‏إظهار الرسائل ذات التسميات الهوية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الهوية. إظهار كافة الرسائل

01/08/2010

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم


   تتشكل هوية الأفراد، طبقا لاريك اريكسون الذي يعتبر مرجعا في هذا الحقل، خلال كفاح طويل هدفه تركيب عنصرين:
 أ) الكفاءة الفردية التي يتحدد معناها وتطبيقاتها على ضوء العرف السائد في المحيط الاجتماعي.

ب) حاجة الفرد للاندماج في عالم ذي معنى، أي محيط تعارف مناسب يقدر وجود الفرد وقيمته ودوره. يصوغ الفرد شخصيته وطريقة عيشه على نحو يجعله مألوفا ومقبولا في محيطه الاجتماعي. حين يولد الفرد وسط جماعة محددة، فإن موقفها العام وموقف الآخرين منها يصبح جزءا من هويته، حيث تعمق الصراعات ميل الفرد للاندماج في جماعته الخاصة، كوسيلة لتوفير الأمان الروحي والثقافي.
اريك اريكسون
 طبقا لأمين معلوف فإننا «غالبا ما نتعرف إلى أنفسنا في الانتماء الأكثر عرضة للتهجم».. الأصل الإفريقي يمثل رابطة بين السود في الولايات المتحدة، والانتماء إلى الإسلام يمثل رابطة تجمع بين الألبان في صربيا. العامل المحوري في تشكيل الهوية الفرعية، سواء كان دينا أو مذهبا أو لغة أو عرقا أو لونا، يمثل رمز التعريف للجماعة وجوهر الرابطة التي تجمع أفرادها.
يبرز تمايز الجماعة عن غيرها عندما يشار إلى الرابطة الجمعية أو العامل المشترك بين أفرادها «مثل المذهب أو الجنس أو الانتماء الأثني» كمبرر لموقف مضاد. وتتحول تلك الرابطة إلى عامل تصليب وتوحيد حين تتعرض الجماعة للقمع أو الإذلال أو التهديد. ويرى اريكسون أن الامتهان يولد ميلا شديدا عند الأفراد لصياغة هوية جمعية جوهرها الشعور بالتمايز، وربما العداوة مع الطرف الذي يمارس الامتهان.
ينطلق الامتهان من دوافع سياسية، حتى لو حمل مبررات أخرى، ويستهدف غالبا تبرير الهيمنة. وهو يبدأ بما يصفه اريكسون بالتصنيف الزائف الذي يغفل الكفاءة والفروق الفردية، ويعطي لجميع المنتمين إلى شريحة محددة وصفا واحدا، قد يكون بذاته محايدا، لكنه ينطوي على تنميط سلبي في أذهان الآخرين مثل القول بأن «المرأة عورة» أو «السود متخلفون»، وهو تنميط يؤدي بالضرورة إلى تسويغ العدوان على تلك الشريحة أو انتقاص حقوقها:
حين نقرر انتقاص ذلك الآخر، أي الفرد الذي يقع في رأينا في الموضع الخطأ أو الصنف الخطأ أو اللباس  ، فإننا نهون قدره، ونخرجه من دائرة التعامل الأخلاقي، فنتساهل في عيبه وذمه، ويصبح من ثم هدفا محتملا لنوازع العداون في نفوسنا، ولا نتردد في خرق إنسانيته، بل حتى حياته نفسها..
رد فعل الجماعة التي تتعرض للامتهان سوف يتراوح بين الميل للاستسلام والتخلي عن ذلك العامل الذي يميزها عن الآخرين، وصولا إلى الذوبان في الجماعة الأكبر، وبين تحويله إلى رمز للمقاومة، بالإصرار عليه وأحيانا المبالغة في تضخيم قيمته، حتى يتحول إلى محور رئيس للحياة اليومية أو مضمون لشريحة واسعة من النشاطات الحيوية للجماعة.
فهم هوية الآخر المختلف واحترامها هو المفتاح لعلاقة طبيعية تحكمها المثل الأخلاقية ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات. جميع الذين نتعرف عليهم أو نتصل بهم في حياتنا اليومية مختلفون عنا بشكل أو بآخر. ويميل الإنسان بشكل طبيعي إلى تحديد نمط علاقة بينه وبين هؤلاء الناس، تبدأ عادة بتصنيف ذلك الفرد، أي تحديد هويته وتحديد الخطوط التي تصله به أو المسافة التي تفصله عنه. وفي هذه النقطة بالذات تبرز الحاجة إلى تصنيف الفرد ضمن الطيف الاجتماعي الذي ينتمي إليه، سواء كان قبيلة أو دينا أو منطقة أو بلدا أو تيارا اجتماعيا أو ثقافيا أو اتجاها مذهبيا أو ايديولوجيا.
التصنيف الصحيح والمنصف هو الذي ينظر إلى الفرد بذاته، أي صفاته الشخصية وكفاءته ودوره الفعلي. والتصنيف الخطأ أو الظالم هو الذي ينتهي إلى تحديد موقف من الفرد طبقا لنظرة «نمطية» للإطار الاجتماعي الذي ينتمي إليه. ينطلق التصنيف السلبي من صورة ذهنية نمطية نحملها عن الآخرين كمجموعات لا كأفراد. هذا التصوير النمطي هو الذي يجعل مواقفنا منحازة ومتشددة، وهو الذي يجعلنا عاجزين عن فهم العالم كما هو.
- « صحيفة عكاظ » الأحد / 20 / شعبان / 1431 هـ  1 أغسطس 2010 
https://www.okaz.com.sa/article/346600

