات وغيرها من الاستعمالات المفيدة.
عودا على الصحافة الغافية، قرأت يوم أمس خبرا تنقله الصحافة المحلية عن وزير الكهرباء، يقول إن الشركة السعودية الموحدة للكهرباء قد «خصصت 80 مليار ريال» لاستيعاب الطلب المتزايد على الكهرباء والحد من انقطاع التيار خلال السنوات القادمة. ويقول الخبر أيضا إن المملكة ستحتاج إلى 30 مليار ريال سنويا لهذا الغرض. نفهم أن تعبير «تخصيص المال» يعني أنه موجود ومحجوز لعمل محدد. ونفهم من السياق أن ذلك المال سيصرف خلال الأعوام الثلاثة القادمة.. لكن الصحيفة لم تقل لنا متى جرى تخصيص ذلك المبلغ الضخم ومن أين جرى تأمينه.. من ميزانية الدولة أو من قروض بنكية أو من إيرادات الشركة نفسها ؟. وإذا فرضنا أنه سينفق مثلما يفهم من الخبر خلال سنتين ونصف، فماذا عن السنوات التالية ؟.
ربما يكون كلام الوزير سليما لكني لم أفهم فحواه، وربما يكون كلامه انتقالا بين صيغة «يجب أن نفعل» وصيغة «فعلنا» أو «سوف نفعل». وربما يكون مجرد حديث عن أفكار وهموم أراد معاليه اطلاع المواطنين عليها، وله الشكر على ذلك. لكن العتب على الصحيفة التي لم تقدم الخبر بالصيغة التي توضح المقصود.
في مكان آخر تتحدث صحيفة عن مشروع لإنشاء سكة حديد تمتد من جنوب المملكة حتى جدة. وعن مشروع آخر يربط الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. وذكرني هذا بمشروع جرى الحديث عنه في السنوات الماضية يتناول إعادة إنشاء الخط الحديدي الحجازي، ومشروع لإنشاء جسر يربط المملكة بمصر، وتعرض هذه المشروعات كلها باعتبارها خططا قيد التنفيذ أو بانتظار التنفيذ. لكن لو دققنا في كل مسألة على حدة فسوف نجد أنها مجرد أفكار أو اتفاق على دراسة المشروع أو خطة بعيدة المدى للتنفيذ بعد نصف قرن أو ربع قرن إذا توفرت شروط مناسبة أو .. أو .. إلخ. بعبارة أخرى فإنها ليست مشروعات على الطاولة، بل أوراق على الرف.
لكن الناس يقرؤونها على طريقة الصحافة الغافية فيستبشرون خيرا ويظنون أن مشكلة المواصلات بين جازان وجدة ستنتهي بعد سنتين أو ثلاث، أو أن مشكلة انقطاع التيار ستصبح ــ بعد سنة أو سنتين ــ تاريخا يحكى للأولاد، أو أن الطبيب سيأتي للمريض في بيته بدل أن ينتظر في ممرات المستشفى ساعات كي يرى طبيبه، أو أن الطريق الذي لا يراه مدير البلدية كل يوم قد رصف وأضيء وزرع وبنيت أرصفته مثل الطريق الذي يراه الرئيس صباحا ومساء، أو ... أو .. إلخ.

