10/04/2004

تعـزيــز الامــل


يعتذر بعض قومنا عن تباطؤ الحراك السياسي بتجارب الامم الاخرى التي احتاجت عشرات من السنين كي تنزع عنها رداء التقاليد. والفكرة ليست غريبة على اي حال فقانون اصلاح التعليم الذي غير وجه المجتمع البريطاني صدر في اواخر القرن التاسع عشر ، اما الجدل حول البدائل السياسية للنظام التقليدي فيرجع الى القرن السابق. هذا الكلام الذي يبدو متماسكا ، باطل في الجملة والتفصيل.  نتفهم طبعا ان الحال لا يتغير في يومين او ثلاثة ، لكن هذا لا يعني بالضرورة ان الامر يحتاج الى عشرات من السنين .


الكلام السابق باطل في الجملة لانه يطابق بين وضعيتين مختلفتين تماما . فالتغيير في اوربا بدأ فعليا باقرار مباديء للحراك السياسي تحولت الى قاعدة تفاهم بين القوى الاجتماعية والسياسية ، وشكلت من ثم فلسفة عمل مرجعية يستند اليها الجدل حول موضوعات الاصلاح . وبالمقارنة مع الوضع القائم في البلاد العربية ، فالواضح ان مثل هذه المرجعية مفقودة . معظم الناس في السلطة وفي المجتمع يتحدثون عن الاصلاح باعتباره من المسلمات ، لكن طرف السلطة وطرف المجتمع ليسا متفقين على المراد بالاصلاح وحدوده.

ذلك الكلام باطل في التفصيل ايضا ، لان المسار الاصلاحي الذي اتبعته الامم الاوربية كان غير مسبوق ، ولهذا اتسم بالنزعة التجريبية والتعلم من الاخطاء . لكن الاقطار التي اخذت بهذا النهج في وقت لاحق لم تحتج ابدا الى اعادة التجربة ، فقد استفادت من تجارب من سبقها ، وتلك هي الحكمة في النظر الى تجارب البشر باعتبارها مصدرا للحكمة المتجددة. اسبانيا والبرتغال مثلا تحولت من انظمة عسكرية الى ديمقراطيات برلمانية في ظرف ثلاث سنوات فحسب. اما اليابان فقد انتقلت السلطة من الامبراطور الذي كان يعد في تقاليدهم ابنا للالهة ومالكا للارض والرقاب الى برلمان منتخب في ظرف اشهر معدودة . ولم يكن هناك اي تمهيدات ذات شان ، بل جرى التحول بقرار اتخذه الجنرال ماك ارثر قائد القوات الامريكية التي احتلت البلاد في نهاية الحرب العالمية الثانية.

خلاصة القول ان التحول السياسي يتطلب وقتا ، لكنه بالتاكيد ليس عشرات السنين . عناوين التحول ، فلسفته ، اهدافه ، ادواته والقيم الناظمة له ، لم تعد اسرارا ولا الغازا تحتاج الى عباقرة لحلها ، فتجارب العالم مكتوبة بالتفصيل وجرت حولها دراسات وابحاث ، وكشفت نقاط قوتها وضعفها ، ونوقشت نقاط التلاقي والاختلاف بين مختلف التجارب . وهذه كلها اصبحت علما قائما بذاته عنوانه التنمية السياسية او التنمية الشاملة اذا اريد تعميمها على الجوانب غير السياسية ايضا . وبهذا فلم نعد بحاجة الى اعادة اختراع العجلة او تعريف الماء .

يبدو مثل هذا الكلام تحصيل حاصل ، فما الداعي الى قوله اذن ؟

خلال الاشهر القليلة الماضية كانت هناك مبادرات جيدة جدا وكانت هناك اخفاقات للحراك الاصلاحي. وليس من العسير اكتشاف اهمية بعض المبادرات الجديدة على الحياة السياسية في البلاد ، مثل نشر نتائج التحقيق في حريق سجن الحائر وما ترتب عليه من اقالة المسؤولين عنه ، وتشكيل جمعية حقوق الانسان وجمعية الصحفيين . وكانت بموازاة هذا بعض الاخفاقات التي ليس متاحا لنا الحديث عنها وان كانت معروفة للجميع .

الامر الذي يستحق الاهتمام هنا ، هو ان الحراك الاصلاحي الذي تتفق الغالبية على عنوانه العريض ، جسد خلال السنوات الاخيرة املا لشرائح واسعة جدا من المجتمع ، او نقطة ضوء اعادت اليهم الثقة بوجود مستقبل افضل يمكن صناعته من الداخل وبادوات داخلية . هذا الامل بحاجة الى تعزيز وتركيز ، فوق انه بحاجة الى شحن بالمصداقية ، كي لا يقتله توالي الاخفاقات.

