18/04/2007

لا بديل عن اللامركزية



في ماضي الزمان كانت عاصمة البلد هي حقيقة البلد وجوهرها، اما بقية البلد فهي ملحقات بالعاصمة. الميل الى التمركز، على المستويين القانوني والسياسي، هو سمة ثابتة لجميع الحكومات الحديثة. وربما كان ضرورة لمعالجة الاشكال الناتج عن التاثير السلبي للاتساع الجغرافي على وحدة القانون. وبالنسبة للدول حديثة التاسيس، فقد كان ضعف الجهاز الاداري وحداثة عهده سببا اضافيا لتركيز السلطات والصلاحيات في الحلقات العليا من الادارة.

لهذه الاسباب فضل المعنيون ارجاع كل امر صغير او كبيرالى مسؤول في العاصمة، يملك صلاحيات استثنائية او يعتبر مفوضا في تفسير بنود القانون وربما تجاوزها في بعض الاحيان. لكن يبدو ان هذه الحاجة المرتبطة بظرف خاص قد تحولت الى عادة جارية حتى بعد زوال ذلك الظرف.

 وهذا شأن التقاليد والاعراف الاجتماعية التي تقوم تبعا لحاجة محددة او ظرف مؤقت، لكنها تتحول من ثم الى قيد على جميع الناس في مستقبل الايام كما في حاضرها بغض النظر عن الدواعي والضرورات التي اوجبتها. منذ اوائل الثمانينات اتجه العالم بمجمله تقريبا الى التخلي عن النظام المركزي في الادارة، بعدما اكتشف انها لم تعد عونا للدولة بل عبء عليها. كان المحرك المباشر لهذا الاتجاه هو التطور الهائل في انظمة الاتصال.

 لكن قبل ذلك كانت مبررات التحول في طور تكاثف وتكامل. اكتشف المهتمون بالكفاءة الادارية مثلا ان الادارة المركزية قد حولت جيوش الموظفين الى آلات تفتقر للابداع والمبادرة والتفاعل، فهي لا تعمل الا اذا تلقت الاوامر من فوق. وبالعكس من ذلك فان توزيع الصلاحيات في مختلف المراتب وربطها بالمسؤولية والمحاسبة قد ادى الى تقليل الفاقد وتيسير الاعمال وبالتالي رضا الجمهور. 

واكتشف المهتمون بالتنمية السياسية ان المركزية الادارية قد جعلت النظام السياسي اسيرا للبيروقراطية، فبدلا من ان يستخدمها في تعزيز علاقته مع الجمهور، فانها تحولت الى عازل بين المجتمع والدولة يعيق اي تواصل وتفاعل. واكتشف المهتمون بالقانون ان جيوش البيروقراطيين المجردين من الصلاحيات والمتحررين في الوقت نفسه من المسؤولية، قد حولت القانون الى حروف بلا روح ولا مضمون، فهم يطبقون ما يرونه على الورق ويبالغون في العناية بالجوانب الشكلية كما لو ان النصوص القانونية هي الغرض النهائي للدولة، بدل ان تكون وسائل لارشاد القائمين على تطبيق القانون وتعيين الاطار الذي ينبغي لهم ان يعملوا ضمنه.

 اما الطامة الكبرى فقد وجدها المهتمون بالانماء الاقتصادي، فكل معاملة تدور بين المكاتب اسابيع وربما شهورا قبل ان تصل الى غايتها، ويضيع معها الكثير من الزمن والجهد، وكلها في حساب الاقتصاد رأس مال، مستثمر او مضيع. كان صدور نظام المناطق قبل عقد ونصف من الزمن اعلانا بان المملكة تتجه الى نظام قائم على اللامركزية الادارية، ولهذا عد واحدا من ابرز خطوات الاصلاح.

 لكن لسبب ما فان هذا النظام البالغ الاهمية ما زال اقرب الى اطار نظري منه الى استراتيجية قيد التطبيق. مازلنا حتى اليوم بحاجة الى الذهاب الى العاصمة لمتابعة ابتعاث طالب جامعي، او معادلة شهادة متوسطة، او الموافقة على تسجيل طالب ابتدائية في مدرسة اجنبية، او اثبات الدخول في احد المنافذ الحدودية، او تثبيت التعيين في وظيفة، او تصحيح خطأ في معاملة لاستقدام عامل اجنبي، او تغيير اسم طفل، او رصد بضعة الاف ريال لصيانة طريق، او الموافقة على انشاء مركز صحي او مكتبة في قرية، او تمييز حكم لأحد القضاة، او الموافقة على مخطط سكني.. ومئات من الامثلة الاخرى التي يعرفها – ويعاني منها – مئات الالاف من الناس. كان المقدر ان تطبيق نظام المناطق سوف ينقل جانبا كبيرا من هذه الاعمال من العاصمة الى مناطق المملكة المختلفة، ولو حصل هذا، فلا شك انه سيخفف عن كاهل الادارة المركزية جبالا من الاعباء وسيتيح لها الفرصة كي تنشغل بالامور الاكثر الحاحا مثل وضع الاستراتيجيات المستقبلية وتطوير العمل القائم ومراقبة الاداء والبحث عن الثغرات القانونية والادارية التي تؤذي المواطنين.. الخ.

