10/04/1999

الحل الحاسم للمسألة التلفزيونية



وجدت عددا من كتاب الصحافة المحلية ـ ومنهم كتاب في عكاظ ـ مهتما الاسبوع الماضي بالغزو الثقافي الذي يأتينا عبر برامج التلفزيون ، والالحاد والفساد الذي تمطره القنوات الفضائية ، ببرامجها التي تسيل ـ عادة ـ الكثير من الحبر والدهشة ، ويقول السادة الكتاب اننا نواجه فتنة عظيمة ، بل بلاء مبرما ، ولعل بعضهم وجد مناسبة بين ما يقال عن العولمة التي وصفها استاذنا السريحي بالامركة ، وبين مضمون البرامج التي تعرضها قنوات التلفزيون العربية والاجنبية ، التي سهل التقاطها مع انتشار وسائل الاستقبال المتقدمة.
وظننت لبعض الوقت ان هذه التحذيرات تمثل أساسا قويا للبحث في الطرق العلمية المناسبة لدفع البلاء ، فقلت في نفسي ان الحل الافضل هو إصدار أمر يمنع استقبال برامج التلفزيون ، او ربما التشويش عليها كي تصبح عسيرة الفهم ، او ربما منع استيراد اجهزة التلفزيون كليا كي نغلق باب الفتنة ، تأسيسا على القاعدة التي يجسدها المثل الشعبي السائر (الباب الذي ياتي بالريح .. أسدّه وأستريح) ، وهي قاعدة يأخذ بها عقلاء قومنا ، ولا يستنكرها أحد .

ولا يظنن أحد ان هذا الاقتراحات بدع من جيبي ، فقد سبق لكثير من الناس ان قالها ، وقام بعض أخوتنا في بلادهم بالغاء التلفزيون كليا ومصادرة ما يملكه الناس من أجهزة ، بعد ان منعوا استيراد جديدها بطبيعة الحال ، لكني بعد ان فكرت في هذا الحلول ، وجدت تطبيقها عسيرا بعض الشيء ، فلو أمر أحدهم بمنع مشاهدة التلفزيون ، فربما التزم رب العائلة وعقلاؤها بالامر ، لكن من يلزم الاطفال والجهال ، فلعلهم ينتظرون فرصة خروج العاقل للدراسة او العمل فيطالعون ما يبغون سرا ، فقلت لنفسي ان التشويش هو الحل الاحسن ، وهو حل مجرب في بعض الاحيان ، لكن المشكلة ان هناك من يرغب في مطالعة التلفزيون ولا يخشى عليه ، وهو يستطيع ـ عادة ـ تبرير استمتاعه بهذه الفرصة .

ثم ان كتاب الصحف سوف يعارضون التشويش ، لانه يحرمهم فرصة الاستمتاع بالمشاهدة ثم الكتابة عن سيئاتها ، أي الجمع بين المرغوبين ، وهكذا تفوت الفرصة أيضا على الصحيفة لنشر موضوع جذاب ، فقلت لنفسي ان التشويش ليس حلا طيبا ، فلا يوجد اذن حل افضل من الحل الجذري أي الغاء التلفزيون ، ومصادرة اجهزته ومنع استيراده ، بعد استثناء الموثوقين ، فهو يغلق الباب كليا فيسد ذريعة للفساد ، لكني وجدت ـ بعد التفكير العميق طبعا ـ  ان هذا أسوأ الحلول ، لأنه يحرم المساكين الذين يتحملون مشقة استيراد الاجهزة و بيعها ، من ثمرات كدهم ، ويحرم البائعين من فرصة للربح ، ولهذا فهو قد يفتح ابوابا أخرى للفساد .

وقد حيرني التلفزيون ، وحيرني البحث عن وسيلة لاستئصال شروره ، حتى لقد فكرت مرة في ان الحل الامثل هو اقناع شركة الكهرباء بقطع التيار حين يبث برنامج فاسد ، لكني تذكرت ان شركة الكهرباء تعاني خسائر منذ تأسيسها ، فهل نزيد خسائرها بقطع التيار ؟ .

وأخيرا توصلت إلى الحل الامثل ، الا وهو اقناع شركات التلفزيون بكتابة سطر تحذير ، من هذا النوع الذي تضعه مصانع السجائر على علبها ، يقول مثلا (برامج الفضائيات مضرة بالصحة .. ننصحك بعدم مشاهدتها) ولدي الان حجة قوية على جدوى هذا النوع من الحلول ، لأن الذين توصلوا إلى هذا الحل في المسألة الدخانية ، فكروا كثيرا ، ربما أكثر مما فكرت ، فاهتدوا أخيرا إلى هذا الحل السطري (نسبة إلى سطر التحذير) فيستطيع الانسان ان يطالع البرنامج الممتع ، ويقرأ سطر التحذير في الوقت نفسه ، مثلما يدخن ويقرأ السطر الدخاني في ذات الوقت ، وهكذا ينحل الاشكال العويص.