20/04/2009

تكون الهوية الفردية




نظرية اريك اريكسون حول تكون الهوية الفردية هي واحدة من أعمق المساهمات في هذا الموضوع. وقد توصل إليها من خلال بحوث إكلينيكية طالت ثلاثة عقود. والحقيقة أن اريكسون يمثل بذاته نموذجا للدراسة فقد حملته ظروفه من بلد إلى آخر وعاش في عائلة متنوعة قوميا، وعاصر صراعات أوروبا زمن الحرب وما بعدها. ولهذا كانت حياته موضوعا لدراسة مسارات التفاعل بين الفرد ومحيطه، في كل مرحلة من مراحلة حياته.
اريك اريكسون (1902-1994)
عالج اريكسون مسألة الهوية من زاوية سيكولوجية بحتة. النقطة المركزية في نظرية اريكسون هي أن الهوية لا تتشكل بتأثير المحيط الاجتماعي فقط، وبالتالي فقد شكك في النظريات التي تفترض إمكانية خلق هويات صناعية جديدة تماما عبر جهد مخطط. كما شكك في الرؤية الفردانية القائلة بأن الفرد قادر على فصل نفسه عن المحيط واختلاق هوية جديدة مستقلة تماما.
طبقا لأريكسون فإن هوية الفرد تتشكل خلال كفاح طويل يبدأ في مرحلة المراهقة، ويتركز على تركيب عنصرين: أولهما هو اكتساب القدرة على الإنتاج والعلاقة مع المحيط، وثانيهما هو الإحساس بالاندماج في عالم معنوي مناسب.
العنصر الأول ضروري لأن الفرد يحتاج إلى تعريف نفسه للمجتمع المحيط به. حين يسألنا الناس من نحن، فإنهم لا يقصدون عادة الاسم الذي نحمله، بل موقعنا في شبكة العلاقات الاجتماعية، أي الدائرة الصغيرة التي ننتمي إليها ضمن الدائرة الاجتماعية الكبرى، والوظيفة التي نقوم بها ضمن هذه الدائرة. ولذلك لا يكتفي الفرد بذكر اسمه الأول بل يضيف اليه اسم العائلة، ثم يلحقه بما يفترض أنه تعريف وظيفي، يشير إلى المهنة أو الهواية أو المكانة. حين يعرف الإنسان نفسه فإنه يقدم وصفا يتوقع قبوله من جانب المحيط، كتمهيد للاندماج فيه. وهذا يقودنا إلى العنصر الثاني وهو حاجة الفرد إلى عالم ذي معنى يتيح له التمتع بقدراته والحصول على المكافأة المناسبة ازاء ما يفعل.