 تحقيق اللامركزية الادارية يتطلب استراتيجية ذات مسارين :

 اولهما : اعادة صياغة نظام العمل الحكومي بحيث تفوض الادارات المحلية في المناطق جميع الصلاحيات المتعلقة بادارة المنطقة واعمالها، بحيث لا يرجع الى العاصمة الا في أمر يتعلق مباشرة بسيادة الدولة (مثل موضوعات الامن العام والدفاع)، أو امر يخضع لاستراتيجية وطنية شاملة (مثل مشروعات الانماء الشامل والخطط العامة للتعليم.. الخ) او أمر يتعلق بمناطق متعددة (مثل خطوط المواصلات التي تربط بين المناطق).

اما العمود الثاني فهو اعادة النظر في التعليمات والتعميمات التي تفرض على المتعاملين مع الدوائر الحكومية اجراءات غير ضرورية، مثل المراجعة الشخصية المتكررة. هناك دائما بدائل مناسبة، جربت هنا وجربت في بقاع اخرى من العالم وثبت انها آمنة تماما فوق ما توفره من جهود وأموال، والاهم من ذلك كله رضا الجمهور الذي هو الراسمال الاكبر لأي نظام سياسي. لا بديل عن اللامركزية الادارية اذا اردنا بناء بلدنا على نحو يجاري التطور السريع في عالم اليوم، ولكي لا ننطلق من فراغ، فان نظام المناطق هو نقطة انطلاق مناسبة، ونحن بحاجة الى وضعه على مائدة النقاش ثم تطبيق مفاده.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070418/Con20070418104323.htm(

11/04/2007

عيوب المركزية الادارية كما تظهر في الطرق



أيام القمة العربية كانت فرصة لسكان الرياض كي يكتشفوا واحدا من عيوب المركزية الادارية. لاربعة ايام كان الجو شديد الهدوء والهواء نظيفا. وتحول معظم السائقين فجأة الى اناس مسالمين لا يسابقون ولا يغضبون ولا يطلقون زمامير سياراتهم على اعنتها، ولا يواصلون كبس الضوء العالي كي يجبروا من امامهم على اخلاء الطريق الممتلئ اصلا. وكان في وسع الناس ان يصلوا الى مقاصدهم في دقائق، مقابل ساعة او نحوها في الايام السابقة.

 في هذه الايام نفسها اكتشف سكان المنطقة الشرقية واحدا من فضائل اللامركزية، فكثير من سكان الرياض الذين حصلوا على اجازة خلال ايام القمة جاؤوا الى الشرقية كي يتبضعوا او يستمتعوا بربيعها الجميل، فشهدت المطاعم والفنادق والاسواق ازدهارا استثنائيا، واستمتع الناس باوقات سعيدة مع عائلاتهم واطفالهم. لا يمكن بطبيعة الحال عقد قمة عربية كل اسبوع كي يواصل الناس استمتاعهم بما يحصل على حاشيتها.
لكن المؤكد ان كثيرا من سكان الرياض ومثلهم من سكان الشرقية قد تساءلوا: اليس من الافضل توزيع الثقل السكاني بين مناطق المملكة بدل تركيزه في المدن الكبرى؟. قبل قرون كتب عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته المشهورة ان العمران يتطلب زيادة السكان وكلما زاد سكان بلد زادت الصنائع فيه وتوفرت اسباب المعيشة. وهذا ما يسمى في ادبيات التنمية اليوم بالتحضير حيث يعتبر نمط المعيشة المديني ضرورة لقيام اقتصاد حديث.

 في هذا السياق فان ابرز الفوارق بين المدينة والقرية هو الحجم السكاني الذي تجعل اقامة الخدمات العامة والنشاط الاقتصادي بشكل عام مجديا وجذابا، وهو ما لا يتوفر في القرى قليلة السكان. ولو قدر لابن خلدون ان يرى حال المدن المزدحمة اليوم فلربما غير رأيه، او وضع – على اقل التقادير- حدا اعلى لزيادة السكان في المدن كما فعل اقتصاديون وعلماء اجتماع معاصرون. لا شك ان ضآلة عدد سكان القرية تجعل اقتصادها هشا ومحدودا، كما ان ضخامة مجتمع المدينة يجعل اقتصادها نشطا ومتنوعا.

 لكن ثمة معادلة حرجة هي اشبه بمسار ينتهي عند نقطة محددة. قبل هذه النقطة يكون الحجم السكاني الكبير مثاليا للاقتصاد، ولكنه يتحول من بعدها الى عقبة ومصدر لانواع من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والامنية وغيرها. ربما لا يحسب كثير من الناس القيمة المادية وغير المادية للوقت الذي ينفقونه في الطريق الى اعمالهم. اذا كنت من سكان الرياض او جدة فالمقدر انك تضيع ساعة ونصف الساعة يوميا تقريبا بسبب الزحام.

هذا الوقت الذي يبدو قصيرا، يعادل عشرة بالمائة من الوقت المفيد للعمل (16 ساعة في اليوم). وتقاس الخسارة الاجمالية بضرب مجموع عدد الاشخاص الذي يحصدون هذه الخسارة في متوسط قيمة ساعة العمل. واظن ان حسابا من هذا النوع سيكشف عن خسائر سنويا بمئات الملايين. لكن هذه ليست الخسارة الوحيدة، اذ يضاف اليه استهلاك السيارة نفسها واستهلاك الوقود، وهي نفقات غير مرئية لكنها حقيقية.

