22/03/1999

كتب الطبخ هي الاكثر رواجا في معارض الكتب



إذا قدر لك التامل في أصناف الكتب التي تعرضها دور النشر العربية في المعارض السنوية المتخصصة ، مثل سوق القاهرة الدولي للكتاب ، أو معرض بيروت أو غيرهما ، فسوف تلاحظ ان الكتب الجديدة قليلة في الجملة ، وان الكتب التي تقدم شيئا جديدا ، نادرة جدا.
 الكتب التي تقدم جديدا هي في الغالب ترجمات عربية لدراسات وضعت في لغات أجنبية ، والكتب الأكثر مبيعا هي كتب التراث ، دواوين الشعر ، وكتب التدبير المنزلي ، وفي معرض الظهران للكتاب الذي انعقد هذا العام ، كان أكثر الكتب مبيعا هو (الشيف رمزي) المتخصص في الطبخ .
على مستوى التعليم فان قضية مثل تعريب  التعليم في الجامعات ، لا زالت موردا للأخذ والرد ، ويقرر عدد من الاساتذة بالفم الملآن ان استمرار التعليم الجامعي باللغات الاجنبية ، ضروري لتسهيل وصول الطالب إلى المصادر العلمية الاجنبية.
 وهذا التبرير يعني ان المصادر العربية غير موجودة أو غير موثوقة ، ولا يزال راغب التضلع في العلوم مضطرا الى احتمال مشقات السفر إلى أوربا والولايات المتحدة لمواصلة أبحاثه .
هذه الامور التي ربما يمر بها بعض الناس مرور الكرام ، تكشف عن خلل في غاية الأهمية ، خلل في حركية الثقافة العربية ، اننا نتحدث عن هذا وقد مرت سنين طويلة على بداية التعليم الحديث والجامعي ، ودخول الطباعة والصحافة ، ثمة جامعات عربية تجاوز عمرها الآن ثلاثة أرباع القرن ، واحتفل غيرها بمرور نصف قرن على قيامه ، وخلال هذه السنوات الطويلة ، تخرج مئات الآلاف ممن كان عليهم المعول في تحريك عجلة العلم والثقافة العربية .

وربما وجد بعض الناس ان الوضع الثقافي العربي بخير ، فلدينا عشرات من الصحف و الدوريات ولدينا المئات ممن يجيدون الحديث في الاذاعات وعلى المنابر ، وتمتليء الدوائر الحكومية والشركات بالالاف من خريجي الجامعات.

لكن الحديث ليس عن (الكم) الثقافي ، مع ان ما يذكر قليل بالمقارنة مع الامم الأخرى ، بل عن (الكيف) وتحديدا عن فاعلية الثقافة السائدة في تهيئة الطرق أمام تحديث العالم العربي ، ونستطيع الاستدلال بكل بساطة على ان الثقافة المتداولة في العالم العربي ، لا تلعب هذا الدور ، من تفسير الاقبال على النوعية المذكورة سلفا من الكتب ، ومن تأمل متأن في محتويات الصحافة اليومية والاسبوعية التي يقرأها أكثر الناس ، ان الاقبال على كتب التراث من قبل عامة الناس ، يعني انهم مشغولون بهم الماضي أكثر من هموم الحاضر ، أو لعلهم يهربون من هموم الحاضر بتجاهلها ، والانشغال بما مضى لأن همومه غير مكلفة ، أو لعلهم لا يجدون في الحاضر الثقافي شيئا يستحق العناء.
 أما الاهتمام بالشعر فينطوي على شعور بالعجز عن التعبيرات المباشرة عن الهموم الفعلية ، أو رغبة في الانصراف إلى التأمل الوجداني الأقرب إلى التصور والخيال ، بدل الانشغال بالواقعي والمادي ، كما ان الاهتمام بثقافة التدبير المنزلي تعني تطور التيار الاستهلاكي من استهلاك مجرد ، أي رغبة في التملك والاحتذاء ، إلى منهج حياة منظم ومؤسس على أصول محددة .

لكن الامم لا تتقدم بالهروب من الحاضر إلى الماضي ، والمشكلات لا تعالج بترك الميدان الواقعي المادي إلى التأمل الوجداني ، كما ان شيوع ثقافة الاستهلاك والتملك في المجتمعات ، تضعف مبررات الانتاج والابداع ، وتعزز خيار الاعتماد على الغير في تدبير حاجات الحياة ، بدل تطوير الكفاءة الذاتية .

الثقافة والعلوم على مستوى العالم العربي كله لا تزال تحت خط الفقر ، بمعنى انها عاجزة عن مسايرة النشاط الاقتصادي القائم فعلا في البلدان العربية ، والدليل البسيط على هذا ، اننا لا نزال بحاجة إلى (شراء) الخدمات العلمية من الخارج ، فاذا احتجنا إلى بناء عمارة كبيرة أو جسر أو طريق رئيسي ، استقدمنا شركة اجنبية لتضع لنا المخطط وتشرف على التنفيذ ، وإذا احتجنا مصنعا أو تجهيزات لمصنع اشتريناها جاهزة من الخارج ، وإذا احتجنا إلى صيانة هذه الاشياء وتجديدها ، عدنا إلى الخارج ، فأين الذين تعلموا واين نتاج الجامعات والمدارس العليا ، الم تقم هذه المؤسسات من أجل ان نستغني عن الخبير الاجنبي في اقامة منشآتنا ؟ .

المخططون في القطاع الخاص والادارات الرسمية يقرون بالحاجة إلى الاعتماد على الخبرات الوطنية ، لكنهم ـ وقت الحاجة ـ يذهبون إلى الأجانب ، بتبرير بسيط وقابل للتفهم ، خلاصته ان المنطق يقضي باتباع أحدث السبل في الانشاء والتاسيس ، لانك لا تريد القيام بتجارب بل تريد انشاء يعتمد عليه لسنين طويلة قادمة .

انه تبرير قابل للتفهم كما ذكرت ، لكن المشكلة انه صحيح اليوم كما كان صحيحا قبل نصف قرن ، وسيكون صحيحا بعد عشرين أو ثلاثين عاما في المستقبل ، فمتى سنعتمد على خبرائنا ومتى سيعمل رجالنا بمفردهم ؟ .

المجتمع العربي يتقدم على المستوى الاقتصادي ، لكن ثقافته لا تتطور بسرعة موازية أو في نفس الاتجاه ، ولهذا فانها لا تخدم حاجاته ، بكلمة أخرى فالوضع اليوم ينم عن افتراق بين اتجاهات الحياة واتجاهات الثقافة ، وإذا تباينت الثقافة والحياة ، أمسى الانسان يعيش في عالم مزدوج ، عالم مجزأ ومتباين الأجزاء ، يريد كل جزء ان يصنع انسانه الخاص .