فلما وصلت إلى هذا الحل الحاسم ، قلت في نفسي ان هذا برهان واضح على مغالاة الكتاب الذين يتحدثون في المشاكل ، فما دام الحل الحاسم لمشكلة الفضائيات قد توفر بهذه السهولة ، فلماذا لا نفكر في حل مشاكلنا الكبرى بنفس الطريقة ؟.

لكني تذكرت لاحقا ان المشكلات هي عمل يدفعون عليه مالا ، ويحصل الانسان من ورائه على التقدير ، فاذا حللنا جميع المشاكل فماذا نعمل ، وكيف نعرض انفسنا ، فقررت السكوت عن هذا الامر ، لكي يكون في وسعنا الحديث عن المشاكل ، من العولمة إلى الغزو الثقافي إلى تحليل العقل العربي ، الخ .. خاصة وان إكثار الحديث عن المشكلات يغني ـ حسب القاعدة الجارية ـ عن حلها ، ويغني عن كشف حجمها وحقيقتها ، ويريح الناس من حمل عبء المسؤولية عنها ، فما دام الانسان يتحدث عن وجودها ، فهو يبريء نفسه منها ومن التحقيق العميق في تفاصيلها ، ومن علاجها ، وهذه أيضا قاعدة جارية ، ونحن ممن يحب القواعد ولزوم القواعد .
ارسل في 10 ابريل 1999

28/03/1999

صناعة الشخصية الملتبسة




في ابريل 1977 استضافت مكة المكرمة المؤتمر العالمي الاول للتعليم الاسلامي ، الذي وجه الانظار بصورة خاصة إلى (ازدواجية التعليم) باعتبارها أحد العيوب الرئيسية في النظام التربوي لجميع الاقطار الاسلامية .

حسب معظم الباحثين الذين قدموا اوراقا للمؤتمر ، فان الازدواجية المذكورة ، هي ثمرة عجز النظام التعليمي القديم عن استيعاب التطورات الجديدة في العلوم ، مما اضطر المجدتمعات المسلمة إلى اقتباس النظام التعليمي الذي تبلور في الغرب ، بمناهجه وفلسفة عمله .

 ولأن العلوم الحديثة شديدة الالتصاق بحاجات الحياة المتغيرة وحركتها الدائبة ، فقد اصبح هذا النظام محور التنشئة الاجتماعية ، والإطار الرئيسي لتدوير الثقافة ، واعداد الاجيال الجديدة من المسلمين ، بينما اتجه النظام القديم إلى مزيد من التخصص ، فتحول من إطار تـثـقيفي وتربوي مفتوح لعامة الناس ، إلى نظام خاص يقصده راغبو التخصص في علوم الشريعة واللغة العربية دون غيرهم . بديهي ان أحدا لا يحول بين الناس والانتظام في النظام التعليمي القديم ، لكن هذا أصبح عاجزا عن ضمان فرص كافية لخريجيه ، وكان في الاصل عاجزا عن توفير الخبرات التي يحتاجها المجتمع في شؤون حياته المختلفة .

وجرى تحديد العيب الرئيسي للنظام التعليمي الحديث ، في تأسيس علومه على فلسفة مغايرة لفلسفة التوحيد ، وأنه لا يقيم اعتبارا خاصا لذلك النوع من الممارسات الاجتماعية ، التي تكرس جزئية الفرد في الجماعة وارتباطه المصيري بتطورات حياتها ، أو تساهم في تدوير الثقافة الاجتماعية بين الاجيال المختلفة ، ان التعليم الغربي ينظر للفرد كموجود مستقل له كيان قانوني محدد ، منفصل عن كيان الجماعة التي ينتمي اليها.

وفيما بعد ، حين يخرج الفرد إلى سوق العمل ، فان علاقته بالافراد الآخرين في الجماعة ، تحددها في المقام الاول مصلحته الخاصة ، وهي ـ لهذا السبب ـ علاقات مؤقتة ورسمية إلى حد كبير ، بينما اهتم التعليم التقليدي قبل تحوله الاخير ، بنقل الثقافة والقيم الناظمة للسلوك الاجتماعي إلى الفرد ، ولعب دورا في تعزيز الروابط التي تشد كل فرد إلى الآخرين من أبناء مجتمعه ، باعتباره وإياهم شركاء في السراء والضراء والمصير .

وقد حاول جميع الاقطار الإسلامية تقريبا تدارك هذا الخلل ، بادخال مواد التربية الدينية وعلوم اللغة في نظام التعليم الحديث ، لكنها بقيت منفصلة ، تلقن لطالب المدرسة باعتبارها علما من العلوم ، وليست فلسفة يقوم عليها كل علم ، كما ان القصور الذي اعترى إعداد المعلم في كل مستويات التعليم ، حدد مهمته بتلقين الطالب ما هو مكتوب في الكتب الدراسية التي اعتمدت كمنهج ، بهدف محدد ، هو إعداد الطالب للنجاح في الامتحان والحصول على شهادة (اكمال الدراسة) .