ويضاف اليه ايضا التدمير المنتظم للبيئة بسبب الكميات الهائلة من الكربون والملوثات التي تقذفها محركات السيارات في الهواء. كما يضاف اليه الخسائر على المستوى الشخصي، فالشوارع المزدحمة هي الاماكن الطبيعية للتوتر النفسي والقلق الذي يؤدي مع التكرار الى تدهور في الصحة البدنية والجسمية. اذا تركنا الطرق وازدحامها، ونظرنا الى المسألة من زاوية التخطيط الحضري، فان التزايد العشوائي للسكان يثمر عن ضغط شديد على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والخدمات البلدية وغيرها، وهذا يؤدي بالتأكيد الى انخفاض كفاءتها او انخفاض مستوى الخدمة المقدمة.

 في الحقيقة فان هذه المشكلة جعلت مؤسسات الخدمة العامة في كثير من البلدان عاجزة عن القيام بواجباتها، وكان الحل الوحيد هو ترك الناس يدبرون انفسهم. من يريد العيش في مدينة كبيرة فعليه ان يتحمل نفقات علاجه وتعليم ابنائه واحيانا تفريغ برميل الزبالة امام بيته وهكذا. صحيح ان زيادة السكان تؤدي الى نشاط اقتصادي اضافي، لكنها - اذا تجاوزت حدا معينا - فسوف تعود الى استلاب الفوائد من خلال المسارات التي اشرنا اليها.

 المدينة المزدحمة اشبه برجل يسرف في الاكل كي يستمتع بماله، لكنه يعود فينفق جزءاً اكبر على معالجة الامراض الناتجة عن التخمة والاسراف. الحل الوحيد لهذه المشكلة يكمن في تطبيق اللامركزية الادارية. معظم الازدحام ناشئ عن تمركز اوعية التوظيف الاساسية (الدوائر الحكومية والشركات الكبرى) في العاصمة، من دون ضرورة سوى ان العادة قد جرت على هذا النحو. اللامركزية تعني نقل الكثير من الادارات من العاصمة، واهم من ذلك تهيئة السبل القانونية كي يستغني الناس عن الذهاب الى العاصمة لانجاز كل عمل صغيرا كان او كبيرا.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070411/Con20070411102590.htm

04/04/2007

المال كوسيلة لتبريد التوترات المحلية



بين جميع النقاشات التي شهدتها القمة العربية، لفت انتباهي فقرة في النقاش حول مشكلة اقليم دارفور السوداني، تؤكد على مساهمة العالم العربي في اعمار الاقليم كجزء من الحل الشامل للصراع العرقي فيه. ولا اريد المبالغة في الظن بان الاموال ستنهال على هذه المنطقة الفقيرة فور انتهاء القمة. لكن تبني مبدأ «الدعم الحياتي كجزء من الحل السياسي» هو من غير شك لب المسألة وهو الطريق الصحيح لمعالجة التوترات العرقية والاجتماعية.

عرف العالم العربي الحلول الامنية والعسكرية مرارا وتكرارا ولم يفلح في أي منها. وجرب الحلول السياسية والاقتصادية في بعض الاحوال وقد نجحت جميعا. ابتلي السودان نفسه بحرب طاحنة في الجنوب طالت ثلاثين عاما، ولم تنته الا بعد تنازل الخرطوم وقبولها بمشاركة الجنوبيين في السلطة والثروة. وفر هذا الحل أرواح الآلاف من الناس كما وفر 400 مليون دولار كان ينفقها الجيش السوداني سنويا على الحرب في الجنوب.

 ومثل ذلك تجربة الصراع بين الاكراد والحكومة العراقية التي استمرت منذ 1936 حتى 2003، ولم تنته رغم ان الحكومة جربت اقسى وسائل الحرب، أي الابادة الجماعية حين دمرت قرى بكاملها وقصفت اخرى بالقنابل الكيماوية. استهلك هذا الصراع ارواح مئات الالاف من العراقيين والمليارات من الموارد وضيع الكثير من فرص النمو، لكنه لم يجد حلا الا حين اعترف العراقيون جميعا بحق الاكراد في حكم ذاتي ضمن نظام فيدرالي  موسع يقوم على الديمقراطية والتعددية والتوزيع المتكافئ للموارد الوطنية.

ولهذا فليس لدينا اليوم مشكلة اسمها المشكلة الكردية، كما كان الحال طوال العقود السبعة الماضية. بدأت مشكلة دارفور بصراع بين القبائل على مراعي الابل ومصادر الماء الشحيحة في الاقليم. وتطورت الى نزاع على حقوق الملكية، ثم تفاقمت حين دخل فيها العامل القومي والعنصري، وبلغت ذروتها حين اصبحت جزءاً من النزاع الدولي حول السودان ونظامه. 

والمؤسف ان حكومة الخرطوم قد ارتكبت خطأ فادحا بانسياقها الى النهج الخطير الشائع في السياسة العربية الذي يميل الى اختراق المجتمع المحلي وتقسيمه الى حلفاء واعداء، وهو منهج يؤدي بالضرورة الى استعداء فريق والانحياز الى آخر والدخول طرفا في النزاع بدل الحياد بين المتنازعين ولجم الاندفاع نحو الازمة.

وقد ادى هذا المنهج كما يحدث دائما الى تشديد الكراهية بين القبائل الافريقية من جهة وبين الحكومة وحلفائها من جهة اخرى، وتحولت ازمة دارفور الصغيرة الى مشكلة دولية تهدد استقرار السودان واستقلاله. لو بادرت الخرطوم ومعها العالم العربي الى العلاج الاقتصادي قبل ظهور المشكلة، او على الاقل قبل تفاقمها، لما كان لدينا اليوم مشكلة اسمها دارفور. بدأ الصراع بسبب ندرة الموارد، ولهذا فان الحل يبدأ هو الاخر بتوفير موارد اضافية لحل مشكلة الندرة.