17/03/1999

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي


دار موضوع الثلاثاء الماضي حول تنازع الثقافات في المجتمع الواحد ، بفعل دخول عناصر التقدم المادي على خط الصراع بين ثقافة تنتمي إلى زمن يوشك على الافول وآخر يريد احتلال المشهد ، وزبدة القول ان المجتمع ـ في وقت محدد ـ هو حالة ثقافية / زمنية ، لا تريد إعلان موتها ولا التنازل عن مواقعها ، رغم انها تعبير عن زمن انقضى وانتهت مبررات وجوده.
 لكن الجدل بين الثقافتين لا ينتهي بسهولة أو في زمن قصير ، خاصة إذا تبلور دفاع الثقافة القديمة في قوى اجتماعية تكافح دون حلول الجديد ، بذريعة ان القديم تجسيد لأصالة المجتمع وروحيته ، والجديد تعبير عن هزيمة للذات والتحاق بالغير المعادي ، أي ترجمة السائد كصورة للذات والجديد كتهديد للذات ، وتستقطب هذه الترجمة الذكية تأييدا واسعا في المجتمعات حديثة العهد بالانفتاح على العالم ، ولا سيما المجتمعات الشديدة الاعتزاز بالذات ، بغض النظر عن الطبيعة التاريخية للثقافة الانسانية .

ظهرت نماذج لهذا الصراع في كل المجتمعات التي خاضت تجربة التمدين ، وانتهى معظمها بسيطرة الثقافة الجديدة كما حصل في أوروبا ، أو بإعادة تنسيج ، تحاور فيها الجديد والقديم ، لانتاج بديل تتشابك فيه أصول ثقافية قديمة وفلسفة عمل جديدة ، كما حصل في اليابان .

وكلا النموذجين كان نصب أعين المخططين العرب الذين كرسوا حياتهم للنهوض بمجتمعاتهم ، لكننا ـ رغم هذه المعرفة ـ نواجه في المجتمع العربي سياقا جديدا ، يتجسد في عودة جزء مهم من الشريحة الاجتماعية التي تفاعلت مع التجديد وعملت ضمنه ، إلى تبني الثقافة القديمة ، لمبررات مختلفة ، بعضها يعود إلى قصور عملية الاحلال الثقافي ، وبعضها ناتج عن الافرازات السلبية لمشروع التمدين .

وقد انبعثت الثقافة القديمة في معظم الاقطار العربية ، وتحولت في أحيان كثيرة إلى عقبة كؤود تعيق تجدد المجتمع وتحديث حياته ، وفي أحيان أخرى إلى فلسفة للانتقاض على المجتمع أو التشكيك في كل عنصر من عناصر التطور المادي والاجتماعي ، ويتجسد هذا الانبعاث في مظاهر عديدة ، بعضها يمكننا ذكره وبعضها نخشى ذكره ، فنكتفي بالاشارة اليه من بعيد ، من بينها على سبيل المثال عودة بعض الناس إلى الاهتمام بالسحر وتفسير الاحلام ، وعودة البعض الآخر إلى استعمال الوسائل المتشددة والعنيفة لقمع الاختلاف في الافكار والاراء .

ونلحظ بصورة عامة ان المجتمع العربي متباطيء جدا في الاقرار بأن التحديث المادي لا يمكن له ان يستكمل دون تحديث ثقافي مواز ، يتناول إعادة هيكلة القيم الحاكمة على رؤية الانسان العربي للآخرين والأشياء ، واعادة انتاج التقاليد والأعراف الاجتماعية لكي تخدم المتطلبات الحياتية للمجتمع في مرحلته الحاضرة ، باعتبارها نواظم للسلوك ، مرتهنة لحاجات المجتمع في مرحلته الزمنية ، وليست قيما عابرة للزمن أو مجردة .

وطرحت تفسيرات عديدة لهذه العودة ، منها ما يربطه بعلل متمكنة من الشخصية العربية ، مثل ذلك الذي اقترحه د. محمد جابر الانصاري الذي يقول ان العربي أميل إلى الصراع والمنازعة منه إلى البناء الذي يتطلب سعة صدر وصبرا ، وهو يضرب مثالا بسيطا فيقول ان انسانا ما مستعد للخروج إلى الحرب إذا دقت طبولها ، مع ما تنطوي عليه الحرب من خطر الفناء ، لكن هذا الشخص بالذات لا يرغب أبدا في حمل مكنسة لتنظيف الشارع أمام بيته .

ومن بين التفسيرات ما يربطه بنظم التربية والتعليم السائدة ، مثل رأي د. عبد العزيز الجلال ، الذي وجد ان التربية المدرسية تميل إلى انتاج شخصية مهمشة أحادية البعد ، وبطبيعة الحال فان الانسان ذا البعد الواحد لا يستطيع احتمال التغيير المتوالي في البشر والاشياء ، الناتج عن تغير مصادر الثقافة وأساليب العيش وأدوات تحصيله .

ومن التفسيرات أيضا ما يشير إلى عيوب في مشروع التمدين ذاته ، الذي ركز على تحديث الاقتصاد وسبل المعيشة ، لكنه أغفل الانسان الذي يفترض ان يكون المستهدف الأول لهذا المشروع ، فكأن المشروع افترض ان الانسان العربي كامل ، لا ينقصه غير تخلف المعيشة ، فانصب الجهد على تطوير مصادرها .

ووجدنا نتيجة لهذا ان الناس قد انصرفوا بكل همة إلى تحسين قدراتهم المادية ، ورفع مستوى معيشتهم ، لكنهم لم يبذلوا جهدا موازيا في تطوير رؤاهم وثقافتهم ، كما ان المشروع قد خلا تماما من تصور متكامل لما سيفرزه التطور المادي من حاجات اجتماعية غير مادية ، ولا سيما تغير رؤية الانسان لنفسه وتقييمه المستجد لدوره الاجتماعي وعلاقته مع الغير ، وما يترتب على هذا من اختلال في توازن القوى السائد ، وبالتالي منظومة القيم التي تحميه أو تبرر وجوده .

وثمة تفسيرات أخرى ، تدور غالبا حول واحد من الثلاثة السابقة ، وسوف نعود إلى الموضوع مرة أخرى الثلاثاء القادم .

07/03/1999

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

في مقال الثلاثاء الماضي ، ظننت العالم العربي مقبلا على عقد ثقافي جديد ، وبررت ظني بما أجده من علاقة بين الارتخاء السياسي / الأمني ، واتساع طريق الثقافة ، لكن زميلا لي لفت انتباهي اليوم إلى قضية أخرى ، حين تساءل عن صدقية اعتبار الثقافة النشطة سبيلا إلى تقدم المجتمع العربي ، فهو يلاحظ ان بعض أقطار العرب تشهد نشاطا ثقافيا ، وتعتبر بلدا مثقفا بالمعايير الدولية للنشاط الثقافي ، لكنها ـ رغم ذلك ـ لم تحرز تقدما مهما ، بمعايير التنمية الشاملة ، المقبولة على الصعيد العالمي (يمكن اخذ مصر ولبنان كامثلة مناسبة هنا).