يمكن للإنسان أن يعيش منعزلا، لكنه لن يتمتع بحياته. ولهذا يسعى جميع الناس إلى مد جسور العلاقة مع جماعة ما. لأن الجانب الأعظم من متعة الحياة، أو السعادة، إنما يتحقق في ظرف التفاعل بين الفرد والآخرين. لا يستطيع الفرد الشعور بالسعادة إذا كان منعزلا. بقدر ما يتسع المحيط الذي يتفاعل معه الفرد، تتعاظم سعادته واستمتاعه بحياته. ومن هنا قيل بأن من يستغني عن الناس يفقد الشعور بجمال الحياة، لأنه في حقيقة الأمر يفقد الحاجة إلى التحدي اليومي الذي يفرضه التفاعل المادي والمعنوي بين الفرد ومحيطه. الحاجة للاندماج هي التي تفرض على الفرد نمطا من الخيارات والأوصاف الشخصية قد لا تكون بالضرورة الأفضل عنده، لكنها ضرورية لشق طريقه وسط الجماعة.
من ناحية اخرى فإن الجماعات قد تتفاوت في قابليتها لاندماج الأفراد الجدد. بمعنى أنها قد تضع شروطا عسيرة أو تفرض على الفرد التخلي عن خياراته الخاصة مقابل التمتع بفضائل العيش الاجتماعي، أو أنها ببساطة ترفض اندماج أي فرد جديد ما لم يكن متماثلا بالكامل معها. ويشير كثير من الباحثين إلى أن المجتمعات القروية تتسم عادة بعسر في هذا الجانب، بينما تتسم المجتمعات المدينية بليونة اكبر في التعامل مع الأفراد الجدد. ويذكر الأستاذ سعيد الغامدي في دراسته الفريدة «البناء القبلي والتحضر» مثالا عن الطريقة التي عومل بها وافدون جدد إلى مجتمع قروي لم يسبق أن عاش فيها «أجنبي». وقد جرت تلك الأحداث في ظرف الانتقال من اقتصاد الكفاف الزراعي إلى الاقتصاد النقدي الذي فرض انفتاحا وانتقالا لبعض أنماط الحياة المدينية إلى الريف.
يوفر البحث في مسالة الهوية فرصا كبيرة لفهم العلاقة بين أطياف المجتمع والشرائح التي يمثل كل منها نمطا حياتيا أو ثقافيا مختلفا. وهي قد تشكل مدخلا ضروريا لتخطيط النظام الاجتماعي والتربية على نحو يسهل الاندماج والتفاعل وإقامة الوحدة على قاعدة التنوع، بدل الربط المتكلف بين الوحدة والتماثل.

عكاظ 20 ابريل 2009
https://www.okaz.com.sa/article/257214

06/04/2009

عن الهوية والمجتمع



كتب الزميل داود الشريان شاكيا من تفاقم المشاعر القبلية والطائفية وتحولها إلى محرك للحياة الاجتماعية. وكان هذا الموضوع مدار مناقشات كثيرة في السنوات الأخيرة. وكتب زميلنا أحمد عايل في منتصف يناير الماضي داعيا إلى الاهتمام بقيمة الفرد كوسيلة وحيدة لمعالجة المشاعر التي تستوحي هويات دون الهوية الوطنية.

النقاشات العلمية في علاقة الهوية بالواقع الاجتماعي ليست قديمة. فأبرزها يرجع إلى أواخر القرن المنصرم. وبرزت خصوصا بعد ما وصف بانفجار الهوية في الاتحاد السوفيتي السابق.