صحيح ان السودان فقير، لكنه كان قادرا على حل هذه المشكلة بنفسه او بالتعاون مع اشقائه العرب. تنفق الحكومة على قواتها العسكرية في دارفور اضعاف ما كان ضروريا لاطلاق تنمية تحل مشاكل الاقليم وتبرد التوتر بين سكانه. بعبارة اخرى فان الانزلاق الى فكرة الحل العسكري السريع قد فاقم المشكلة وضاعف كلفة الحل البديل، وهذا ما يحدث دائما. اقرار القمة العربية بالحاجة الى اعمار دارفور كجزء من سلة الحل هو مجرد بداية.

وينبغي للحكومة السودانية ان تعمل على تفعيله في أسرع وقت ممكن. بكلمة اخرى فان الخرطوم بحاجة الى حل ذي ثلاثة ابعاد: اولها ادماج ممثلي السكان المحليين في الادارة الحكومية، وثانيها اطلاق حملة اعمار تركز على تأمين مصادرالعيش الكريم للسكان، وثالثها القبول بقوات عربية او افريقية مساندة للقوات السودانية كنوع من الضمان المؤقت للسكان المحليين الذين فقدوا الثقة في حكومتهم حتى يستعيدوا الثقة فيها. طالما كان السودان فقيرا ومتكلا على غيره، لكن ارتفاع اسعار البترول يوفر الان فرصة نادرة لهذا البلد كي يغير صورته القديمة.

ولهذا يتوجب عليه استثمار كل قرش يحصل عليه من مبيعات البترول في الاعمار والتنمية بدل تضييعها في حروب متنقلة بين اقاليمه. يمكن للمال ان يحل مشكلات كثيرة، لكنه في كل الاحوال يحتاج الى ارادة والى استعداد لتقديم تنازلات. لا يعيب أي حكومة ان تتنازل لشعبها، بل يعيبها قتلهم او تركهم يقتلون على ايدي بعضهم البعض، ويعيبها بالتاكيد تركهم يعانون الفاقة وشظف العيش بينما يتغنى الاعلام الحكومي بالوطن والسلام.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070404/Con20070404100694.htm
 الأربعاء 16/03/1428هـ ) 04/ أبريل/2007  العدد : 2117

02/04/2007

خاتمي وفكرة توطين الديمقراطية



لم يختلف الايرانيون حول رجل مثلما اختلفوا حول رئيسهم السابق محمد خاتمي ، ولم يحبوا رئيسا مثلما احبوه . طيلة السنوات الثمان التي قضاها في رئاسة الدولة ، حافظ خاتمي على درجة رفيعة من اخلاقيات الفيلسوف والمفكر التي عرفت عنه قبل الرئاسة. وهي صفات سارت جنبا الى جنب مع عنف فكري وشجاعة في التعبير عن اراء تتناقض كليا او جزئيا مع تلك السائدة بين انداده ونظرائه في النخبة السياسية والمجتمع الديني بشكل عام . ولا شك ان توجهات خاتمي قد اسهمت الى حد بعيد في تغيير البيئة السياسية في ايران ، ولهذا فان فترة رئاسته تشكل علامة فارقة في مسيرة ايران الجمهورية .  
آمن خاتمي بان انعتاق الانسان الروحي وتحرره من سطوة الدولة وهيمنة الخرافة وقيود التقاليد هو الطريق الوحيد للعالم الاسلامي كي يلتحق بركب الحضارة . كما يعتقد ان تراث الاسلاميين السياسي يفتقر الى ارضية فلسفية وفقهية مناسبة لاقامة نظام سياسي يحول دون الاستبداد ويعيد الاعتبار الى الانسان الفرد ، لان المعرفة الدينية لم تتطور في فضاء حر ، بل كانت في معظم الازمان انعكاسا لعلاقة بين المجتمع والدولة ذات طابع استبدادي في المجمل. وينظر الى الديمقراطية كنموذج للعمل السياسي يمثل ارقى ما توصل اليه الانسان .

يتناول الجدل حول الديمقراطية في ايران ثلاثة مجالات . يتعلق الاول بجانبها الوظيفي ، اي كونها نظاما للتمثيل الشعبي ، التداول السلمي للسلطة ، الفصل بين السلطات ، عمومية القانون ، وما اشبه . ويتعلق الثاني بارضيتها الفلسفية ، اي حاكمية الشعب ، المساواة ، الحقوق الطبيعية ، وما اشبه . 