على صعيد التعليم العام مثلا ، يرجع تاريخ التعليم الحديث في بعض الاقطار العربية إلى أكثر من قرن من الزمان ، وكذلك الأمر على مستوى التنظيم الحكومي والاتصال بالخارج ، ودخول الطباعة والصحافة ، وبشكل عام فان للعالم العربي تجارب في التنمية الاقتصادية ، ترجع إلى خمسين عاما أو اكثر ، ومع هذا فان المقارنة بين أي قطر عربي والأقطار الصناعية أو شبه الصناعية ـ حتى تلك التي بدات متأخرة مثل الهند وأقطار شرق آسيا ـ لن تكون في  أي حال لمصلحة العرب .

وقد التفت مفكرون وسياسيون كثيرون إلى هذه المفارقة ، ووضعوا دراسات وتحليلات ، تشير جميعها إلى ان صورة التقدم الذي نريد ، ليس واضحا في أذهاننا بدرجة كافية ، فبعضنا يتصوره في مزيد من المباني والشوارع ، وبعضنا يتصوره في المصانع ووسائل الاتصال ، وآخرون يرونه في مزيد من وسائل الرفاهية ، ولكل من هؤلاء منظور ومبرر ، ولعله يكون محقا في حدود ما يدعو إليه .

وللثقافة في كل واحد من هذه التوجهات دور تلعبه ، فالانسان المتعلم أقدر من نظيره الجاهل على إنجاز التزاماته ، وهو أسرع استيعابا للتغيير الذي لا بد ان يرافق الجديد المستحدث .

ومع تقدير دور الثقافة وأهميتها في أي مشروع تمدين ، ينبعث السؤال البديهي حول طبيعة الثقافة التي يمكن ان تلعب هذا الدور ، وهذا يقودنا إلى منبع الثقافة التي نتحدث عنها ، فالمعروف بديهة ان الثقافة والحراك الاجتماعي يتفاعلان عطاء وأخذا ، تراث المجتمع بما هو تعبير عن ثقافة سابقة ، يحاول البقاء واحتلال المساحة المخصصة للثقافة في كل وقت ، والثقافة الجديدة الآتية في سياق مشروعات التمدين وتطور الاتصال بالخارج ، تحاول الاستئثار بالمشهد الثقافي ، باعتبارها فلسفة الزمن الجديد ، ولفت نظري ـ كمثل على هذا ـ مقال الاستاذ عبد الله ابو السمح في عكاظ السبت الماضي ، المكرس للحديث عن طريقة العزاء التقليدية ، وهي تحاول الحفاظ على مكانتها كوسيلة في التعبير عن العلاقة بين أحياء المجتمع وأمواته ، ومع تحفظي الشديد على رأي الكاتب ، إلا ان فكرته تعبير عن الصراع بين ثقافة سابقة (سائدة) وثقافة تريد احتلال المشهد ، بذرائع بعضها من النوع الذي اقترحه أبو السمح .

7-3-1999 


28/02/1999

فرصة لانطلاق عقد ثقافي عربي


رغم المناوشات الصغيرة هنا وهناك ، فان مسار العالم العربي متجه إلى حالة استرخاء أمني وسياسي ، وهذا ليس من نوع الرجم بالغيب ، لكن تتبع مسار احداث السنوات الأخيرة ، وتحليل معاني وانعكاسات الاحداث الكبيرة خاصة ، قد يساعد على الظن بأن السلام الاجتماعي سيكون سمة غالبة في العقد القادم ، نشير مثلا إلى ان البلدان العربية التي كانت مراكز أزمة ـ السودان ، الجزائر ، العراق مثلا ـ  تبدو اليوم اقرب ما تكون إلى مغادرة دائرة الأزمة . ولا يضعف هذا التحليل ما يخبئه الانكماش الاقتصادي الراهن من انعكاسات اجتماعية وسياسية محتملة ، أخذا بعين الاعتبار نجاح بعض العرب ـ الاردن ، لبنان ، اليمن على سبيل المثال ـ في احتواء الانعكاسات الاجتماعية / الامنية للتأزم الاقتصادي .
شارع المتنبي في بغداد

في ظرف الأزمة ، يستأثر الأمن الوطني بمعظم الاهتمام الرسمي ، وعلى العادة العربية المشهورة ، فان تصاعد الهم الامني يقترن دائما بزيادة القيود وتوسيع نطاق الممنوعات ، لهذا نتوقع ان يكون الارتخاء السياسي سبيلا إلى تخفيف القيود .
العالم العربي في أمس الحاجة إلى توسيع مساحة (المباح) في الحياة العامة  ، في المجتمع والثقافة والسياسة ، ورفع القيود تماما على مستوى الحياة الشخصية ،  أي الفصل بين الالتزامات العامة المطلوبة من الفرد بما هو جزء من المجتمع ، وممارساته الخاصة المتعلقة بحياته الخاصة أو الاسرية ، لكن هذا حديث يطول وقد يؤذي ، وما أردنا الاهتمام به في هذه المقالة هو الجانب الثقافي من الحياة العامة ، أملا في ان يكون العقد القادم ، مكرسا للنهوض العلمي والثقافي ، الذي لا بديل عنه للتقدم ومواجهة تحديات القرن الجديد .
لا أريد الحديث عن فضل العلم أو الحث على طلبه ، فلا أحد يجادل فيه ، في كلياته على الأقل ، لكن المهم هو الربط بين العلم والتقدم ، فقد يحصل ، بل وهذا ما حصل فعلا في التجربة العربية ، ان يتوفر العلم ويبقى المجتمع أسيرا للتخلف ، لقد طوى التعليم الحديث في الوطن العربي ما يزيد على قرن من العمر ، وخرجت المدارس ملايين المتعلمين ، ورغم هذا فلا زلنا نتطلع إلى أفق التقدم باعتباره بعيدا عنا ، خلافا للعقيدة الاولية التي يحملها كل متعلم والتي مضمونها ان التقدم يأتي بعد العلم ، وان العلم طريق حتمي إلى التقدم .
ويمكن إرجاع هذه المفارقة (حصول العلم دون حصول التقدم رغم التلازم المنطقي بينهما) إلى علل كثيرة ، من بينها مثلا ان العلم المدرسي لم يتفاعل مع النسيج الثقافي العام ، حيث لا يزال بالوسع التمييز بين مسارين منفصلين في الذهنية الاجتماعية ، وهي التكثيف الأولي لمجموع الذهنيات الخاصة للأفراد ، وتظهر هذه الازدواجية بوضوح في مثال المتعلم الذي يتبع أدق المعادلات المنطقية في مهنته ، ثم يتخلى عن التجربة العقلية تماما في قراءة تراثه أو في تربيته لأولاده أو علاقاته الاجتماعية .