18/09/2009

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2


 يعتقد كثيرون ان اليمن قد تحول فعليا الى منطقة تجمع لتنظيم القاعدة ، وان منطقة الخليج قد تشهد موجة جديدة من الارهاب شبيهة بتلك التي عرفناها قبل اقل من عقد من الزمن. المحاولة الفاشلة لاغتيال مساعد وزير الداخلية السعودي الامير محمد بن نايف اعادت التذكير بان المنطقة لا زالت هدفا لشبكات العنف الذي ظننا انه قد تراجع في العامين الماضيين . المؤكد ان معظم اهل الخليج متفقون على ادانة التوسل بالعنف المسلح لاي غرض سياسي او ديني  او اجتماعي .  لكن هذا التوافق لا يكفي لمواجهة الموجة الجديدة المحتملة . اعتقد اننا لم نفعل في السنوات الماضية ما يكفي للقضاء على بؤر الارهاب وتفكيك البيئات الاجتماعية التي تولده او تحتضنه . هذا التقصير يتجلى في عنصرين مهمين : اولهما هو التقصير في تحقيق العدالة الاجتماعية الضرروية لفرض هيبة القانون ، والثاني هو الموقف السلبي او الانهزامي تجاه انتشار التطرف الديني في المنطقة ، بل واستعماله احيانا لاغراض سياسية مؤقتة.
كنت اعتقد ولا ازال ان ضعف الحكومة  يوفر فرصة ثمينة للخارجين عن القانون . الحكومة قد تكون ضعيفة حتى وهي ترفل في السلاح من قمة راسها الى اخمص قدميها . قوة الحكومة ليس بعدد جنودها ولا بحداثة اسلحتها بل بقدرتها على ترسيخ هيبة القانون . الاغلبية الساحقة من الناس يميلون للقبول بالقانون والخضوع له لانهم يريدون العيش في سلام . واذا احترموا القانون فسوف يتعاونون مع الحكومة التي تطبقه ، وعندئذ سوف تتحقق مقولة "كل مواطن غفير" . اما اذا كان القانون ظالما او لم يطبق على الجميع بالتساوي ، او كانت الحكومة بذاتها غير عادلة في توزيع الموارد العامة والفرص ، فان معظم الناس سيجدون تبريرا للتهرب من القانون وسوف يميلون الى التستر على اعداء القانون والخارجين عنه . جميع الذين درسوا مشكلات الارهاب والعنف المسلح في السنوات الاخيرة حذروا من "البيئة المساعدة للعنف" اي القاعدة الاجتماعية التي يحتمي بها الارهابيون . وقد راينا امثلة عنها في لبنان والعراق وباكستان والكثير من الدول التي شهدت موجات ارهابية في السنوات الاخيرة . الفقر والجهل بيئات مولدة للارهاب ، لكن انعدام العدالة الاجتماعية تظل اسوأ لان الناس يستطيعون معالجة الفقر والجهل بانفسهم ، لكن الناس لا يستطيعون تحقيق العدالة في توزيع الموارد والفرص . الحكومة هي الجهة الوحيدة القادرة على تحقيق هذه المهمة التي يتجاوز حجمها ومتطلباتها طاقة الافراد العاديين . ابرز تجسيدات العدالة الاجتماعية هو المساواة بين الجميع في الفرص والاعباء . المساواة تجعل القانون محترما ومطلوبا ومحميا من قبل عامة الناس ، لان القانون هو الوسيلة التي تضمن لهم العدالة .

بعبارة اخرى فان سيادة القانون لاتتحقق اذا فرضت الدولة نظامها او اجبرت الجميع على الطاعة والخضوع . سيادة القانون تتحقق اذا اعتقد جميع الناس او اغلبيتهم الساحقة بان ما تفرضه الدولة عليهم سيؤمن مصالحهم وسيعطيهم فرصا متساوية ، اي سيكون الطريقة التي تطبق الدولة من خلالها مبدأ العدالة الاجتماعية.  

مقالات ذات علاقة

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

العامل السعودي


غلو .. ام بحث عن هوية

14/09/2009

كي لا نصبح لقمة في فم الغول


سواء كنت يمنيا أو كنت عراقيا، سواء كنت مسلما أو مسيحيا، سواء كنت عسكريا يشارك في حماية أمن الناس أو عاملا يكدح من أجل قوت عياله، وسواء أكنت ممن يقاوم العنف أو كنت عابر سبيل. أيا كنت، في أي مكان كنت، أي مذهب اتبعت، وأي طريقة من الحياة اخترت، فأنت مستهدف بالعنف الأعمى الذي يحصد الأرواح ويدمر الممتلكات.