إن معظم المعلمين ـ ولا نقول كلهم خوف المبالغة ـ لا يعرف كيف يدرس الفيزياء على قاعدة التوحيد ، ولا يعرف كيف يدرس التاريخ على قاعدة التواصل الحضاري بين أجيال البشرية ، ولا يعرف كيف يغرس في عقل الطالب المقومات الثقافية لهويته ، باعتبارها مجال تواصل بين مختلف الأفهام ، وهو في الغالب عاجز عن مساعدة الطالب على تشكيل شخصيته وثقافته الخاصة ، المستقلة ولكن المتواصلة في آن واحد ، ان معظمهم لا يعرف كيف يقوم بهذه المهمة ، لأن أحدا لم يبذل كبير جهد في تعليمه طبيعة هذه المهمة ولا كيفية القيام بها .

لا يقتصر الخلاف بين النظامين على نوع المناهج المعتمدة في كل منهما ، ولا في طريقة التدريس أو مسمى المدارس ، بل في الناتج الأخير ، أي شخصية الفرد الذي تشكلت ثقافته عبر واحد من المسارين ، وفي ذلك المؤتمر حذر الباحثون من ان استمرار ازدواجية النظام التعليمي تنذر بتخريج شريحتين متعارضتين ، تعبر إحداهما عن اتجاه شديد التمسك بالدين وتعبيراته ، بينما تنظر الاخرى إلى التدين باعتباره شأنا جانبيا في الحياة .

 لكني أجد المشكلة أبعد من هذا التقدير ، فنحن اليوم نواجه شخصية واحدة ، لكنها ملتبسة ، يتجاور فيها البعد الديني والبعد العلمي ، لكنهما لا يتواصلان ، ويتجسد الالتباس في عجز الشخص عن منح أحد البعدين فرصته للاشتغال في مختلف أمور الحياة ، فهو تقليدي إلى أبعد حد في حياته الاجتماعية ، وهو عصري إلى أبعد حد في حياته المهنية .

بالنسبة لبعض الناس فان هذا الامر طريف ومسل ، وربما مثير للاعجاب ، لكن هذا هو بالتحديد فحوى المقولة الشهيرة (مالقيصر لقيصر وما لله لله) وهي على أي حال مقولة طريفة ومثيرة للاعجاب .

22/03/1999

كتب الطبخ هي الاكثر رواجا في معارض الكتب



إذا قدر لك التامل في أصناف الكتب التي تعرضها دور النشر العربية في المعارض السنوية المتخصصة ، مثل سوق القاهرة الدولي للكتاب ، أو معرض بيروت أو غيرهما ، فسوف تلاحظ ان الكتب الجديدة قليلة في الجملة ، وان الكتب التي تقدم شيئا جديدا ، نادرة جدا.
 الكتب التي تقدم جديدا هي في الغالب ترجمات عربية لدراسات وضعت في لغات أجنبية ، والكتب الأكثر مبيعا هي كتب التراث ، دواوين الشعر ، وكتب التدبير المنزلي ، وفي معرض الظهران للكتاب الذي انعقد هذا العام ، كان أكثر الكتب مبيعا هو (الشيف رمزي) المتخصص في الطبخ .
على مستوى التعليم فان قضية مثل تعريب  التعليم في الجامعات ، لا زالت موردا للأخذ والرد ، ويقرر عدد من الاساتذة بالفم الملآن ان استمرار التعليم الجامعي باللغات الاجنبية ، ضروري لتسهيل وصول الطالب إلى المصادر العلمية الاجنبية.
 وهذا التبرير يعني ان المصادر العربية غير موجودة أو غير موثوقة ، ولا يزال راغب التضلع في العلوم مضطرا الى احتمال مشقات السفر إلى أوربا والولايات المتحدة لمواصلة أبحاثه .
هذه الامور التي ربما يمر بها بعض الناس مرور الكرام ، تكشف عن خلل في غاية الأهمية ، خلل في حركية الثقافة العربية ، اننا نتحدث عن هذا وقد مرت سنين طويلة على بداية التعليم الحديث والجامعي ، ودخول الطباعة والصحافة ، ثمة جامعات عربية تجاوز عمرها الآن ثلاثة أرباع القرن ، واحتفل غيرها بمرور نصف قرن على قيامه ، وخلال هذه السنوات الطويلة ، تخرج مئات الآلاف ممن كان عليهم المعول في تحريك عجلة العلم والثقافة العربية .

وربما وجد بعض الناس ان الوضع الثقافي العربي بخير ، فلدينا عشرات من الصحف و الدوريات ولدينا المئات ممن يجيدون الحديث في الاذاعات وعلى المنابر ، وتمتليء الدوائر الحكومية والشركات بالالاف من خريجي الجامعات.