ومن بين تلك العلل خضوع الثقافة للسياسة ، ونجاح أهل السياسة في وضع مسارات محددة للبحث والتعبير العلمي ، لكي تصل إلى نتائج مقررة سلفا ، مما يلغي فرص الحوار الضروري لانضاج الفكرة العلمية ، وتحويلها من كائن نظري يحلق في الفضاء ، إلى كائن متفاعل مع المادي والمعنوي المتحرك على مسرح الحياة اليومية ، ومن العلل أيضا العلاقة الحرجة بين العقيدة والمعرفة ، والتي هي في الأصل علاقة مفتعلة ، لم توجد إلا حين أراد بعض المقتدرين فرض وجودها ، وتنعكس في صورة حدود لمجال التفكير وقيود على فرص التعبير .
وفي ظني ان العرب جميعا ، عامتهم ونخبتهم ، حكامهم ومحكوميهم ، يشعرون بالحاجة إلى العلم ونشره ، والبناء عليه واستثمار نتاجه ، لكنهم ـ مع هذه الرغبة ـ قد يضحون بما يتمنون ، خشية ان يفتح عليهم أبوابا صعبة الغلق ، ويجسد المثل الشعبي السائر (الباب اللي يجيب الريح .. سده واستريح ) رد الفعل الاولي على اختلاف الاجواء .
يزداد الميل إلى التشدد وإغلاق الأبواب في ظروف التأزم ، بينما يتراجع هذا الميل في ظروف الارتخاء ، لكن التحول الطبيعي يأتي بطيئا جدا ، وإذا كان تحليلنا صحيحا عن اتجاه الوضع العربي إلى الاسترخاء ، فقد نحتاج إلى التنبيه بانه قد حان الوقت لتعويض ما خسرناه في ظرف الأزمة ، فالقيد الذي وضع تحت مبرر الازمة ، لا محل له بعد ان تنجلي أو توشك .
28-2-99

14/02/1999

متفائلون على أعتاب الالفية الثالثة : هل يتقدم العرب



أظن أن كل عربي حصل على نصيب من الثقافة ، قليلا أو كثيرا ، قد توقف ساعة أو ساعات امام العتبة الزمنية التي يوشك ان يجتازها العالم بعد أشهر ، أعني نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة .

ويبدو ان العالم العربي قد تجاوز موقف الغفلة ، فمعظم العرب ، المتعلمين منهم على وجه الخصوص ، على وعي بأن الحديث عن الألفية الثالثة لا يتعلق بعبور زمني خال من المعنى .
قبل عشرين عاما ، حين كان القرن الرابع عشر الهجري في نهاياته ، وجه السيد ابراهيم الوزير دعوة إلى المسلمين ، كي يقدموا لأنفسهم جردة حساب عما اكتسبوه أو خسروه خلال القرن الرابع عشر ، وان يضعوا نصب اعينهم مسارات محددة في القرن الهجري الجديد ، وعرض العلامة الوزير في كتابه (على مشارف القرن الخامس عشر) أبرز التحديات التي تواجهنا في هذا القرن ، وكرر مفكرون آخرون هذه الدعوة ، لكن اوضاع العالم الإسلامي كانت يومئذ شديدة الالتباس ، فضاعت تلك الدعوات في زحمة الأحداث ، لكني أظن اليوم ان العشرين عاما الماضية لم تضع هباء ، فالاحداث المتزاحمة اوجدت قدرا من الوعي عند العرب والمسلمين ، يؤهلهم اليوم أو غدا لاختيار طريقهم .

القضية الكبرى الدائمة هي التجدد الاجتماعي والتجديد الثقافي . التجديد الثقافي ، يعني بصورة محددة تطوير المنتجات الثقافية لتكون قادرة على تحليل حياتنا ونقدها واقتراح البدائل ، وبالنظر إلى ان النتاج الثقافي الفعال بحاجة إلى حياة ثقافية نشطة وسليمة ، فان التجديد مرهون بطبيعة الاطارات التي تحتوي النشاط الثقافي من حيث الضيق والسعة ، ومن حيث الحرية أو التقييد ، ونعلم ان القيود الاجتماعية المفروضة على التعبير ، هي المسؤول الاول عن تحجيم الحياة الثقافية من ناحية الكم وتفريغها من ناحية الكيف ، بديهي ان الحياة الثقافية المتحررة من القيود ، والمتروكة للمبادرات الفردية ، وغير المقيدة باطارات محددة ، هي الدليل الأقوى على رغبة المجتمع في تجديد ثقافته ، وتعزيز دورها في  البناء وتحديد صورة المستقبل .

أما التجدد الاجتماعي ، فيتحدد في وعي المجتمع بحاجاته الحقيقية وقدرته على تلبيتها أو سعيه في هذا الاتجاه ، والواضح ان العرب يعون اليوم أكثر من  أي وقت مضى ، انهم قد تأخروا كثيرا عن ركب المدنية الانسانية ، وهذا ما ينكشف عند أي مقارنة بينهم وبين المجتمعات المناظرة .

على الجانب الآخر من العالم ، فان المجتمعات الصناعية تستعد للقرن الجديد بزخم هائل من الأفكار ومناهج العمل والمبتكرات ، وهو ما دعا بعض كتابنا إلى استدعاء القضايا المطروحة هناك باعتبارها قضايا كونية ، والحق انها ليست كذلك ، فما يواجه المجتمعات الصناعية من تحديات ، يتناسب ومستوى تطورها ، ولاننا في مستوى آخر ، فان القضايا التي تواجهنا مختلفة كليا ، وان تشابهت مع تلك في عناوينها.

 وأذكر هنا المفارقة التي عرضها د. حازم الببلاوي حين تحدث عن العلاقة بين الانتاج والاستهلاك ، فهو يشير إلى ان صناعة الاعلان حيوية للمجتمع الصناعي ، لانها الوسيلة الرئيسية لتضخيم الاستهلاك وبالتالي تسهيل الطريق امام الابتكارات الجديدة ، أما في المجتمعات القليلة الانتاج ، فان الاعلان ثم الاستهلاك يلعب دور المضخة التي تسحب الثروة الوطنية إلى الخارج ، وتقلل فرص الادخار الضروري للاستثمار فالانتاج ، لان ما يعرضه الاعلان من سلع وخدمات ، مستورد غالبا من الخارج ، ويمكن تطبيق هذا القياس على المصارف والاسواق المالية وصناعة الاعلام ، بل وحتى التعليم في بعض  الحالات .