 في زمان الجاهلية كانت العرب تمتنع عن الحرب في الأشهر الحرم، وفي كل أزمان المسلمين كان المتحاربون يتقون القتل في المساجد. وفي كل أنحاء العالم ثمة اتفاق ضمني على عدم استهداف القادة والشخصيات العامة التي لها قيمة رمزية أو وطنية. عرب الجاهلية ويهود ونصارى هذا العصر التزموا - بدافع أخلاقي بحت - باحترام كرامة عدوهم لأنه، مهما كان سبب عداوته، إنسان مثلهم. وقد نهى الشرع الإسلامي قبل قرون من معاهدة جنيف التي تحمي حقوق المتقاتلين عن التمثيل بالقتيل وتدمير مصادر الحياة ووسائلها، والعفو عن الضعيف والعاجز. تلك هي تجربة الإنسان وتراث الإنسانية الذي ميزه عن الحيوان حتى في العدوان والحرب.

أما وقد وصلنا إلى «زمن القاعدة» فإن تراث الأديان وتراث الإنسانية لا يعني شيئا، فحربهم قائمة في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل إنسان. القتل عندهم مثل الصلاة ومثل شرب الشاي. الكلام في القتل مثل السؤال عن الصحة والأحوال. المسدس مثل سكين الفاكهة والقنبلة مثل التفاحة والبشر الذين يموتون في الانفجارات مثل أضاحي العيد، تذبح ثم تروى القصص ويتبارى المتحدثون في استذكار الطرائف التي حدثت أثناءها. لا شيء في القتل يبعث على الرهبة ولا مشهد الدم الحرام يثير الأسئلة ولا صرخات الجرحى والمكلومين تحث على التعوذ والاسترجاع. كل شيء مباح ما دام طريقه متاحا.

لم تعد القاعدة وأخواتها وتيارها مجرد تنظيم سياسي يسعى لأغراض محددة معلومة. منشوراتهم لا تذكر أهدافا وأنصارهم لا يعرضون غايات محددة كي يناقشهم الآخرون في سلامة الوسائل التي يتوسلون بها. فكأن القتل أصبح غاية بذاته، وكأن إرهاب الناس وتخويفهم أصبح مقصدا بذاته.

ما الذي أوصل جماعة انطلقت من دوافع دينية إلى هذا التفريط المريع في قيم الإنسانية وحدود الدين؟. أهو الدين نفسه، القهر، أم الشحن الإيديولوجي المبالغ فيه، أم الإحباط المطلق واليأس من كل وسيلة إنسانية؟.

ربما يحتاج الأمر إلى دراسات معمقة ونقاشات طويلة حتى نتبين السبب الذي أوصلنا إلى هذه الحال. لكن دعونا نتأمل في أقوال المتراجعين من أنصار القاعدة والسائرين على خطها الذين أصدروا ما وصف بمراجعات، وقد رأينا أمثلة عن هؤلاء بين من عادوا من أفغانستان وبين الجهاديين المصريين والجزائريين والليبيين. هؤلاء جميعا يتحدثون عن الطريق الذي قادهم إلى طريق العنف. ذلك الطريق هو التطرف الديني أو الغلو في الدين أو ما شئت فسمه. أي بعبارة اخرى الشحن الايديولوجي الذي يساوي بين الصفاء الديني وبين الخروج على المجتمع واستهدافه بالحرب.

تبدأ المسالة بنقاط بسيطة حيث يقوم دعاة مؤدلجون بتصوير الصراع بين التيار الديني وتيارات المجتمع الأخرى على أنها حرب وجود بين الإسلام والكفر: إذا أردت للإسلام أن يبقى فيجب أن تستأصل جميع معارضي التيار الديني. وهم لا يقصدون بالتيار الديني الملتزمين بالشعائر الدينية ولا يقصدون الدعاة ولا يقصدون النشطين في الحقل العام العاملين لرفعة مجتمع المسلمين، بل يقصدون على وجه التحديد أعضاء الجماعة الخاصة التي تتبع منهجا معينا منفردا في لغته واستهدافاته وهمومه.