لكن الحديث ليس عن (الكم) الثقافي ، مع ان ما يذكر قليل بالمقارنة مع الامم الأخرى ، بل عن (الكيف) وتحديدا عن فاعلية الثقافة السائدة في تهيئة الطرق أمام تحديث العالم العربي ، ونستطيع الاستدلال بكل بساطة على ان الثقافة المتداولة في العالم العربي ، لا تلعب هذا الدور ، من تفسير الاقبال على النوعية المذكورة سلفا من الكتب ، ومن تأمل متأن في محتويات الصحافة اليومية والاسبوعية التي يقرأها أكثر الناس ، ان الاقبال على كتب التراث من قبل عامة الناس ، يعني انهم مشغولون بهم الماضي أكثر من هموم الحاضر ، أو لعلهم يهربون من هموم الحاضر بتجاهلها ، والانشغال بما مضى لأن همومه غير مكلفة ، أو لعلهم لا يجدون في الحاضر الثقافي شيئا يستحق العناء.
 أما الاهتمام بالشعر فينطوي على شعور بالعجز عن التعبيرات المباشرة عن الهموم الفعلية ، أو رغبة في الانصراف إلى التأمل الوجداني الأقرب إلى التصور والخيال ، بدل الانشغال بالواقعي والمادي ، كما ان الاهتمام بثقافة التدبير المنزلي تعني تطور التيار الاستهلاكي من استهلاك مجرد ، أي رغبة في التملك والاحتذاء ، إلى منهج حياة منظم ومؤسس على أصول محددة .

لكن الامم لا تتقدم بالهروب من الحاضر إلى الماضي ، والمشكلات لا تعالج بترك الميدان الواقعي المادي إلى التأمل الوجداني ، كما ان شيوع ثقافة الاستهلاك والتملك في المجتمعات ، تضعف مبررات الانتاج والابداع ، وتعزز خيار الاعتماد على الغير في تدبير حاجات الحياة ، بدل تطوير الكفاءة الذاتية .

الثقافة والعلوم على مستوى العالم العربي كله لا تزال تحت خط الفقر ، بمعنى انها عاجزة عن مسايرة النشاط الاقتصادي القائم فعلا في البلدان العربية ، والدليل البسيط على هذا ، اننا لا نزال بحاجة إلى (شراء) الخدمات العلمية من الخارج ، فاذا احتجنا إلى بناء عمارة كبيرة أو جسر أو طريق رئيسي ، استقدمنا شركة اجنبية لتضع لنا المخطط وتشرف على التنفيذ ، وإذا احتجنا مصنعا أو تجهيزات لمصنع اشتريناها جاهزة من الخارج ، وإذا احتجنا إلى صيانة هذه الاشياء وتجديدها ، عدنا إلى الخارج ، فأين الذين تعلموا واين نتاج الجامعات والمدارس العليا ، الم تقم هذه المؤسسات من أجل ان نستغني عن الخبير الاجنبي في اقامة منشآتنا ؟ .

المخططون في القطاع الخاص والادارات الرسمية يقرون بالحاجة إلى الاعتماد على الخبرات الوطنية ، لكنهم ـ وقت الحاجة ـ يذهبون إلى الأجانب ، بتبرير بسيط وقابل للتفهم ، خلاصته ان المنطق يقضي باتباع أحدث السبل في الانشاء والتاسيس ، لانك لا تريد القيام بتجارب بل تريد انشاء يعتمد عليه لسنين طويلة قادمة .

انه تبرير قابل للتفهم كما ذكرت ، لكن المشكلة انه صحيح اليوم كما كان صحيحا قبل نصف قرن ، وسيكون صحيحا بعد عشرين أو ثلاثين عاما في المستقبل ، فمتى سنعتمد على خبرائنا ومتى سيعمل رجالنا بمفردهم ؟ .

المجتمع العربي يتقدم على المستوى الاقتصادي ، لكن ثقافته لا تتطور بسرعة موازية أو في نفس الاتجاه ، ولهذا فانها لا تخدم حاجاته ، بكلمة أخرى فالوضع اليوم ينم عن افتراق بين اتجاهات الحياة واتجاهات الثقافة ، وإذا تباينت الثقافة والحياة ، أمسى الانسان يعيش في عالم مزدوج ، عالم مجزأ ومتباين الأجزاء ، يريد كل جزء ان يصنع انسانه الخاص .

17/03/1999

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي


دار موضوع الثلاثاء الماضي حول تنازع الثقافات في المجتمع الواحد ، بفعل دخول عناصر التقدم المادي على خط الصراع بين ثقافة تنتمي إلى زمن يوشك على الافول وآخر يريد احتلال المشهد ، وزبدة القول ان المجتمع ـ في وقت محدد ـ هو حالة ثقافية / زمنية ، لا تريد إعلان موتها ولا التنازل عن مواقعها ، رغم انها تعبير عن زمن انقضى وانتهت مبررات وجوده.
 لكن الجدل بين الثقافتين لا ينتهي بسهولة أو في زمن قصير ، خاصة إذا تبلور دفاع الثقافة القديمة في قوى اجتماعية تكافح دون حلول الجديد ، بذريعة ان القديم تجسيد لأصالة المجتمع وروحيته ، والجديد تعبير عن هزيمة للذات والتحاق بالغير المعادي ، أي ترجمة السائد كصورة للذات والجديد كتهديد للذات ، وتستقطب هذه الترجمة الذكية تأييدا واسعا في المجتمعات حديثة العهد بالانفتاح على العالم ، ولا سيما المجتمعات الشديدة الاعتزاز بالذات ، بغض النظر عن الطبيعة التاريخية للثقافة الانسانية .

