28/08/2004

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة


يقال عادة ان التنمية السياسية ليست وصفة جاهزة  قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان . منذ اواخر الستينات الميلادية اصبحت المقومات المحلية للتطور السياسي – او الخصوصيات كما تسمى احيانا - الموضوع المحوري للابحاث حول امكانات النمو وعوائقه. الخصوصية قد تكون وصفا ايجابيا ، بمعنى وجود فرص افضل لتنمية سياسية واسعة ، وقد تكون وصفا سلبيا بمعنى انعدام او عسر فرص الحراك السياسي او الاقتصادي او ضيق الامكانات المتاحة للنمو.
رغم كثرة الدراسات حول التنمية في العالم الثالث ، فان الاهمية الكبرى تعطى في العادة للوصف الذي يقدمه مفكرو كل بلد عن خصوصيات مجتمعهم ومدى قربها او بعدها عن معايير التنمية المتعارفة عالميا . في حقيقة الامر فان مفكري كل بلد مطالبون باقتراح النموذج التنموي الاكثر تلاؤما مع ظروف مجتمعهم الاقتصادية والثقافية وطرحه للنقاش. وفي الوقت الراهن فان علم التنمية يتمثل في مجموع الابحاث المحلية والمناقشات المتعلقة بها ، ومقارناتها مع المعايير العامة لفكرة التنمية الشاملة .
نموذج التنمية هو تركيب منظومي من المفاهيم الاساسية ، الاهداف المرحلية ، الطرق وادوات العمل التي تصمم على ضوء الشروط الخاصة للمجتمع المحلي . انه بكلمة اخرى النموذج المتعارف في العالم مع بعض التعديلات ، من اضافة او حذف.  من بين النماذج التي حققت نجاحا ملحوظا ضمن شروط العالم الثالث ، يعتبر النموذج الصيني متميزا ، لا سيما في ظل تغير اسواق العمل الدولية خلال العقد المنصرم.
يقوم هذا النموذج على اعتبار الاقتصاد محورا اساسيا – بل وحيدا الى حد كبير – للنمو ، ولهذا فهو يعتبر قاصرا عن المقاييس العالمية المتعلقة بالتنمية الشاملة . لكن الصين لفتت الانظار بقدرتها على تصميم منظومة من المحفزات للنمو جعلتها الهدف المفضل للاستثمارات الدولية . والحقيقة ان عددا هائلا من الشركات الكبرى في الدول الصناعية قد نقلت جانبا مهما من اعمالها الى الصين ، الامر الذي وفر لها فرصة لنمو سنوي ثابت في الناتج القومي ، كان هو الاعلى عالميا خلال السنوات الماضية . وخلال العام الجاري كان الحجم الهائل للنمو في هذا البلد سببا في ضغوط قوية على اسواق المواد الانشائية والوقود في العالم كله .
يقوم النموذج الصيني على استبدال الديمقراطية بالحريات الاجتماعية والثقافية . لقد اصبح من البديهي اعتبار الحريات العامة وحاكمية القانون قاعدة اساسية لاي تحرك تنموي . ان الاستثمار طويل الامد غير متوقع في مجتمعات تغيب عنها الحريات وسيادة القانون . والحقيقة ان دولا كثيرة – معظم دول الشرق الاوسط مثلا - قد حاولت اقناع العالم بان هيمنة الدولة يمكن ان تعوض عن سيادة القانون وان الانضباط هو بديل افضل عن الحرية ، وقد نجحت احيانا في استقطاب مستثمرين مهتمين بالميزات النسبية التي تتمتع بها هذه البلدان .
الا ان الاستثمارات الاجنبية منها والمحلية بقيت محدودة جدا بالقياس الى حركة راس المال العالمي . وكشف تقرير نشر العام الماضي ان الصين وحدها استقبلت ما يزيد عن مئة ضعف ما حصلت عليه اقطار الشرق الاوسط مجتمعة من استثمارات . كما ان تقريرا اخر يظهر ان الاموال الخليجية التي استثمرت في اوربا وشرق اسيا زادت خلال العقد الماضي عن تلك التي استثمرت في الخليج نفسه.
لا يفاخر الصينيون بالديمقراطية فهم يفتقرون اليها ، لكنهم يفاخرون بالحريات الاجتماعية والثقافية الواسعة وسيادة القانون التي تعني المساواة بين الجميع في الفرص وامام القانون ، كما تعني الشفافية والتاكيد على المسؤولية والمحاسبة. وتدعي الحكومة الصينية انها قد نجحت بنهاية العام الماضي في توفير التعليم الالزامي لكل الاطفال ، بمعنى انه لم يعد اي طفل في سن الدراسة خارج المدرسة. بالنسبة للمستثمر فان ما يهمه هو ضمان استثماراته على المدى البعيد . هذا الضمان مستحيل في غياب الحريات العامة وسيادة القانون . بالنسبة للحكومة فان الاستثمار الاجنبي يوفر وظائف للملايين من طالبي العمل .
يمثل النموذج الصيني – رغم قصوره في الجانب السياسي - محاولة ناجحة حتى الان في الربط بين حاجة السوق الدولية والميزات النسبية المحلية – اليد العاملة المؤهلة والرخيصة بالدرجة الاولى – والحدود الخاصة بالسياسة . لم يكن هذا الخيار سهلا او دون عوائق ، فقد تطلب تنازلات من النخبة الحاكمة وتركيزا على المواءمة بين عناصره المختلفة .
 عكاظ ( السبت - 12/7/1425هـ ) الموافق  28 / أغسطس/ 2004  - العدد  1168