من اجل تعزيز الامل ، فاننا بحاجة الى التخلي عن الخطابات الجوفاء حول تجارب الامم التي استغرقت عشرات السنين . لكننا بحاجة في المقام الاول الى تطوير الحراك الاصلاحي من تصريحات صحافية الى جدول زمني محدد لتطبيق الاصلاحات المنشودة. مثل هذا الجدول سوف ينهي الشكوك في جدية التحرك نحو الاصلاح ويحول الامل من عاطفة او رغبة الى هدف عملي مرسوم.

www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/4/10/Art_92891.XML

03/04/2004

الأخ الأكبـــر

كانت احداث العراق فرصة للمحافل العلمية في الغرب – وربما في بعض العالم العربي – لاستعادة النقاش القديم حول طبيعة التحول السياسي في الدول النامية . 
السؤال المحوري في هذه النقاشات يتناول قدرة مجتمعات العالم الثالث على استنباط نموذج للديمقراطية يتناسب مع اوضاعها المختلفة عن اوضاع الدول الصناعية الغربية. ثمة مبررات كثيرة وجدالات حول صحة هذا المنحى ، بعضها مجرد تبرير لاستمرار واقع الحال ، وبعضها يكشف عن حاجة جدية لاعادة تعريف بعض المفاهيم بما يسهل تنسيجها ضمن الثقافة العامة المحلية . لكن لا انوي الدخول في هذه المناقشة حاليا.
 من بين الافكار التي طرحت في الماضي وبعثت من جديد ، مفهوم الديمقراطية الموجهة ، وهو نموذج يبدو انه ينطوي على امكانات تستحق التامل. ولعل اقرب تطبيقاته المعاصرة هو النموذج الروسي . النظام الدستوري في روسيا يقرر انها دولة ديمقراطية ، وهناك انتخابات نيابية ورئاسية ، كما ان الدستور – والممارسة الفعلية – تضمن قدرا كبيرا من الحريات العامة وتعدد المنابر والاراء . لكن ثمة اتفاق بين الباحثين الروس والغربيين على ان توازن القوى ضمن هذا النظام لا يخضع تماما لمعايير الديمقراطية الليبرالية . من ذلك مثلا ان السلطة التنفيذية لا تزال هي الجزء المهيمن على الحياة العامة ، وهي تتحكم الى حد كبير في اللعبة السياسية . ان الرئيس فلاديمير بوتين مثلا لم يكن معروفا كمرشح قوي لرئاسة الدولة ، لكن جرى تظهيره من قبل "المؤسسة" حتى اصبح الرجل الاقوى في البلاد ، ويبدو ان اي رئيس قادم سيكون من انتاج هذه المؤسسة في المقام الاول وليس تعبيرا دقيقا عن توجهات المجتمع ، ويمكن ان يقال الامر نفسه عن المواقع الرئيسية وذات الخطر في النظام السياسي ككل.

تذكر فكرة "المؤسسة" باسطورة الاخ الاكبر التي ابدعها الروائي الانجليزي جورج اورويل ، والتي تلخص قلقا جديا لدى الكثير من الناس بان كل ما يجري في الحياة العامة هو تمظهر لخطة محكمة يدير خيوطها من وراء الستار اشخاص بدون وجوه معروفة. ومع المبالغة المقصودة في مفهوم اورويل للسلطة الشمولية ، وبطبيعة الحال المبالغات الموازية – العفوية غالبا - لتلك الشريحة من المثقفين والعامة الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة ، الا ان شيئا قريبا من فكرة "الاخ الاكبر" موجود واقعيا في كل دولة من دول العالم ، ويتعارف عليه بين مراقبي الحياة السياسية بالمؤسسة.
وظيفة "المؤسسة" هي المحافظة على ثوابت النظام السياسي وتوازنات القوى السائدة فيه ، او ادارة تغييرها بصورة تحول دون تفكك الهيكل العام لنظام السياسي . يختلف سلوك المؤسسة في كل بلد باختلاف الفلسفة السياسية السائدة ، لكن فيما يتعلق بالتحرك نحو الديمقراطية ، فان الفلسفة العامة هي فلسفة محافظة تماما وتقوم على فكرة ان التغيير ضروري من اجل الاستمرار.
يمكن اعتبار المفكر والسياسي البريطاني ادموند بيرك (1729-1797) ابرز المنظرين لهذه الفكرة في اواخر القرن الثامن عشر . وخلاصة رايه ان منظومات القيم والمؤسسات التي يقوم عليها النظام السياسي التقليدي لن تستطيع الصمود في وجه تيارات التغيير الليبرالية ما لم تبد مرونة وقابلية للانعطاف . ورأى بيرك ان مصلحة الطبقة التقليدية تكمن في تبني بعض الافكار التي يطرحها الليبراليون ، واعادة انتاجها ضمن الخطاب المحافظ كوسيلة لادارة التغيير وجعله يتحرك ضمن حدود معلومة . وحسب بيرك فان تجاهل التغيير سيؤدي الى انفلات زمام الامور ، وتحول القوى الاساسية في النظام السياسي من قوة فعل الى قوة رد فعل .
خلاصة ما تطرحه النقاشات الحالية هو ان نموذج الديمقراطية الموجهة قد يكون بديلا مناسبا للدول النامية التي تفتقر الى تقاليد عمل سياسي مفتوح . والاقتراح المحدد هو ان تقوم النخبة الحاكمة ، او ما يسمى بالمؤسسة ، بوضع برنامج للتحول نحو الديمقراطية ، يستهدف بصورة خاصة بعث الامل لدى عامة الناس بامكانية التغيير ضمن الاطر القائمة . ينبغي ان يركز برنامج كهذا على الاعمدة الكبرى للاصلاح ، اي حاكمية القانون ، ضمان حرية التعبير ، واعادة استيعاب القوى الاجتماعية المهمشة او المعزولة . اذا تبنت "المؤسسة" فكرة التغيير من اجل الاستمرار ، فسوف تستعيد ثقة الراي العام المتشكك عادة ، كما انها سوف تتحكم - في الوقت نفسه – في حدود وطبيعة وتوقيت التغيير بما يصون جزءا معتبرا من ثوابت النظام وتوازن القوى والمصالح السائدة فيه.