ظهرت نماذج لهذا الصراع في كل المجتمعات التي خاضت تجربة التمدين ، وانتهى معظمها بسيطرة الثقافة الجديدة كما حصل في أوروبا ، أو بإعادة تنسيج ، تحاور فيها الجديد والقديم ، لانتاج بديل تتشابك فيه أصول ثقافية قديمة وفلسفة عمل جديدة ، كما حصل في اليابان .

وكلا النموذجين كان نصب أعين المخططين العرب الذين كرسوا حياتهم للنهوض بمجتمعاتهم ، لكننا ـ رغم هذه المعرفة ـ نواجه في المجتمع العربي سياقا جديدا ، يتجسد في عودة جزء مهم من الشريحة الاجتماعية التي تفاعلت مع التجديد وعملت ضمنه ، إلى تبني الثقافة القديمة ، لمبررات مختلفة ، بعضها يعود إلى قصور عملية الاحلال الثقافي ، وبعضها ناتج عن الافرازات السلبية لمشروع التمدين .

وقد انبعثت الثقافة القديمة في معظم الاقطار العربية ، وتحولت في أحيان كثيرة إلى عقبة كؤود تعيق تجدد المجتمع وتحديث حياته ، وفي أحيان أخرى إلى فلسفة للانتقاض على المجتمع أو التشكيك في كل عنصر من عناصر التطور المادي والاجتماعي ، ويتجسد هذا الانبعاث في مظاهر عديدة ، بعضها يمكننا ذكره وبعضها نخشى ذكره ، فنكتفي بالاشارة اليه من بعيد ، من بينها على سبيل المثال عودة بعض الناس إلى الاهتمام بالسحر وتفسير الاحلام ، وعودة البعض الآخر إلى استعمال الوسائل المتشددة والعنيفة لقمع الاختلاف في الافكار والاراء .

ونلحظ بصورة عامة ان المجتمع العربي متباطيء جدا في الاقرار بأن التحديث المادي لا يمكن له ان يستكمل دون تحديث ثقافي مواز ، يتناول إعادة هيكلة القيم الحاكمة على رؤية الانسان العربي للآخرين والأشياء ، واعادة انتاج التقاليد والأعراف الاجتماعية لكي تخدم المتطلبات الحياتية للمجتمع في مرحلته الحاضرة ، باعتبارها نواظم للسلوك ، مرتهنة لحاجات المجتمع في مرحلته الزمنية ، وليست قيما عابرة للزمن أو مجردة .

وطرحت تفسيرات عديدة لهذه العودة ، منها ما يربطه بعلل متمكنة من الشخصية العربية ، مثل ذلك الذي اقترحه د. محمد جابر الانصاري الذي يقول ان العربي أميل إلى الصراع والمنازعة منه إلى البناء الذي يتطلب سعة صدر وصبرا ، وهو يضرب مثالا بسيطا فيقول ان انسانا ما مستعد للخروج إلى الحرب إذا دقت طبولها ، مع ما تنطوي عليه الحرب من خطر الفناء ، لكن هذا الشخص بالذات لا يرغب أبدا في حمل مكنسة لتنظيف الشارع أمام بيته .

ومن بين التفسيرات ما يربطه بنظم التربية والتعليم السائدة ، مثل رأي د. عبد العزيز الجلال ، الذي وجد ان التربية المدرسية تميل إلى انتاج شخصية مهمشة أحادية البعد ، وبطبيعة الحال فان الانسان ذا البعد الواحد لا يستطيع احتمال التغيير المتوالي في البشر والاشياء ، الناتج عن تغير مصادر الثقافة وأساليب العيش وأدوات تحصيله .

ومن التفسيرات أيضا ما يشير إلى عيوب في مشروع التمدين ذاته ، الذي ركز على تحديث الاقتصاد وسبل المعيشة ، لكنه أغفل الانسان الذي يفترض ان يكون المستهدف الأول لهذا المشروع ، فكأن المشروع افترض ان الانسان العربي كامل ، لا ينقصه غير تخلف المعيشة ، فانصب الجهد على تطوير مصادرها .

ووجدنا نتيجة لهذا ان الناس قد انصرفوا بكل همة إلى تحسين قدراتهم المادية ، ورفع مستوى معيشتهم ، لكنهم لم يبذلوا جهدا موازيا في تطوير رؤاهم وثقافتهم ، كما ان المشروع قد خلا تماما من تصور متكامل لما سيفرزه التطور المادي من حاجات اجتماعية غير مادية ، ولا سيما تغير رؤية الانسان لنفسه وتقييمه المستجد لدوره الاجتماعي وعلاقته مع الغير ، وما يترتب على هذا من اختلال في توازن القوى السائد ، وبالتالي منظومة القيم التي تحميه أو تبرر وجوده .

وثمة تفسيرات أخرى ، تدور غالبا حول واحد من الثلاثة السابقة ، وسوف نعود إلى الموضوع مرة أخرى الثلاثاء القادم .