 ثمة اتجاهان رئيسيان في مناقشة الموضوع، يعالج الأول مسألة الهوية في إطار مدرسة التحليل النفسي التي أسسها سيغموند فرويد، ويركز على العلاقة التفاعلية بين النمو الجسدي والتطور النفسي. بينما يعالجها الثاني في إطار سوسيولوجي يتناول انتقال الثقافة والقيم الاجتماعية إلى الفرد من خلال التربية والمعايشة. كلا الاتجاهين يهتم بدور المجتمع في تشكيل هوية الفرد، من خلال الفعل العكسي، أو الاعتراف بالرغبة الفردية كما في الاتجاه الأول، أو من خلال التشكيل الأولي لشخصية الطفل – المراهق عبر الأدوات الثقافية، كما في الاتجاه الثاني.

هوية الفرد هي جزء من تكوينه النفسي والذهني. وهي الأداة التي تمكن الإنسان من تعريف نفسه والتواصل مع محيطه. إنها نظير للبروتوكول الذي يستعمله الكمبيوتر كي يتعرف على أجزائه وما يتصل به من أجهزة. ولهذا يستحيل إلغاؤها أو نقضها، مثلما يستحيل إلغاء روح الإنسان وعقله. إلغاء الهوية أو إنكارها لن يزيلها من روح الإنسان بل سيدفع بها إلى الاختفاء في أعماقه. وفي وقت لاحق سوف يؤدي هذا التطور إلى ما يعرف بالاغتراب، أي انفصال الفرد روحيا عن محيطه، وانتقاله من الحياة الاعتيادية التي يتناغم فيها الخاص مع العام، إلى حياة مزدوجة، حيث يتعايش مع الناس على النحو المطلوب منه، بينما يعيش حياته الخاصة على نحو متناقض تماما مع الأول، بل رافض أو معاد له في معظم الأحيان.

الهوية الشخصية هي الوصف الذي يرثه الفرد من الجماعة الصغيرة التي ولد فيها، والتي قد تكون قبيلة أو طائفة أو عرقا أو قومية أو قرية أو عائلة أو طبقة اجتماعية. وحين يشب الطفل يبدأ في استيعاب هويات أخرى، أبرزها الهوية الوطنية، كما يطور هوية فردية غير شخصية ترتبط بالمهنة أو الهواية، وفي مرحلة لاحقة يطور هوية أخرى يمكن وصفها بالاجتماعية وتتعلق خصوصا بالمكانة التي يحتلها في المجتمع أو الوصف الذي يقدمه مع اسمه.

لكل فرد -إذن- هويات متعددة، موروثة ومكتسبة. يشير بعضها إلى شخص الفرد، ويشير الآخر إلى نشاطه الحياتي، بينما يشير الثالث إلى طبيعة العلاقة التي تربطه مع المحيط العام، الاوسع من حدود العائلة. يمكن لهذه الهويات أن تتداخل وتتعاضد، ويمكن لها أن تتعارض. في حالات خاصة يخترع الفرد تعارضا بين هوياته. لاحظنا مثلا افرادا يتحدثون عن تعارض بين هويتهم الدينية وهويتهم الوطنية أو القبلية. وقد يقررون – بناء عليه – التنكر لاحداها أو تخفيض مرتبتها، بحيث لا تعود مرجعا لتنظيم العلاقة بينه وبين الغير الذي يشاركه الهوية ذاتها.

لكن المجتمع هو المنتج لأكثر حالات الالتباس بين الهويات الفردية. في تجربة الاتحاد السوفيتي السابق مثلا، جرى إجبار المواطنين على التنكر لهوياتهم القومية والدينية والالتزام بالهوية السوفيتية في التعبير عن الذات. وفي تركيا الأتاتوركية أطلقت الدولة على الأقلية الكردية اسم «أتراك الجبل» ومنع التعليم باللغة الكردية أو استخدامها للحديث في المحافل العامة أو دوائر الدولة.