24/08/2004

حدود القوة وحدود السياسة


في نهاية المطاف سيكون لدى مقتدى الصدر حزب سياسي يتنافس مع الاحزاب الاخرى ضمن دائرة محددة. قد تزيد حصته او تنقص لكنها لن تكون حاسمة. رغم قصر المدة التي مرت على العراق منذ سقوط النظام السابق ، فقد كشفت عن عدد من الحقائق التي تمثل قيودا على السياسة او حدودا موضوعية لما يمكن استخدامه من قوة مادية وما يمكن استخدامه من مساومات.
لو اتجه الصدر الى الجنوب قليلا فلربما كان اقدر على صناعة قوة شعبية اكبر حجما, لكنها حينئذ ستكون اقل تأثيرا في المعادلة السياسية العراقية. اختيار النجف ومدينة الصدر كمركز لادارة الصراع كان على الارجح تطورا طبيعيا لوجوده شخصيا ووجود انصاره في المدينتين. ولو نجح في تطبيع هذا الوجود لضمن لتياره موقعا مؤثرا في اللعبة السياسية.
قبل صدام حسين كانت النجف مركزا مؤثرا في السياسة والنخبة السياسية. ورغم تراجع اهميتها خلال العقود الثلاثة الماضية, الا ان المقومات الجوهرية للقوة بقيت كامنة, وسرعان ما عادت الى الظهور بعد سقوط النظام. هذه المدينة التي يصل عدد سكانها بالكاد الى ربع مليون نسمة يستحيل تقريبا السيطرة عليها من جانب قوة واحدة. ليس فقط مقتدى الصدر, بل حتى المرجع الديني الشيعي الذي يتجاوز تأثيره حدود العراق, لا يستطيع ادعاء السيطرة على النجف بمفرده والسبب البسيط لهذه الصعوبة يكمن في حقيقتين: الاولى ان شريحة النخبة فيها واسعة جدا, والثانية انها مدينة يشعر كل عراقي بان له حصة فيها. العراقي في البصرة والعراقي في بغداد والعراقي في الكوت يشعر بالقلق لما يحدث في النجف بدرجة اكبر من حساسيته لما يحدث في الحي المجاور لمسكنه. وبالتالي فان لعبة السياسة فيها اوسع بكثير من حدودها الجغرافية.
أما مدينة الصدر التي ربما يتمتع فيها مقتدى الصدر بقوة أكبر من تلك التي في النجف, فلها شأن آخر. تقع هذه المدينة التي تزيد عددا عن مليون نسمة على الحاشية الشمالية الشرقية للعاصمة بغداد, وقد بدأت بالتشكل في أوائل الستينات مع تزايد هجرة الريفيين الباحثين عن عمل. وتضاعف حجمها خلال الثمانينات بسبب تصاعد الهجرة من المحافظات الجنوبية خلال الحرب مع إيران وغزو الكويت.
وعند تأسيسها في عهد الرئيس الاسبق عبد الكريم قاسم, حملت اسم مدينة الثورة, ثم مدينة صدام في التسعينات قبل ان تأخذ اسمها الحالي في العام المنصرم. والصدر الذي تحمل اسمه هو والد مقتدى, السيد محمد صادق الصدر, المرجع الديني الذي وجه اهتماما خاصا لسكانها قبل ان يقتل على يد المخابرات العراقية. تنتمي الاغلبية الساحقة من سكان المدينة الى الطبقة الفقيرة والمهمشة. وبسبب تشكيلتها الخاصة فانها مورد خصب للطاقة البشرية لاي قوة سياسية, لكنها مدينة يستحيل عليها تشكيل اجماع على اي قضية. انها - بكلمة اخرى - تلخيص للعراق كله بعشائره وطوائفه وقومياته, لكنها ايضا متخارجة عن كل منها.
 ابن العشيرة الذي يسكن هنا ينتمي الى عشيرته لكنه لا يخضع لتقاليدها, فهو في نهاية المطاف ابن المدينة. لكنه ايضا لا ينتمي للطبقة الوسطى المدينية, فهو لا زال محكوما بحدود الفقر وحدود التقاليد التي تربطه الى اصوله. مدينة الصدر تلخص مشكلة الهجرة العشوائية من الريف في كل المدن العربية الكبرى بكل تعقيداتها وهمومها وانعكاساتها.
لو سيطر تيار مقتدى الصدر على مدينة الصدر, لكان في وسعه تشكيل ضغط هائل على العاصمة بغداد, لكن هذا يتجاوز حدود قدرته الراهنة. وهو لن يكون قادرا بالتأكيد على السيطرة على النجف حتى لو بدا لوهلة انه لاعب اساسي فيها. لكن المؤكد ان حركته في المدينتين قد تركت تأثيرا في المحافظات الجنوبية. ولو بادر اليوم الى تشكيل حركة سياسية فسوف يضمن تأييد شريحة مؤثرة في معظم محافظات الوسط والجنوب. لكنه في كل الاحوال لن ينفرد بتمثيل الشيعة فضلا عن غيرهم. السبب البسيط لهذا هو الحدود الموضوعية للسياسة التي اشرت اليها في البداية.
 يتجه العراق -كما يظهر حتى الآن- الى اقامة نظام سياسي يماثل ما يعرف عند دارسي العلوم السياسية بالديمقراطية التوافقية. مثل هذا النظام يقوم على تقسيم المجموع الى وحدات سياسية لا يمكن لاي منها الانفراد بتقرير مستقبل الجميع. وفي الوقت نفسه فان تشكيل وتركيز القوة في داخل كل من هذه الوحدات يتأثر سلبا وإيجابا بتوجّهات الوحدات الاخرى. في مثل هذا النظام فان القوى المعتدلة هي الاقدر دائما على ربح المعارك السياسية, لأنها - ببساطة- أقدر على المساومة.
« صحيفة عكاظ » - 24/08/2004م 

