‏إظهار الرسائل ذات التسميات حرية التعبير. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حرية التعبير. إظهار كافة الرسائل

19/01/2009

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات


 اود الاشادة باهتمام الجمعية الوطنية لحقوق الانسان برفع الحجب المفروض على مواقع انترنت تابعة لمنظمات حقوقية دولية . طبقا لما نشرته الصحافة المحلية فقد قالت الجمعية في خطاب لهيئة الاتصالات ان حجب هذه المواقع يتعارض مع حق المواطن في الاطلاع على المعلومات والارتقاء بثقافته الحقوقية .
اعلم ان معظم المثقفين واهل الراي في بلدنا منزعجون من سياسة الحجب التي تتم بمبررات غير معروفة اذا لم نقل اعتباطية ، ومن غياب اي آلية واضحة لمحاسبة الهيئة التي تقوم بالحجب. جربت شخصيا مخاطبة الهيئة طالبا رفع الحجب عن مواقع محددة او تقديم مبررات لقرارها ، لكني لم اتلق ردا رغم تكرار المحاولة مرات كثيرة . وطرحت المسألة على آخرين فابلغوني بانهم فعلوا الشيء نفسه ولم يتلقوا اي رد. والخلاصة ان الهيئة تفعل ما تريد ولا تجد نفسها مسؤولة او مطالبة بتقديم تبرير او كشف حساب .

هيئة الاتصالات هي واحدة من احدث الاجهزة الرسمية ، ومسؤولة عن احدث القطاعات الاقتصادية واكثرها تعرضا للتحولات ، وهو قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات. لكن خلافا لما نعرفه على المستوى النظري فان انشغالها بقطاع حديث لم يؤد الى تحديث في روحية القائمين عليها او اساليب عملهم . بل نجدها تحمل ذات الروح البيروقراطية التقليدية التي نعرفها في قطاعات الاقتصاد القديم ، اي تلك التي تعطي نفسها سلطة مطلقة وتعفي نفسها من اي حساب  او مساءلة.
كلما سئل احد اعضاء الهيئة عن سبب الافراط في حجب المواقع الالكترونية ، اخرج من جيبه الاسطوانة المعروفة ، اي التبرير الذي يتلخص في هوس الشباب بالمواقع الاباحية ، وكأن الشباب لا يعرفون من الانترنت الا هذه ،  او كأن الانترنت لا تحوي شيئا غيرا هذا ، او كأنه لا يستعمل الانترنت سوى الشباب المهووس بالاباحية .
 وسمعت هذا التبرير اخر مرة في مقابلة على قناة الاخبارية في الاسبوع الماضي . لكن المواقع المحجوبة لا تقتصر على تلك التي تعرض مواد اباحية او المواقع التي تشجع العنف والفساد والجريمة . ثمة مواقع لمجلات محترمة ومراكز ابحاث ونشرات خبرية محجوبة ايضا . واظن ان كثيرا من قرارات الحجب تتم بقرارات مزاجية وتتاثر بتوجهات او ميول الاشخاص الذين شاءت الاقدار ان يكونوا في هذا الموقع.
لدى السادة في هيئة الاتصالات ردا واحدا على كل سؤال ، هو انكار الحجب الاعتباطي. وهم يعتبرون انكارهم ذاك نهاية المطاف . لكننا نناشدهم ونناشد مرجعهم الرسمي اعتماد معايير العدالة والانصاف والتاكيد على روح المسؤولية . معايير العدالة تعني ان الحجب يجب ان يكون الورقة الاخيرة . والواجب ان يبدأ الامر بمخاطبة اصحاب المواقع وانذارهم بازالة الصفحات التي يراد حجبها ، قبل اتخاذ القرار الاخير. ثمة مواقع حجبت لانها نشرت خبرا او مقالة او صورة غير مرغوبة. فلنفترض ان ذلك الخبر او المقال او الصورة ازعجت القائمين على الهيئة ، فهل يعتبر رايهم او انطباعهم مقياسا لما هو حق وما هو باطل و ما هو صحيح وما هو فاسد ؟.
اجد احيانا ان موقعا قد حجب بعد نشره مادة معينة ، بينما تركت مواقع اخرى نشرت المادة نفسها. فهل يتقرر الحجب بناء على صدفة اسمها اكتشاف الرقيب لتلك دون هذه ، ام لان الهيئة تلقت طلبات من الناس لحجب هذا الموقع دون غيره ؟. واذا كانت الهيئة تستمع لطلبات الحجب من الناس ، افليس من العدل ان تستمع ايضا للطلبات المعاكسة ، اي تلك التي تدعو الى رفع الحجب ؟.
نعرف ايضا ان كل موقع انترنت يحتوي على عشرات الصفحات ، فاذا كانت الهيئة غاضبة من صفحة معينة فلماذا تحجب الموقع باكمله ؟ هذا يشبه تماما ان تمنع كتابا  لان احدى صفحاته احتوت على كلام غير مريح او تمنع مجلة لان صفحة فيها احتوت على صورة مزعجة ، بل هو اشبه بان تحكم بهدم منزل لان غرفة من غرفه حدث فيها تشقق او عطب .
لا نريد القول ان الناس قد ملت وسئمت كثرة الممنوعات والمحضورات – وان كان هذا هو الواقع - . لكننا نناشد من يملكون قرار التوسيع والتضييق الرفق بالناس والتوسيع عليهم فان الامعان في التضييق يدفع الى الياس ويحبط الثقة ويشجع على البحث عن طرق ملتوية او غير قانونية ، وربما يقود الى تفكير بعيد عن العقلانية.
اتمنى ان تواصل الجمعية الوطنية لحقوق الانسان محاولاتها وان تستهدف بالتحديد وضع قانون معلن يحدد مبررات الحجب وحقوق اصحاب المواقع المحجوبة وكيفية رفعه وتحديد الجهة المفوضة بمحاسبة القائمين على هذا العمل ، كي لا تكون مصالح عشرين مليونا من السعوديين واهتماماتهم ورغباتهم مرهونة براي شخص او بضعة اشخاص في هيئة الاتصالات.
عكاظ 19 يناير 2009