يجري إقناع الأفراد بأن جميع الناس - خارج الجماعة - منحرفون أو مبتدعون أو جاهلون أو ضالون، وإن الدولة وأجهزتها ومؤسساتها والعاملين فيها أعوان للضلال أو متسامحون فيه أو ساكتون عنه. يؤدي اقتناع الفرد بهذه الرؤية إلى جعله يائسا من كل وسيلة للإصلاح تتوسل بالقانون أو أعراف المجتمع أو العلاقات الإنسانية. ويأتي بعد ذلك التصوير الإيديولوجي للدعوة الدينية التي قامت - حسب تلك الرؤية - وانتشرت وغلبت بقوة السلاح لا بقوة الحجة والمنطق. ويقال للفرد حينئذ: إذا أردت طريق الجاهلية فالقانون والمجتمع يقودانك إليها، وإذا أردت طريق الرسول فالبندقية أول الطريق.

إذا كان التطرف هو أحد مداخل العنف، فدعونا نفكر في صور التطرف المنتشرة في مجتمعنا، دعونا نفكر في انعكاساتها على هذه المسألة بالذات. لقد سكتنا طويلا عن مشكلة العنف وقد حان الوقت الآن كي نتكلم أو على الأقل كي نفكر بصوت عال.

07/09/2009

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1


أتفق تماما مع الأستاذ مشاري الذايدي بأننا لم نفعل ما يكفي لتحييد التطرف الذي يوفر المدد البشري والفكري لشبكات الإرهاب. المحاولة الفاشلة لاغتيال سمو الأمير محمد بن نايف أعادت التذكير بأن المملكة لا زالت هدفا لشبكات العنف الذي ظننا أنه قد تراجع في العامين الماضيين. المؤكد أن معظم السعوديين متفقون على إدانة التوسل بالعنف المسلح لأي غرض سياسي أو ديني أو اجتماعي.
الحوادث الأخيرة كشفت عن حقيقة مؤلمة ربما أغفلناها طوال الأشهر الماضية، وهي أن هناك من يعمل بقصد أو بجهالة على تغذية اتجاهات العنف في المجتمع، من خلال تصوير المنافسين كأعداء للدين أو تصوير الصراع الفكري والسياسي الطبيعي كمعركة حياة أو موت بين الاتجاه الديني التقليدي والاتجاهات المنافسة. ذلك الشخص الذي يقول على شاشات التلفزيون إنه لو التقى بالدكتور تركي الحمد لبصق في وجهه، وذلك الذي يتحدث عن القتل والقتال والردة كما لو كان الأمر يتعلق بعنز في سوق المواشي، وذلك الذي يدعو الشباب إلى التصدي بأيديهم لكل من خالف تقاليده أو متبنياته الدينية، وذلك الذي يبرر قتل الناس في دول أخرى لأن مذهبهم باطل أو لأن دينهم محرف.
كل هؤلاء ينفخون في شراع الإرهاب عن وعي أو عن جهالة. فهم يصورون العنف كتعبير وحيد عن صفاء العقيدة، وهم يهونون من قيمة الدم الحرام حتى تتحول إراقة الدم إلى حلم يلح على ذهن الشاب البسيط الذي يريد إن يكتشف ذاته إو يجسد رجولته إو يفي بدينه تجاه ربه إو تجاه شيخه. 
نحن لا نتحدث عن حالات فردية. لقد تحول التطرف الديني إلى غول يأخذ بخناق البلاد، وتراه أمامك في كل يوم، في المساجد والمدارس والتلفزيون والصحف والإنترنت. هذا الغول أدرك اللعبة السياسية وأجادها، في مثل هذه الأيام تراه ساكتا خامدا، حتى إذا تراخى اهتمام الناس بحوادث العنف السياسي، نهض من بياته محاربا هذا وشاتما ذاك. يعمل هذا الغول السياسي على استغلال كل قضية لتجنيد الناس ونفخ ثقافة العدوان فيهم وتعزيز الكراهية بينهم وبث اليأس والارتياب في نفوسهم. وهو يضع كل عمل من هذه الأعمال في قالب ديني، فكأنه صاحب الشريعة أو ممثلها الوحيد، وكأنه الناطق بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يحرص الشباب جميعا على دينهم وسلامة مجتمعهم. هذه المشاعر النبيلة تمثل مدخلا لتعزيز شعورهم بالمسؤولية وحماستهم لتنمية ذواتهم والمساهمة في إنماء مجتمعهم. لكن دعاة التطرف يستثمرونها في زرع الإحباط والشعور بالمهانة عند الشباب. وهم يوجهون هذه المشاعر السلبية نحو منافسيهم السياسيين أو الاجتماعيين، أي جميع شرائح المجتمع عدا الفئة التي تدور حولهم وتردد أقوالهم. ينظر أولئك المتطرفون إلى كل إنسان باعتباره عدوا فعليا أو عدوا محتملا. أما لأنه يتبع منهجا دينيا منفتحا، أو لأنه يركز على قضايا الإصلاح الاجتماعي والثقافي، أو لأنه يتطلع إلى أسلوب حياة مختلف، أو لأنه يعبر عن آراء غير تلك التي تحمل ختم «الفرقة الناجية»، أو لعشرات الأسباب غير هذه وتلك. في كل الأحوال فإن يوميات دعاة التطرف هؤلاء مكرسة للبحث عن أعداء أو اصطناع أعداء أو وصف أعداء . كتاباتهم وخطاباتهم ومجالسهم مكرسة في معظمها للحديث عن «الآخرين» أي الأعداء الفعليين أو الأعداء المحتملين.
الشاب الذي ساقته أقداره إلى حلقات هؤلاء المتطرفين سوف ينزلق بالتدريج إلى حمأة العداوة، سوف ينشغل ذهنه بالتخلص من الأعداء الواقعيين والمتخيلين بدل انشغاله بتطوير كفاءاته وبناء حياته. نموذج الحياة الفاضلة الذي يرنو إليه سوف يتجسد في الانتصار على أولئك الأعداء المفترضين، بدل الانعتاق من الجهل والخرافة والفقر.
التطرف والتطرف الاجتماعي والثقافي هو الذي يبرر العنف ويجعله اعتياديا، مقبولا، بل ومحبذا. ولهذا فإن تجفيف منابع الإرهاب ، يتطلب إيضا كسر شوكة التطرف وإعادة المتطرفين إلى مكانهم الطبيعي، بعدما تحولوا إلى غول يسعى للهيمنة على حياة البلاد الثقافية والفكرية والاجتماعية.