 http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/4/3/Art_90597.XML

27/03/2004

الليبرالية ليست خيارا

ثمة فوارق كثيرة بين الايديولوجيا الليبرالية ونظيرتها المحافظة او التقليدية ، في النظام السياسي الذي تدعو اليه كل منهما ، كما في الاقتصاد والفلسفة والمجتمع ..الخ . لكن الفارق الاساس – حسب ظني – هو في رؤية كل من المنهجين لموقع الفرد في الجماعة ، وعلاقته مع مكونات المجتمع الاخرى ، كالعائلة والسلطة والسوق والمدرسة وما الى ذلك.

هذا التصوير يقوم على فلسفة متعارضة تماما. في المنهج المحافظ تعتبر فكرة "الواجب" هي القاعدة الاساس التي يقوم عليها نظام القيم الاجتماعية. وترجع هذه الفكرة الى الفيلسوف اليوناني سقراط ، الذي قرر ان المدينة الفاضلة هي تلك التي "يقوم كل فرد من اعضائها بواجباته". وفي راي سقراط ان الحياة الاجتماعية هي منظومة واجبات متقابلة ، فاذا قام كل فرد بواجبه سارت حياة الجميع على اكمل وجه.

بينما يفترض المنهج الليبرالي ، ان الحياة الاجتماعية صنيعة مجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا. وبالتالي فان منظومة القيم التي يقوم عليها السلوك الجمعي ، اي ما نصفه بالهوية الاجتماعية ، هي حصيلة اشتراك مجموع الافراد في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.

قبل قيام النظام السياسي كان الناس يعيشون ما يصفه جون لوك بمجتمع الحالة الطبيعية ، حيث يحق للناس ان يفعلوا كل ما ارادوه ان لم يتعارض بشدة مع حقوق الغير.

النظام الاجتماعي اذن ليس بديلا عن مجتمع الحالة الطبيعية ، بل منظم للحرية الكاملة التي تسوده ، وبالتالي فان المجتمع الليبرالي ينظر الى الحريات الفردية كاصل في الحياة الاجتماعية ، كما ينظر الى الانظمة التي يسنها المجتمع كتقييدات على حرية الفرد.

يصنف المجتمع التقليدي الحقوق الفردية كاستثناء من القاعدة ، وعلى العكس من ذلك فان الحقوق والحريات في المجتمع الليبرالي هي الاصل بينما الواجبات هي الاستثناء . لكن لا ينبغي الظن بان المجتمع الاول عدو لحق الفرد ، او ان الثاني عدو للالتزام. في المجتمع التقليدي يحصل الفرد على حريته كمقابل لقيامه بالواجبات المفترضة ، اما في المجتمع الليبرالي فان اداء الواجبات يصنف في اطار المسؤولية التي تترتب على تمتع الفرد بحريته وحقوقه .