 

مقالات مماثلة


06/02/2008

المجتمع السري


يقول باحثون إن الاقتصاد السري في مصر يعادل تقريبا ثلث الناتج القومي الإجمالي. والاقتصاد السري هو وصف للنشاطات التجارية التي لا تخضع للتنظيم الرسمي، وهي واسعة في مصر بسبب ضيق الإطارات القانونية والمؤسسية، لا سيما التعقيدات البيروقراطية وتعسف إدارات الضرائب، والقوانين المعيقة. حالة الاقتصاد السري في مصر هي نموذج لظاهرة عامة في العالم العربي تتلخص في التباين بين القدرة الاستيعابية للإطارات النظامية من جهة وبين مستوى الحركية والنشاط الاجتماعي من جهة أخرى.
سوق شعبي في القاهرة
يمكن تشبيه العلاقة بين الحركية الاجتماعية والتنظيم القانوني بالعلاقة بين ماء النهر ومجراه، إذا كان مجرى النهر واسعا ومرنا فسوف يستوعب كل ما يصب فيه من مياه وسوف يقوده إلى الجهات الصحيحة والمفيدة، واذا كان المجرى ضيقا، فإن الماء الزائد سوف يفيض على جوانب المجرى أو يشق طرقا جديدة بعيدة عن مجرى النهر، أو يتحول إلى فيضان. قد تكون المجاري الجديدة مفيدة للأراضي العطشى وقد تكون مضرة، مثلما هو الفيضان الذي قد يفيد وقد يدمر ما يجد أمامه. في كل الأحوال فإن عجز الإطارات القانونية والمؤسسية عن استيعاب الحراك الاجتماعي سوف يؤدي بالضرورة إلى قيام مسارات ومؤسسات ونشاطات اجتماعية غير خاضعة للتنظيم الرسمي وغير قابلة للإدارة، يصفها الباحثون الاجتماعيون بالمجتمع السري مثلما يصفون التجارة غير المنظمة بالاقتصاد السري.
المجتمع السري ليس بالضرورة مجهولا او مكتوما، فالناس جميعا أو شريحة منهم على الأقل تعرف بوجوده وتمارسه وتستريح إليه، بل وتعتبره سياقا حياتيا اعتياديا مثلما النشاط المؤطر قانونيا هو نشاط حياتي اعتيادي. الفارق بين الاثنين يكمن تحديدا في وجود إطار رسمي ينظمه، لا أكثر ولا أقل. سواء عرف البيروقراطيون بوجود المجتمع السري أو غفلوا عنه، وسواء استعظموه او استهانوا به، فإن فعله وتأثيره في نفوس الناس وفي حياتهم، لا يقل عن فعل المؤسسة الرسمية وتاثيرها. وعلى أقل التقادير فإنه يؤثر في جوانب من حياة الناس لا تصل إليها يد المؤسسة الرسمية.
وفي العادة فإن الدوائر الرسمية في جميع الدول تسعى للتعرف إلى تلك النشاطات. يحركها في هذا السعي القلق الأمني، أو الرغبة في التنظيم والإدارة. لهذا يمكن القول إن الدوائر الرسمية تعرف غالبية النشاطات الأهلية غير المنظمة، معرفة كاملة او جزئية. ومن المفترض ـ نظريا على الأقل ـ أن تقود المعرفة بها الى المرحلة التالية، أي تنظيم تلك النشاطات وتأطيرها. وهنا تكمن المشكلة التي تعانيها معظم الدول العربية، أعني التباطؤ والتلكؤ في توفير المتطلبات اللازمة لتأطير النشاط الأهلي، بل وفي بعض الأحيان تنميطها جميعا كمشكلات أو تهديدات، بدل النظر إليها كفرص وعلامات صحة في المجتمع.
لعل منتديات الانترنت هي أكثر أشكال المجتمع السري شيوعا في الوقت الراهن، ويكشف العدد الكبير من هذه المنتديات عن شريحة ضخمة من الاهتمامات والهموم والنقاشات الدائرة في المجتمع. والحقيقة أنها قد أصبحت موردا رئيسيا للأفكار والمعلومات لمعظم المهتمين بالرأي العام والمشتغلين بالشأن العام. منتديات الانترنت هي شكل واحد فقط من أشكال المجتمع السري، وربما أكثرها إثارة للاهتمام. لكن الى جانبها ثمة أشكال عديدة أخرى للنشاط الأهلي، بعضها أكثر نضجا ولعله أعمق تأثيرا. هذه الأشكال وتلك هي نماذج أولية لتيارات جديدة في المجتمع، أو هي تعبيرات عن تيارات قائمة فعالة في المجال العام.
سواء أعجبتنا هذه التعبيرات أم أزعجتنا، فهي تمثِّل في مجموعها حقيقة المجتمع في لحظته الراهنة. حقيقة المجتمع كنطاق واسع ومتنوع، وهو يزداد تنوعا واتساعا مع مطلع كل شمس. إذا تخلى المجتمع عن ركوده وبدأ في الحركة، فإن الحركة بذاتها تفرز أنواعا من النشاط معظمه جديد وغير مألوف. المجتمعات الحية هي التي تسارع إلى الإقرار بحقيقة ذاتها وما تنطوي عليه من تنوع وتغير ، فتبادر إلى توسيع إطاراتها وتنظيماتها القانونية والمؤسسية كي تستوعب الوافدين الجدد إلى الحياة العامة. بينما ترفض المجتمعات الخاملة أو اليائسة الاعتراف بالجديد والتعارف معه حتى لو امتلأت الساحة بوجوده وفعله.
 عكاظ 6 فبراير 2008  العدد : 2425
https://www.okaz.com.sa/ampArticle/161781

مقالات ذات علاقة

02/01/2008

الدور الممكن للمثقفين في تعميم العلم



يمكن لمثقفي البلاد ان يلعبوا دورا فعالا في انعاش الحركة الفكرية وتعميقها. يستبطن هذا القول ادعاء بان هذه الحركة ما تزال دون المستوى المطلوب، وان دور المثقفين ما زال ادنى من قدراتهم الفعلية. ولعل الجميع يتفق معي على ان بوسعنا ان نفعل اكثر مما هو قائم، سواء على مستوى الكم أو الكيف.