 وفي كلا المثالين، وجدنا أن النتيجة هي تحول الهوية القومية إلى عنصر تضاد مع الهوية العامة. ولهذا يركز الأكاديميون اليوم على دور الهوية في تحديد مؤثرات الحراك الاجتماعي.. مسألة الهوية لا تعالج بالوعظ الأخلاقي، بل تحتاج في الدرجة الأولى إلى فهم معمق للتنوع القائم في كل قطر وكيفية تأثيره على المجتمع، ثم التعامل معه بمنظور الاستيعاب والتنظيم.
عكاظ 6 ابريل 2009

29/11/2007

حول الهوية الجامعة والهويات الفرعية ومفهوم الوطن


مهرجانات "مزايين الابل" وما قيل فيها وعلى حواشيها اعادت احياء النقاش القديم/ الجديد حول التنوع الاجتماعي وعلاقته بالهوية الوطنية، فكتب الاستاذ عبد المحسن الماضي في "الجزيرة" حول العلاقة بين القبيلة والدولة، وكتب الاستاذ جبرين الجبرين حول المسألة ذاتها في "الوطن" وكتب عنها زميلنا الانيق العبارة احمد فقيهي في "عكاظ".
واتفق الجميع – وكتاب اخرون من قبل – على الحاجة الى احتواء الهويات الفرعية، ومنها القبلية في الاطار الاوسع للهوية الوطنية. وركز الاستاذ الماضي على اهمية دور الدولة في ردم الفجوات التي تفصل بين الاطياف الثقافية والجماعات التي يتشكل منها المجتمع، من خلال ترسيخ قيمة المواطنة المتساوية.
ولعل بعض القراء قد التفتوا الى الروح الجديدة التي تسود هذه المعالجات، مقارنة بتلك التي شهدناها حينما اثيرت المسألة ذاتها قبل عامين. اتسمت معالجات المرحلة الماضية بقدر ملحوظ من الضيق بالتعدد ورغبة مبطنة في التخلص منه او تهميشه، مع دعوة اخلاقية الى الاعتراف بالمختلف ومعاملته بالتي هي احسن.

اما كتابات اليوم فهي تنظر الى التعدد كتجسيد للحالة الطبيعية للمجتمع. وهي تتحدث صراحة عن هوية وطنية تحترم الهويات الفرعية، سواء كانت مناطقية او قبلية او طائفية، وتجمعها تحت سقف واحد يتسع للجميع ولا ينفي احدا.  كما انها – من ناحية اخرى – تقرر مسؤولية الدولة عن تعزيز الهوية الوطنية الواحدة كاطار جامع، خلافا لبعض ما كان يطرح قبل عامين، من تحميل المجتمع وحده مسؤولية التخلص من اعباء تاريخه.
هذه المعالجات المتطورة دليل على ان النقاش العلني للمسائل الوطنية العامة هو الطريق الى عقلنة الاراء وتعميقها والاقتراب من الجوهر، بدل التحويم حول الحقيقة او الاكتفاء بالاعتذار عن الاخطاء او تبرير القصور ثم الخروج بدعوات محض اخلاقية تعوم المسؤولية بين جميع الناس حتى لا يشك احد في احتمال كونه بين المعنيين او المسؤولين.
نحن بحاجة الى المزيد من النقاشات حول المسائل التي تشكل خلفية فلسفية او مفهومية للاجماع الوطني. ولعل اولى المسائل الجديرة بالنقاش هي وجوه العلاقة بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية الجامعة. وقد سبق ان اقترحت في هذه الجريدة فكرة "شراكة التراب" كقاعدة مفهومية للبحث في تلك المسألة.
والفكرة باختصار هي ان كل مواطن شريك في كل ذرة من تراب الوطن، وان مجموع المواطنين مالكون لمجموع البلد ملكية اصلية غير قابلة للنزع او التنازل. واضيف على ما سبق ان تلك الملكية هي مصدر جميع الحقوق الثابتة لكل مواطن بمفرده ولمجموع المواطنين في مجموع الامور العامة. وهي ملكية سابقة لقيام القانون، وعندئذ فان القانون لا يوجدها بل يحميها وينظمها.
جدير بالذكر ان فقهاء المسلمين لم يتعرضوا لمفهوم الوطن في معناه الثقافي والقانوني الذي نعرفه اليوم، لكنهم ناقشوا الحقوق المرتبطة بالموارد العامة في بحوثهم حول الخراج بانواعه. والخراج هو التسمية القديمة للاملاك العامة، اي كل  ما لم يتملكه الناس بالعمران او الشراء او سواه من وسائل التملك.