صحيفة عكاظ   7 سبتمبر 2009م - 
http://www.okaz.com.sa/new/Issues/20090907/Con20090907303172.htm

مقالات ذات علاقة

جرائم امن الدولة : وجهة نظر اخرى

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

إشارات على انهيار النفوذ الاجتماعي للقاعدة

اعلام القاعدة في تظاهرات عربية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

كي لا نصبح لقمة في فم الغول

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

العامل السعودي

غلو .. ام بحث عن هوية

04/09/2009

دعوة لاستقالة المرأة



يعتزم عدد من النساء السعوديات تنظيم حملة بعنوان "ولي امري ادرى بامري". وخلفية الحملة كما تقول السيدات الفاضلات هو مقاومة التيار التغريبي الذي بدأ يؤثر بقوة في المجتمع السعودي ، تاثيرا يزاحم التقاليد المقيدة لحركة النساء ، ولا سيما تلك التقاليد المحمية بالقانون . ولم يثر هذا الاعلان حماسا كبيرا في الشارع السعودي ، حتى بين اولئك المصنفين عادة ضمن الفريق التقليدي الذي يتبنى عادة مثل هذه الافكار.

وأظن ان معظم الناس سوف ينظر باستهجان الى هذه المبادرة ، لانها تأتي في الاتجاه المعاكس تماما لتطلعات المجتمع ولا سيما نصفه النسائي. في كل دول العالم تتمتع المرأة بحد ادنى من الحقوق مثل الاعتراف بوجودها المستقل وتساويها مع الرجال في حقوق التملك والتعليم والوظيفة واختيار شريك الحياة. لكن بالنسبة للمجتمع السعودي فان هذه الحقوق الاولية ليست منجزة . ثمة شريحة واسعة من التقاليد والاعراف الموروثة تشدد على تبعية المرأة للرجل ورهن حصولها على حقوقها بموافقته .