على المستوى الكمي والافقي، ثمة شريحة واسعة من العلوم غير مطروقة اصلا في المجال العام. من ذلك مثلا الفلسفة بمختلف فروعها. فهي على ضرورتها للتفكير والبحث العلمي والثقافة في مختلف اشكالها وممارساتها، الا انها غائبة تماما عن مناقشاتنا وكتاباتنا. ولا تكاد تجدها الا في عدد قليل من المحاضرات الجامعية. وقد عبر الدكتور راشد المبارك في محاضرة له الاسبوع الماضي في القطيف عن شعور عميق بالحسرة لان احدا لا يهتم لهذا العلم، بل ان هناك من يمانع الحديث فيه ومناقشة قضاياه. من تلك العلوم ايضا، علم الاجتماع، وهو ايضا من العلوم الاساسية التي يتفرع عنها طائفة مهمة من العلوم مثل السياسة والتربية كما ان قضاياها وبحوثها تؤثر في شريحة واسعة من نشاطاتنا الحياتية من التنمية الاقتصادية الى العمران والادارة والتنظيم، الخ. ومثله ايضا علم القانون واهميته اوضح من اي بيان

نضيف الى العلوم الغائبة، تلك العلوم الحاضرة لكن في بعد واحد، منهجي أو اجتماعي أو تطبيقي. من ذلك مثلا الهندسة بمختلف تخصصاتها، فرغم امتلاكنا لعدد كبير نسبيا من الكليات الجامعية المتخصصة، ورغم العدد الكبير جدا من خريجي فروع الهندسة، اولئك الذين درسوا في المملكة أو خارجها، الا ان الانتاج العلمي في مختلف التخصصات الهندسية لا يزال ضئيلا جدا. يعرف حجم الانتاج العلمي من خلال الكتب والمقالات العلمية والمؤتمرات والنقاشات العلمية فضلا عن التطبيقات. بالرجوع الى الاحصاءات التي تنشرها هيئات عالمية متخصصة، فان نشاطنا في مختلف هذه الجوانب لا يزال في مستوى متدن جدا حتى بالقياس الى البلدان المجاورة مثل مصر وايران وباكستان

على المستوى الاجتماعي فان العلم ليس من موضوعات الاهتمام اليومي عند الاغلبية الساحقة من المواطنين. ويرجع هذا في ظني الى الفاصلة الاجتماعية الكبيرة بين النخبة العلمية والمثقفة وبين عامة الناس. اجد ان الغالبية الكبرى من اولادنا يستعملون الكمبيوتر ويقودون السيارة، لكنهم في المجمل يستعملونها كمنتج جاهز ونهائي، لا كموضوع للتجربة والاختبار. بعبارة اخرى فان تعاملهم مع العلوم ذو طابع استهلاكي في المجمل، وان معرفتهم بالتقنية لا تتجاوز استهلاكها ولا تصل الى انتاجها أو تعديلها أو تطويرها

في هذا الجانب والجوانب السابقة، تستطيع الحكومة فعل الكثير، لكن المسؤولية الكبرى تقع على المثقفين الافراد. بامكان هؤلاء ان يتنادوا الى عرض العلوم الغائبة أو المغيبة على الساحة، كي يجعلوها مألوفة لعامة الناس. كما ان بامكان حملة العلوم الطبيعية والهندسية فعل الشيء نفسه بطرح الجوانب التي تمس حياة الناس من تلك العلوم. في البلدان الغربية مثلا اصبحت قضايا مثل البيئة والتلوث والتنظيم العمراني وقضايا الاقتصاد والتمويل والطاقة، اصبحت مسائل متداولة ومفهومة حتى لطلبة المدارس، حين طرحها المتخصصون في اطارات بسيطة وقريبة من يوميات الناس وهمومهم المعيشية

يمكن للاعلام ان يلعب دورا هاما في ردم الفجوة التي تفصل العلماء والمتخصصين عن عامة الناس، واجد في تجربة التلفزيون البريطاني مثلا، دليلا قويا على جدوى هذا النوع من النشاط. ان معظم البرامج التي تسمى اجمالا بالوثائقية التي تعدها البي بي سي مثلا، تهدف اساسا الى توضيح قضايا علمية وتوصيلها الى عامة الناس. ووجدت ان وزارة التعليم البريطانية تمول وتدعم مثل هذه البرامج وتستعملها في مدارسها كاضافة الى برامج تعليم العلوم. خلاصة الكلام ان مبادرات المثقفين يمكن ان تسد جانبا من الفراغ المشهود في التداول الاجتماعي للثقافة والعلم ولعلها – من خلال ذلك - تسهم ايضا في استنقاذ الاعلام المحلي من حالة الهبوط والتكرار التي تغلب عليه، وهذا بذاته مطلب وحاجة.
عكاظ 2 يناير 2008  العدد : 2390
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080102/Con20080102163163.htm

19/09/2006

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي

|| المجتمع التقليدي يفرض على الافراد طريقة لبسهم ، فضلا عن معتقداتهم. بدعوى ان هذا عرف عام او مصلحة عامة.. الفرد هنا مكلف ، عليه واجبات والتزامات تجاه المجتمع ، وليس صاحب حق اصلي في اختيار طريقة عيشه||

حين تكون في مجتمع تقليدي يتجادل حول الحرية ، او حين تقرأ مقالة لكاتب تقليدي يتحدث عن الحرية ، فسوف تصادفك بالتاكيد عبارة "لا توجد حرية مطلقة ، لا بد من قيود على الحرية والا انقلبت فوضى وعبثا". او ربما تصادفك الفكرة ذاتها في عبارات اخرى ، مثل تلك التي تطالب بالضرب "بيد من حديد" على هذه الفرد او تلك الجماعة.
جمال عبد الناصر

تؤثر هذه الفكرة وامثالها في نفوس عامة الناس لانها تخيرهم بين نظام اجتماعي هاديء ، وبين فوضى واضطراب. والمتوقع بطبيعة الحال ان يميل اكثرية الناس ، لا سيما بالنظر الى خلفيتهم المحافظة ، الى الخيار الاول ، اي المجتمع المنضبط.