ويشمل جميع المشتركات مثل الاراضي البائرة والبحر وما فيه، والثروات التي في باطن الارض، والغابات والجبال والانهر والمراعي.. الخ. وذهب كثير من الفقهاء الى ان هذه الموارد عائدة لمجموع المسلمين، لاجيالهم الحاضرة ومن ياتي بعدها، وان الحاكم الشرعي مكلف بادارتها والتصرف فيها نيابة عن مجموع اهل البلد ولمصلحتهم فقط، تصرفا يوصل اليهم جميعا اكبر قدر ممكن من المنفعة.

هذا التصوير، رغم سبقه لظهور فكرة الوطن، ولا سيما في صيغته الحديثة، هو نفسه الذي توصلت اليه الفلسفة السياسية الاوربية في القرن السابع عشر وما بعده، كما نراها في فكرة الكومنولث (وهي المعادل اللغوي لمفهوم الموارد المشتركة)، التي صاغها الفيلسوف الانكليزي جون لوك واصبحت قاعدة لمفهوم الوطن القومي الذي نعرفه اليوم.

اظن ان الانطلاق من هذه القاعدة في مناقشة العلاقة بين الاجزاء المكونة للمجتمع الوطني، وكذلك في مناقشة العلاقة بين المجتمع والدولة، سوف تسهم في تفكيك العديد من النقاط الاشكالية، ولا سيما في تحديد مكان الفرد باعتباره "مواطنا قائما بذاته" لا عضوا في قبيلة او طائفة او منطقة.

من ناحية اخرى فان المفهوم يحدد علاقة تفاعلية بين الوطن والمواطن. يحصل المواطن على حقوق معلومة مصدرها شراكته في ملكية، وفي المقابل فهو شريك في تحمل مسؤولية بلده، شريك في بنائه وادارته وحتى الموت من اجله.
اخيرا فانه يؤسس لفكرة المساواة القانونية، لا كدعوة اخلاقية محضة، بل ايضا كاداة عقلائية لتنظيم العلاقة بين المالكين على ارضية المعروف والانصاف.
 29 / 11 / 2007م  

مقالات ذات صلة

 

 انهيار الاجماع القديم

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

شراكة التراب وجدل المذاهب

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

وطن الكتب القديمة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

حول الهوية الجامعة والهويات الفرعية ومفهوم الوطن

حول الهوية الوطنية والهويات الفرعية وتعارضاتها

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

27/09/2005

الخروج من قفص التاريخ


بداية الحداثة هي العودة الى الذات . ليست الذات الاسيرة في التاريخ الغابر وليست الذات المشدودة الى عالم خيالي لا يمكن ايجاده على الارض . بل الذات الحاضرة بما فيها وما يحيط بها وما تستطيع فعله وما تعجز عنه. نحن لا نستطيع استعادة مجدنا الغابر لان وظيفته الحياتية انتهت ، ولا نستطيع اقامة المدينة الفاضلة التي تخيلها الفلاسفة المثاليون لانها مجرد مثال . لكننا نستطيع البناء على الواقع الذي نعيشه كي نتجاوزه الى ما هو افضل واكمل .

ربما كان الاسلاميون على اختلاف مشاربهم ، الحركيون والتقليديون ، هم اكثر الناشطين في المجتمع قدرة على استثمار التاريخ بما يكتنزه من تجربة ومعنى ، واعادة شحنه في مسارات الحاضر الى درجة تنعدم فيها المسافة بين حدث اليوم وحدث الامس ، وتتماهى فيها القيمة بين موقف اليوم وموقف الامس . بالنسبة للناشطين الاجتماعيين فان التذكير بالحوادث التاريخية ليس عملا علميا هدفه تحليل الواقعة التي جرت في الامس البعيد . بل هو في المقام الاول عمل دعوي تبليغي غرضه استيراد القيمة الرمزية التي تنطوي عليها تلك الحادثة واعادة ضخها في قضية مشهودة او مسار معاصر .

