‏إظهار الرسائل ذات التسميات عرض كتاب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات عرض كتاب. إظهار كافة الرسائل

16/11/2010

قراءة في كتاب "حدود الديمقراطية الدينية"


بقلم : أنس زاهد

من أجمل وأهم الكتب التي وقعت بين يدي مؤخرًا، كتاب (حدود الديمقراطية الدينية) للباحث والمفكر السياسي السعودي الدكتور توفيق السيف. الكتاب عبارة عن بحث مطول وتفصيلي لمسألة الحداثة ، ومسيرتها في إيران منذ العهد الشاهنشاهي وحتى الآن.
وتكمن أهمية الكتاب ليس فقط في كون البلد موضوع البحث هو أحد أكبر البلاد الإسلامية، ولكن لأن مسيرة الحداثة والتنمية بطبيعتها تتعرض لنفس العقبات، وتواجه ذات الصعوبات، لدى معظم البلاد الإسلامية.

الكتاب تطرق بالبحث لمسيرة الحداثة في عهد الشاه، وناقش أسباب فشلها، ثم تعرض لمرحلة صعود الفكر الثوري التي جاءت كنتيجة لمحاولات التجديد الديني.

وفي هذا الشق بالتحديد بذل الباحث مجهودًا كبيرًا للوصول إلى الجذور التاريخية للفكر التجديدي، وهو ما يتضح بجلاء من خلال مئات المصادر التي اعتمد عليها المؤلف لتوثيق بحثه.

الكتاب لم يكتفِ بذلك، بل قام عبر باقي فصوله برصد مسيرة الحداثة التي راوحت بين التقدم والتراجع، بعد نجاح الثورة واستلامها مقاليد الحكم. ولأن الهدف من وراء تأليف الكتاب لم يكن يتعلق بالرصد والتوثيق لمرحلة تاريخية معينة، فقد ناقش الباحث أسباب النجاحات التي وصلت إليها التجربة والعثرات التي عرقلتها، وأخّرت مسيرتها وأوصلتها في بعض الأحيان إلى مرحلة هي أشبه بالنكوص منها بالفشل.

وللوقوف على حقيقة الأسباب المختلفة التي أدت إلى تحقيق النجاحات وظهور الإخفاقات، قام المؤلف بدراسة عميقة لفكر التيارات الفاعلة على الساحة، وركز على استجلاء مواطن الاختلاف العميق في فكر كل تيار من هذه التيارات مع التيارات الأخرى.

الباحث استخدم مصطلحي (المحافظون)، و(الإصلاحيون) للإشارة إلى التيارين السائدين في إيران اليوم.  وهو مصطلح معروف عالميًّا، لكن الباحث وضع يده على الفروق الأيديولوجية واختلاف المرجعيات والمنطلقات الفكرية لكل فريق، ولم يكتفِ كما يفعل معظم المهتمين بالشأن الإيراني، بإظهار الفروق على مستوى الطرح والأداء السياسي لكلا الفريقين. أمّا أسلوب التناول فقد تميّز بصبغة أكاديمية واضحة، والمهم فعلاً أن الطرح الأكاديمي لم يحل بين الكاتب وبين التدفق في طرح أفكاره التي اتسمت بالحيوية والخصوبة.

(حدود الديمقراطية الدينية) كتاب يستحق أن يُقرأ أكثر من مرة.

جريدة المدينة     16/11/2010

15/03/2010

كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي"

|| معيار التمييز بين العلمي وغير العلمي عند بوبر هو القابلية للتفنيد. ما لا يمكن دحضه او تفنيده فليس علما||
"منطق البحث العلمي" للفيلسوف البريطاني – النمساوي كارل بوبر هو كتاب اخر وجدته في معرض الرياض للكتاب ، واظنه يستحق الاقتناء والقراءة . افترض ان قراء الفلسفة قليلون ، لكني مع ذلك انصح به الكتاب والدعاة واي مثقف يرغب في عصف ذهني يجادل من خلاله ذاته ومتبنياته.
يعتبر بوبر واحدا من ابرز فلاسفة العصر . وقد خلفت بحوثه اثارا عميقة على التفكير الفلسفي والنقدي وعلى الفلسفة السياسية في العالم المعاصر. ورغم ان كثيرا من كتبه قد ترجم الى العربية ، الا اني وجدت الاهتمام به بين المثقفين العرب محدودا . ولعل مرجع ذلك هو قلة اهتمامنا بالفلسفة وتياراتها الجديدة ، رغم انها ضرورية ليس فقط للمختصين ، بل لكل باحث يريد التحول من مستهلك للمعلومات والآراء التي ينتجها الاخرون الى ناقد لتلك الآراء ثم الى منتج للفكر والعلم.
Image result for ‫تحميل كتاب كارل بوبر منطق البحث العلمي‬‎
قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات . رأى بوبر ان ملاحظة الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك.
هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع وقد يجافيه.
يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي . ما نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس.
 اولئك مثل هؤلاء يتبعون نفس الطريق التجريبي في التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة . سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول . هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.
وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ، اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علمية . كلما ازدادت العناصر القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد.
كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل النفسي. غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لأنك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف . يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان . نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.

08/03/2010

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

 

من بين الكتب التي أثارت انتباهي في معرض الرياض لهذه السنة (2010)، كتاب «العدالة كإنصاف» للفيلسوف الأمريكي جون رولز. هذا الكتاب الذي ترجمه د. حيدر حاج إسماعيل هو الصيغة الأخيرة من هذا العمل المهم والمثير للجدل، والذي واصل مؤلفه تعديله على ضوء النقاشات والنقد طيلة العقود الثلاثة التي تلت صدور طبعته الأولى في 1971.