هناك بالتأكيد خيارات بديلة عن خيار الفوضى او خيار الانضباط ، وهناك ايضا معان وحدود للفوضى والانضباط ، غير تلك التي يعرضها علينا دعاة القيود والايدي الحديدية. لكن معظم الناس يغفلون هذه البدائل في اللحظة التي يعرض عليهم الاختيار ، كما يغفلون الارضية والاساس الاخلاقي الذي يبرر القبول بهذا او ذاك.

الضرب بيد من حديد ليس من الخيارات الاخلاقية على اي حال ، كما ان الفوضى ليست قدرا حين تغيب الايدي الحديدية. ومن المهم في ظني ان يبذل السياسيون المصلحون ودعاة الديمقراطية جهدا كبيرا في تأصيل مفهوم الحرية وتنسيجه ضمن ثقافتنا العامة.

نحن بحاجة الى جهد كبير لتاصيل مفهوم الحرية ، لان تقاليد الاستبداد والعبودية تستند الى جذور راسخة في ثقافتنا السائدة. كما تستند الى مصادر فلسفية ، كانت مجتمعاتنا عرضة لتاثيرها لزمن طويل ، ومن بينها نظريات دينية وماركسية واخرى متأثرة بالفلسفة اليونانية القديمة. فكرة الحرية في هذا المفهوم هي جزء من رؤية اشمل للحياة والانسان والدولة. وهي تنظر الى هوية الفرد كامتداد لهوية المجتمع اي كجزء من ماكنة كبيرة هي المجتمع وليس كيانا قائما بذاته .

 ومن هنا فان على الفرد ان يقبل بالتعريف الاجتماعي للقيم والمصالح والحق والباطل ، ويدير حياته على ضوء قوانين واعراف الجماعة.

اتخذ هذا المبدأ اساسا لما يعرف اليوم بالنظام الابوي والشمولي الذي يسمح للمجتمع والحكومة بالتدخل في جميع شؤون الفرد الخاصة والعامة ، وقسره على الالتزام بمرادات المجتمع بغض النظر عن رأيه الخاص.

وتظهر المشكلة بشكل اعمق حين تكون الحكومة متجبرة او ايديولوجية ، تستعمل القانون والموارد العامة في تطبيق وتعميم ايديولوجيتها كحال الحكومات الشيوعية السابقة ، التي حرمت الفرد من التملك ، لان الثروة شأن اجتماعي وليست حقا للافراد ، وفي الحكومات الدينية المعاصرة التي تفرض على الناس نوع لباسهم فضلا عن معتقداتهم ، وكذلك الحال في جميع الحكومات الديكتاتورية ، التي تلزم الناس بخطاب سياسي محدد وتعاقب من يتبنى غيره.

هذه الممارسات تتم تحت مبرر ان خيارات المجتمع هي وحدها الصحيحة ، وان مخالفتها كفر او تمرد او خيانة للجماعة. ينظر هؤلاء الى المجتمع كنظام عضوي جوهره هو الرابطة الاجتماعية ، وليس توافق الافراد او تعاقدهم. بعبارة اخرى فان هذا المفهوم ينظر للفرد كمكلف عليه واجبات والتزامات تجاه المجتمع ، وهو يحصل على حقوقه تبعا لوفائه بتلك الالتزامات ، وليس باعتبارها حقا اصليا ثابتا له لكونه انسانا او مواطنا.

لا يعلن هذا الاتجاه رفضه للحريات الفردية صراحة ، لكنه يقول من دون تحفظ ان الحرية ليست القيمة الاولى او العليا ، وان على الفرد ان يقبل بالتنازل عن حريته كي يعيش في سلام وانسجام. وكان المرحوم جمال عبد الناصر يقترح تأجيل الحريات الفردية والعامة الى ما بعد الانتصار على اسرائيل ، اي انه كان يرى قبول شعبه بالعبودية شرطا للانتصار على اسرائيل.

وليس بعيدا عنه ما اقترحه الرئيس السوري السابق حافظ الاسد ، بتاجيل الكلام عن الحريات العامة حتى وصول الدخل الفردي الى مستوى مواز لدخل المواطن الامريكي والاوربي ، لان الفقراء لا يستطيعون الاستفادة من الحرية ، او لان الحرية سوف تقيد قدرة الحكومة على التخطيط المناسب لتوزيع الثروة. بكلمة اخرى فهم ينصحوننا بالبقاء عبيدا لان هذا سيزيد من دخلنا ، ويتيح لنا الحصول على بيوت افضل ومعيشة اكثر رفاهية.

اظن ان مقاومة هذا المفهوم الاعوج للعلاقة بين الحرية والنظام ، هو جوهر فكرة الاصلاح السياسي التي ينبغي لنا جميعا ان نكافح في سبيلها. وبالنظر للتحول الذي تمر به مجتمعاتنا وهي تسعى للاقلاع من المرحلة التقليدية والانضمام الى تيار الحداثة ، فان معظم الصراعات الثقافية والسياسية تنبعث في حقيقة الامر من هذا الجدل ، فالافراد والقوى الحديثة بشكل عام ، يكافحون للحصول على اقرار قانوني واجتماعي بحقهم في الاختلاف ، بينما تسعى القوى المحافظة لفرض وحدة قسرية في الافكار والتطلعات والتعبيرات ، تظنها اكثر انسجاما مع التقاليد والاعراف السائدة.