ويتناول الثالث اساسها الايديولوجي ، اي تطورها في الاطار التاريخي - المعرفي الغربي . وينظر المحافظون الى الديمقراطية كجواب خاص للمجتمعات الغربية على الازمات التي واجهتها. وكما ان من السفه استيراد المشكلات من مجتمعات اخرى ، فانه بنفس القدر مخالف للعقل استيراد الحلول الخاصة بتلك المشكلات.  
في مقابل هذا ، يرى الاصلاحيون ان استبداد الدولة واحتكارها للموارد العامة ومصادر القوة طيلة التاريخ الماضي والحديث كان سببا في اذلال الشعب وتشويه شخصيته وثقافته ، والمعيق الابرز لتمدن البلاد وارتقائها . وان الديمقراطية هي وسيلة عملية وفعالة لاصلاح الخلل في موازين القوى ، على وجه يجعل المجتمع سيدا للدولة . ويذهب ايةالله شبستري بالجدال الى مدى ابعد حين يقرر ان الديمقراطية ضرورة للدين مثل ضرورتها للمجتمع ، فالنموذج الديمقراطي الليبرالي هو (الوحيد الذي يوفر الفرصة لتحقيق الغايتين الاعظم من غايات الدين ، اي العدالة وانعتاق الانسان).   
ويتفهم الاصلاحيون حقيقة انه لا يمكن تاسيس نموذج ديمقراطي على ارضية التراث الذي ورثناه من الاجداد . لكن في الوقت نفسه فان خاتمي يندد بالتقليد الطفولي لتجارب المجتمعات الاخرى كما يندد بالرفض الاعمى لنتائج تلك التجارب دونما سبب سوى كونها اجنبية. بدلا من هذا ، فهو يدعو المثقفين المسلمين الى تعامل نقدي مع ما يصفه باعمدة الحضارة المعاصرة مثل الليبرالية ، الفردانية ، الحقوق الطبيعية ، والعقلانية . الحداثة في رايه هي أحد الحلول التي توصل اليها الانسان في كفاحه الدائب للتقدم ،  وهي تنطوي مثل اي منجز انساني آخر على عناصر ايجابية واخرى سلبية ، وهي متغيرة ومتفاعلة وليست نظاما مغلقا تأخذه كله او تتركه كله. ولهذا يدعو الى اعادة انتاج الحداثة ولا سيما جانبها السياسي ، اي الديمقراطية ، في اطار الثقافة المحلية كي تأتي متناغمة مع روحية الشعب وقادرة على استيعاب همومه وتطلعاته .

 "توطين الديمقراطية" يتضمن صيانة عمودها الاساس ، اي حاكمية الشعب ، وفي الوقت نفسه تمكين الشعب من اختيار الطريقة الملائمة لوضع هذا المبدأ موضع التنفيذ. توطين الديمقراطية يعني بصورة محددة جعلها متلائمة مع الدين ، باعتباره المكون الابرز للثقافة والهوية الوطنية.

21/03/2007

في الفتوى والتخصص



طبقا لرأي استاذنا الدكتور محمد الهرفي ، فان ظهور التنظيم الرسمي للافتاء يرتبط بقيام الدولة الحديثة التي عرفها العالم الاسلامي خلال القرن العشرين. مورد اهتمام الهرفي ليس تاريخ الافتاء على أي حال، فقد كان يناقش في المقام الاول موضوع عمل المفتي والعوامل المؤثرة في الفتوى وانعكاساتها على العلاقة بين المفتي والجمهور. وهو يخلص من مناقشته الى الدعوة لاستقلال مؤسسة الافتاء، شأنها في ذلك شأن القضاء مثلا.
المرحوم د. محمد الهرفي (1948-2015)

وقد ندد الهرفي في سياق مناقشته بتصدي غير الاكفاء للفتوى ، وفتوى بعضهم في موضوعات بعيدة عن مجال اختصاصه، الامر الذي اثمر عن فوضى مشهودة في المجال الديني يعرفها كل متابع. وقد سبق لكثير من المفكرين والعلماء ان تناولوا الموضوع وقدموا طروحات جديرة بالاهتمام، لكنها لم تحظ بما تستحقه من مناقشة علمية واجتماعية. معظم الناس في ما يبدو يفضل ايكال الفتوى الى هيئة تضم مجموعة فقهاء، كما هو الحال في مجمع الفقه الاسلامي وهيئة كبار العلماء. بينما يميل غيرهم الى ربط الفتوى بموضوعها، بالتركيز على جانب التخصص.

بعبارة اخرى، فهم يدعون الى صياغة جديدة للعلوم الشرعية ، تنتهي الى تخريج فقهاء متخصصين في موضوعات محددة، واختصاص كل منهم بالفتوى في موضوع تخصصه دون غيره من الموضوعات ، بحيث نرجع الى فقيه متخصص في أمور العبادات ، ونرجع الى آخر حين نحتاج الى راي شرعي في مسألة تتعلق بالسوق، والى ثالث في امور العائلة والاحوال الشخصية.. الخ. 
دور الدين في الحياة العامة في بلادنا يشبه الى حد ما دور القانون في المجتمعات الاخرى. في تلك البلاد ثمة قضاة متخصصون في الاحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والارث والنفقة والنسب.. الخ. وثمة قضاة متخصصون في قضايا الاملاك، وآخرون في النزاعات التجارية، وتخصص غيرهم في الخلاف حول تفسير القوانين او قضايا الحقوق المدنية.. الخ.

 وعلى نفس السياق فقد تحولت مهنة المحاماة الى مهنة تخصصية، فكل محام يترافع في موضوع اختصاصه ولا يجاوزه الى غيره. اظن ان فكرة التخصص سوف تساعد على تنظيم حقل الفتوى كما ستساعد على استقلاله. ذلك ان الناس بطبعهم اميل الى قبول راي المتخصص حين يتوفر. يساعد التخصص في تعزيز الثقة بقيمة الفتوى ويشجع على الاخذ بها. ان عدم اطمئنان الناس لعدد من الفتاوى راجع الى شكهم في الاساس العلمي الذي تقوم عليه، او مناسبتها لواقع الحال. وكلا الامرين يرجع الى تبحر صاحب الفتوى في موضوعها وعلمه به علما تخصصيا تفصيليا.