ينعكس هذا المعنى ايضا في الجدل بين الفرد والنظام الاجتماعي ، فالمجتمع الاول يميل الى فرض الزامات جديدة على الافراد ، الامر الذي يزيد تدخل السلطة في حياة الفرد ، ويتبع هذا تعدد الاجهزة الخاصة بالتوجية والرقابة والضبط وتضخم حجمها. بينما في المجتمع الثاني ينصب الجهد على تحجيم السلطة وكبح تدخلها في حياة الافراد. ومن هنا يزداد الميل الى تقليص الجهاز البيروقراطي وايكال امر التوجيه والرقابة للهيئات الاهلية التي لا تتمتع بسلطة الردع ، بينما تتخصص اجهزة الردع الرسمية في مكافحة الجريمة والعدوان.

ويبدو ان عالم اليوم يميل بمجمله الى الاخذ بالمنهج الليبرالي ، الذي اظهر – رغم المؤاخذات عليه – انه اقدر على توفير السلام الاجتماعي في المجتمعات المعقدة والكبيرة . يتباين هذا الميل العالمي من المستوى الاولي اي التخلي عن هيمنة الدولة على قطاعات الانتاج الصغيرة الى مستوى اوسع يتمثل في تخليها عن قطاع الخدمات العامة الكبير نسبيا – مثل التعليم والصحة والكهرباء والمواصلات- حتى يصل الى المستوى الاعلى ، اي التحول من فلسفة المجتمع العضوي الى المجتمع التعاقدي . والواضح ان اقطار الخليج العربية تتحرك بين المستويين المتوسط والاعلى ، والمؤمل ان تواصل تطورها في هذا الاتجاه .

يبدو ان التطور المشار اليه يتحقق بصورة طبيعية – وبطيئة الى حد ما - ، لكننا بحاجة في كل الاحوال الى وعي بحقيقة هذا التحول ومعرفة كافية بما يحتاجه وما يترتب عليه ، كي لا نفاجأ بانعكاسات التغيير قبل توقعها او الاستعداد لها. وفي ظني اننا بحاجة الى الكثير من المناقشات العامة لاستيضاح كيفية انعكاس التحول الجاري على ثقافتنا ونظامنا الاجتماعي ، ولا سيما على منظومات القيم والمؤسسات التي نريد الحفاظ عليها او تطويرها كي تناسب حياتنا الجديدة.

 

Okaz ( Saturday 27 March 2004 ) - ISSUE NO 1014 http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/27/Art_88261.XML



مقالات ذات علاقة 

20/03/2004

بيدي أم بيد عمرو: تلك هي المسألة



كثير من قومنا منشغل اليوم بالتفكير في "اهلية" الولايات المتحدة الامريكية لفرض مشروعها الخاص بالاصلاح السياسي في الشرق الاوسط. مشروع "الشرق الاوسط الكبير" الامريكي يستهدف اعادة صياغة هذا النظام الاقليمي على نسق متوائم مع منظومة العلاقات الدولية للقرن الواحد والعشرين. والفكرة ليست جديدة تماما ، فقد طرحت في اوائل التسعينات تحت مسمى النظام العالمي الجديد. لكن  اولويات واشنطن مالت منذ عهد الرئيس بوش الاب الى التركيز على المناطق التي اعتبرت اكثر نضجا للتغيير ، ولا سيما في افريقيا  وجنوب شرق اسيا.
الاداة الرئيسية لهذا المشروع هي الادماج الاقتصادي والمواءمة الثقافية والسياسية ، وهي الفكرة التي تمثل جوهر مفهوم العولمة.

والحق ان المشروع الامريكي قد حقق نجاحا يعتد به في المناطق التي جرى التركيز عليها ، وهو ما يكشف عن الامكانية الكبيرة التي ينطوي عليها اذا ما طرح في مناطق اخرى. بالنسبة للشرق الاوسط (في المفهوم الجديد الذي يمتد من افغانستان الى المغرب) فقد  كان الاعتقاد السائد في واشنطن ان حل المسالة الفلسطينية سوف يؤدي الى تسهيل اطلاق المشروع ، لكن فشل الرئيس السابق كلينتون في استنباط الحل المقترح في اللحظة الاخيرة قد ازاح هذه القضية من دائرة الاولويات ، وجاءت احداث الحادي عشر من سبتمبر لتضع اولوية جديدة ، وهي تفكيك البيئة الاجتماعية المنتجة للتطرف الديني.

طبيعة الدور الذي سيلعبه المجتمع الدولي – الولايات المتحدة واوربا خصوصا – في صناعة التغيير كان دائما محل خلاف مع عواصم المنطقة ، وقبل تلك الاحداث كان بين صناع القرار في الولايات المتحدة من يتعاطف مع الفكرة القائلة بعدم فرض تغييرات دراماتيكية ، خشية انكسار النظام السائد في المنطقة وصعود المتطرفين الى السلطة . ويبدو ان واشنطن كانت مقتنعة بالحجة التي سوقها سياسيون من الشرق الاوسط وفحواها ان ضعف هؤلاء سيفتح على العالم ابواب الجحيم .