يمكن بطبيعة الحال استنباط نظام اجتماعي ، يكفل قدرا مناسبا من الانضباط ، من دون ان يضحي بالحريات الفردية والعامة ، ونقول انه ممكن لانه قائم بالفعل في مجتمعات عديدة. وهو ما سنعود الى بيانه في مقال آخر.

 

   مقالات ذات علاقة

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها الق...

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تق...

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

الطريق الليبرالي 

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون 

الليبرالية ليست خيارا

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا

 

13/05/2006

العواجي وغباره وحرية رايه


تعقيب على مقالة «العواجي مثير الغبار» للاستاذ منصور النقيدان
اظن ان اخي الاستاذ منصور النقيدان قد ذهب بعيدا في نقد مسيرة الدكتور محسن العواجي وتحولاته. لم التق بشخص السيد العواجي، لكني اعرف انه يعبر عن راي شريحة معتبرة من المجتمع السعودي. قد نتفق مع قليل من ارائها ونختلف مع اكثرها، لكنها في نهاية المطاف جزء من الراي العام الذي ينبغي لكل صاحب قلم وكل داعية اصلاح ان يحترمه بغض النظر عن موقفه الخاص منه.
منصور النقيدان
لم يؤخذ العواجي بجناية تعيب صاحبها، بل براي توصل اليه عقله، وعبر في لحظته عن مشاعر اراد كثير من الناس التعبير عنها، فخانهم القلم او خانتهم الشجاعة او حال بينهم وبينها ضيق المسارب وانعدام القنوات. لا اتفق مع الاستاذ النقيدان ايضا في محاولته الايحاء بان العواجي قد تجاوز «حجمه» او خرج عن حده او حاول استغلال حادثة معينة او حوادث كي يرتدي عباءة حيكت لغيره. فالبديهي ان التطلع للمكانة الاجتماعية حق ثابت وطبيعي لكل فرد. خاصة اذا استعان بكفاءته ونشاطه في الوصول الى ذلك المكان ، ولم يركب اعناق الناس ، او يستثمر جهود غيره في الانفراد بما هو مشترك بينه وبينهم.
على ان المسألة في جوهرها لا تتعلق بالعواجي شخصيا، بل بحقه في التعبير عن رأيه، وحقه في التعبير عن مشاعر تلك الشريحة من المجتمع التي يمثلها او ينتمي اليها. ربما يعيب النقيدان على الرجل اسلوبه القاسي في التعبير عن هذا الراي، او بشكل عام اسلوبه في العمل السياسي، وربما يتفق كثير من الناس معه على هذا الجانب بالخصوص. لكن لا اظن احدا يشك في ان العواجي كان شجاعا في اعلان موقفه ، وهو يعلم انه قد جاوز او اوشك ما اعتبره غيره خطوطا سوداء وحمراء وصفراء.
في الوقت الذي نتفهم الحاجة الى احترام اعراف اخذ بها مجتمعنا لوقت طويل، فان الحاجة تدعو - بنفس القدر - الى مناقشة الحدود النهائية لهذه الاعراف، ولا سيما حين تتصادم مع حرية الناس في التفكير وفي التعبير عن افكارهم. البلد ملك لجميع اهله، وكل واحد من هؤلاء صاحب حق في تقرير حاضره ومستقبله، وكلهم صاحب حق في اظهار القلق اذا رآها تسير في طريق لا تؤمن نهايته.
عبر العواجي عن قلقه بطريقة سلمية. وكان الاولى ان يجاب على ذلك بمثله. في هذه الايام لا يعتبر انتقاد سياسات الدولة جريمة تستوجب العقاب. ولا يظن احد ان نقدها ، ولو كان بمثل القسوة التي اتبعها العواجي ، سوف يؤدي الى الاضرار بالامن العام والاستقرار. على العكس، فلعل التعبيرعن مشاعر القلق بهذه الصورة السلمية هو صمام امان يحول دون تحوله الى مغذ للمنازعة ومشاعر العدوان.
كان دور الدكتور غازي القصيبي وزير العمل ، هو محور مقالة العواجي التي اخذته الى السجن. ونعرف القصيبي شاعرا واديبا قبل ان يكون وزيرا. مر بالبلاد عشرات الوزراء لا يذكر الناس اسماءهم، لكن اسم القصيبي اشهر من نار على علم، ليس لوزارته بل لادبه وفكره وشعره. ولهذا السبب بالذات فان القصيبي المفكر مدعو الى السعي بكل ما لديه من وجاهة في الدولة وفي المجتمع ، لاطلاق سراح العواجي. ان خطوة مثل هذه ستزيد من مكانة القصيبي في النفوس، وهي ستخفف من حنق الناقمين عليه ، ممن عبر العواجي عن رايهم. وفوق ذلك فهي ستعطي مثالا على التسامي فوق جراح الذات ، اذا تعلق الامر بحرية الراي وحرية الفكر وحرية التعبير.
اخيرا فاني اناشد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، الذي كانت له مواقف سابقة في الحيلولة دون قمع اصحاب الراي، اناشده ان يجعل من حرية التعبير سنة في عهده. وان يشمل بعفوه السيد العواجي مثلما فعل بغيره من قبل. فالعواجي وكل صاحب راي في هذا البلد، هم راس مالها الثقافي ، وهم اعمدة استقرارها ، مهما اختلفت اراؤهم او تعارضت مع هذه السياسة او تلك.
  - 15 / 3 / 2006م 

01/07/2000

الحرية وحق الاختلاف في منظور الاسلاميين: عرض كتاب "الاسلام في ساحة السياسة"


عرض : ابراهيم محمد (كاتب تونسي) 
مجلة الكلمة
العدد (28) ـ السنة السابعة، صيف 2000م ـ 1421
الكتاب: الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق.
الكاتب: توفيق السيف
الناشر: دار الجديد ـ بيروت
الصفحات: 126 من القطع الوسط
سنة النشر: ط1، 2000م.

«الحرية حلية الإنسان وزينة المدنية، فيها تنمى القوى وتنطلق المواهب، وبصوبها تنبت فضائل الصدق والشجاعة والنصيحة بصراحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلاقح الأفكار وتورق أفنان العلوم» (1) .