من مصاديق التجدد الاجتماعي ، العودة إلى الثقة بالذات ، واكتشاف القدرات الذاتية ، ولدينا على المستوى العربي فرص هائلة إذا حسنت ادارتها ، لكن هذا بحاجة إلى تخفيف الموجة الاقليمية والقطرية التي سادت عالم العرب منذ اواخر الثمانينات ، والتي لم يكن وراءها من ثمرة سوى ان العرب اغلقوا أبوابهم دون أشقائهم وشرعوها أمام الغرباء ، لكن لحسن الحظ فان العرب اقتنعوا اخيرا بجدوى فتح أسواقهم على بعضها ، وبدأ بشكل جدي ـ كما تشير الانباء ـ تطبيق اتفاق الوحدة الجمركية ، وهي عودة بعنوان مختلف إلى فكرة الوحدة التي نعاها كثيرون في اوخر الثمانينات ، مع انها طريق العرب الوحيد على الارجح ، إلى مواجهة التحديات الاقتصادية التي لا يستطيع كل قطر بمفرده احتمال اعبائها .

على ابواب الالفية الثالثة ، سوف نحتاج إلى التفاؤل ، وسوف نحتاج بالطبع إلى العمل الجاد لاكتشاف الذات وصياغتها من جديد .
في 14-2-99

01/02/1999

مسائل تمهيدية للبحث في المكان الاجتماعي للنساء (1-3)

ربما ترغب ايضا في قراءة 

( 1 )

في قضية المرأة المسلمة ودعوتها إلى ميدان العمل على نطاق واسع ، وفي دورها الاجتماعي ، والاشكالات التي تحيط بهذه القضية ، كلام كثير ، يحسن بنا خوض غماره ، طمعا في تحديد دقيق لأجزاء الموضوع ، وبحثا عن الحدود الفاصلة بين ما تقرره الشريعة وما يقرره المجتمع ، وثمة مسائل تمهيدية لا بد من البدء بها كاشارات إلى السياق العام للبحث ، لكني أعد القاريء بأن اكتفي بهذه الاشارات في الوقت الحاضر ، وأتمنى ان أجد من يشارك في هذا البحث ، إصلاحا أو تفنيدا أو تكميلا .
 هذه المسائل لا علاقة لها بموضوع المرأة على وجه الخصوص ، فهي ترتبط أساسا بالطريقة التي تجري بها معالجة هذا الموضوع وسواه على المستوى النظري ، لكن كون قضية المرأة موضوعا مطروحا للنقاش ، يستدعي مناقشة ما يعتبر تمهيدا ضروريا للبحث والمعالجة ، سيما وقد جرت العادة على تجاوز المقدمات ، رغم ضرورتها لتحديد مادة النقاش .
المسألة الاولى :
بعض القضايا تثير جدلا من نوع خاص ، بحيث يعتبرها البعض حساسة ، ويفضلون غض الطرف عنها أو التكتم عليها ، خشية ان يمتد الجدل فيها إلى نقاط ساخنة ، لا يرغب الكثيرون في طرقها ، ولدينا في المجتمع والثقافة عشرات من المسائل ، تعارف الجميع على السكوت عنها ، توقيا لعواقب ابداء الرأي ، أو انتظارا للوقت المناسب ، لكن لسوء الحظ ، فان الوقت المناسب قد يأتي متأخرا وقد لا يأتي على الاطلاق .
ثمة قضايا تعتبر قليلة الاهمية بذاتها ، أو قليلة الفوائد بالنظر لما ينتج عن تبادل الرأي فيها ، ولهذا فان تأخيرها أو السكوت عنها ، لا يترتب عليه سوى اشكالات نظرية ، وطبقا لأبي اسحاق الشاطبي فكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها مرجوح . لكن إلى جانب هذه ، ثمة قضايا ينتج عن تهميشها أو السكوت عنها ، إشكالات نظرية وعملية ، وقد يؤدي منع الجدل  فيها ، إلى تثبيت رأي واحد باعتباره معياريا لأمد طويل ،  أي تجميد الاجتهاد وغلق ابوابه ، واحالة الناس إلى نوع من التقليد الجبري ، وهو ما خالفه معظم العلماء وأهل الفكر المسلمين ، لا سيما المعاصرين منهم .
وتعتبر قضية المرأة ودورها في مجتمع المسلمين المعاصر ، واحدة من القضايا التي تصنف ضمن المجموعة الثانية ، فهي كبيرة الاهمية ، لتعلقها بنصف المسلمين على وجه التقريب ، وتؤثر ـ بشكل مباشر وغير مباشر ـ على النصف الباقي ، وهي مهمة أيضا لأنها موضع اشتباك رئيسي في الصراع بين الثقافتين الاسلامية والغربية ، وهي مهمة ثالثا لانها تعبير بارز عن مخرجات الظرف الاجتماعي المتخلف للعالم الإسلامي في العصر الحاضر ، ولا أظن أحدا يلم بأوليات المعرفة والمجتمع ، ينكر ما لتخلف المجتع من انعكاسات على ثقافته وقيمه ونظام التراتب السائد فيه ، لكن القضية ـ رغم تلك الاهمية ـ مسكوت عنها ، أو مختزلة في قوالب ضيقة من التطبيقات او الآراء .
أقول انها مسكوت عنها ، رغم كثرة ما يكتب وما يقال في هذا الامر ، فكثرة الكلام قد لا تكون سوى تكرار لقليله ، فالكثير مما يكتب ويقال اليوم في قضية المرأة المسلمة ، لا يخرج عن واحد من صنفين من الكلام ، صنف يدعوها إلى التحرر أخذا بعين الاعتبار النموذج الاجتماعي الغربي ، وصنف يعارض هذا المنحى ، ويدعوها إلى التزام النموذج التقليدي للمجتمعات الشرقية ، ويبرهن الاول على كلامه بنتائج التجربة الغربية ، ويبرهن الثاني على رده بشواهد من النص والسيرة ، أو بتصورات انتقائية عن النتائج السلبية التي آلت اليها تلك التجربة ، لكن في كل الاحوال فان المساجلة في الموضوع ، لم تسمح للطرفين بالتوصل إلى اتفاق على تعريف كل جزء من تفاصيل القضية ، ولا استبيان المسار التاريخي الذي سلكه كل رأي من الآراء المطروحة للنقاش ، حتى وصل إلى صورته الراهنة ، كما لم يدر أي نقاش جدي ، حول بدائل تعالج الاشكالات التي يطرحها كل منهما ، فكأن كلا من الطرفين قرر منذ البدء ، ان رأي الآخر باطل ، وان جوابه يجب ان يؤدي إلى نقضه ، كائنا ما كانت طبيعة ذلك الرأي أو غرض صاحبه ، بكلمة أخرى فان الجدل استهدف دائما النقض لا العرض .