لكن منذ الحادي عشر من سبتمبر فان الصورة اختلفت دراماتيكيا في العاصمة الامريكية والكثير من عواصم اوربا الغربية ، وساد اعتقاد بان التباطؤ في ادماج الشرق الاوسط في التحرك العالمي المتوائم نحو الديمقراطية واقتصاد السوق ، هو الذي وفر الارضية الملائمة لتبلورالارهاب والتطرف . هذا التغيير في النظرية الامريكية للعلاقات الدولية هو الذي قادها الى تغيير النظام السياسي في كل من افغانستان والعراق بالقوة المسلحة. ومن المرجح ان هذا النجاح سيغري الولايات المتحدة بتكرار تجربة العمليات الجراحية الرامية لفرض تصورها الخاص للمستقبل في اقطار اخرى . ومن هذه الزاوية خصوصا ينظر باحثون غربيون الى مشروع الشرق الاوسط الكبير باعتباره الاعلان غير الرسمي عن السياسة الجديدة التي سوف تتبعها واشنطن في المنطقة خلال السنوات القادمة . الفكرة البسيطة وراء هذه السياسة : هي ان النظام الاجتماعي في هذه المنطقة جزء متكامل مع منظومة الامن الدولي ، ولهذا فان العالم معني بكل قطر من اقطارها ، بشؤونه الداخلية مثل سياساته الخارجية ، وان على المجتمعات المحلية وحكوماتها ان تغير نفسها والا فرض عليها التغيير من الخارج .

بيت القصيد اذن ليس كون الولايات المتحدة مؤهلة ام غير مؤهلة لفرض التغيير. المسألة التي تستحق النظر هي ان هناك مشروعا فعليا للتغيير ، جوهره اعادة تركيب النظام الاجتماعي في كل قطر باتجاه الانسجام مع التحرك العالمي  نحو الليبرالية في الاقتصاد والسياسة ، وهذا المشروع سيظهر للوجود خلال سنوات قليلة ، على ايدي اهل المنطقة او رغما عنهم . ولهذا فان السؤال الذي يستحق التوقف هو : هل سنصلح حالنا بايدينا ، كي ياتي الاصلاح منسجما مع ما نحسبه ثوابت عندنا ، او نتباطأ حتى نجد انفسنا مرغمين على قبول النموذج الذي يتبناه الامريكيون ولا يقيم كبير اعتبار لسلم اولوياتنا ؟. هل نقبل باصلاح سريع لكنه مخطط ومسيطر عليه ام ننتظر حتى يفرض علينا تغيير فوري لا يقيم وزنا لتبعات المغامرة؟.