لايكاد يختلف إثنان على امتداد وطننا العربي والإسلامي على تزايد أهمية «الحرية» في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية. ويذهب العديد إلى أن غيابها يعد السبب الرئيسي في تخلفنا وانحطاطنا. وأن خروجنا من هذه الحالة لايتأتى إلا إذا نسجنا من خيوطها (الحرية) نهجاً يوجه مآلات فعلنا الفردي والجماعي.

وقد تكثفت الدعوات للمطالبة بها، بعد تيقظ الوعي العربي والإسلامي على خطورة ما نسجته «الدولة الحديثة» في حياتنا من مظاهر الاستلاب والاستبداد. فإذا كان مشروع النهضة في بواكيره حدّد لنفسه أهدافاً يتجاوز بها حالة الانحطاط بالتخلص معاً من مظاهر الاستعمار المباشر ورواسب التخلّف في نسيجنا الاجتماعي المنسوب إلى مراحل سابقة من تاريخنا. فالمقاربات الراهنة استفاقت على أن مشاريع «التحديث» التي قامت بعد مرحلة الاستعمار المباشر، لم تحقق المنشود. بل في أحد مظاهرها «استنسخت» مراحل غابرة من تاريخنا وتاريخ المستعمِر.


وأصبحت مقولة الحرية من القواسم المشتركة الجامعة لكل الأطراف من ليبرالية وقومية وماركسية وإسلامية. وتوجه كل طرف للتنظير والإدعاء بكون «الحرية» هي مقوم أساسي من مقومات مشروعه، بل هي الفاعل الجوهري في بنيته النظرية ولاتفترق في هذا الإدعاء السلطة عن المعارضة. ولكن يبقى الإشكال العملي قائماً. فالممارسة اليومية هي المحك لصدقية الشعارت والدعوات. وقد حاول البعض التغلّب على هذه الإحراجات بتوظيف التاريخ في الدفاع عن صورته في الماضي ولكن دون أن يكون قادراً على سحب ذلك على الحاضر والمستقبل. الأمر الذي يستدعي مواجهة حقيقية وجرأة في الطرح. ونحسب أن مقاربة الأستاذ توفيق السيف (2) تتحرك في هذا الفضاء، إذ هي تهدف إلى تناول إشكالية الحرية من منظور الإسلاميين بعيداً عن تعظيم التاريخ أو تهوينه، ودون أن تكون مجنّحة في التنظير، إذ الهدف هو الكشف عن إمكانية التنزيل العملي للمشروع الإسلامي من خلال التأكيد على مطلب الحرية في واقعنا المعيش. محاولاً استكشاف مواطن الضعف والخلل في «منظور الإسلاميين» بعقلية المشارك والمنخرط في المشروع لا المنافح أو المشكك، الأمر الذي يعطي للمقاربة مصداقية نقدية تفتقد إليها كثير من كتابات الإسلاميين اليوم.
والمقاربة في اعتقادنا هي صورة جديدة لطموح الإسلاميين في المساهمة في تجديد الفكر السياسي العربي والإسلامي. وهو ما سنحاول تبيانه في قراءتنا السريعة لجديد الأستاذ توفيق السيف. مستجيبين لدعوة المؤلف الذي يدعونا لقراءة نصه «بعين الناقد لابعين المتلقي السريع الاستجابة، ليكون الحوار قائماً بين الكاتب والقارئ ولو عن بعد».
1ـ في العنوان والمنهجية:
يذكر الأستاذ توفيق السيف أن العنوان الذي اختاره في البدء لمصنفه هذا هو «نقد المشروع الإسلامي»، وتخلّى عنه بناء على نصيحة من زملائه، لأنه عنوان ملتبس، ربما يؤدي إلى سوء فهم أو بالأحرى سوء «استقبال». ولسنا هنا في وارد مصادرة حق المؤلف في تحديد العنوان الذي يراه ملائماً للكتاب وفق ما حدده من أهداف عند نشره. ولكن هناك ملاحظة جديرة بالذكر هو إن تغيير العنوان إما لاعتبارات تقنية أو جمالية أو علمية أو مادية أو نفسية لاشك أنه يشير إلى عقلية المصنّف وتأثير ذلك في الأفكار المُراد بثها في الكتاب. «فالحذر» الذي قاد الأستاذ توفيق السيف إلى تغيير عنوان كتابه لامسناه أيضاً في متن الكتاب. إذ اتسم في كثير من مسائله «بالتعميم» و«الحذر» وعدم الجرأة في التطرق لإشكاليات هي بأمس الحاجة إلى الطرح خاصة من الإسلاميين أنفسهم. ونحسب أن المتتبع بدقة للكتاب يشعر بوجل الكاتب الذي لايفصح عن نفسه إلا عند ذكر مسألة اختيار العنوان.
ولكن رغم ذلك نحسب أن هذا «الحذر» و«الوجل» ليسا بذميمة للكاتب إذا كان هدفه هو شيوع فكرة النقد في مجتمع لانقدي. فالتدرج ومراعاة المقام والحال ضرورة لابد منها لمن يروم بناء مشيداً. ونحسب أن العنوان الجديد اقرب إلى حقيقة ما يتضمنه الكتاب.
أما فيما يتعلق بالمنهجية المعتمدة فهي استقرائية، إذ عمد المؤلف إلى استقراء النصوص الدينية وتجربة الإمام علي في موضوعة حرية الرأي. ولانشك في قدرة هذه المنهجية في الوصول إلى تحديد الكلّي في الرؤية الإسلامية للمسألة المطروحة. وذلك من خلال المرور بجمع واستقراء الجزئيات التي ندعي بأن لها علاقة بالمسألة. والتي جمعت كما ذكرنا من بعض النصوص الدينية ومن أقوال الإمام علي. ولكن ما تجدر الإشارة إليه ان همّ الكاتب في هذه المقاربة ليس التنظير للحرية وتقديم مقاربة متكاملة. وهو ما لايدعيه. ولكن همّه تفكيك العقلية القائمة على مهمة التنظير للمشروع الإسلامي، وتبيان مظاهر الخلل فيها والتي تمثل عوائق ابستمولوجية في أسلوب عرض الإسلام والتي يمكن إجمالها في:

1ـ الخلط المنهجي في لاوعي الإسلاميين بين النص الديني ومشاريع قراءته.
2ـ الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل.
3ـ قيمة العيب وتحكمها في العقلية الإسلامية.
4ـ قلق الفتنة وتأثيرها في الحراك السياسي الداخلي والخارجي.