لهذا السبب فمن الضروري الخروج بالنقاش حول قضية المرأة المسلمة ، من إطار السجال النقضي بين الخصوم ، ويجب غض النظر ـ ولو مؤقتا ـ عن العامل الغربي في المسألة ، لكي يتاح لنا إجراء مناقشة هادئة حول وضع المرأة المسلمة ضمن الاطار الإسلامي في مجتمع مسلم ، انطلاقا من القواعد الانسانية التي قامت عليها الشريعة الغراء ، واستقر عليها عمران العالم .
بعضنا قد يرى ان الرد على الخصوم هو الجزء الاهم في الموضوع ، لأنه موضع الابتلاء ، ولأن الخشية من تأثيرهم ليست بلا أساس ، لكن من جهة أخرى فان عدم وجود تصور متكامل حول ما نريد ، يجعلنا ندور في إطار الجدل الذي يقرره اولئك ، بدل ان نبتكر الاطار الذي نريده ونحتاج اليه ، فلنقل ان البحث في قضية المرأة له بعدان ، البعد المتعلق بمكانها في المجتمع المسلم ، بغض النظر عما يقوله الغير ، والبعد المتعلق بمعالجة الأجانب لهذ القضية ،  أيا كانت أغراضهم ، وإذا كانت حماستنا قد انصرفت حتى الآن إلى البعد الثاني ، فان العواقب السلبية لاهمال الاول لا تقل أثرا عن عواقب اهمال الثاني ، ويبدو اننا بحاجة إلى الاهتمام بما لدينا وما نحن فيه بدرجة أكبر من اهتمامنا بما عند الغير وما يقوله الغير .
( 2 )

تحدثنا في الصفحات السابقة عن الحاجة إلى طرق القضايا التي هي موضع حاجة عامة للمجتمع ، ومناقشتها انطلاقا من حاجتنا إلى استنباط معالجات معاصرة ومتوافقة مع متطلبات الشريعة ، بغض النظر عما يثيره الآخرون من إشكالات ، والمقال بحلقاته الثلاث يعالج اشكالات منهجية في الجدل حول الموضوعات التي تتسم بحساسية من نوع ما ، ومثالنا الرئيسي في هذا المقال هو مكان المرأة ودورها في المجتمع المسلم والاشكالات المحيطة بدخولها ميدان العمل على نطاق واسع ، ونواصل هنا بعرض مسالتين أخريين.

المسألة الثانية :

استنباط المفاهيم القاعدية والمعايير ، يجري عبر طريقين  مختلفين ، أحدهما يبدأ باستقراء التفاصيل والتطبيقات الجزئية ، لاكتشاف متغير محدد ، يمكن اعتباره صورة أولى عن قاعدة نظرية تحكم الجميع ، ويبدأ الثاني بتحليل متغيرات تتعلق بقاعدة محددة موجودة سلفا ، لكشف نطاق التغير في تطبيقات القاعدة على موضوعات عملها ، ومعظم حالات استنباط الاحكام الشرعية تندرج ضمن هذا السياق ، لكن تكييف الموضوعات وهي عملية سابقة للبحث عن الحكم ، تندرج في السياق الاول ، فنحن نعرف ابتداء ان لله في كل واقعة حكما ـ وهو رأي أكثر الاصوليين ـ لكن إدراك المراد الرباني يحتاج إلى اجتهاد في الجانبين ، في تكييف الموضوع وتحديد عناصره وأبعاده ، واجتهاد في استنباط الحكم المناسب له ، ومع اختلاف المجتهدين واختلاف ازمانهم ومؤثرات بيئتهم ، تختلف نتيجة الاجتهاد التطبيقي في موضوعات اشتغال القاعدة الواحدة ، فيجد الفقيه أو صاحب الرأي نفسه إزاء آراء متعددة مختلفة ، ومع ان أيا من هذه الاراء لا تلزمه ـ بالمعني الشرعي ـ إلا ان وجودها يحمله عبئا أدبيا يصعب تجاوزه ، خاصة تلك التي صدرت من أسلاف فكريين أو مدرسيين للفقيه المعني ، أو تلك التي تلقاها جمهور الامة بالقبول وتحولت من ثم إلى عرف سائر في مجتمع المسلمين .
وفي ظني ان الجدل الفقهي والاجتماعي في قضية المرأة ، قد تأثر بمجريات هذا السياق ، فالكثير مما يقال اليوم عن التكييف الشرعي للمسائل المتعلقة بوضع المرأة في المجتمع المسلم ، ليس اجتهادا مستقلا في المسألة التفصيلية ، كما انه لا يبدأ بتحليل المتغيرات الفرعية المرتبطة بالقاعدة ، بل هو بصورة أو بأخرى إعادة انتاج لآراء السالفين ، وهو يتأثر بقوة بالانطباعات الشخصية عن أوضاع محددة أو حوادث ، وتستمد الاستنتاجات المتأثرة بهذا العامل قوتها ، من وضع سائد تعارف عليه المجتمع وتلقاه بالقبول ، فأصبح بديهيا أو شبه بديهي ، يستنكر غيره ، أيا كانت طبيعة هذا الغير أو دليله ، ان تحقيق القواعد والمعايير الشرعية الاصلية والنظر في تطبيقاتها المعاصرة ، هو التجسيد الدقيق للاجتهاد المستقل بمعناه الكامل ، وفي هذا فان الفقيه قد يأخذ برأي المشهور أو الاجماعات السابقة ، باعتبارها تجربة علمية لا حكما قطعيا ، وفي كل الاحوال فانه لا ينقض اجتهاد مجتهد معاصر برأي مجتهد سبقه ، كما ان العرف غير ملزم إذا لم يطابق المعايير الشرعية ، حتى لو قال البعض بامكانية تخصيصه لعمومات القواعد الشرعية ، وخلاصة ما يقال في هذا المعنى ان الاجتهاد المعاصر في قضية المرأة ، ينبغي ان يلحظ حقيقة ان الاجتهاد في عصوره السابقة تأثر بمعطيات البيئة الاجتماعية ، وان تغير الاحوال في هذا العصر تقتضي اجتهادا مستأنفا في الموضوع يلحظ معطيات الحاضر وحاجاته ، كما يحتاج تكييف كل جزء من أجزاء الموضوع إلى رأي اهل الخبرة في هذا الجزء .

 المسألة الثالثة :