وقعت المملكة على عدد من الاتفاقيات الدولية الضامنة لحقوق النساء واهمها ربما هو "العهد الدولي لازالة كل اشكال التمييز ضد المرأة" المعروف اختصارا باسم "سيداو". كما ان الحكومة اقرت في اوقات مختلفة اجراءات يفترض ان تسهل للنساء التمتع بتلك الحقوق الاولية . لكن معظم تلك الالتزامات بقيت حبرا على ورق بسبب مقاومة فريق من التقليديين المتشددين الذين يخشون من ان اي تنازل مهما كان صغيرا سوف يتحول الى سيل لا يمكن مقاومته .
وقبل عامين قرر وزير العمل الزام المتاجر التي تبيع ملابس نسائية داخلية بتوظيف سيدات ، وكان متوقعا لهذا القرار ان يسعد التقليديين الذين يشكون من تفشي الاختلاط في الاسواق . لكن على خلاف المتوقع ، قاوم هؤلاء قرار الوزير بشدة حتى اوقفوا تنفيذه . وقيل يومئذ انهم استندوا الى تحالف غير معلن مع التجار الذين يرفضون تحميلهم اعباء جديدة . المبرر الوحيد الذي طرحه اولئك هو ان قرار وزير العمل سوف يشجع النساء على الخروج من بيوتهن للعمل ، وهذا يخالف تفسيرهم للاية المباركة "وقرن في بيوتكن".

يمكن النظر الى حملة "ولي امري ادرى بامري" من زاويتين متعاكستين . من الزاوية الاولى يمكن ان ترى فيها تبريرا اضافيا لحرمان المرأة من حقوقها الاولية ودعما للاتجاه التقليدي الذي يقاوم كل تحرك في الاتجاه الايجابي ، حتى ضمن المستويات البسيطة التي تطالب بها النساء السعوديات مثل حق التملك واختيار التخصص العلمي والوظيفة والسفر. لكن يمكن النظر اليه من زاوية معاكسة تتمثل في كونه مبادرة نسائية ربما تستنهض مبادرات موازية في نفس الاتجاه او في الاتجاه المعاكس.

في الوقت الحاضر لا تشارك المرأة السعودية في اي من النشاطات التي تصنف ضمن مفهوم "المجتمع المدني" ، ولهذا فان اي مبادرة او نشاط نسائي سوف يكون موضع ترحيب لانه سيكون امثولة ونموذجا واقعيا يشجع السيدات اللاتي يرغبن في التعبير عن رايهن والمشاركة في النقاشات والنشاطات الاجتماعية . حتى الان فشلت كل المحاولات لاطلاق حركة نسائية على المستوى الوطني بسبب صعوبة البداية وقلة النماذج التي تشير الى جدوى مثل هذا العمل . من هذه الزاوية فقط فان تلك المبادرة ، مهما كان رأينا فيها ، تستحق الاهتمام والتشجيع ، لانها تقدم نموذجا للاخريات عن امكانية قيام النساء باطلاق حركة تعبر عن تطلعاتهن . طالما قام احد بهذا العمل فان الاخريات يستطعن القيام بمثله .

الفكرة التي تطرحها الحملة هي تاكيد على استقالة المرأة من مسؤولياتها ، تحت مبرر انها عاجزة عن ادارة حياتها بمفردها . انها – حسب راي اولئك السيدات – لا تدري عن امرها ، ربما لا تملك القدرة الذهنية او الروحية التي تتيح لها انتخاب الخيارات المناسبة لحياتها . وبالتالي فمن الافضل الاستمرار في التقاليد الحالية التي تؤكد على ان الرجل ، سواء كان ابا او زوجا او اخا ، هو المخول بالتفكير واتخاذ القرار فيما يخص حياتها .

هذه بطبيعة الحال دعوى قديمة وسخيفة ، واظن ان كل من تامل فيها سيقابلها باستهجان وربما يسخر ممن اطلقها . لكنها على اي حال فكرة مطروحة ويدافع عنها فريق في المجتمع يستند الى اعراف راسخة وتفسيرات لنصوص دينية او اراء لعلماء . ولهذا فانها تستحق النقاش.
الايام  4 سبتمبر 2009

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...