 يقدم رولز في هذا الكتاب نظرية جديدة في فلسفة الدولة والتنظيم الاجتماعي/ السياسي، تبتعد شيئا ما عن الرؤية الليبرالية الكلاسيكية رغم أنها تنطلق من نفس المنطلقات، لا سيما الحرية الفردية في حدها الأعلى ومبدأ العقد الاجتماعي كأساس للنظام السياسي / الاجتماعي.

قدم رولز حلا لإشكالية المغالاة في الفردانية، والتي تعتبر أحد العيوب الرئيسية في الليبرالية، لا سيما بسبب تركيزها على الجانب الغرائزي في الفرد، وتمحور فكرة السعادة والنجاح ــ وبالتالي العوامل المؤثرة على قرار الفرد ــ حول التملك والاستحواذ. انطلق رولز من رؤية متفائلة للطبيعة الإنسانية.

المثال الذي يشكل خلفية لرؤيته هو مثال الإنسان الراشد الذي يتمتع بقوى ذهنية ونفسية تسمح له بانتخاب الخيار الأقرب للعدالة فيما لو عاش تحت نظام تعاون اجتماعي يقوم على الإنصاف ويضمن لاعضائه الحرية والمساواة. أهلية الإنسان للاختيار الصحيح قائمة على تمتعه بعنصرين معنويين يحملهما معه منذ الولادة:

 أولهما هو إحساسه بقيمة العدالة، أي قابليته لإدراكها وتمييزها وفهمها وتطبيقها والعمل بموجبها ولأجلها..

 والثانية هي إحساسه بمنفعته الخاصة، أي قدرته على استيعاب تطبيقاتها وتشكيلها ومراجعتها وتنظيم حياته على نحو عقلاني يمكنه من نيلها. بفضل هذين العنصرين يستطيع الفرد أن يفهم ذاته كما يفهم الآخرين باعتباره وإياهم أحرارا يتحملون مسؤولية أفعالهم. وبهذا فهما يمثلان الأرضية التي يقوم عليها استقلال الفرد وأهليته للتعاقد مع الغير والمشاركة في تشكيل النظام الاجتماعي الذي يعيش في إطاره.

جون رولز  (1921-2002)
احتذى منهج رولز عشرات من الباحثين، وتشكل على ضوء أفكاره تيار في الفلسفة السياسية يتوسع بالتدريج، ويقدم بديلا جديا عن التصور الاشتراكي للعدالة الاجتماعية الذي يسمح بتأجيل أو تحجيم حرية الفرد من أجل منافع أخرى مادية أو غير مادية. بينما قرر رولز أن تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة حقوقهم وحرياتهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة ومعيارا لتوفر العدالة في نظام اجتماعي معين.

والحق أن توظيف مصطلح «عادل» أو «ظالم» في وصف مجموع النظام الاجتماعي وبنيته القانونية والاقتصادية والمؤسسية هو واحد من أبرز تجليات الفهم الجديد، خلافا للمفهوم السابق الذي كان يطلق الوصف على أفعال الأفراد أو الدولة فقط. رأى رولز أن جميع عناصر وأجزاء النظام يجب أن تقيم وفقا لمعيار مشترك كي نستطيع وصفها ــ كمجموع ــ بالعدالة أو الظلم. نظرا للتأثير الديناميكي لكل مسار من مسارات النظام الاجتماعي على حياة أعضائه، فإن تقرير ما هي حقوق المواطنين وواجباتهم في جانب معين، الاقتصاد مثلا، يجب أن يسبقه تعريف لانعكاس النظام الاقتصادي وتطبيقاته على حياة الأفراد الذين يعملون في إطاره أو تتأثر حياتهم بمفاعيله، ولا سيما في تمكينهم أو إعاقتهم من ممارسة حقوقهم الأولية وحرياتهم.

من بين التطبيقات العديدة لمفهوم الحرية، صنف رولز عددا منها كحريات أساسية، وتشمل الحقوق الخاصة بالضمير مثل حرية الديانة والتفكير والتعبير والتنظيم، كما تشمل الحقوق الضرورية لصيانة الكرامة الشخصية مثل حرية الحركة والعمل واختيار المهنة والملكية الشخصية، إضافة إلى شريحة من الحقوق المرتبطة بالمشاركة في الشان العام. هذه الحريات أساسية لأنها أكثر أهمية وأعلى قيمة من غيرها من المنافع الاجتماعية أو الحريات الأخرى، وهي عنده تشكل معيارا لحدود سلطة المجتمع..

طبقا لرولز فإن توفر منظومة الحريات الأساسية ضروري لتبلور هوية الإنسان المستقل، الكفء، القابل لتحمل المسؤولية عن عمله، والمشارك في الحياة العامة. ومن هذا المنطلق فإن نظرية العدالة التي اقترحها رولز تعطي للحريات الأساسية أولوية على كافة المنافع الاجتماعية الأخرى. فلا تصح التضحية بها من أجل سعادة المجتمع أو زيادة الثروة الوطنية أو مساعدة الفرد على بلوغ الكمال الذاتي، أو غير ذلك من المنافع.