Okaz ( Saturday 20 March 2004 ) - ISSUE NO 1007

06/03/2004

عن الحرية والاغـتراب


كلنا نريد الحرية لانفسنا وكلنا نخافها . حرية الانسان هي القدرة على اختيار ما يريد . وعلى الضد من هذا فان العبودية هي العجز عن الاختيار اي تعليق الارادة الفردية على موافقة الغير ، السيد او المالك ، الخ ...
لو امكن تلخيص الخط العام لحياة البشرية منذ بواكيرها وحتى اليوم في جملة واحدة ، لكانت هذه الجملة هي "الكفاح لتوسيع دائرة الخيارات" اي التخلص من القيود والمعوقات التي تفرضها الطبيعة ، او يفرضها نظام العلاقات الاجتماعية على حركة الانسان الفرد. كانت الحرية ولا تزال هما شاغلا للفلاسفة والاجتماعيين مثلما شغلت الادباء والشعراء والفنانين فضلا عن عامة الناس .
مثل كل المفاهيم ، فان الصور الذهنية التي يولدها لفظ الحرية ، تختلف من مجتمع الى آخر ومن عصر الى آخر . وعلى نفس النسق فان تصور كل شخص لحريته الخاصة يختلف كثيرا عن تصوره لحرية الاخرين ، لا سيما اولئك الذين يخضعون واقعيا - او يمكن ان يخضعوا - لسلطته .
ونجد اقرب مثال على هذا التفاوت في العلاقة بين الاباء والابناء ، وبين العلماء ومريديهم ، وبين الزعماء واتباعهم.  في هذه الامثلة الثلاثة جميعها ، يؤمن الطرف الاقوى – الاب او العالم او الزعيم – بان حقه في حرية اوسع ، قائم على معرفة اوسع وعقلانية اكبر . اي بمعنى آخر ، قدرة افضل على ادارة الخيارات الاضافية التي تتيحها الحرية . هذا التفاوت المدعى هو المكون الرئيس لفكرة السلطة الاجتماعية ، ان شخصا يدعي لنفسه الحق في التحكم في الاخر لانه يرى في نفسه أهلية للتمتع بثمراتها تتجاوز أهلية الاخر . جوهر مشكلة الحرية اذن يكمن في القدرة على استثمارها على نحو مناسب ، اي الموازنة بين الحرية والمسؤولية .
المجتمعات المحافظة تخشى من الحرية ، لما تتصوره فيها من زوال او ضعف الضوابط الاجتماعية ، التي تحفظ القيم ومعايير السلوك الفردي . ولعل القراء لاحظوا ان كثيرا من كتابات الدعاة وخطبهم ، تتعمد المبالغة في التحذير من عواقب التحرر ، وتذكير القاريء والمستمع بان الحرية قد جرت على العالم الغربي مفاسد اجتماعية واخلاقية . بمعنى آخر ، ان الخوف من الحرية ومعارضتها كان – ولا يزال – يبرر على اساس الحاجة الى صيانة القيم الاخلاقية .
هذا الخوف ناشيء بطبيعة الحال عن حقيقة ان "الانضباط السلوكي" يمثل الهم الاكبر للمجتمع المحافظ .  ولو كان التقدم العلمي والاقتصادي ، اي الارتقاء الانساني والحضاري ، هو الهم الاكبر للمجتمع لكان الخوف من الحرية في المستوى الادنى ، او ربما كان منعدما .
ما ينبغي ان يقال في هذا الصدد هو ان حرمان المجتمع من الحرية ، لا يجعله فاضلا او نظيفا بل يزرع فيه بذور النفاق. وتدل تجارب التاريخ المعاصر على ان الناس قد نجحوا في توفير بدائل لما منعوا منه . الحريات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تمارس في السر ، وهي تشكل اسلوب حياة متكامل لشريحة غير صغيرة في المجتمعات التي تطبق قوانين ضبط متشددة.
لكن قيام مجتمع سري ليس هو المشكلة الوحيدة التي تترتب على تحديد الحريات العامة . ان اخطر الاثار في ظني هو اغتراب الانسان.
يتخذ الاغتراب شكلين رئيسيين :  الاستسلام السلبي والتمرد . وبينما يتحول الفرد المتمرد الى آلة هدم للمكتسبات الاجتماعية – وربما للنظام الاجتماعي بمجمله - ، فان الاستسلام السلبي يولد في نفس الفرد عزوفا شديدا عن المساهمة في اي عمل اجتماعي مشترك حتى في المستويات الدنيا . تصور هذا المعنى مقولة (حارة كل من ايدو الو) التي اطلقها في صورة كاريكاتورية الفنان السوري  دريد لحام . في هذه الحارة ، كل فرد هو جزيرة مستقلة ، لا يشارك ولا يتحمل المسؤولية ، يعيش حياته بيولوجيا ، ويفكر في داخله لنفسه وحول نفسه ، انسان مغترب وغريب مثلما كل من حوله مغترب او غريب.

 