من مظاهر مرونة الشريعة المحمدية ويسرها ، تقسيم الاحكام إلى اولية وثانوية ، فالاولية تحكم الموضوعات في الحالة الطبيعية ، والثانوية تحكم الموضوعات في الحالات الاستثنائية ، ويطلق عليها الفقهاء اسم (أحكام الضرورات) ويعرف الجميع ان الضرورات ليست صنفا واحدا ، فمنها ما هو آني قصير الأمد ، مثل السماح بأكل الميتة للمنقطع في الصحراء حفظا لحياته ، ومنا ما هو  ممتد لامتداد الظرف الذي ألزم به ، مثل رفع بعض الحدود في ظروف القحط والمجاعة العامة ، وقد جرى تنظير قواعد للاحكام الثانوية من النوع الثاني ، تقربها إلى الصنف الأول ، ومنها على سبيل المثال سد الذرائع ، فيستطيع ولي الأمر أو الفقيه المبسوط اليد ، ان يمنع الناس من مباح ، سدا لذريعة التوسل به إلى الفساد المؤكد ، ويقول الاصوليون ان منع المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
لكن في معظم الأحوال فان الأحكام الثانوية ، تعتبر مؤقتة أو شخصية محدودة بزمان الضرورة ومكانها واشخاصها ، بمعنى انها لا تجري مجرى القاعدة الثابتة ، فتكون بديلا عن الحكم الأولي ، فلو سد الفقيه بابا مباحا لأنه ذريعة للفساد ، فان الاطمئنان إلى انقطاع السلسلة ـ ولو في حالات محددة ـ يبريء ذمة المكلف ، إذا أخذ بالحكم الأولي أو برأي  الغير .
في تطبيق هذا المسار على موضوع المرأة المسلمة ، نجد ان بعض الآراء تؤسس على قاعدة سد الذرائع ، لا على الاحكام الأولية في الموضوع ، بديهي ان الفقيه مكلف شرعا ببيان الحكم في ما يعرض عليه من الحوادث ، وهو أقرب إلى معرفة الحكم الشرعي من غيره بسبب التخصص ، لكن من ناحية أخرى فان تطبيق الأحكام الثانوية محدود بظرفه الخاص ، لأن تمديدها إلى خارج حدود الظرف الخاص ، يجعلها بديلا عن الحكم الأولي ، بل يلغي الحكم الأولي ، فاذا وضعت حدود ضيقة لعمل المرأة أو دورها الاجتماعي سدا لذريعة الفساد ، أو سدا لذريعة إهمال ما هو أهم ، فينبغي ان تعالج المسألة من زوايا مختلفة ، فلا يكتفى بالنكير على عمل المرأة ، وكأنه ـ بذاته ـ محرم أو مكروه ، كأن يقال ان الحكم الاولي ـ  أي الجواز ـ جار بهذه الشروط أو ضمن هذه الترتيبات ، أو يقال ان عملها في المكان الفلاني ، أو ضمن الظروف الفلانية ، ممنوع أو مكروه أو مرجوح ، لهذه الأسباب ، وهو جائز في بقية الاماكن . وأظن اننا بحاجة اليوم إلى تحديدات من هذا النوع ، لتلافي الاضطرار إلى الاطارات الضيقة أو نقاط الاشتباك الساخنة ، خاصة وان الاصل هو الاباحة ، وان المنع أو الالزام هو الاستثناء ، فينبغي ان لا تضيق ابواب المباح حتى يتحول المنع إلى اصل والمباح الى استثناء .
                                                                       ( 3 )

عرضنا في المقالين السابقين ثلاث مسائل في منهج الجدل حول المسائل الحساسة ، أخذا بعين الاعتبار مثالنا الرئيسي وهو قضية المرأة المسلمة ومكانها الاجتماعي وعملها على نطاق واسع ، وتعرض المقال الاول للحاجة إلى مناقشة علمية للموضوع بذاته وبغض النظر عن السجال مع الاجانب ، وفي المقال الثاني للحاجة إلى الاجتهاد المستقل والمعاصر في المسألة ، كما ميزنا بين احكام الظرف الطبيعي وأحكام الضرورات والحاجة إلى وضع كل من الصنفين في مكانه حتى لا تتحول احكام الضرورات إلى قواعد لمعالجة الحاجات الشرعية في الظرف الطبيعي ، ونختم المقال هنا بعض مسألة أخيرة .

المسألة الرابعة :

اليسر من الاسس الكبرى التي قامت عليها الشريعة المحمدية ، قال تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وصح في الأثر الشريف (يسروا ولا تعسروا) وتحديد التوازن بين طرفي العسر واليسر مسألة تخصصية ، يقررها أهل الخبرة في كل تطبيق من تطبيقات الشريعة ، ثم ان مفهوم العسر واليسر قد ينصرف إلى حالات شخصية ، وقد ينصرف إلى وضع عام ، يتعلق بالمجتمع المسلم كمجموع ، ولا نريد بسط الحديث في هذا الموضوع بالذات ، فهو معروف عند الجميع ، لكني أريد اقتراح موضوعين محددين يتعلقان بقضية المرأة ، للبحث في تطبيق التوازن بين طرفي العسر واليسر على المستوى العام . الاول في التشغيل الواسع النطاق للنساء ، وأظن ان المسألة تتعلق بنحو مليون وظيفة في القطاعين العام والخاص ، فهذه المسألة تبحث من جانب الاقتصاد الكلي ، أي تأثير اشتغال النساء على ميزان المدفوعات الوطني ، وبالتالي على فرص تنشيط الدورة المحلية لرأس المال والحياة الاقتصادية ، وعلى مستوى الاقتصاد الجزئي ، أي تأثير اشتغال النساء على مستوى معيشة العائلة السعودية ، وتبحث من الجانب الاجتماعي ، أي تأثيره على فاعلية المجتمع ونمو شخصيته ، مقابل التحديات التي تواجهه والتاثير الثقافي الخارجي عليه ، وتبحث ثالثا من الجانب التربوي ،  أي تأثيره على نمو الشخصية الفردية للمرأة وانعكاسه على قدراتها التربوية ، وضمن الاطار العام ، فاننا نبحث الموضوع من زاوية أثره في الثقافة الاجتماعية السائدة ، لجهة انعكاسه على تقدير الفرد لذاته وللآخر ، وتطوير تصوره للآخر باعتباره انسانا له حقوق انسانية مماثلة . فهذه القضايا جميعها ذات علاقة وثيقة بقضية المرأة ، ومن المهم جدا ان نضعها تحت المجهر ، كي لا نقع أو نوقع مجتمعنا في العسر الذي لا تريده الشريعة ، ان البحث فيها قد يكشف لنا عن مصالح راجحة ، تركناها حفظا لمصالح مرجوحة ، ظنا بانها المقدمة وانها الاهم .

أما الموضوع الثاني فان من مظاهر اليسر في الشريعة المحمدية ، اختلاف الفقهاء في الرأي ، وجواز الأخذ بالرأي الأيسر بين الاراء المختلفة ، وهذا الامر مريح لعامة الناس ، فهو يعينهم على تلافي  البحث عن مخارج أو حيل للتهرب من الاحكام التي يجدونها صعبة التطبيق ، ومريح لولي الأمر فهو يتيح له الأخذ بجانب التيسير على عامة الناس ، إذا احتاج إلى تقرير إجراءات رسمية في موضوع من الموضوعات ، وهو مريح أيضا للفقيه الذي لا يستطيع ترك ما توصل اليه من رأي ، لأن العلم حجة على صاحبه ، لكنه في المقابل لا يجد مسوغا لالزام الناس بما لا يطيقون ، أو بما يكون سببا لتهربهم من طريق الشريعة ، فيحيلهم  على فتوى غيره ، أو يسمح لهم بالرجوع إلى الغير ، وكلا الرأيين ، اليسير والعسير ، صادر عن مجتهد مؤهل لهذا الدور ، واتباعه من جانب ولي الامر أو من جانب عامة المكلفين مبريء للذمة ، ومعذر امام الخالق ، فالفتوى كما يذهب أكثر الاصوليين ليست منجزة بالضرورة للمراد الرباني من الحكم ، لان معرفة الواقع  أي مراد الخالق ، فوق طاقة البشر القاصر ، لكن الاخذ بها ـ مع ذلك ـ مبريء للذمة ومعذر للمكلف يوم الحساب .