عكاظ 8 مارس 2010

01/11/2009

حدود الديمقراطية الدينية - عرض كتاب

عرض كتاب
 حدود الديمقراطية الدينية: دراسة في تجربة إيران منذ ١٩٧٩
تأليف : توفيق السيف
عدد الصفحات: ٤٠٧
الطبعة: الأولى/ ٢٠٠٨
تشرين الثاني  2009
 شغلت إشكالية العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية أذهان المفكرين على مدار تطور الفكر  السياسي. ومن أهم تجليات هذه الإشكالية في العصر الحديث علاقة الدين أو الإسلام تحديدا بالديمقراطية، وما يرتبط بها أو يتفرع عنها من إشكاليات فرعية نظرية وتطبيقية، والتي لا يكاد الجدل يخمد بشأنها حتى يثور من جديد.
وفي العقود الأخيرة، ولاسيما بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ ، احتدمت المناظرة حول مدى الانسجام والتنافر بين الإسلام والديمقراطية، وافترق المتناظرون إلى عدة تيارات. فهناك من يقطع بالتناقض المتأصل بين الإسلام والديمقراطية؛ كون الأول يمثل عقبة كؤودا أمام القيم والممارسة الديمقراطية. وثمة من يبشر  بديمقراطية الإسلام؛ على أساس أن جوهر الديمقراطية من صميم الشريعة الإسلامية، وأن ادعاء التنافي بينهما خطيئة. أما التيار الثالث، فيركز على البعد الإجرائي للديمقراطية ويعطيها الأولوية على باقي الأبعاد الفكرية، ويحاجج تبعا لذلك أن التقاليد السياسية الديمقراطية ليست غريبة عن التاريخ السياسي الإسلامي. وأخيرا، هناك من يجادل أن في الإسلام ديمقراطية خاصة؛ تخالف غيرها في نشأتها ومرجعيتها وغايتها ونطاقها...إلخ. 
ومن هنا تنبع أهمية الكتاب الذي بين أيدينا، والذي يبحث في إمكانية تطوير نموذج مختلف للعلاقة بين الدين والدولة الحديثة يعزز المشاركة السياسية، أو تصميم "نموذج ديمقراطي محلي" قادر على التفاعل مع الهوية والقيم الدينية للمجتمعات الإسلامية. ومن النظرية إلى التطبيق، يستقرئ مؤلفه الدكتور توفيق السيف- الباحث والكاتب المتخصص في العلوم السياسية والفقه الشيعي- تجربة إيران بعد الثورة، وبصفة خاصة التجربة الاصلاحية (1997-2004)، التي شهدت اشتغالا جزئيا أو كليا للدين في الحياة السياسية والاجتماعية، لاختبار فرضياته.
وليس ثمة أفضل من هذا التوقيت لمراجعة كتاب حول حدود الديمقراطية الدينية في إيران؛ فالانتخابات الرئاسية الإيرانية (يونيو ٢٠٠٩ ) على بعد أسابيع عدة، حيث يتصاعد التنافس والصراع بين المحافظين،    وعلى رأسهم الرئيس أحمدي نجاد، والإصلاحيين، ويمثلهم رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي، لكسب أصوات الناخبين، وينخرطون في نفس المناظرات المسطرة على صفحات هذا الكتاب. كما أن تجربة إيران توفر للقارئ فهما أفضل لإمكانات عملية التحول الديمقراطي في الدول الإسلامية وصعوباتها وحدودها، وفرصة فريدة لمراقبة تطبيقات الإسلام السياسي واختبارها.
وقبل الولوج في أغوار التجربة الإيرانية، يقدم د. السيف تحليلا لتطور إشكالية السلطة في الفكر السياسي الشيعي منذ القرن الثامن حتى المرحلة المعاصرة. ثم يناقش دور آية الله الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر، وذلك بفضل التعديلات التي أدخلها على المعتقدات الشيعية الخاصة بالإمامة والسلطة، والصيغة التي قدمها للتوفيق بين مصدري الشرعية السياسية الديني والشعبي، والولاية العامة للفقيه في نظام جمهوري.
بعد ذلك، يدلف الكاتب إلى مناقشة التحولات في البنية الاجتماعية في إيران، وانعكاساتها على الخطاب الديني. ومن ثم، ينشغل بقراءة أبعاد التغير في الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية في السنوات التي أعقبت قيام الجمهورية الإسلامية، وتأثيرها في الثقافة السياسية والتنظيم الاجتماعي والمفاهيم الناظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
وفي فصلين متتابعين، يُقدم د. السيف صورة مقارنة عن أيديولوجية التيار الديني المحافظ ونظيرتها الإصلاحية، ويعرض لأبعاد التباينات الحادة بينهما، ولاسيما فيما يتعلق بمفاهيم الجمهورية، ومصدر الشرعية السياسية، ودور الشعب، وسيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة، ونموذج التنمية الأفضل ، وغيرها. كما يناقش الأطر المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين المحافظ والإصلاحي في أطروحاته، وكذلك التفسيرات الجديدة التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية. يتلو ذلك عرض للأحزاب الرئيسة الفاعلة في إيران؛ بغرض استقراء واقع القوى السياسية التي تدعم كلا من الخطاب المحافظ ونظيره الإصلاحي، ومدى فاعليتها في استمرار زخمه. ويختتم الكاتب مناقشته بتحليل ظاهرة المحافظين الجدد في السياسة الإيرانية، وتفسيرها تفسيرا بنيويا.
في محاولته تطوير نموذج ديمقراطي محلي أو إسلامي، أثبت د. السيف صحة الفرضية المتعلقة بقابلية القيم وقواعد العمل الدينية، ولاسيما المتعلقة منها بالشأن العام، للتكيف مع متطلبات الحياة المتغيرة. فضلا على ذلك، اتضح من دراسة خبرة المجتمع الشيعي أن انفتاح الفكر الديني على التطورات السياسية، أو انغلاقه دونها، ارتبط دائما بدرجة انخراط المجتمع في السياسة. لكن الأهم، يجادل السيف، هو أن انخراط الدين في العملية السياسية يمثل عاملا حاسما في تطور الفكر السياسي الديني؛ بمعنى أن هذا الانخراط من شأنه أن يجعل الفكر الديني أكثر تقبلا لضرورات الدولة الحديثة ومتطلباتها، الأمر الذي سيقود، بالضرورة، إلى تخليه  عن المفاهيم التي ظهرت أو تطورت في ظل الدولة ما قبل الحديثة، وبقيت جزءا من التراث الديني حتى اليوم. أما اتجاه هذا التطور (دعم الديمقراطية أو تسويغ الاستبداد)، فإنه يتحدد في ضوء عوامل أخرى، ولاسيما توازنات القوة في البيئة الاجتماعية، الثقافة السياسية السائدة، إضافة إلى الاتجاه العام في النظام الدولي بالنسبة لعملية التحول الديمقراطي.
في هذا الخصوص، أكدت الخبرة الإيرانية، كما يبرهن الكاتب، أن الدين يمكن أن يلعب دورا محوريا في تشكيل إجماع وطني على النظام السياسي، وتجسير الهوة التي تفصل المجتمع عن الدولة، وبالتالي تشجيع مشاركة المواطنين في الحياة العامة. ومن ثم، فإن العلمانية، برأي د. السيف، ليست جوابا مفيدا لمشكلة العلاقة بين الدين والديمقراطية، ولن تكون عاملا مساعدا على التحول الديمقراطي في إيران، بل قد تعوق ظهور ثقافة سياسية محلية جديدة قادرة على تسويغ المشاركة الشعبية.