حين يتحدث فقيه في المعاملات البنكية مثلا، فنحن نتوقع منه معرفة دقيقة بموضوع عمل البنك وموقعه في النظام الاقتصادي ومعيشة الناس. مثل هذا الموضوع لا يدرس في المدارس الشرعية لانه ليس موضوع اختصاص لها. وكذلك الامر في بقية الموضوعات. لا يصعب التوصل الى صيغة مناسبة للجمع بين دراسة العلوم الشرعية والتخصصية. كأن يشترط للتخرج من الكليات الشرعية دراسة اختصاص ثان، في الاقتصاد او القانون او البيولوجيا او علم الاجتماع.. الخ.

 وهذا من الأمور المتعارف عليها في المجال الاكاديمي، وهو مطبق في بعض دول العالم، مثل الولايات المتحدة التي تشترط على دارس القانون ان يحصل مسبقا على شهادة جامعية في حقل ثان. او تشترط على طالب الطب ان يحصل على شهادة في الاحياء او الكيمياء الحيوية.. الخ. في ما مضى من الزمن كان يمكن للفقيه ان يكون طبيبا ورياضيا وفلكيا وفيلسوفا، وربما عالم ميكانيكا ايضا. 

وقد عرفنا في تاريخ العلوم بعض من جمع اطراف هذه العلوم وزاد. لكن هذا اصبح مستحيلا في عالم اليوم. ليس لان عقول الناس اصبحت اقل استيعابا، بل لان العلوم تشعبت وتوسعت، كما تشعبت الحياة وتعقدت، واكتشف الانسان دقائق في العلم والطبيعة ما كانت لتخطر في خيال الماضين فضلا عن ان يعرفوها. ان التقدم العلمي والحضاري في العالم الغربي هو ثمرة الاعتراف بالتخصص واعتباره اساسيا في التعامل مع وقائع الحياة وتحدياتها وما تأتي به من جديد ومختلف في كل صباح. لكن هذه ليست الفائدة الوحيدة للاتجاه الى التخصص في الفتوى، فالاستقلال سيكون هو الاخر ثمرة للتخصص. فبقدر ما يكون الاساس العلمي والموضوعي للفتوى متينا ومتقنا، بقدر ما تكون مؤثرة.

الاستقلال - من هذه الزاوية - لا يتحقق بقرار يتخذه المفتي او غيره، بل هو ناتج طبيعي عن القوة العلمية او الموضوعية التي تنطوي عليها الفتوى. تماما مثل رأي الطبيب الحاذق الذي يفرض نفسه بنفسه، ومرافعة المحامي المتمرس الذي يكسب الدعوى مهما قويت حجج الخصوم، وابيات الشاعر المبدع التي يتداولها الناس ولو عارضت رايهم، ونتاج العالم الذي يطبقه اعداؤه فضلا عن اصدقائه، وهكذا. الاستقلال اذن يكمن في القوة الداخلية، أي التاسيس العلمي، والتاسيس العلمي يتوقف على التخصص والالتزام بحدوده.

 الأربعاء 02/03/1428هـ ) 21/ مارس/2007  العدد : 2103

مقالات ذات علاقة

14/03/2007

من محاسن المكيافيلية القبيحة

؛؛ السؤال الفلسفي قبل مكيافيلي: كيف ينبغي للناس ان يعيشوا ، اما هو فقد اهتم بسؤال: كيف يعيش الناس فعلا. فانزل السياسة من سماء المثال الى ارض الواقع؛؛

 لا شك ان عددا مهما من المبادئ والمفاهيم التي تشكل مضمون الدولة الحديثة، هو نتاج الحلول الفلسفية التي قدمها مفكرون مثل جان جاك روسو وجون لوك وتوماس هوبز، وغيرهم من كبار الفلاسفة الذين حققوا اختراقات اساسية في الفكر السياسي وانتقلوا به من مرحلة التاملات النظرية الى مرحلة تقديم الحلول العملية.

ربما لا يتوقع الكثير من القراء ان ندرج اسم نيقولو مكيافيلي، السياسي والكاتب الايطالي بين تلك الاسماء اللامعة، بل لعل الكثيرين يعتبرونه بين الظواهر السلبية في الفكر السياسي. فحين تذكر المكيافيلية، تقفز الى الذهن صورة شخص طماع لا يتورع عن فعل كبيرة ما دامت توصله الى اغراضه. ومن هنا اقترن اسم مكيافيلي والمكيافيلية بعبارة «الغاية تبرر الوسيلة»، وهي من العبارات التي تستعمل في الاشارة الى الفارق بين الاخلاق والسياسة او انعدام الاخلاق في السياسة. مثلها تماما مثل عبارة «فرق تسد» وأمثالها. لكن هذا الانطباع الذي ربما تولد لدى بعض من قرأ في الادب السياسي المعاصر، لا يكشف عن الحقيقة تماما. بل ربما تجد بين مؤرخي الفكر من يدعي انه لولا مكيافيلي لما ظهر هوبز ولوك وروسو، بل والفلسفة السياسية الحديثة بشكل عام. ومع اني لا اميل الى الربط الشديد بين الاشخاص والحوادث، الا ان الانصاف يقتضي الاشارة الى ان مكيافيلي كانت له الريادة في فتح باب جديد من الجدل الفلسفي لم يكن معهودا قبله.