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/6/Section_2.xml

Okaz ( Saturday 6 March 2004 ) - ISSUE NO 993


مقالات ذات علاقة

28/02/2004

المطالب الشعبية والنظام العام


||علة وجود الدولة هي تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد انجازها بانفسهم. اذا لم يمكن توفير جميع هذه الحاجات فان تحديد اولوياتها هو جوهر موضوع السياسة||
يبدو ان صيانة التوازن بين النظام العام وتلبية المطالب المتغيرة للجمهور هي اكثر مهمات السياسيين حرجا. فكرة التوازن ليست اختراعا جديدا على اي حال ، فقد شكلت جزءا هاما من الدراسات الغربية حول الدولة والتحديث . وقد اشتهرت في هذا السياق اراء المفكر الامريكي صمويل هنتينجتون (وهو بالمناسبة معروف في الوسط الاكاديمي كعالم سياسة ومنظر للتنمية قبل اشتهاره عندنا بنظرية صراع الحضارات). يدعو هنتينجتون الى تحديث متوازن وتدريجي لاجهزة الدولة والنظام الاجتماعي . وفي رايه ان التحديث السريع وما يوفره من حريات وما يكشف عنه من فرص يطلق تيارا هائلا من التوقعات والامال التي يستحيل تلبيتها في فترة وجيزة . عجز الدولة والنظام الاجتماعي عن تلبية تلك الامال ، يحولها الى مولد للقنوط والقلق بين الاكثرية من الجمهور. ويقود بالتالي الى تصدع المجتمع وتبلور ظواهر العنف والخروج على القانون والفساد الخ .
ومع اني لا اميل الى نظرية التنمية التي دعا اليها هذا المفكر ، الا انها تقدم حلولا جديرة بالتامل ، من بينها مثلا تركيزها على مؤسسات العمل الجمعي. النظام العام عند هنتينجتون وليد لتوازن فعال بين مطالب الجمهور وحاجات الدولة . على المستوى الاجتماعي ، يتحقق هذا التوازن اذا امكن تأطير مطالب الجمهور في قنوات عمل جمعي تعمل على تحويل التطلعات الفردية من افكار غائمة الى مشروعات عمل . كما يتحقق التوازن على مستوى الدولة اذا امكن تقريب المسافة التي تفصلها عن المجتمع ، من خلال التوسع في الحوار وانتقال الافكار بين الطرفين. النظام العام – حسب هذه التصوير – ليس وليد استعراض الجبروت الدولتي بل وليد القناعات المشتركة التي يخلقها التفاعل عند الطرفين.
لا يمكن لاي دولة في العالم ان تلبي "جميع" مطالب الناس ، كما يستحيل عليها ان تعرف جميع تلك المطالب . لكن في الوقت نفسه فان النظام العام لا يمكن ان يستقر دون تلبية حد معقول منها . فلسفة عمل الدولة بل وعلة وجودها هو تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد تحقيقها بانفسهم. وبالتالي فان جوهر المسألة هو تحديد ما يحظى باهمية قصوى وما يمكن تاخيره . عمل الدولة – اي دولة في العالم – لا يتجاوز في حقيقة الامر هذا المعنى. كل حاكم او وزير او مسؤول يتمنى ان يفعل كل شيء ، لكنه في نهاية المطاف مضطر الى ملاحظة الامكانات المتوفرة والزمن المتاح وبالتالي فلا مفر من الرجوع الى جدول اولويات مناسب.
السؤال الان : من يقرر ان مطلبا معينا اولى من غيره ، وما هو المعيار في التقديم والتاخير؟.
في اعتقادي ان رضى عامة الناس يجب ان يكون المعيار الاول لاختيار اولويات عمل الدولة. ويرجع هذا الاختيار الى فكرة النظام العام التي بدأنا بها هذا الموضوع . ثمة دائما اعمال مهمة وضرورية لكنها لا تحظى برضى الجمهور ، واخرى اقل اهمية لكنها توفر الرضى. اذا قبلنا بفكرة ان التفاعل بين الدولة والمجتمع هو القاعدة التي يقوم عليها النظام العام والاستقرار ، فيجب ان نأخذ بهذا المبدأ حتى لو بدا لبعض النخبة ناقصا او معيبا.

يستتبع هذا - بالضرورة – توفير الفرصة لافراد الجمهور كي يحولوا اراءهم وتطلعاتهم الى مطالب عقلانية ، منظمة وقابلة للطرح العلمي والمناقشة الموضوعية ، اي – بصورة مختصرة – تحويلها من راي خاص الى راي عام . الوسيلة التي توصل اليها العالم المعاصر للقيام بهذه المهمة هي ما يعرف بالمجتمع المدني . مؤسسات المجتمع المدني ، من صحافة وجمعيات نفع عام وجمعيات حرفية وتخصصية ، هي الوسيلة التي مهمتها بلورة الاراء وعقلنتها وتحويلها من ثم الى مشروعات عمل . تحديد المطالب والاولويات هو – اذن - عمل المجتمع ، وهو التجسيد الابرز لفكرة التفاعل بين الدولة والمجتمع كقاعدة للاستقرار والنظام العام.

21/02/2004

اعادة بناء الاجماع الوطني


يعرف علم السياسة الاجماع الوطني بانه منظومة القيم والمفاهيم والتفاهمات والتقاليد المجتمعية التي تشكل قاعدة للتوافق بين اطراف المجتمع على طريقة معينة لتنظيم امورهم العامة ، والامور العامة هي تلك القضايا التي لا تخص فريقا بعينه ولا جهة بعينها ، بل يشترك فيها – غنما وغرما – مجموع المواطنين. 

فالاجماع الوطني بهذا المفهوم هو القاعدة المفهومية التي يقوم عليها المجتمع الوطني في صورته الموسعة . ما ندعوه بالمجتمع السعودي ، ليس في حقيقة الامر سوى تلك القاعدة وما يقوم عليها من مؤسسات وانماط عمل وعلاقات. ومن نافل القول ان الاجماع هو مصدر شرعية النظام العام والاستقرار في معناه الاجتماعي والسياسي.