يُقسم الكاتب مسار المصالحة بين الإسلام والديمقراطية في الخبرة الإيرانية إلى مرحلتين: المرحلة الأولى التي أعقبت انتصار الثورة، واستهدفت في المقام الأول إدماج الدين في مؤسسة الدولة، وإلغاء التباين بين الاثنين. وقد أثمر ذلك فتح الطريق أمام تعديل مواز في الأحكام وقواعد العمل الخاصة بكل من الدين والدولة؛ لجهة إزالة التعارضات وتسهيل استجابة كل من الطرفين لضرورات الآخر. واستهدفت المرحلة الثانية، أو مرحلة ما بعد الخميني، مصالحة الدين مع الديمقراطية، من خلال تعديلات واسعة في المفاهيم الدينية المتعلقة بدور الشعب وحاكمية القانون من جهة، وتعديل مفهوم الدولة المركزية من جهة ثانية.
يرى د. السيف أن صعود التيار الإصلاحي كان ثمرة فشل النموذج الثوري-التقليدي في التعامل مع التغيرات الجذرية التي شهدتها إيران والعالم، في تسعينيات القرن المنصرم؛ لدرجة أن هناك من وصف انتصار محمد خاتمي في انتخابات ١٩٩٧ الرئاسية بأنه ثورة ثانية. ومن خلال الفحص الموضوعي لتجربة الإصلاحيين في الحكم وأيديولوجيتهم، يلخص الكاتب خصائص الخطاب الإصلاحي بأنه خطاب يجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية-الليبرالية واقتصاد السوق الحر، ويتبنى عددا من المعالجات النظرية التي تمثل اختراقات في جدل الدين-الحداثة، وتتعلق بمسائل جوهرية مثل الطبيعة الدينية للدولة، ومصدر السلطة والسيادة، ودور الشعب وغيرها. وقد عالج المفكرون الإصلاحيون هذه المسائل من منطلقات دينية أصيلة، لكن تفسيراتهم الجديدة مكنتهم من التوصل إلى صياغات قريبة جدا من تلك المعروفة في الأدبيات السياسية الحديثة.
يستنتج الكاتب أنه في حين فشل التيار الإصلاحي في إحداث تغيير كبير في بنية السلطة أو المحافظة على دوره السياسي، فقد نجح في تغيير البيئة السياسية في إيران، وإرساء حزمة مهمة من الإصلاحات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبصفة خاصة في علاقة الدولة بالمجتمع. ولا شك في أنها، ضمن هذه الحدود على الأقل، يزعم الكاتب، جعلت إيران أقرب إلى الديمقراطية مما كانت عليه قبل عشر سنوات.
بعبارة أخرى، تمثل تجربة الإصلاحيين الفكرية والسياسية نموذجا يثير الاهتمام في تجسير الفجوة بين الدين والديمقراطية، ويقدم مفكرو هذا التيار حلولا جديدة للكثير من المسائل التي ما زالت تثير الجدل في الشرق الأوسط حول إمكان التوصل إلى نموذج ديمقراطي محلي.
يستحق د. السيف الإشادة على تحليله لظاهرة المحافظين الجدد، وهم جيل جديد من المحافظين (تحالف التنمية "آباد كران")، يتمثل في الرئيس احمدي نجاد ومعاونيه؛ فهو موضوع لم ينل حقه من اهتمام الباحثين في المناظرة الدولية الراهنة حول الوضع الإيراني. وينطوي هذا التطور، في رأي الكاتب، على تحول هيكلي في النخبة السياسية الإيرانية، المحافظة بخاصة، يتجسد في انتقال السلطة الروحية، وتبعا السياسية، من كبار الروحانيين والجيل التقليدي بشكل عام، إلى جيل جديد ينتمي إلى الطبقة الوسطى الحديثة، ويتكون أساسا من الشباب والتكنوقراط. أما دلالات صعود المحافظين الجدد، فيشير الكاتب إلى تزايد الاتجاه نحو التشدد في إيران، وتمكن مرشد الجمهورية من استكمال سيطرته على خيوط السلطة (حيث يقف شخصيا وراء هذا التحول)، وتصاعد دور العسكريين في العملية السياسية.
ينحو خطاب النخبة المحافظة الجديدة، كما يشرح الكاتب، منحى تقليديا في الأمور المتعلقة بالدين والممارسة السياسية، ويتخذ في الوقت نفسه مسلكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يميل إلى تدخل الدولة في شؤون المجتمع، ويحبذ، بصفة خاصة، النموذج الصيني في التنمية من دون أن يكون جاهزا تماما للتعامل مع متطلباته وتحدياته، ويميل إلى تشديد الانقسام في الساحة الداخلية. وينظم التصور الخارجي للمحافظين الجدد مبدأ "أمة قوية تفرض احترامها"، لكنه في التطبيق العملي أفضى إلى وضع يقترب من العزلة الدولية.
ويخلص الكاتب إلى أن سياسات الرئيس نجاد أثمرت عددا من النتائج السلبية اقتصاديا وسياسيا، داخليا وخارجيا.
وبعد، فإن الكتاب يقدم مساهمة معتبرة إلى المناظرة الراهنة حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في النظرية
 والتطبيق. في هذا المجال، يستخلص الكاتب أن تطور الفكر السياسي الشيعي في الخبرة الإيرانية بعد الثورة يشير إلى أن قيام نظام ديمقراطي على أرضية دينية هو احتمال واقعي وقابل للتحقيق. ويمكن لمثل هذا النموذج أن يوفر بديلا عمليا للمحاولات المتعثرة للتحول الديمقراطي في العديد من المجتمعات الإسلامية، ولاسيما تلك التي يرتبط تعثرها بالعجز عن ترسيخ الديمقراطية في الثقافة المحلية، واستنهاض المواطنين للمشاركة في التغيير.
كما يوفر هذا التحليل نافذة جديدة تطل بنا على الفكر السياسي الشيعي، والمسائل الكبرى التي انشغل بها مفكروه، مثل الإمامة أو الخلافة، والشورى، والسلطة، سواء من حيث مصدرها وطبيعتها ووظائفها، أو من حيث شرعيتها وحدودها، ومن ثم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
علاوة على ذلك، يتميز الكتاب بمصادره الغنية العديدة والمتنوعة بين مصادر أولية وأخرى ثانوية وبحوث ميدانية. وقد وظف الدكتور توفيق السيف إطارا نظريا ملائما، استقاه من عدة نظريات سوسيولوجية (ماكس فيبر، ألموند  ، كون ، وجون رولز) لتفسير العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفهم مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. كما استفاد من نظريات الثقافة السياسية لتفسير الحراك الديمقراطي في إيران. وعلى الرغم من بعض الهنات هنا وهناك، وبصفة خاصة ما يبدو أنه بعض التحيز ضد المحافظين، فإننا بصدد تحليل متميز ومبتكر لعلاقة الدين بالسياسة، ولمفهوم الديمقراطية الدينية أو الثيوقراطية وحدوده، وللخبرة الإيرانية بعد الثورة، وهو يشكل إضافة للمكتبة العربية.