24/07/2004

تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

ربما يكون كتاب "الاسلام واصول الحكم" للمرحوم علي عبد الرازق هو اكثر الكتب التي تذكر في الجدل حول ‏العلاقة بين الاسلام والسياسة ، رغم انه لم يكن اول من عالج المسالة. ولعل المجابهة الحادة التي ووجه بها ‏الكتاب ومؤلفه تعود الى ظهوره في ظرف ازمة ، الامر الذي جعله بالضرورة محشورا في وسط تجاذبات تلك ‏الازمة. وبالتالي فان قيمته العلمية لم يجر اختبارها ضمن اطاره الخاص كعمل علمي. ومن المؤسف ان ابرز ‏الاراء المتعلقة بدور الدين في الحياة العامة قد ظهرت - كما لاحظ رضوان السيد ايضا - في ظروف ازمة ، وكانت ‏بصورة او باخرى اقرب الى التساؤل عما اذا كان لمعرفتنا الدينية دور سببي او نسبة من نوع ما الى تلك الازمة.

الشيخ علي عبد الرازق

كون الازمات مولدة للاسئلة هو امر طبيعي تماما ، فهي تدل على وجود قدرة نفسية وثقافية لممارسة النقد ‏الذاتي ، لكني عبرت عن الاسف لان الوضع الطبيعي هو ان لا يقتصر التفكير في مكونات الثقافة وادوات توليد ‏المفاهيم والنطاقات المرجعية لقيم العمل ، على اوقات محددة سواء كانت اوقات رخاء او اوقات شدة. الثقافة ‏مثل الخبز ، اذا توقف انتاجه فلا بد ان يصاب المجتمع بالهزال الذهني كما يضعف الجسد اذا حرم الغذاء.‏

قبل عبد الرازق عالج الموضوع الفيلسوف الاندلسي ابن رشد في كتابه المعروف "فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". ويتشابه العملان ‏في تحديد الاشكالية ، فكلاهما حاول تشخيص المساحة التي تخضع لتكييف الاحكام الدينية بالضرورة ، وتلك التي ‏تخضع لتكييف العرف بالضرورة

كلا العالمين اذن كان يهتم بتحديد المعايير ، أي الاجابة على سؤال : ماذا يصح وماذا لا يصح. ومن هذه الزاوية ‏فهما يختلفان جوهريا عن معالجة العلامة ابن خلدون الذي حاول في كتابه ''المقدمة'' وضع توصيف سلوكي ‏لكل من البعد الديني والبعد العرفي في الظاهرة الاجتماعية الواحدة ، لا سيما في صعود وسقوط القوى السياسية.‏

لم يهتم ابن خلدون كثيرا بتقييم صحة او سقم المقولات التي تجادل حول دور الدين او العرف. بل حاول من ‏خلال وصف الحراك الاجتماعي والسياسي ان يقدم تفسيرا عقليا لحدود فاعلية الدين من ناحية والعرف من ‏ناحية اخرى في تكوين الظاهرة وتطورها. وقد التفت بصورة خاصة الى الفارق الدقيق بين الحراك الذي طبيعته ‏دينية وذلك الذي طبيعته عرفية تلبس لباس الدين. واظن ان ابن خلدون قد سبق جان جاك روسو في الاشارة ‏الى تحولات الفكرة الدينية لدى ارتدائها ثياب الحركة الاجتماعية ولا سيما ظهور ما سماه الاخير بالدين المدني.‏

يبدو اذن ان المفكرين الثلاثة كانوا مهمومين بتحديد الخط المائز بين الدائرة الدينية والدائرة العرفية او - على ‏سبيل الاجمال - غير الدينية. لكن مقاربة الاولين كانت مقاربة تقييم بينما اتخذ الثالث مقاربة تحليلية وتفسيرية.‏

ويظهر لي ان التفكير في هذا الموضوع لا زال ابتدائيا ، فعلى خلاف ما يظن كثيرون فان الاعمال العلمية التي كتبها ‏مسلمون في هذه المسالة لا زالت قليلة ، وهي مهمومة الى حد كبير بالتوصل الى احكام اكثر من اهتمامها بوصف ‏حركة التفارق والتلاقي بين الديني والعرفي في داخل الظاهرة الاجتماعية الواحدة ، كما فعل ابن خلدون في الماضي. ‏بطبيعة الحال فالادوات الجديدة التي توفرت في نطاق العلوم الانسانية تقدم امكانات مراقبة وتفسير للظواهر ‏ادق مما توفر لابن خلدون في عصره.‏

يمكن فهم حركة التلاقي او التفارق بين الديني والعرفي ضمن سياقين : الاول هو التمايز بين الديني - او العرفي - ‏كايديولوجيا وفلسفة من جهة. أو كمسار تحول من المطلق الى المحدد. نحن نفهم مثلا ان تحويل الاحكام ‏الشرعية الى قانون رسمي يؤدي بالضرورة الى نقلها - فلسفيا ومفهوميا - من دائرة الدين الى دائرة العرف

‏اما السياق الثاني فهو سياق التفارق الناتج عن ظهور استقلالية كل واحد من النطاقات التي جرت العادة على ‏اعتبارها مختلطة او مشتركة ، مثل نطاق الدين ، نطاق الفلسفة ، نطاق الفن والادب ، نطاق السياسة ، نطاق العلم. ‏الخ. كل من هذه النطاقات مستقلة موضوعيا ، لكنها - ضمن بعض الظروف على الاقل - تبدو متشابكة مع ‏الدين. ان اكتشاف استقلالها لا بد ان ينعكس على تصنيفها ضمن الدائرة الدينية او تحويلها نحو الدائرة العرفية. ‏