أما وقد انتهينا من الموضوع ، فنعود إلى ما بدأنا به ، فنقول اننا بحاجة إلى بحث مستفيض لموضوع المرأة المسلمة ، وما يتعلق بدورها الاجتماعي من أحكام ، بحثا يأخذ بعين الاعتبار الاحكام الشرعية الاولية ، ويضع كل تخصيص لهذا الحكم في حدود ما يوجب التخصيص ، ثم اننا بحاجة إلى الفصل الحاسم بين ما هو حكم شرعي وما هو عرف اجتماعي ، فحتى لو أردنا الاخذ بالعرف ، فاننا نأخذ به باعتباره عرفا ، ولا نلقي عليه عباءة الحكم الشرعي ، خشية ان يختلط الامر على الناس ويضيع الشرع في غمرة الاعراف والتقاليد .

12/01/1999

في الشوق إلى الرضى



يقترب شهر رمضان المبارك من نهايته ، ويزداد شوق المؤمنين للتقرب من خالقهم ، ويزداد خوفهم من أن ينقضي هذا الشهر دون أن يحظوا بالمغفرة والرضوان ، فتراهم يبالغون في الاستغفار والتوسل إلى الرب الرحيم ، كي ينظر اليهم بعين عطفه فيجعلهم في عباده المرحومين ، أتوسل إلى الله بجميل صفاته وعظيم أسمائه ، أن لا تغرب عنا شمس هذا اليوم أو يطلع صبح الغد ولله في أعناقنا تبعة يعذبنا بها أو يؤاخذنا عليها .

رمضان شهر التقرب إلى الله ، شهر الخضوع والتواضع ، وهو الفرصة التي أتاحها الخالق الرحيم لنا ، كي نستثمرها في تطهير أنفسنا من درن الدنيا وعيوبها ، حتى نستقبل قادم أيامنا بيض الثياب ، بيض النفوس .
ولأنه فرصة استثنائية ، فقد يكون من المناسب أن نتأمل قليلا وراء حجب النفس التي طالما زينت لصاحبها عيوبه ، فأقبل عليها مستسيغا أو كارها ثم اعتاد عليها ، فلم يعد يراها عيبا ، إلا إذا أعاد النظر في أعماق نفسه باحثا ومقلبا ، محاكما افكاره وسلوكياته ، وناقدا أهواءه ورغباته .

من بين ما يستحق  النظر العميق ، موقف الانسان تجاه أخيه الانسان ، ففي الأثر الشريف (كلكم لآدم وآدم من تراب) وفيه أيضا (الناس اثنان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وأجد تكرارا ان هذا الأمر لا يعامل من جانب الناس بالجدية المطلوبة ، فظلم الغير ، أو التعدي على كرامتهم ، أو إذلالهم والاستعلاء عليهم ، هي ممارسات شائعة بين المسلمين ، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالضعفاء من خلق الله وما أكثر الضعفاء .

ونجد أمثلة على هذا في البيوت والاسواق وحتى في الصحافة ، ولعل كل قاريء قد رأى أمثلة على ما يتعرض له الأطفال من ظلم آبائهم أو معلميهم ، وكثير منا رأى أو سمع ما يتعرض له النساء من ظلم رجالهن أو آبائهن ، وكل منا شهد أو مارس الظلم أو الاستعلاء على الأجانب ، ولا سيما أهل الفقر والحاجة منهم ، وهي كلها ممارسات يتجلى فيها الظلم بغير الحق ، مع ان لكل ظالم أو متعد ، مبررا يسوقه أمام تجاوزاته وجرأته على من هم دونه ، مبررات يقدمها لارضاء نفسه التي ربما تلومه ، أو لاقناع الغير بسلامة موقفه .

والحق ان معظم الحالات التي تنطوي على تعد أو تجاوز لحقوق أولئك الضعفاء ، ليس لها مبرر سوى عجز الانسان عن ضبط عواطفه ، وكبح نزعات الاستقواء والاستعلاء التي تموج بها نفسه ، هذا العجز هو عيب في حد ذاته ، لكن الاسوأ من هذا العيب هو تطبيعه ،  أي اعتباره سلوكا اعتياديا لا يثير الاستغراب من جانب الآخرين ، بل وتحويله في بعض الأحيان إلى مظهر للحزم ودليل على قوة الشخصية ، يستحق صاحبه التشجيع والتعظيم عندما يمارسه .

 وكنت ـ في إحدى المناسبات قد عبت على أناس وصفوا صاحبا لهم بأنه ذئب ، في معاملته لمكفوليه ، و(كن ذئبا والا أكلتك الذئاب ) كما تمثلوا ، فجادلني بعضهم لاحقا ، بأني لا أعرف الدنيا ، والحق اني أعرف ان تنازل الانسان عن صفات الانسانية وقبوله الاتصاف بصفات الحيوان (كالذئب مثلا) هو من أعظم الرزايا ، وقد رأيت تكرارا من يمتدح زيدا من الناس بأنه جبار ، مع ان صفة التجبر ليست مما يحمد في الانسان ، وسمعت من يصف عبيدا بأنه أسد ، وأعلم انه لم يكن كذلك في الحرب ، بل في معاملة مرؤوسيه أو عياله .

 ورأيت رجالا يسكبون كرامتهم على أعتاب موظف يتلذذ برؤية أمثاله من عباد الله وهم يتوسلون إليه كي ينجز لهم معاملاتهم ، فكلما ازدادوا إظهارا للخضوع والضعف ، ازداد إذلالا لهم وتوبيخا ، فاذا ادركت أحدهم الكرامة فأبى ان يتوسل ، القيت أوراقه في مكان لا يصل اليه إلا بعد شهور من البحث والركض من دائرة إلى أخرى ، وما أظن سليم النفس يفعل مثل هذا ، فالتكبر على الغير مرض ، والتلذذ بتوسلات الناس مرض ، أعاذنا الله والقارئين من الابتلاء به أو الابتلاء بمن هو فيه .
رمضان فرصة ثمينة للابحار في أعماق النفس ، بحثا عن مثل هذه الأمراض ، وقد فتح الله أبواب العلاج ، وفتح معها أبواب المحبة والرضى ، فمن بادر وصل ، وحري بنا ان نغتنم هذه الفرصة لنقوم عن مائدة الرحمن ، وقد بلغنا المراد بتصفية الروح وتطهير النفس ، لكي يكون عيدنا ، يوم فرح ، ليس بلبس الجديد ، بل بالأمن من وعيد القوي  الشديد .
عكاظ 12 يناير 1999

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...