16/06/2009

هل تتلاءم الثقافة الإسلامية مع الديموقراطية؟


بقلم توفيق المديني
جريدة المستقبل  - الثلاثاء 16 حزيران 2009 - العدد 3335 - ثقافة و فنون - صفحة 18

الكل في العالم العربي، وفي العالم الغربي، تساءل في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، عن التطورات السياسية والإسقاطات السياسية، على ضوء انتصار الثورةالإسلامية في إيران، ومدى تفاعل مجموعة من التغيرات الإيرانية مع المعطيات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط.
الرئيس السابق محمد خاتمي 
وهناك تساؤل ألقى بثقله على الساحة العربية، منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ويتمثل ماهو الأفضل للعالم العربي، أن ينخرط في تجربة الديمقراطية الغربية، حتى وإن عبدت هذه الديمقراطية الطريق لوصول الحركات الإسلامية الأصولية إلى السلطة، أم أن الأمرعلى عكس من ذلك يتطلب الإبقاء على الأنظمة التسلطية عن طريق إجهاض الفوز الانتخابي للإسلاميين بحجة حماية المسار الديمقراطي، والمثل الديمقراطية؟ وفي سؤال جامع، هل حالة الديمقراطية حالة شر تام أم حالة خير للعالم العربي؟

لاتزال ظاهرة الإسلام السياسي على تنوع حركاته وتياراته في العالمين العربي والإسلامي تشغل اهتمام الباحثين والمفكرين العرب. فقد عقدت في السنوات الأخيرة ندوات فكرية عدة، شارك فيها باحثون ومفكرون لهم تجربة غنية بالفكر وخبرة سياسية عملية ومساع ديموقراطية معروفة، ومتحفظون ومعترضون على الديموقراطية، لتقديم مقاربات حول إشكاليات الديموقراطية، بهدف نقل الحوار حول الديموقراطية في البلاد العربية خطوة إلى الأمام على طريق تأسيس أرضية فكرية سياسية مشتركة لتأصيل الديموقراطية في الحياة السياسية العربية دون تعد على ضوابط نظام الحكم الديموقراطي ومبادئه العامة المشتركة، ودون تضحية بثوابت الأمة ومصالحها الحيوية.

وغالباً ما يتساءل بعض الباحثين والمنظرين العرب والأجانب عن العلاقة بين الإسلام والديموقراطية، وهل تتلاءم أو تتعارض الثقافة الإسلامية مع بعض التجربة "الديموقراطية الغربية" أو"الليبرالية"؟.

يقدم لنا الدكتور توفيق السيف في كتابه الجديد "حدود الديمقراطية الدينية" تحليلا سوسيولوجيا معمقا عن النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، متخذا من دراسته لتجربة السلطة في إيران ما بعد الثورة الإسلامية موضوعا لاختبار فرضياته حول إيجاد بناء نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية.