وبقدر ما ركز الأستاذ توفيق السيف على إبراز العوائق الابستمولوجية بقدر ما غيّب الحديث عن المعوقات السوسيولوجية التي لاينكر أحدٌ أهميتها ودورها فيما تشهده الساحة الإسلامية من مظاهر الخلل.
«فالعقلية التعميمية» التي تسيطر على الذهنية الإسلامية من الأكيد أن لها أسباب تاريخية ـ سوسيولوجية تتجاوز مشاريع القراءات المختلفة للنص والتاريخ وهو ما سنحاول الاتيان عليه في إبانه.

2ـ الإسلام وحق الاختلاف:
بنى المؤلف رؤيته لحق الاختلاف في الإسلام على مجموعة أدلة مباشرة وغير مباشرة في محاولة لفك الارتباط بين معنى «التعدد» ومعنى «الخلاف في الدين وشق عصا المسلمين». وذلك بغية إلغاء هذا الفهم الملتبس في ذهن المسلم والذي يرجعه الكاتب إلى «حرمان المسلمين لقرون طويلة من ممارسة الحرية والجمود في فهم النص القرآني والتفسيرات الخاطئة، المقصودة أحياناً والعفوية أحياناً أخرى». وللحقيقة أن الفكرة المستهدَفَة (فتح الدال وفتح الفاء) هي فكرة خطيرة وهي سائدة بين الإسلاميين والتي مفادها كما يقول د. صالح كركر «أن كل تجديد وتغيير للمألوف يمثل تهديداً لسلامة الدين، ودساً من الأعداء ضده، وذلك على أساس قاعدة خاطئة مفادها أن كل مخالف لنا هو خصمنا، ومن هو كذلك فهو عدو لنا وعدو للإسلام، فاسق عنه!» (3) . ويرجع د. كركر سبب سيادة هذه الأفكار والتعميم في الفهم والعرض إلى «أن الحركة الإسلامية لم تسلك مسلكاً يكوّن لدى أفراد مجتمعاتها «العقلية المجهرية» ويزيح الستار على ملكات العقول الإبداعية، وبقيت بسبب التقليد متأخرة عن دورة الزمن تجتر خطاب التراث التعميمي، فبقي خطابها تعميمياً غير قادر على تقديم البديل العملي والمميز» (4) .

ونعود إلى الأدلة التي اعتمدها الكاتب في تأكيده على مشروعية الاختلاف في الإسلام. وقد بدأ حديثه بالأدلة غير المباشرة أي غير النصية والتي هي:
1ـ التفريق بين الدين والمعارف الدينية.
2ـ اعتبار التخطئة في الاجتهاد.
3ـ أدلة الشورى.
4ـ فردية التكليف والاختيار.
5ـ أدلة الاجتهاد، وكما يرى الكاتب أن «الاجتهاد ليس في حقيقته سوى استخدام المجتهد لحقه في مخالفة رأي الغير».
أما الأدلة المباشرة أي النقلية والمستمدة مباشرة من القرآن الكريم فقد اقتصر المؤلف على إبراز النصوص الدالة على المعاني المقصودة من خلال التمثيل بثلاثة سياقات للآيات القرآنية:
1ـ تشنيع القرآن على الذين رفضوا الدعوة الربانية تقليداً لآبائهم.
2ـ تجهيز الخالق تعالى للإنسان بالوسائل التي تمكنه من حرية الاختيار.
3ـ منع إكراه الغير على ما لايريد.
ونقدر بأن المؤلف أفلح في إبراز شرعية الاختلاف عقلياً ونقلياً. ولكن كان مروره سريعاً، خاصة وأن الاستدلال النصي يستدعي استدلالاً نصياً معارضاً له، الأمر الذي يدعو إلى تقديم مقاربة نقدية للمنهجية النصوصية (5) التي يعتمدها الطرف السلفي، وللمنهجية الإسقاطية التي يتبناها بعض «التحديثيين»، والأمر يدعو إلى إبراز منهجية بديلة، وهو ما يتوجه إليه المؤلف ولكن من الواضح أن عقبات حالت دون تحقيق ذلك.

3ـ الخلل في أسلوب عرض الإسلام:
كنا أشرنا سابقاً أن الكاتب حاول إبراز مجموعة العوائق الابستمولوجية في هذا العرض والتي يتطلب تجاوزها. وهي مطالب أساسية في عمليتي العرض والتطبيق للمشروع الإسلامي في ساحة العمل السياسي العام. فوحدانية الصورة بين النص وقراءته تمثل أولى العوائق. وقد أكد العديد على خطورة هذه المسألة، ونحسب أن الوعي الإسلامي اليوم بدأ يتجه وبشكل واضح وملموس إلى الإقرار بتعدد القراءات. وإن كانت عقلية نشر الضوابط هي المهيمنة في هذا المجال. ولكن في اعتقادنا هي صورة أولية لتجاوز حالة التردد والخوف على الذات من الآخر.
أما الإصرار على الشعار العام وترك التفصيل فيعود إلى التباس في الوعي بين التفصيل في تقديم المشروع الإسلامي والابتداع في الإسلام. فالبقاء في مرحلة الشعار يحقق الوحدة والكفيل بعدم السقوط في البدعة!