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/24/Art_128685.XML

عكاظ  24/7/2004 م العـدد : 1133          

مقالات  ذات علاقة

-------------------

 تأملات في حدود الديني والعرفي


 

            

10/07/2004

زمن الداعية وزمن المفكر


طبقا لرأي استاذنا د. حمزة المزيني فان ثقافة الاقصاء كانت فعالة ونشطة طوال العشرين عاما الماضية , بحيث شكلت ما يصفه بمنهج خفي في التثقيف يعمل جنبا الى جنب مع المنهج الرسمي .
 السؤال البديهي هنا: كيف استمر هذا المنهج في العمل عشرين عاما دون ان يوضع على مائدة النقد ? . بكلمة اخرى : لماذا كان علينا انتظار اصوات القنابل والرصاص في شوارعنا واجساد مواطنينا حتى نكتشف الحاجة الى نقد تلك الظاهرة ?. هناك بطبيعة الحال اجوبة كثيرة , كل منها يقدم تفسيرا لوجه من وجوه المشكلة .
د. حمزة ا لمزيني
 سوف أختار هنا واحدا من تلك التفسيرات , وهو هيمنة النمط الاستهلاكي في الثقافة وضآلة البحث الفكري وبالتالي محدودية دور المفكرين. الحديث عن دور المفكرين يستبطن بالضرورة مقارنة بين ثلاث شرائح من المشتغلين بالثقافة , اولاها هي الشريحة الواسعة التي نطلق عليها اجمالا صفة المثقفين, اقرب التعريفات علاقة بالمجال الاجتماعي تقارب بين المثقف والتقني , اي الشخص الذي له اطلالة على بعض العلوم الحديثة ويتركز دوره في الربط بين القوانين العلمية النظرية وموضوعات العمل في الحياة اليومية .
 ومثل هذا الدور جار في كل مجالات الحياة , من الطب والهندسة والرياضيات الى الاجتماع والادب الخ .. الثانية هي شريحة الدعاة.. والداعية هو الشخص الذي يحترف الدعوة الى ايديولوجيا محددة المعالم ومتكاملة . فيما يتعلق بإطارنا الاجتماعي الخاص , فان الداعية عامل في مجال التثقيف الديني على وجه الخصوص يتمحور دوره في ضمان استمرارية التراث القديم , سواء بتكراره كما هو او اعادة انتاج مضمونه في اطارات جديدة . اما الثالثة فهي شريحة المفكرين , وهي - عادة - اقلية صغيرة بالقياس الى سابقتيها .
 يتمايز دور المفكر في كونه صانع افكار , بخلاف المثقف والداعية اللذين يستهلكان الافكار . انتاج الافكار هو في الجوهر نقد للافكار او الاعمال او الظواهر السائدة. الطريق الى الفكرة الجديدة يبدأ بجدل مكتوم مع فكرة او حالة قائمة هو بمثابة شك في صدقيتها يؤدي الى انفصال عنها ثم بحث عن بديل لها. لا يمكن للمفكر الا ان يكون ناقدا ومنفصلا بدرجة او بأخرى عن النظام الاجتماعي, او على وجه الدقة متخارجا مع منظومة المصالح التي يؤطرها ويخدمها. ولهذا السبب يتفق الاجتماعيون على ان المفكر لا يمكن ان يكون مواليا للتقاليد. نقد الواقع هو الوجه الثاني لنقد التقاليد اذ التقاليد وسيلة تشريع وتبرير للراهن.