ويتألف الكتاب من سبعة فصول وخاتمة، حيث يناقش الفصل الأول: المسار التاريخي الذي تطوّرت خلاله نظرية السلطة الشيعية منذ القرن الثامن الميلادي حتى قيام الثورة الإسلامية في عام 1979. ويناقش الفصل الثاني التعديلات المهمة التي أدخلها آية الله الخميني على نظرية السلطة الشيعية التقليدية، والتي بلغت المقوّمات الأساسية والوظيفية لنموذج السلطة التقليدية. ويناقش الفصل الثالث نموذج السلطة الثوري الذي قام على أرضية النظرية الدينية التقليدية، ويستعرض مكوّناته ومبرّرات قيامه. ويقدّم الفصل الرابع تحليلاً للإيديولوجيا السياسية للتيار المحافظ، بما فيها رؤيته للدولة الاسلامية وموقفه من القضايا موضع الجدل في إيران، مثل مسألة المواطنة وما يتعلق بها من الحقوق السياسية، والشرعية وسيادة القانون، والجمهورية ودور الشعب، فضلاً عن الأساس النظري لتلك الايديولوجيا.

ينطلق توفيق السيف في تحليله لصعود التيار الإصلاحي في السياسة الإيرانية، من نظرية الانقلاب البراديمي (المنظومي) التي طورها الفيلسوف الأميركي توماس كون لتفسير ذلك التطور، ومعانيه بالنسبة إلى التجربة الإيرانية. فهو يقول: "أظهرت المناقشة أن العيوب التي أدت إلى إطاحة الباراديم الثوري تكمن في الأسس التي قام عليها، ولا سيما الافتقار إلى أيديولوجيا سياسية متينة وعدم الانسجام عند النخبة التي اشتركت في إقامة النظام السياسي. واسهم هذان العاملان في تسهيل قيام حكومة شمولية شديدة التخلف. وأظهرت تجربة العقد الأول من عمر النظام فشل البراديم الثوري في احتواء مشكلات البلاد، لا سيما في ظروف الحرب والضغوط الاقتصادية الخارجية" (ص 145).

وقد توسعت جبهة الإصلاحيين مع انتخاب حجة الإسلام الإصلاحي محمد خاتمي رئيساً للجمهورية في أيار/ مايو 1997، الداعي إلى إرساء دولة القانون، والحريات العامة، وحقوق الفرد، والتعددية، والسماح بنشاط جميع الأحزاب شرط موالاتها للدستور حتى لو اعترضت على بعض تدابيره مثل آلية عمل نظام ولاية الفقيه "ويبقى شخص الفقيه خارج دائرة النقد".
ومن خلال الفحص الموضوعي لتجربة الإصلاحيين في الحكم وأيديولوجيتهم، يلخص الكاتب خصائص الخطاب الإصلاحي بأنه خطاب يجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية ـ الليبرالية واقتصاد السوق الحر، ويتبنى عدداً من المعالجات النظرية التي تمثل اختراقات في جدل الدين ـ الحداثة، وتتعلق بمسائل جوهرية مثل الطبيعة الدينية للدولة، ومصدر السلطة والسيادة، ودور الشعب وغيرها. وقد عالج المفكرون الإصلاحيون هذه المسائل من منطلقات دينية أصيلة، لكن تفسيراتهم الجديدة مكنتهم من التوصل إلى صياغات قريبة جداً من تلك المعروفة في الأدبيات السياسية الحديثة.

يستنتج الكاتب أنه في حين فشل التيار الإصلاحي في إحداث تغيير كبير في بنية السلطة أو المحافظة على دوره السياسي، فقد نجح في تغيير البيئة السياسية في إيران، وإرساء حزمة مهمة من الإصلاحات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبصفة خاصة في علاقة الدولة بالمجتمع.

وتتمثل المحاور الرئيسة للخطاب الإصلاحي في نقد الأيديولوجيا الرسمية، ولاسيما أرضيتها النظرية (الفقه التقليدي)، والدفاع عن الحداثة، والديمقراطية، والتعددية، وتحديد السلطة. ويقترب المفهوم الإصلاحي للديمقراطية إلى حد كبير من المفهوم الليبرالي. لكنه يخالفه في الموقف من العلمانية، إذ يرفض الإصلاحيون العلمانية كأيديولوجيا لكنهم يعتبرون التحول العلماني (أو المعرفي) نتيجة حتمية لاندماج الدين في الدولة والتحولات الاجتماعية.
ويقدم الخطاب الإصلاحي مثالا قويا على إمكانية المصالحة بين الإسلام والحداثة، لا سيما في الجانب السياسي. فهو يوفر أرضية لتفاعل نشيط بين المعرفة الدينية من جهة والفكر الفلسفي الاجتماعي الحديث من جهة أخرى.

ويعتقد الكاتب أن تجربة الإصلاحيين في السلطة، جعلت إيران أقرب إلى الديمقراطية، إذ تمثل تجربتهم الفكرية والسياسية نموذجاً يثير الاهتمام في تجسير الفجوة بين الدين والديمقراطية، ويقدم المفكرون الإصلاحيون حلولاً جديدة للكثير من المسائل التي ما زالت تثير الجدل في الشرق الأوسط حول إمكان التوصل إلى نموذج ديمقراطي محلي قادر على التفاعل مع الهوية والقيم الدينية للمجتمعات الإسلامية..

ولما جاءت حكومة الرئيس أحمدي نجاد، الممثل القوي للتيار المحافظ المتشدد، فقد كانت مبنيّةٌ على تحالفٍ بين عدّة مجموعات سياسية وعسكرية: أوّلاً فريقٌ دينيّ مُتشدّد يلعب فيه آية الله مصباح يزدي دوراً هامّاً، ويدعو إلى تطبيقٍ كاملٍ لمبدأ "ولاية الفقيه"، بالتحالف مع مرشد الثورة؛ وفصيلٌ من "حرّاس الثورة" يتطلّع إلى جعل إيران قوّةً مُهيمنةً في المنطقة - وقد تمّت مكافأة قادة هذا الفصيل بمناصب اقتصادية وسياسية هامّة. أمّا القسم الآخر من "الباسدران" فقد التحق باللّواء محمد باقر قاليباف، ممثّل الشريحة المُحدّثة، وهو رئيس بلديّة طهران، ومرشّحٌ للإنتخابات الرئاسية.
الشيء المؤكد في إيران، أن التيار المحافظ المتشدد ما زال يتمسك بالمفاصل الأساسية للنظام ويعمل من مواقعه المحصنة على كبح أي إصلاح أو تغيير أو إطلاق حرية التعبير ولو من داخل النظام، نفسه، والقيم نفسها التي انفصلت من أجل الثورة الإسلامية. فالطلاب الذين كانوا رأس الحربة في إسقاط شاه إيران، يوم كان رمزاً للظلم والاستبداد، وناصروا الجمهورية الإسلامية، أصبحوا اليوم يطالبون بالتخلي عن نظرية ولاية الفقيه، التي باتت تفتقر إلى المساندة سواء وسط الطلاب أو أساتذتهم. وهذا بحد ذاته يعتبر تطوراً سياسياً مهماً وخطيراً، بل إنه أهم وأخطر تطور منذ استلام رجال الدين السلطة العام 1979.