حتى القرن السادس عشر الميلادي، كانت الفلسفة السياسية تدور حول فكرتين محوريتين: الكمال الانساني، والانسجام مع النظام الكوني. واضاف اليه الفلاسفة المسلمون لمسات دينية بعدما ترجمت الاداب اليونانية الى اللغة العربية في اواخر العصر العباسي. وبقي المنهج المثالي سائدا في الفكر الاسلامي حتى اليوم. ولعل تأثير الفلاسفة المسلمين يبدو بوضوح اكبر في فكرة الكمال الانساني التي اضاف اليها الفيلسوف والمتصوف المعروف ابن عربي الكثير من الصياغات والتبريرات والشروح التي نعرفها اليوم.

كان ارسطو قد قال ان العلم هو الفلسفة التي يحصل عليها الانسان اذا نشط جميع ملكاته العقلية الكامنة. اما ابن عربي فقد قلل من دور العقل، وركز على دور الايمان في اكتشاف الحقيقة. العلم – حسب رأيه – ليس بكثرة التعلم، بل هو نور يقذفه الله في قلب العبد. فاذا حصل الانسان على العلم الالهي فقد تميز عن عامة الناس، واصبحت له سلطة ذاتية على قلوبهم وعقولهم لا تحتاج الى تعريف او تبرير خارجي. اكتشاف طريق الكمال واكتشاف نظام العالم، وكيفية الانسجام معه، أي المعايير الاخلاقية التي يجب الالتزام بها كي نصبح في حالة تكامل مع النظام الكوني المحيط بنا، كانت – كما اشرنا – محور النشاط الفلسفي في اوربا حتى العصور الوسطى.

كرس مكيافيلي كتابه الاشهر «الامير» لكشف عوار هذا المنهج. وقد حقق هذه الغاية من خلال اسلوب غير مباشر، ركز على كشف حقيقة العمل السياسي ولفت انظار الناس الى الفارق الكبير بين المفترض والمتخيل في الفلسفة المثالية وبين الواقع القائم في الحياة السياسية. كما اوضح بجلاء ان النبلاء والقادة ورجال الكنيسة ليسوا جنسا خاصا من الخليقة وليسوا بشرا كاملين، بل هم رجال عاديون يعيشون ويفكرون ويعملون مثلما يفعل سائر الناس، وهم يفعلون الافعال الخيرة ويرتكبون الاخطاء مثل الناس كافة.

 قبل مكيافيلي، اهتم الفلاسفة بسؤال: كيف ينبغي للناس ان يعيشوا، اما هو فقد اهتم بسؤال: كيف يعيش الناس فعلا. فانزل السياسة من سماء المثال الى ارض الواقع، وعرضها للناس كما هي من دون رتوش. كما لفت الانظار إلى حقيقة ان السياسة عمل بشري دنيوي يتأثر بكل ما لدى البشر من افهام وهموم وتطلعات وقدرات ونقاط ضعف. كان افلاطون وارسطو قد اعتبرا ان قيام الحكومة الفاضلة منوط بتوفر شروط مناسبة تأتي صدفة. اما مكيافيلي فقد نفى امكانية قيام حكومة مثالية، لان النموذج المثالي لا يمكن ايجاده في الواقع، ولان الناس لا يتفقون على تصور واحد لما يعتبرونه مثاليا. وقال ان الحكومات تتفاضل في ما بينها بحسب اجتهاد المجتمع وحكامه في توفير الشروط اللازمة، فالامر يتعلق بالمعرفة والارادة وليس بالصدف.

هذا التفكير الواقعي هو الذي مهد الطريق امام الجيل الجديد من الفلاسفة السياسيين، كما رأينا عند توماس هوبز الذي اتخذ منهجا تجريبيا- ميكانيكيا مغرقا في المادية، ينفي أي دور للمجردات والمثل غير المادية في الفعل الانساني، ويربط حتى الاحساس بالفرح والالم بعوامل مادية بحتة، ضمن ما وصفه بسلسلة العلل والنتائج.

صحيح ان النظرية الاخيرة قد تعرضت لنقد كثير من جانب الفلاسفة اللاحقين لاسيما روسو ومن تبعه. لكن لا شك ان تحول الفلسفة من التنظير في المجرد والمثال، الى محاولة فهم الواقع كما هو، من اجل تنظيمه او صياغة مسارات بديلة، هي ثمرة للاختراق الكبير الذي حققه مكيافيلي، رغم ما تحمله من عنت من جراء وصفه لواقع السياسة وتقريبها الى اذهان الناس.

عكاظ 14/ مارس/2007  العدد 2096 2096  

   https://www.okaz.com.sa/article/89414

 

07/03/2007

حكم القاضي وحكم المدير

||عدالة القاضي ليست كافية لضمان عدالة النظام. ثمة ضمانات أخرى في القانون ولوائح العمل وتوزيع السلطات ، كلها ضرورية كي يكون النظام الاداري كله عادلا.||