 من هذه الزاوية فان دور المفكر يرتبط - ضرورة - مع الحداثة كموقف اجتماعي وكرؤية للعالم . الارتباط بالحداثة لا يعني على الدوام انقطاعا عن التراث . ثمة مفكرون جعلوا التراث ميدان عملهم الرئيس , لكن الانشغال بالتراث من جانب المفكر لا يستهدف اعادة انتاجه , بل استثمار ما ينطوي عليه من تجربة انسانية من اجل تجاوز زمنه ومفهوماته . انها اذن عملية تجسير بين الماضي والمستقبل تعمل على تواصل التجربة الانسانية دون الالتزام بزمنها الخاص. خلال العشرين عاما الماضية كانت الثقافة تُصنع على ايدي المثقفين والدعاة , واقتصر دور المفكرين على حدود ضيقة جدا.
المثقف مستهلك للثقافة والداعية مستهلك للتراث , والثقافة التي سمح بها النظام الاجتماعي هي اما تراث في ثياب جديدة او صور عن الحداثة مفصولة عن فلسفتها واساسها المعرفي والمنهجي . مفكرونا - على قلة عددهم - لا يقومون بدورهم الطبيعي , لان نقد الواقع صعب ونقد التراث صعب ايضا ومجادلة التقاليد مغامرة ولو كان هذا الدور متاحا, لحصلنا على فرصة - على الاقل - لاكتشاف ما سينتهي اليه ذلك النوع من التثقيف والادلجة . نقد الواقع لا يستهدف بالضرورة تسفيه فريق محدد او تحميل المسؤولية على اشخاص معينين . اصدار الاحكام ليس من هموم المفكر ولا انشغالاته .
 هم المفكر هو دراسة الظاهرة واستنباط ما تخفيه وما يأتي من ورائها بغض النظر عمن يستفيد منها او يتضرر. الطرف الاخر في معركة المثقف هو الزمن وليس اهل الزمن لان همومه في الاساس نظرية ومجردة. اذا كنا جادين في معالجة الاختلال الثقافي العميق الذي شق مجتمعنا , فان السبيل الى ذلك هو تفكيك الهيمنة المطلقة لنمط الاستهلاك الثقافي , سواء استهلاك التراث او استهلاك الحداثة . يعني هذا على وجه الخصوص : الغاء القيود التي تحول دون ممارسة النقد العلمي . لا يمكن لنا ان نحصل على ثقافة متقدمة اذا بقينا مجرد مستهلكين للثقافة . انتاج الثقافة يتوقف على نشاط المفكرين , ونشاط المفكرين هو بالضرورة نشاط نقدي , وما دام النقد مخاطرة فمن سيغامر ?.
صحيفة عكاظ   10/07/2004م 