ويعتقد بعض المحللين الغربيين أن تبلور التيار الإصلاحي في إيران هي "بداية النهاية" لنظام حكم آيات الله الذي نشأ عام 1979، وتذهب دومينيك برومبرجر، الخبيرة الفرنسية البارزة في الشؤون الدولية إلى الجزم بأن "الثورة الخمينية انتهت في طهران.." بعد أن كسر التيار الإصلاحي "المساكنة على الطريقة الإيرانية" المتميزة بانعدام التوازن البنيوي في المواجهة بين "الفقيه" المطلق مع الشرعية الشعبية.

مرة أخرى، يجد التيار الإصلاحي نفسه في صراع مع الزمن وأن المبادرة التي دخلها في سبيل تحديث النظام السياسي، وخوض معركة الحداثة في إيران، هي في غاية التعقيد، بعد أن ضيع الفرصة الأخيرة عندما كان خاتمي في السلطة، حيث أن هزيمته أدت إلى انحساره، ولو مؤقتا.
ولاشك أن انحسار وفقدان التيار الإصلاحي زمام المبادرة، يخدمان موضوعياً البيروقراطية المحافظة والمتشددة، التي انقضت على المكاسب التي حققها التيار الإصلاحي خلال السنوات القليلة الماضية. ذلك إن نجاح التيار المحافظ المتشدد كان له تأثير كبير في كل العالم الإسلامي.

الكتاب: حدود الديموقراطية الدينية
 الكاتب: توفيق السيف
دار الساقي، بيروت 2009، 407 صفحات من القطع الكبير

جريدة المستقبل  - الثلاثاء 16 حزيران 2009 - العدد 3335 - ثقافة و فنون - صفحة 18
http://almustaqbal.com/storiesprintpreview.aspx?storyid=352688