 ينظر ديوان المظالم في دعوى رفعها مواطنون لنقض احكام اصدرها موظفون في ادارة الجوازات ، وتضمنت فرض غرامات وعقوبات. واعترض اصحاب الدعاوى بان الموظفين المذكورين ليسوا جهة اختصاص ، وان الاحكام لم تستوف المقدمات القانونية اللازمة في مثل هذه الأحوال.
في ماضي الزمان كان «تطبيق العدالة» يعني الرجوع الى قاض ذي معرفة في امور الشريعة ، يسمع من طرفي الدعوى رواية كل منهما للقضية ثم يتخذ ما يراه. وكان بعضنا يتباهى بالسرعة والحسم في نظامنا القضائي مقارنة بالبلدان الاخرى ، التي تأخذ فيها القضايا شهورا وربما سنوات قبل النطق بالحكم. ومضى الزمان وفهمنا ان الوقت الطويل الذي تنفقه محاكم تلك البلاد لا يخلو من حكمة. فتأخير الحكم بحثا عن ادلة واحتمالات، اقرب الى تحقيق العدل من قراءة متعجلة.
ثم تعلمنا بعد ذلك ان ضمان العدالة ، يحتاج الى ما هو اكثر من قاض مؤهل. واكتشفنا ما يعرف اليوم بالضمانات القضائية ، التي تشمل سلسلة من الاجراءات القانونية هدفها ضمان تساوي الفرص بين طرفي القضية ، وتمكين كل منهما من تبرئة نفسه ، او تخفيف العقوبة التي يمكن ان تصدر بحقه.
وفهمنا ان القضايا لا تحال جميعا الى جهة واحدة ، وان اختصاص الجهة بموضوع القضية هو واحد من الضمانات الضرورية لتحقيق العدالة. أشارت القضية المذكورة اعلاه الى عدد من النقاط التي تستحق الاهتمام ، لانها ليست مبادرات فردية تقع مرة في السنة ، بل هي مثال على  سلوك شائع بين الادارات الرسمية. وقد اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ما يفعله بعض الموظفين والمديرين من اصدار الزامات على المواطنين من دون سند قانوني. واريد الاشارة اليوم الى ما يعرف في القانون بالاحكام الادارية.
تختلف هذه عن سابقتها باستنادها الى تعليمات او لوائح تنفيذية. ومن هذه الزاوية فهي – نظريا على الاقل – تتمتع بسند قانوني. لكن تطبيق بعضها قد تشوبه عيوب جوهرية. ومن بين تلك العيوب المحتملة مثلا ، تمتع الجهة التي اصدرتها بالصلاحية اللازمة لتقرير عقوبات او فرض الزامات. ومن بينها وجود مسببات ومبررات واضحة وقابلة للنقض من جانب المتضرر ، كي لا يكون الموظف المخول باصدار او تنفيذ القرار هو الخصم والحكم في الوقت نفسه. وأذكر مثلا على ذلك قرارا جرى الغاؤه العام الماضي بعدما وضع قيد التطبيق مدة تزيد على عقدين. بموجب هذا القرار كانت البلدية في مدينتنا تمنع المواطنين من بناء قبو كامل في بيوتهم وكان الحد الاقصى المسموح به هو خمسين بالمائة من مساحة البناء.  (الموقع الالكتروني للمجلس البلدي بالقطيف – نقلا عن جريدة الحياة 6 نوفمبر 2006)
وفي كثير من الحالات فرضت البلدية على المخالفين غرامات تصل الى اربعين الف ريال، وبعد التحقيق والمتابعة، تبين ان البلدية لا تملك أية تعليمات مكتوبة بهذا المعنى، وكل ما في الامر ان بعضهم قد تبادل الحديث واقترح وضع ذلك القرار الذي لم يثبت في أي محضر رسمي يمكن للمواطنين مراجعته. ومثل ذلك ان شركة الكهرباء (وهي قطاع تجاري بحت كما هو معروف) تلتزم بأوامر من البلدية تتضمن ما يشبه العقوبات على المواطنين، مثل عدم توصيل التيار ما لم ينفذ المواطن تعليمات معينة للبلدية. والمفهوم ان البلدية لا تملك حقا قانونيا يخولها التدخل في العلاقة بين شركة تجارية وعملائها، كما ان القانون لا يسمح لشركة الكهرباء بحجب الخدمة عن مواطن اذا حصل خلاف بينه وبين جهة اخرى حكومية كانت او اهلية.
هذه بعض الامثلة على ذلك النوع من الاحكام الادارية التي تصدر من جانب جهات رسمية او شبه رسمية، وهي تتمتع بسند قانوني احيانا، كثير من هذه الاحكام تستند الى تعليمات قديمة جدا، واظن ان الكثير منها لم يعد منسجما مع الانظمة التي اصدرتها الحكومة. ويبدو لي ان من حق مجلس الشورى ان يتخذ مبادرة لمعالجة هذا النوع من الاحكام وهي كما قلت شائعة ومتكررة، وتطبقها كثير من الوزارات والدوائر.
المبادرة المقترحة يمكن ان تكون على شكل قانون جديد يحدد كيفية اصدار التعليمات والجهات المخولة باصدارها، والشروط اللازمة لانفاذ أية تعليمات تنطوي على كلفة او الزام او عقوبة. ومن هذه الشروط مثلا تقديم شرح مكتوب بالمبررات والعقوبات وحدها الاقصى وموارد الاستثاء والجهة المرجعية وكيفية الاعتراض على الاحكام.. الخ. يستهدف هذا الاقتراح في المقام الاول تليين العلاقة بين المواطن والادارة الرسمية، من خلال رفع الاعباء غير الضرورية عن كاهله، وتعزيز ثقافة الخدمة والعدل بين المواطنين.


مقالات ذات علاقة

عكاظ 7 مارس 2007

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...