مقالات ذات علاقة
ان تكون عبدا لغيرك
مدونة توفيق السيف . . Tawfiq Alsaif Blog فكر سياسي . . دين . . تجديد . . . . . . . . . راسلني: talsaif@yahoo.com
بعيدا عن التداول التعبوي للصحافة المحلية والتلفزيون ، الذي ينسب الحملة الارهابية التي تتعرض لها بلادنا الى "الغلو في الدين" ، فان النظر من زوايا اخرى ، قد يكشف ان الغلو ليس العلة التامة لهذه الحملة الاثيمة. نحن بحاجة الى تحليل العنف كظاهرة اجتماعية وليس الاكتفاء بتحديد المسؤولية.
التحليل هو الوسيلة الوحيدة لتحويل
الواقعة من لغز الى معادلة قابلة للفحص.
الخطوة الاولى لفهم الظاهرة الاجتماعية ، هي تفكيكها ودراسة صور التفاعل
بين اجزائها من جهة ، وبين كل منها والحراك الاجتماعي العام من جهة اخرى. مثل هذه
الدراسة هي التي تخبرنا عن جذور الظاهرة في بنية المجتمع الثقافية والعلائقية. وهي
التي تكشف ان كان الحدث مجرد دمل تفجر وانتهى امره ، او هو بداية لحراك اجتماعي
اوسع. واخيرا فهي السبيل الوحيد لمعرفة اليات استمرار او افول الظاهرة المدروسة.
يلعب الدين كما هو معروف دورا ثنائيا في
اضفاء القيمة على الفعل الانساني ، فهو يحتضن بعضها ويصنفها ضمن
"المعروف" ويرفض الاخرى التي تصنف منكرا. تنزيل القيمة النظرية على
الواقعة المحددة هو فعل الانسان. ولهذا تجد الناس يختلفون في تقييم عمل واحد ،
فبعضهم يراه معروفا ويراه اخرون منكرا. وتطرح فكرة الغلو في الدين نفس الاشكالية ،
فهي تقول – ضمنيا – ان ما رآه الارهابيون معروفا هو منكر في حقيقة الامر او في راي
الاكثرية الغالبة.
والسؤال الذي تثيره هذه الفرضية: ما هي
الاسباب التي تجعل هؤلاء او غيرهم ، يحملون القيمة النظرية على هذا المحمل دون
العكس ؟. بكلمة اخرى لماذا يميل بعض الناس في بعض الأوقات ، الى الاخذ بتفسيرات
ضيقة او متشددة او غريبة للنص الديني ، فينزلون القيمة المجردة على محمل خاص ،
بينما يميل معظم الناس الى تفسيرات اخرى؟.
الاجابة على هذا السؤال ليست موجودة في
القيمة الدينية ذاتها ، بل في عوامل اخرى دفعت الاشخاص المعنيين الى هذا السلوك
دون غيره. ذهنية الانسان الفرد هي بمثابة مطبخ ترد اليه انواع من المدخلات بعضها
يتلاشى حتى لا يكاد يظهر له اثر في الطبخة ، وبعضها يبقى محافظا على قوامه دون
تغيير ، بينما تختلط العناصر الاخرى وتتفاعل فيما بينها لتظهر على صورة جديدة
مختلفة عن كل واحد من مكوناتها الاولية.
الاجابة موجودة في البيئة الاجتماعية
التي يتعرف الانسان الفرد من خلالها على نفسه وموقعه من الغير ، اي هويته كفرد.
هذه البيئة ليست صنيعة التوجيه الثقافي بل هي محصلة التفاعل الدائم بين مجموعة
عوامل بعضها مرتبط بالثقافة وبعضها بعيد عنها. من بين تلك العوامل مثلا موقع
البلاد ضمن خطوط الصراع السياسي الاقليمي او الدولي ، ومن بينها مخرجات الحراك
الاقتصادي ، السلبية والايجابية.
لكن
اهم ما ينبغي دراسته في رايي هو طبيعة الظرف الاجتماعي-الثقافي العام الذي تعيشه
البلاد بعد ثلاثة عقود من بداية خطط التنمية. يولد النمو الاقتصادي الكثير من
المخرجات الاجتماعية من خلال تغييره لمنظومات القيم وتوازنات القوة السائدة في
المجتمع. المجتمع ليس مجموع الافراد بل نظام العلاقات السائد بين افراده والقيم
الناظمة للفعل الفردي والجمعي. لقد انهار نظام المجتمع القديم مع تقدم مشروع التنمية الاقتصادية ، فما
هي طبيعة النظام الجديد الذي يفترض ان يحل محله فيلبي حاجة الفرد الى الانتماء او
"الهوية"؟ هل نرى نظاما بالفعل ام حشودا من الناس تبحث عن نظام ؟.