07/03/1999

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

في مقال الثلاثاء الماضي ، ظننت العالم العربي مقبلا على عقد ثقافي جديد ، وبررت ظني بما أجده من علاقة بين الارتخاء السياسي / الأمني ، واتساع طريق الثقافة ، لكن زميلا لي لفت انتباهي اليوم إلى قضية أخرى ، حين تساءل عن صدقية اعتبار الثقافة النشطة سبيلا إلى تقدم المجتمع العربي ، فهو يلاحظ ان بعض أقطار العرب تشهد نشاطا ثقافيا ، وتعتبر بلدا مثقفا بالمعايير الدولية للنشاط الثقافي ، لكنها ـ رغم ذلك ـ لم تحرز تقدما مهما ، بمعايير التنمية الشاملة ، المقبولة على الصعيد العالمي (يمكن اخذ مصر ولبنان كامثلة مناسبة هنا).

على صعيد التعليم العام مثلا ، يرجع تاريخ التعليم الحديث في بعض الاقطار العربية إلى أكثر من قرن من الزمان ، وكذلك الأمر على مستوى التنظيم الحكومي والاتصال بالخارج ، ودخول الطباعة والصحافة ، وبشكل عام فان للعالم العربي تجارب في التنمية الاقتصادية ، ترجع إلى خمسين عاما أو اكثر ، ومع هذا فان المقارنة بين أي قطر عربي والأقطار الصناعية أو شبه الصناعية ـ حتى تلك التي بدات متأخرة مثل الهند وأقطار شرق آسيا ـ لن تكون في  أي حال لمصلحة العرب .

وقد التفت مفكرون وسياسيون كثيرون إلى هذه المفارقة ، ووضعوا دراسات وتحليلات ، تشير جميعها إلى ان صورة التقدم الذي نريد ، ليس واضحا في أذهاننا بدرجة كافية ، فبعضنا يتصوره في مزيد من المباني والشوارع ، وبعضنا يتصوره في المصانع ووسائل الاتصال ، وآخرون يرونه في مزيد من وسائل الرفاهية ، ولكل من هؤلاء منظور ومبرر ، ولعله يكون محقا في حدود ما يدعو إليه .

وللثقافة في كل واحد من هذه التوجهات دور تلعبه ، فالانسان المتعلم أقدر من نظيره الجاهل على إنجاز التزاماته ، وهو أسرع استيعابا للتغيير الذي لا بد ان يرافق الجديد المستحدث .

ومع تقدير دور الثقافة وأهميتها في أي مشروع تمدين ، ينبعث السؤال البديهي حول طبيعة الثقافة التي يمكن ان تلعب هذا الدور ، وهذا يقودنا إلى منبع الثقافة التي نتحدث عنها ، فالمعروف بديهة ان الثقافة والحراك الاجتماعي يتفاعلان عطاء وأخذا ، تراث المجتمع بما هو تعبير عن ثقافة سابقة ، يحاول البقاء واحتلال المساحة المخصصة للثقافة في كل وقت ، والثقافة الجديدة الآتية في سياق مشروعات التمدين وتطور الاتصال بالخارج ، تحاول الاستئثار بالمشهد الثقافي ، باعتبارها فلسفة الزمن الجديد ، ولفت نظري ـ كمثل على هذا ـ مقال الاستاذ عبد الله ابو السمح في عكاظ السبت الماضي ، المكرس للحديث عن طريقة العزاء التقليدية ، وهي تحاول الحفاظ على مكانتها كوسيلة في التعبير عن العلاقة بين أحياء المجتمع وأمواته ، ومع تحفظي الشديد على رأي الكاتب ، إلا ان فكرته تعبير عن الصراع بين ثقافة سابقة (سائدة) وثقافة تريد احتلال المشهد ، بذرائع بعضها من النوع الذي اقترحه أبو السمح .

7-3-1999 


28/02/1999

فرصة لانطلاق عقد ثقافي عربي


رغم المناوشات الصغيرة هنا وهناك ، فان مسار العالم العربي متجه إلى حالة استرخاء أمني وسياسي ، وهذا ليس من نوع الرجم بالغيب ، لكن تتبع مسار احداث السنوات الأخيرة ، وتحليل معاني وانعكاسات الاحداث الكبيرة خاصة ، قد يساعد على الظن بأن السلام الاجتماعي سيكون سمة غالبة في العقد القادم ، نشير مثلا إلى ان البلدان العربية التي كانت مراكز أزمة ـ السودان ، الجزائر ، العراق مثلا ـ  تبدو اليوم اقرب ما تكون إلى مغادرة دائرة الأزمة . ولا يضعف هذا التحليل ما يخبئه الانكماش الاقتصادي الراهن من انعكاسات اجتماعية وسياسية محتملة ، أخذا بعين الاعتبار نجاح بعض العرب ـ الاردن ، لبنان ، اليمن على سبيل المثال ـ في احتواء الانعكاسات الاجتماعية / الامنية للتأزم الاقتصادي .
شارع المتنبي في بغداد