فالمرحلة الأولى تحافظ على طهارة وقداسة الإسلام وبالتالي على قوة الخطاب الإسلامي في مواجهة بقية الخطابات العلمانية. بينما المرحلة الثانية تجعلهم في نفس المرتبة وهو ما يفقدهم الكثير في صراعهم. وإن كان د. صالح كركر يرجع ذلك إلى غياب «العقلية المجهرية» وجمود الذهنية الجماعية ولكن لاشك أن الاعتبارات البسيكولوجية والسوسيولوجية لها دور لاينكر. ولايمكن تقديم تفسير موضوعي لهذه المسألة دون اعتمادها مع بقية الاعتبارات. ونحسب أن الاعتبارات النفسية والاجتماعية والتاريخية لم تغب كلياً عن التحليل إذ حديث الكاتب عن «قيمة العيب» و«قلق الفتنة» يصب في جوهر المسألة. ففهم آلية النقد وماهيته عند الإسلاميين خطوة ضرورة للكشف عن العقلية التي تقف خلفه والأمر يستدعي هنا تناول العديد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بعملية النقد بالتحليل والتفكيك والتي تعج بها الثقافة الشعبية والتي للأسف الشديد لاتزال تأسر الوعي الإسلامي والعربي عموماً. وبما أننا نؤكد على المجال السياسي أكثر من غيره فتجدر الإشارة إلى ضرورة إعادة قراءة مدونات السياسة الشرعية والآداب السلطانية، لأن باكتشاف بعض مفاعيلها في العقل العربي والإسلامي اليوم يمكن تجاوز الكثير من السلبيات التي تعج بها حياتنا. وللحقيقة يعد كتاب د. كمال عبد اللطيف الأخير من أفضل ما نُشر في هذا المجال. وكما لاحظ د. عبد اللطيف أنه في «أغلب الدول العربية الإسلامية لاتزال علاقة الحاكمين بالمحكومين تتم بتوسط لغة الآداب السلطانية» (6) ، خاصة وأن الكتابة السياسية في نظام الآداب السلطانية: «كتابة تنتصر لتدابير واختيارات السلطة السائدة، وتحذر العامة من مغبة نقد السلطة أو الخروج عليها. كما تنشر أخلاق الطاعة والصبر، بحجة المحافظة على النظام، والتغلب على أزمنة الفتن التي تزهق فيها الأرواح، وتُمتحن فيها الرسالة التي تحملها الأمة وترعاها السلطة» (7) .
وهذه الكتابة هي المَعين الأساسي للفكر السياسي الإسلامي المعاصر. لذلك فإعادة قراءة الآداب السلطانية مهمة آنية لاغنى للمتتبع للفكر الإسلامي المعاصر من إنجازها، ودون ذلك لايستطيع فهم الكثير مما يروج في هذه الساحة.
تبقى مسألة أخيرة لابد من الاتيان عليها والتي حظيت في تقديرنا بالتحليل القيم من طرف الأستاذ توفيق السيف، وهي مسألة التكفير والتي يعتبرها في صورتها الحديثة «هي انعكاس لضيق إطارات التعبير عن الذات، أو اليأس من تحقيق الأهداف بالطرق السلمية، أو القلق من العجز عن الجدل المفتوح»، ولكن لابأس هنا من إضافة بعض الأسباب الدافعة لظهور هذه الموجة والتي أجملها د. رضوان السيد في (8) :

1ـ القلق الشديد على الهوية ورموزها من الحداثة العصرية اللادينية.
2ـ سرعة تحول أولئك الإسلاميين إلى الحزبية والسرعة النسبية لتبلور الإسلام السياسي.
3ـ الصراع على المرجعية.

بينما يرى د. صالح كركر بأن كثيراً من الخلل القائم في تصورات الإسلاميين يعود إلى عاملين أساسيين:
1ـ التنظيم الذي هو للتنفيذ لا للتفكير والبحث والتنظير.
2ـ الصفة السياسية والحزبية.
وفي هذه الأخيرة يقول كركر: «والحزبية على أساس الصفة الإسلامية قسّمت أفراد نفس المجتمع المسلم بين إسلامي وغير إسلامي، ولا يخفى ما لهذه الإزدواجية من سلبيات شديدة الخطورة. فقد قسمت المجتمع إلى فريقين وعمقت الهوة وجذرت القطيعة بينهما في وقت تجد فيه مجتمعانا نفسها فيýأشد الحاجة إلى رص الصفوف ولمّ الشتات وتوحيد الأرضية الفكرية التي تقوم عليها. وقد ساهمت هذه الحزبية في مزيد عزل غير الإسلاميين عن الإسلام وفي مزيد تشنّج النخبة المثقفة العلمانية ضد الإسلام وفي مزيد البعد عنه ومعاداته» (9) .

وتبقى الأسئلة التي تثيرها مقاربة الأستاذ توفيق السيف مفتوحة وتبقى الحاجة إلى إعادة قراءته ومعاودتها ضرورة ملحة.

* كاتب من تونس.

الهوامش:
1)ـ ابن عاشور، محمد الطاهر، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، تونس، الشركة التونسية للتوزيع. د. ت. ص170.
2)ـ السيف، توفيق، الإسلام في ساحة السياسة.. متطلبات العرض والتطبيق، بيروت، دار الجديد، ط1، 2000، ص126.
3)ـ كركر، صالح، الحركة الإسلامية وإشكاليات النهضة، فرنسا، 1998، ص19.
4)ـ المصدر نفسه، ص16.
5)ـ في هذه المسألة انظر، صافي، لؤي، إعمال العقل، دمشق، دار الفكر، ط1، 1998، خاصة الفصل الثالث من الباب الثاني.
6)ـ عبد اللطيف، كمال، في تشريح أصول الاستبداد، بيروت، دار الطليعة، ط1، 1999م، ص270.
7)ـ المصدر نفسه، ص266ـ267.
8)ـ السيد، رضوان، قراءة النص وتوظيفاته السياسية والثقافية (1)، في «السفير» يوم 7/10/99، ص19.
9)ـ كركر، صالح، مصدر سابق، ص22.

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...