ومن هذه الزاوية فان المكون التاريخي للهوية والثقافة ، يمكن ان يلعب دورا بناء في شحذ الهمم وبعث الروح في المجتمعات الخاملة . لكنه يمكن ايضا ان يلعب دورا معاكسا . ولعل هذا ما أشار اليه المرحوم محمد عبده حين شكا من ان المسلمين قد اصبحوا اسرى لحراس القبور . حراس القبور ليسوا سوى تلك الشريحة من اهل العلم الذين شغلهم الدفاع عن التقاليد الراسخة والتراث الذي ابدعه السابقون . كان محمد عبده يسعى لاقناع  جمهوره بان مشكلاتهم هي ثمرة واقعهم وان علاجها يجب ان يقوم على النظر في هذا الواقع . بينما شدد معارضوه على ان العلاج يجب ان يبدأ بالبحث عما قاله السابقون ، وان اي حل قيل في الماضي مقدم على اي حل معاصر . وجد محمد عبده ان مشكلة المسلمين تكمن في الغائهم لقيمة الزمن وتقديرهم المبالغ فيه للعصور الذهبية المتخيلة .

مثل هذه المشكلة واجهها ايضا المرحوم علي شريعتي الذي وجد ان كثيرا من الطقوس والتقاليد قد اكتسبت قيمة دينية ودخلت في دائرة المقدسات ، مع انها مجرد فولكلور ، اي تعبير ثقافي عن ظرف اجتماعي وسياسي محدد . لكنها تحولت على يد حراس القبور الى قيم ثابتة عابرة للمكان والزمان ، عصية على النقد او التغيير. بعد قيام الجمهورية الاسلامية في ايران ، واجه الزعماء الدينيون ذات المشكلة ، فالكثير منهم ينتمون اجتماعيا وثقافيا الى تلك الطبقة الحريصة على حماية التقاليد . لكن اية الله الخميني وجد ان الكثير من السوابق التاريخية التي جرى العرف على تقديسها لا تنفع في بناء دولة حديثة ولهذا فانه لم يتردد في تهميشها . في العام 1982 مثلا ، وجه عدد من الفقهاء البارزين نقدا لاذعا لما وصفوه بتجاوز البرلمان والحكومة لاحكام دينية راسخة وتقاليد اتفق عليها المجتمع الديني طوال قرون متمادية . فأجابهم الخميني في خطاب عام بان اعظم مشكلات الاسلام المعاصر هو العقول المتحجرة العاجزة عن رؤية التغير الكبير في حقائق الحياة ، اي هؤلاء الناس الذين يظنون ان مهمة الحكومة الاسلامية هي اعادة الناس الى عصور الاسلام الاولى .

 ان الاجتهاد الحقيقي هو ذلك الذي يستلهم روح الزمن والمكان ويعيد صياغة الاحكام الشرعية بما يناسبها ، وهو لا يحتاج – في هذه المهمة – الى تكرار ما قاله السابقون الذين عاشوا في عصر مختلف وظرف مختلف. على ضوء هذه الرؤية فان الخميني لم يعبأ بقول الذين طالبوا باعادة نظام الخلافة باعتبارها الصيغة الصحيحة للحكم الاسلامي ، ولم يعبأ بالذين عارضوا تفويض البرلمان صلاحيات تشريعية بدعوى ان التشريع حق خاص لصاحب الشريعة . ان نجاح الخميني في اقامة دولة قادرة على البقاء يرجع بدرجة كبيرة الى شجاعته في التحرر من قيود السوابق التاريخية والتقاليد الراسخة .