مقالات مماثلة




24/12/2008

الحداثة كحاجة دينية


بقلم: د. عبد الحميد الأنصاري


هذا عنوان لكتاب قيّم ظهر قبل سنتين ولم يأخذ حظه من الاهتمام، للكاتب السعودي الدكتور توفيق السيف، وهو مُفكر إسلامي مُستنير له العديد من المؤلفات التي تضيء أوجه العقلانية في التراث والفكر الإسلامي، وتجتهد في تجسير الفجوة المصطنعة بين الفكرين الديني والحداثي. تذكرت هذا الكتاب صغير الحجم وعظيم الفائدة وأنا في احتفالية التنوير بالكويت، على هامش الاحتفالية العالمية لعصر التنوير الإنساني، بمناسبة مرور قرنين على انطلاق عصر "الأنوار" في العالم، تلك الأنوار التي أيقظت أوروبا من سباتها الطويل وأخرجتها من ظلمات القرون الوسطى، فانطلق العقل ليكتشف ويبدع ويخترع، ويصنع المعجزات العلمية والتقنية التي غيّرت حياة البشر، وأزالت الحواجز بين شعوب الأرض.
 د. عبدالحميد-الأنصاري
هذه الاحتفالية التي حملت عنواناً جذاباً "التنوير... إرث المستقبل" واجتذبت جمعاً حاشداً من المفكرين والمهتمين بقضايا التحديث والتنوير من الجنسين كانت أشبه بتظاهرة جماهيرية متعطشة إلى عصر التنوير الكويتي الذهبي الذي انحسر بفعل هيمنة طروحات دينية سياسية أو متشددة هادفة إلى قطع جسور التواصل مع الفكر الحداثي عبر تغذية روح الممانعة ورفع لواء المواجهة بدلاً من التفاعل العقلاني النقدي مع الفكر الحداثي. كان منظم هذه الاحتفالية، مركز الحوار للثقافة (تنوير) بالتعاون مع الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية، وهو مركز ثقافي تنويري، أسسته مجموعة من المثقفين الكويتيين المهتمين بحقوق الإنسان وحريات الفكر والتعبير وثقافة المجتمع المدني، وقد استضافوا المفكر الإسلامي الدكتور محمد أركون، صاحب المشروع الفكري الكبير المعني بإعادة قراءة التراث العربي لإبراز النزعة الإنسانية في هذا التراث العظيم، وقد صكّ أركون مصطلح "الأنسنة" لأول مرة عام 1997 فشاع وانتشر بين الباحثين. يقول أركون: "أردت لفت الانتباه إلى ضرورة إعادة التفكير في النزعة الإنسانية الدينية المشتقة من الانتروبولوجيا الروحانية القرآنية"، ويقصد بمصطلح الانتربولوجيا القرآنية "الصورة السائدة عن الإنسان في القرآن، وهي صورة رفيعة مليئة بالقيم الروحية، لكنها لم تكن وحدها السائدة في العصر الكلاسيكي، وإنما انضافت إليها صورة أخرى عن الإنسان نفسه مشتقة من التراث الفلسفي اليوناني والتجارب الثقافية الدينية الخاصة بالهنود والمانوية والزرادشتية وغيرها من تيارات ثقافية متفاعلة (طبقاً لهاشم صالح).
لقد أسِر أركون الحضور بحديثه عن عصر الأنوار، وكيف كان عالم القرون الوسطى في أوروبا. "كان عالماً قلقاً مخيفاً، ينبغي أن نذهب إلى أفغانستان أو بلاد "الطالبان" لكي نفهم ذلك، كان الحزن القائم يغلّف المناخ العام للأشياء بغلالة السواد، والناس كانوا ينتظرون نهاية العالم بين يوم وليلة! ولذلك كانوا ينوحون ويبكون ويتحسرون على ما فات، يخشون لقاء ربهم في الدار الآخرة، وكانوا يعتبرون الفرح حالة غير طبيعية" (هاشم صالح في مقالته عن مارتن لوثر). ما هو التنوير؟ هو الاستخدام الحر للعقل واسترداد الإنسان لنوره الخاص، والخروج الشجاع من آلية إشراف الغير إلى إشراق الذات، من آلية الطائفة والمذهب والحزب والمرجعيات (كلمة وزيرة الثقافة البحرينية (الشيخة مي آل خليفة). إنّ هدف التنوير الأسمى كما يقول أركون، هو منح العقل البشري جميع الحمايات والأسباب التي تمكنه من مواصلة الإنتاج المعرفي والثقافي لنفع الإنسانية جمعاء، لا أمة معينة.
وقال: إن الوظيفة الأولى للعقل، هي نقد العقل نفسه فإذا تخلى عنها وتورط في تأييد مواقف أيديولوجية، اعتبر فاشلاً، وأضاف أن هذه النقطة هي المأزق الذي يُعاني منه الفكر العربي. حلّق أركون بالحضور وطاف بهم شرقاً وغرباً، لكن أهم ما أضافه هو مقارنته بين المسيرتين: الإسلامية والأوروبية، فمع سبق المسلمين في الاعتماد على العقلانية في إنتاج معارف علمية دعمت الإيمان الديني وأعطت الوسائل اللازمة للتفاعل مع العقل الفلسفي والذي أثمر كماً معرفياً هائلاً على امتداد القرون الستة الهجرية الأولى، فإن هذه المسيرة توقفت بسبب التدخل السياسي للسلطة في الفكر الإسلامي، وكان كتاب "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" للغزالي، إيذاناً بأفول عصر التنوير الإسلامي لتبدأ أوروبا التي كانت غارقة في ظلمات القرون الوسطى حمل راية "التنوير" ومواصلة المسيرة بدون انقطاع إلى يومنا هذا.
كانت لي مداخلة وضّحتُ فيها أن "العامل السياسي" لا يكفي وحده في تفسير انقطاع التنوير الإسلامي، هناك عوامل عديدة، وأتصور أن "العامل الاجتماعي" وأعني به حجب المرأة وعزلها عن مجريات الحياة العامة وفرض الوصاية عليها، هو العامل الأهم في انحسار الفكر التنويري وتدهور حضارة المسلمين. أركون وخلافاً لبعض الظنون في أنه يجترئ على المقدسات، هو من أكثر المفكرين الذين لا يرون "الحداثة" بمعزل عن القيم الدينية، بل ينعى على التنوير الأوروبي في مرحلته الثالثة، أي بعد الحرب الثانية والمرحلة الاستعمارية، تنكره لقيم الأنوار تحت تأثير ما سماه "المخيال الاجتماعي".
وعودة إلى كتاب الدكتور توفيق السيف فإن المؤلف معني بوصل ما انقطع في مسيرة الفكر الإسلامي التنويري، وهو يطرح في الكتاب تساؤلات مهمة، كانت مطروحة بين الحضور في الاحتفالية مثل: هل يمكن لأمة أن تصل إلى الحضارة بدون الدين؟ وإذا كان "التراث الإسلامي" كائنا حيا يعيش فينا ونعيش فيه، ولا فكاك منه، بحسب تعبير أحمد البغدادي، فما مقدار التراث الذي يُشكل حاجة حقيقية لمسلم العصر؟ هذه التساؤلات تأتي على خلفية إشكالية العلاقة بين النهضة والدين والتراث والحداثة، فهُناك من يرى أن شرط النهضة والحداثة، التخلي عن الدين والتراث، بينما يرى آخرون أن الطريق الوحيد للنهضة هو الدين والتمسك بالتراث. يقول الكاتب: إن هذا الربط فيه تكلّف، إذ يمكن لأمة أن تصل إلى الحضارة والتحديث بدون الدين كما حصل في أزمان سابقة وفي زماننا، كما يمكن لأمة أن تحافظ على دينها وتراثها سواء تحضرت أو لم تتحضر، المشكلة الحقيقية عند الكاتب هي قابلية نمط معين من الفهم الديني لإعاقة النهوض الحضاري، ويؤكد: يمكننا إثبات أن نمط التدين السائد في عالمنا الإسلامي اليوم معيق للنهضة والحداثة، لكن هذا التدين مُلتبس بالعادات والتقاليد والتجربة التاريخية بأكثر من انتسابه إلى الوحي، وهذا ما يحاول الكتاب تفكيكه وهو ما ينبغي على الإسلاميين التنويريين العمل على فرزه وتوضيحه.
"الحداثة" ليست مجرد تقدم تقني بل هي أيضاً "نظام قيمي" ونحن بحاجة إلى الأمرين وإذا كان "الدين" بحاجة إلى "الحداثة" لتجديده فإن في تجديد الإسلام، تجديداً لحياة المسلمين وتحويله من مجرد "هوية: مختلفة إلى فاعل في تطوير حياة البشرية كلها.
  جريدة "الاتحاد" الإماراتية
 2008/12/24

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...