03/07/2004

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التأصيل

فكرة التأصيل هي احدى علل الفكر الديني المعاصر. وقد ظهرت في سياق الرد على الحداثة ، لا سيما في ميدان العلوم الانسانية. ويبدو انها تحولت - عن قصد او عن غفلة - الى نوع من المساومة مع الحداثة ، يؤدي في نهاية المطاف الى ابقاء العلم ميدانا خاصة للنخبة. ومن هذه الزاوية ، فهي تستوحي فكرة قديمة – وراسخة الجذور الى حد ما في التراث الديني – تقول بان من الافضل ابعاد عامة الناس عن الفلسفة والعلوم العقلية ، لان عقولهم اضعف من احتمال اشكالاتها ، ولهذا يخشى على دينهم ان يتزعزع اذا انفتح عليهم موج الاسئلة.

مارتن هايدغر

 في سياق الجدل حول الحداثة ، تبلور في العالم الاسلامي ثلاثة اتجاهات :

يدعو الأول الى رفض العلوم الحديثة كليا او جزئيا ، لان ما ورثه المسلمون من علوم ابائهم ، فيه خير وزيادة.

ويدعو الثاني الى الاخذ بالعلوم الحديثة وما تقوم عليه من اسس فلسفية ، لان العلم هو ميراث الانسان في كل الازمان والامكنة ، وان الاخذ بهذه العلوم سيؤدي بالتدريج الى توطينها واغنائها بالقيم الخاصة بالمجتمعات المستقبلة.

اما الثالث الذي يبدو انه حل محل الاتجاه الاول ، فيدعو الى الاخذ بالجوانب التقنية في العلم الحديث ، وترك القواعد الفلسفية والمعيارية. ثم تأصيل تلك الجوانب ، اي اعادة بنائها على اساس المعايير الخاصة بالاسلام.