في ظرف الأزمة ، يستأثر الأمن الوطني بمعظم الاهتمام الرسمي ، وعلى العادة العربية المشهورة ، فان تصاعد الهم الامني يقترن دائما بزيادة القيود وتوسيع نطاق الممنوعات ، لهذا نتوقع ان يكون الارتخاء السياسي سبيلا إلى تخفيف القيود .
العالم العربي في أمس الحاجة إلى توسيع مساحة (المباح) في الحياة العامة  ، في المجتمع والثقافة والسياسة ، ورفع القيود تماما على مستوى الحياة الشخصية ،  أي الفصل بين الالتزامات العامة المطلوبة من الفرد بما هو جزء من المجتمع ، وممارساته الخاصة المتعلقة بحياته الخاصة أو الاسرية ، لكن هذا حديث يطول وقد يؤذي ، وما أردنا الاهتمام به في هذه المقالة هو الجانب الثقافي من الحياة العامة ، أملا في ان يكون العقد القادم ، مكرسا للنهوض العلمي والثقافي ، الذي لا بديل عنه للتقدم ومواجهة تحديات القرن الجديد .
لا أريد الحديث عن فضل العلم أو الحث على طلبه ، فلا أحد يجادل فيه ، في كلياته على الأقل ، لكن المهم هو الربط بين العلم والتقدم ، فقد يحصل ، بل وهذا ما حصل فعلا في التجربة العربية ، ان يتوفر العلم ويبقى المجتمع أسيرا للتخلف ، لقد طوى التعليم الحديث في الوطن العربي ما يزيد على قرن من العمر ، وخرجت المدارس ملايين المتعلمين ، ورغم هذا فلا زلنا نتطلع إلى أفق التقدم باعتباره بعيدا عنا ، خلافا للعقيدة الاولية التي يحملها كل متعلم والتي مضمونها ان التقدم يأتي بعد العلم ، وان العلم طريق حتمي إلى التقدم .
ويمكن إرجاع هذه المفارقة (حصول العلم دون حصول التقدم رغم التلازم المنطقي بينهما) إلى علل كثيرة ، من بينها مثلا ان العلم المدرسي لم يتفاعل مع النسيج الثقافي العام ، حيث لا يزال بالوسع التمييز بين مسارين منفصلين في الذهنية الاجتماعية ، وهي التكثيف الأولي لمجموع الذهنيات الخاصة للأفراد ، وتظهر هذه الازدواجية بوضوح في مثال المتعلم الذي يتبع أدق المعادلات المنطقية في مهنته ، ثم يتخلى عن التجربة العقلية تماما في قراءة تراثه أو في تربيته لأولاده أو علاقاته الاجتماعية .

ومن بين تلك العلل خضوع الثقافة للسياسة ، ونجاح أهل السياسة في وضع مسارات محددة للبحث والتعبير العلمي ، لكي تصل إلى نتائج مقررة سلفا ، مما يلغي فرص الحوار الضروري لانضاج الفكرة العلمية ، وتحويلها من كائن نظري يحلق في الفضاء ، إلى كائن متفاعل مع المادي والمعنوي المتحرك على مسرح الحياة اليومية ، ومن العلل أيضا العلاقة الحرجة بين العقيدة والمعرفة ، والتي هي في الأصل علاقة مفتعلة ، لم توجد إلا حين أراد بعض المقتدرين فرض وجودها ، وتنعكس في صورة حدود لمجال التفكير وقيود على فرص التعبير .
وفي ظني ان العرب جميعا ، عامتهم ونخبتهم ، حكامهم ومحكوميهم ، يشعرون بالحاجة إلى العلم ونشره ، والبناء عليه واستثمار نتاجه ، لكنهم ـ مع هذه الرغبة ـ قد يضحون بما يتمنون ، خشية ان يفتح عليهم أبوابا صعبة الغلق ، ويجسد المثل الشعبي السائر (الباب اللي يجيب الريح .. سده واستريح ) رد الفعل الاولي على اختلاف الاجواء .
يزداد الميل إلى التشدد وإغلاق الأبواب في ظروف التأزم ، بينما يتراجع هذا الميل في ظروف الارتخاء ، لكن التحول الطبيعي يأتي بطيئا جدا ، وإذا كان تحليلنا صحيحا عن اتجاه الوضع العربي إلى الاسترخاء ، فقد نحتاج إلى التنبيه بانه قد حان الوقت لتعويض ما خسرناه في ظرف الأزمة ، فالقيد الذي وضع تحت مبرر الازمة ، لا محل له بعد ان تنجلي أو توشك .
28-2-99

14/02/1999

متفائلون على أعتاب الالفية الثالثة : هل يتقدم العرب



أظن أن كل عربي حصل على نصيب من الثقافة ، قليلا أو كثيرا ، قد توقف ساعة أو ساعات امام العتبة الزمنية التي يوشك ان يجتازها العالم بعد أشهر ، أعني نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة .

ويبدو ان العالم العربي قد تجاوز موقف الغفلة ، فمعظم العرب ، المتعلمين منهم على وجه الخصوص ، على وعي بأن الحديث عن الألفية الثالثة لا يتعلق بعبور زمني خال من المعنى .
قبل عشرين عاما ، حين كان القرن الرابع عشر الهجري في نهاياته ، وجه السيد ابراهيم الوزير دعوة إلى المسلمين ، كي يقدموا لأنفسهم جردة حساب عما اكتسبوه أو خسروه خلال القرن الرابع عشر ، وان يضعوا نصب اعينهم مسارات محددة في القرن الهجري الجديد ، وعرض العلامة الوزير في كتابه (على مشارف القرن الخامس عشر) أبرز التحديات التي تواجهنا في هذا القرن ، وكرر مفكرون آخرون هذه الدعوة ، لكن اوضاع العالم الإسلامي كانت يومئذ شديدة الالتباس ، فضاعت تلك الدعوات في زحمة الأحداث ، لكني أظن اليوم ان العشرين عاما الماضية لم تضع هباء ، فالاحداث المتزاحمة اوجدت قدرا من الوعي عند العرب والمسلمين ، يؤهلهم اليوم أو غدا لاختيار طريقهم .

القضية الكبرى الدائمة هي التجدد الاجتماعي والتجديد الثقافي . التجديد الثقافي ، يعني بصورة محددة تطوير المنتجات الثقافية لتكون قادرة على تحليل حياتنا ونقدها واقتراح البدائل ، وبالنظر إلى ان النتاج الثقافي الفعال بحاجة إلى حياة ثقافية نشطة وسليمة ، فان التجديد مرهون بطبيعة الاطارات التي تحتوي النشاط الثقافي من حيث الضيق والسعة ، ومن حيث الحرية أو التقييد ، ونعلم ان القيود الاجتماعية المفروضة على التعبير ، هي المسؤول الاول عن تحجيم الحياة الثقافية من ناحية الكم وتفريغها من ناحية الكيف ، بديهي ان الحياة الثقافية المتحررة من القيود ، والمتروكة للمبادرات الفردية ، وغير المقيدة باطارات محددة ، هي الدليل الأقوى على رغبة المجتمع في تجديد ثقافته ، وتعزيز دورها في  البناء وتحديد صورة المستقبل .

أما التجدد الاجتماعي ، فيتحدد في وعي المجتمع بحاجاته الحقيقية وقدرته على تلبيتها أو سعيه في هذا الاتجاه ، والواضح ان العرب يعون اليوم أكثر من  أي وقت مضى ، انهم قد تأخروا كثيرا عن ركب المدنية الانسانية ، وهذا ما ينكشف عند أي مقارنة بينهم وبين المجتمعات المناظرة .

على الجانب الآخر من العالم ، فان المجتمعات الصناعية تستعد للقرن الجديد بزخم هائل من الأفكار ومناهج العمل والمبتكرات ، وهو ما دعا بعض كتابنا إلى استدعاء القضايا المطروحة هناك باعتبارها قضايا كونية ، والحق انها ليست كذلك ، فما يواجه المجتمعات الصناعية من تحديات ، يتناسب ومستوى تطورها ، ولاننا في مستوى آخر ، فان القضايا التي تواجهنا مختلفة كليا ، وان تشابهت مع تلك في عناوينها.

 وأذكر هنا المفارقة التي عرضها د. حازم الببلاوي حين تحدث عن العلاقة بين الانتاج والاستهلاك ، فهو يشير إلى ان صناعة الاعلان حيوية للمجتمع الصناعي ، لانها الوسيلة الرئيسية لتضخيم الاستهلاك وبالتالي تسهيل الطريق امام الابتكارات الجديدة ، أما في المجتمعات القليلة الانتاج ، فان الاعلان ثم الاستهلاك يلعب دور المضخة التي تسحب الثروة الوطنية إلى الخارج ، وتقلل فرص الادخار الضروري للاستثمار فالانتاج ، لان ما يعرضه الاعلان من سلع وخدمات ، مستورد غالبا من الخارج ، ويمكن تطبيق هذا القياس على المصارف والاسواق المالية وصناعة الاعلام ، بل وحتى التعليم في بعض  الحالات .

من مصاديق التجدد الاجتماعي ، العودة إلى الثقة بالذات ، واكتشاف القدرات الذاتية ، ولدينا على المستوى العربي فرص هائلة إذا حسنت ادارتها ، لكن هذا بحاجة إلى تخفيف الموجة الاقليمية والقطرية التي سادت عالم العرب منذ اواخر الثمانينات ، والتي لم يكن وراءها من ثمرة سوى ان العرب اغلقوا أبوابهم دون أشقائهم وشرعوها أمام الغرباء ، لكن لحسن الحظ فان العرب اقتنعوا اخيرا بجدوى فتح أسواقهم على بعضها ، وبدأ بشكل جدي ـ كما تشير الانباء ـ تطبيق اتفاق الوحدة الجمركية ، وهي عودة بعنوان مختلف إلى فكرة الوحدة التي نعاها كثيرون في اوخر الثمانينات ، مع انها طريق العرب الوحيد على الارجح ، إلى مواجهة التحديات الاقتصادية التي لا يستطيع كل قطر بمفرده احتمال اعبائها .

على ابواب الالفية الثالثة ، سوف نحتاج إلى التفاؤل ، وسوف نحتاج بالطبع إلى العمل الجاد لاكتشاف الذات وصياغتها من جديد .
في 14-2-99

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...