ثمة فوارق كثيرة بين الايديولوجيا الليبرالية ونظيرتها المحافظة او التقليدية ، في النظام السياسي الذي تدعو اليه كل منهما ، كما في الاقتصاد والفلسفة والمجتمع ..الخ . لكن الفارق الاساس – حسب ظني – هو في رؤية كل من المنهجين لموقع الفرد في الجماعة ، وعلاقته مع مكونات المجتمع الاخرى ، كالعائلة والسلطة والسوق والمدرسة وما الى ذلك.
هذا التصوير يقوم على فلسفة متعارضة
تماما. في المنهج المحافظ تعتبر فكرة "الواجب" هي القاعدة الاساس التي
يقوم عليها نظام القيم الاجتماعية. وترجع هذه الفكرة الى الفيلسوف اليوناني سقراط
، الذي قرر ان المدينة الفاضلة هي تلك التي "يقوم كل فرد من اعضائها بواجباته".
وفي راي سقراط ان الحياة الاجتماعية هي منظومة واجبات متقابلة ، فاذا قام كل فرد
بواجبه سارت حياة الجميع على اكمل وجه.
بينما يفترض المنهج الليبرالي ، ان
الحياة الاجتماعية صنيعة مجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا.
وبالتالي فان منظومة القيم التي يقوم عليها السلوك الجمعي ، اي ما نصفه بالهوية
الاجتماعية ، هي حصيلة اشتراك مجموع الافراد في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.
قبل قيام النظام السياسي كان الناس
يعيشون ما يصفه جون لوك بمجتمع الحالة الطبيعية ، حيث يحق للناس ان يفعلوا كل ما
ارادوه ان لم يتعارض بشدة مع حقوق الغير.
النظام الاجتماعي اذن ليس بديلا عن
مجتمع الحالة الطبيعية ، بل منظم للحرية الكاملة التي تسوده ، وبالتالي فان
المجتمع الليبرالي ينظر الى الحريات الفردية كاصل في الحياة الاجتماعية ، كما ينظر
الى الانظمة التي يسنها المجتمع كتقييدات على حرية الفرد.
يصنف المجتمع التقليدي الحقوق الفردية كاستثناء
من القاعدة ، وعلى العكس من ذلك فان الحقوق والحريات في المجتمع الليبرالي هي
الاصل بينما الواجبات هي الاستثناء . لكن لا ينبغي الظن بان المجتمع الاول عدو لحق
الفرد ، او ان الثاني عدو للالتزام. في المجتمع التقليدي يحصل الفرد على حريته
كمقابل لقيامه بالواجبات المفترضة ، اما في المجتمع الليبرالي فان اداء الواجبات
يصنف في اطار المسؤولية التي تترتب على تمتع الفرد بحريته وحقوقه .
ينعكس هذا المعنى ايضا في الجدل بين
الفرد والنظام الاجتماعي ، فالمجتمع الاول يميل الى فرض الزامات جديدة على الافراد
، الامر الذي يزيد تدخل السلطة في حياة الفرد ، ويتبع هذا تعدد الاجهزة الخاصة
بالتوجية والرقابة والضبط وتضخم حجمها. بينما في المجتمع الثاني ينصب الجهد على
تحجيم السلطة وكبح تدخلها في حياة الافراد. ومن هنا يزداد الميل الى تقليص الجهاز
البيروقراطي وايكال امر التوجيه والرقابة للهيئات الاهلية التي لا تتمتع بسلطة
الردع ، بينما تتخصص اجهزة الردع الرسمية في مكافحة الجريمة والعدوان.
ويبدو ان عالم اليوم يميل بمجمله الى
الاخذ بالمنهج الليبرالي ، الذي اظهر – رغم المؤاخذات عليه – انه اقدر على توفير
السلام الاجتماعي في المجتمعات المعقدة والكبيرة . يتباين هذا الميل العالمي من
المستوى الاولي اي التخلي عن هيمنة الدولة على قطاعات الانتاج الصغيرة الى مستوى
اوسع يتمثل في تخليها عن قطاع الخدمات العامة الكبير نسبيا – مثل التعليم والصحة
والكهرباء والمواصلات- حتى يصل الى المستوى الاعلى ، اي التحول من فلسفة المجتمع
العضوي الى المجتمع التعاقدي . والواضح ان اقطار الخليج العربية تتحرك بين
المستويين المتوسط والاعلى ، والمؤمل ان تواصل تطورها في هذا الاتجاه .
يبدو ان التطور المشار اليه يتحقق بصورة
طبيعية – وبطيئة الى حد ما - ، لكننا بحاجة في كل الاحوال الى وعي بحقيقة هذا
التحول ومعرفة كافية بما يحتاجه وما يترتب عليه ، كي لا نفاجأ بانعكاسات التغيير
قبل توقعها او الاستعداد لها. وفي ظني اننا بحاجة الى الكثير من المناقشات العامة
لاستيضاح كيفية انعكاس التحول الجاري على ثقافتنا ونظامنا الاجتماعي ، ولا سيما
على منظومات القيم والمؤسسات التي نريد الحفاظ عليها او تطويرها كي تناسب حياتنا
الجديدة.
قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...