طوال العقود الثلاثة الماضية نجح التيار السياسي الاسلامي في تعبئة الجمهور من خلال استثمار المكون التاريخي للهوية ، وهذا ما عجزت عنه التيارات الاخرى التي اهملت اهمية التجربة التاريخية في تكوين المخيال الشعبي . لكن اليوم هو اليوم . ويجب ان لا نبقى اسرى لتلك التجربة . نحن بحاجة الى اعادة صياغة حياتنا العامة على ضوء الوقائع المعاصرة ، ومن اجل استثمارها . من المفهوم ان مرحلة التعبئة والتكوين هي في الاساس مرحلة سجال مع الغير ولهذا فان محور الخطاب السياسي يدور حول نقد الغير وتضخيم الذات . اما وقد خلصنا من تلك المرحلة فان من اللازم التركيز على الجوانب المدنية من العمل السياسي .

العودة الى الذات تعني اعادة شحن القيمة المعنوية والاخلاقية في هذا الواقع الذي يحيط بنا ، بغض النظر عن رضانا عنه او غضبنا منه . هذه الذات كما هي وكما تعيش ، وهذا الواقع كما هو وكما يجري هو نقطة الانطلاق لبناء المستقبل . في هذا المجال فان تجربة اليسار الاوربي تمثل نموذجا صالحا للاحتذاء . لقد تراجع اليسار مع انهيار المنظومة الاشتراكية في اواخر القرن المنصرم ، لكنه يعود اليوم الى الساحة وبقوة ملفتة من خلال الهموم التي اغفلتها الاحزاب الليبرالية ، ونشير خاصة الى منظمات الدفاع عن البيئة ومنظمات حقوق الانسان على اختلاف تخصصاتها وموارد تركيزها .

 ومن طريف ما يذكر هنا ، ان ظهور ما يوصف بالسياسة الاخلاقية كان المناسبة الاولى التي تشهد لقاء بين التيار الديني والتيار اليساري في اوربا . فطبقا لبحث اجري قريبا ، فان ما يقرب من ثلث الناشطين في مجالات البيئة والدفاع عن الحريات واعمال المساعدة الانسانية ، ينتمون الى خلفيات دينية . ونحن نعرف ان اليسار هو الجناح الاخر لهذه النشاطات . لقد وجد التياران الديني واليساري في السياسة الاخلاقية رافعة للعودة الى التاثير في الحياة العامة بعد فترة من التهميش .

بطبيعة الحال فان التيار الديني العربي ليس في الهامش اليوم ، فهو فاعل ومؤثر ، من خلال السلطة او من خلال الشارع . لكنه بحاجة الى التحرر من السياسة السجالية (اي المعارضة المطلقة) ، والاهتمام بدلا عن ذلك بالمعارضة من خلال تقديم البدائل . نحن بحاجة الى تصورات استراتيجية جديدة حول القضايا التي لا بد من مناقشتها اليوم او غدا ، مثل النظام المؤسسي الذي يضمن العدالة الاجتماعية . ومثل مكونات العلاقة المتوازنة بين المجتمع والدولة ، ولا سيما في ضوء الاتجاه المتزايد للتخلص من صيغة الدولة الشديدة التدخل . نحن ايضا بحاجة الى دراسة انعكاسات التغير في حركة السوق على ثقافة الاجيال الجديدة ولا سيما التواصل او الانقطاع بين الاجيال . كما ينبغي ان نساهم في تطوير صيغة محلية للمجتمع المدني وموقعه من نظام العلاقات الاجتماعية / السياسية .

بكلمة مجملة ، فان على الاسلاميين وغيرهم من الفعاليات السياسية ، ان ينتقلوا من دور التحريض والتعبئة ، الى دور الفعل في الحياة العامة . الفعل المؤثر لا ينحصر في الامساك بالسلطة. ان النشاط التطوعي في اطار منظمات المجتمع المدني يوفر قدرا من النفوذ لا يقل قيمة او اثرا عن ذلك الذي توفره السلطة .

  الايام – البحرين 27-9-2005

مقالات ذات علاقة

 

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية في بلد مسلم

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

مكانة العامة في التفكير السياسي الديني: نقد الرؤية الفقهية التقليدية للسلطة والاجتماع السياسي

ملاحظات هامشية: مناقشة لفكرة الحداثة الدينية

من الحلم الى السياسة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...