حتى هذه النقطة يبدو اقتراح التأصيل حلا مريحا ، خاصة لأولئك المهمومين بقلق الغزو الفكري والهجمة العالمية على الاسلام ، وبقية مفردات نظرية المؤامرة. لكن هذا الحل الذي يبدو مريحا ، غير صحيح من الناحية المعيارية ، وغير ممكن من الناحية العلمية. يقوم هذا الحل على فرضية خاطئة اساسا ، تخلط بين الدور الوصفي - التفسيري للعلم والدور التوجيهي للعالم. الممارسة العلمية بالمعنى الفني ، عملية وصف وتحليل وتفسير. اما توجيه النتائج ووضعها في سياق دعوة او استخدامها لتعزيز دعوة ، فهي خارج نطاق العلم ، ويمكن ان يقوم بها اي انسان ، عالما او غير عالم.. ولهذا تميز المجامع العلمية بين الابحاث التي تستهدف العلم بذاته ، وتلك التي تستهدف وضع سياسات عمل. الاولى تقوم – او ينبغي ان تقوم - على معايير علمية بحتة ، بينما تهتم الثانية بوضع خيارات ملائمة لأهداف محددة مسبقا ،  ولهذا فان اعتبارها العلمي ادنى من الاولى. 

لكي يقوم الباحث او المفكر بممارسة علمية صحيحة من الناحية التقنية ، فانه يحتاج الى التحرر الكامل من قيود الاستهداف المسبق. يجب ان يكون الغرض الوحيد للبحث ، هو التوصل الى معرفة جديدة ، حتى لو كانت تعارض المسلمات والبديهيات التي يؤمن بها سلفا ، لان غرض العلم ليس تعزيز الايمان بل كشف الحقائق الغائبة.

طبقا للفيلسوف الالماني مارتن هايدجر فان من المستحيل تقريبا ، الانفصال عن المسلمات الذهنية السابقة ، التي تشكل عقل الانسان ونظرته الى العالم. دور الخلفية الثقافية في تحديد فهم الانسان للعالم المحيط به ، بما فيه من ناس واشياء ، امر ثابت ، بل هو من المسلمات التي لا يختلف عليها اثنان. لكن لا بد من ملاحظة الفارق الدقيق بين التأثر العفوي بهذه المسلمات ، وسوق الحقائق والتفسيرات بالقوة لكي تطابقها. مشكلة فكرة التأصيل انها تدعو الى المعنى الثاني على وجه التحديد ، اي فرض مسلمات سابقة (يدعى انها دينية) على صورة الحقيقة ، وكيفية وصفها وتحليلها ثم تفسيرها ، وفي هذه الحالة فاننا لا نتوصل الى اي معرفة جديدة ، بل الى تأكيد ما نعرفه مسبقا او ما نريد تحويله ، من رغبة عاطفية الى معرفة او شبه معرفة.

الاشكال الثاني يتعلق بالمعايير الدينية التي يراد تطبيقها على العمل العلمي. الكتاب والسنة لا يقدمان بحوثا علمية ، بل منظومة قيم تتعلق اساسا بمسألة الوجود والكينونة. نقل هذه القيم من صورتها الاصلية ، المجردة والمعيارية ، الى نطاق محدد علمي او عملي ، يؤدي فعليا الى نزع صفتها التجريدية المتعالية ، وتحويلها من مطلق الى محدد ، ومن مجرد الى نسبي. هذه العملية التي يطلق عليها احيانا "الاجتهاد" تتضمن بالضرورة ، تأثر النتائج التي يتوصل اليها المجتهد بخلفيته الذهنية الخاصة.  الزعم بامكانية اخذ النص واستعماله في الاجتهاد او التطبيق ، دون مؤثرات ذهنية او خارجية ، يستحيل اثباته علميا وتجريبيا.

كل اجتهاد هو بدرجة او بأخرى نتاج عقل مختلف في مكوناته ، ولهذا تختلف اجتهادات المجتهدين وتتعارض. فاذا توجهنا الى المجتهدين للحصول على ما يوصف بالقيم الدينية ، فان ما سنحصل عليه ليس قيما معيارية بل منظورات شخصية. وبهذا فان ما سنبني عليه علمنا ليس القيم بل آراء اشخاص محددين. 

لهذين السببين ، ولأسباب اخرى ربما نعود اليها لاحقا ، فان فكرة التأصيل التي يدعى اليها ، كسبيل للمواءمة بين العلوم الحديثة والتقاليد العلمية او السلوكية (التي يدعى انها دينية) لا يمكن ان تنتج علما. لكي ينتعش العلم فانه يحتاج الى التحرر من الاهداف المسبقة والرغبات.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/3/Art_122424.XML
جريدة عكاظ السبت - 15/5/1425هـ ) الموافق  3 / يوليو/ 2004  - العدد   1112

مقالات  ذات علاقة
-------------------


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...