مع انهيار الاجماع القديم بسبب المؤثرات الاقتصادية والثقافية والاندماج في السوق العالمي ، فان اعادة تكوين اجماع وطني جديد تتوقف على الاخذ بعين الاعتبار ما نتج عن تلك التاثيرات . وذلك لا يعني بالضرورة ان نحبها او نبغضها ، بل ان نتعامل معها كحقائق موضوعية اصبحت – شئنا ام ابينا – جزءا من الهيكل العام للحياة في بلادنا.
في عالم اليوم فان "المواطنة" هي المفهوم المحوري للاجماع الوطني ، بمعنى ان كل مفهوم او قيمة او تقليد او تفاهم بين اطراف المجتمع لا بد ان ينطلق من اقرار مسبق وغير مشروط بان المجتمع الوطني هو تأليف موسع من مجموع المواطنين الذين يحملون الجنسية ويقيمون ضمن الحدود الاقليمية للبلد. 
مفهوم المواطنة ليس عميق الجذور في ثقافتنا لكنه اصبح جزء لا ينفك منها مع قيام الدولة الحديثة ، الدولة التي تعرف من جانب اهلها والعالم على اساس السيادة ضمن اقليم جغرافي معين ، او ما يسمى بالتراب الوطني. ان اقرب مصطلح عربي تاريخي لمفهوم المواطنة هو مصطلح "الرعية" ، وهو مصطلح يمكن بالرجوع الى معناه اللغوي الاقتراب من مفهوم المواطنة ، لكنه تطور خلال التاريخ ليصب في مفهوم معارض تماما لفكرة المواطنة الحديثة ، ولهذا فانه يستعمل اليوم كمقابل لمفهوم المواطنة لا كمرادف او نظير.

 المواطنة في الدولة الحديثة هي تلخيص لمنظومة من الحقوق يتمتع بها الافراد مقابل ولائهم للنظام السياسي، وقد تطور هذا المفهوم خلال الثورتين الفرنسية والامريكية كبديل عن مفهوم "التابع = subordinate" او "الخاضع=subject" اذا اردنا الترجمة الحرفية. قبل القرن العشرين كان العضو في المجتمع السياسي "التابع او الخاضع في المفهوم الغربي"  يتمتع بحق وحيد فقط هو حق الحماية من العدوان ، ويؤدي في المقابل الواجبات التي تقررها الدولة . وفي كلا الحالين ، فلم يكن له اي دخالة في تقرير طبيعة تلك الحقوق والواجبات ولا كيفية ادائها.

ادى تطور علم السياسة والحياة السياسية معا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين الى اعادة صياغة الاساس النظري للعلاقة بين الفرد والمجتمع ، ترتب عليه اعادة صياغة للعلاقة بين اعضاء المجتمع السياسي حيث ظهرت ثلاثة مفاهيم جديدة : المفهوم الاول هو ان المجتمع السياسي يتكون من اعضاء متساوين تقوم العلاقة بينهم على اساس الشراكة . الثاني : ان المجتمع السياسي هو اطار له اقليم جغرافي خاص وحدود تفصله عن المجتمعات الاخرى. الثالث : ان الحكومة في هذا المجتمع تمثل كل اعضاء المجتمع ، فهي وكيل ينوب عنهم في القيام بالامور العامة.

هذه المفاهيم الثلاثة اسست لكيان لم يكن معهودا في التاريخ القديم ، هو "الوطن" او الدولة الوطنية . وبالتالي فان اعضاء المجتمع السياسي اصبحوا مواطنين . بناء على المفهوم الاول والثاني ، فان العلاقة بين المواطنين تقوم على الشراكة المتساوية في التراب الوطني ، وبناء على المفهوم الثالث فان الحكومة هي مؤسسة تستهدف في المقام الاول خدمة اغراض المجتمع وليس قهره او التسلط عليه.

تطبيقا لهذا المفهوم ، فان تحول المنظورات والاعتقادات الخاصة ، ثقافية كانت او قيمية او سياسية ، الى التزامات عامة وقانونية يتوقف على الاختيار الحر والرضا الصريح من جانب بقية المواطنين . ولا يجوز لاي طرف اجتماعي فرض منظوراته على البقية ، مهما كانت في نظره صحيحة او مفيدة . علاقة الشراكة تعنى ان قبول الشركاء – وليس صحة الموضوع المطروح - هو الشرط الاول لكي يتحول الراي الى التزام قانوني عام .

بناء الاجماع الوطني الجديد يبدأ إذن من اعادة صياغة فكرة المواطنة على اساس الشراكة المتساوية في التراب الوطني ، الشراكة التي تعني المساواة في الفرص والمساواة في المسؤولية .
 Okaz ( Saturday 21 Feb 2004 ) - ISSUE NO 979

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...