‏إظهار الرسائل ذات التسميات الثقافة العامة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الثقافة العامة. إظهار كافة الرسائل

17/03/1999

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي


دار موضوع الثلاثاء الماضي حول تنازع الثقافات في المجتمع الواحد ، بفعل دخول عناصر التقدم المادي على خط الصراع بين ثقافة تنتمي إلى زمن يوشك على الافول وآخر يريد احتلال المشهد ، وزبدة القول ان المجتمع ـ في وقت محدد ـ هو حالة ثقافية / زمنية ، لا تريد إعلان موتها ولا التنازل عن مواقعها ، رغم انها تعبير عن زمن انقضى وانتهت مبررات وجوده.
 لكن الجدل بين الثقافتين لا ينتهي بسهولة أو في زمن قصير ، خاصة إذا تبلور دفاع الثقافة القديمة في قوى اجتماعية تكافح دون حلول الجديد ، بذريعة ان القديم تجسيد لأصالة المجتمع وروحيته ، والجديد تعبير عن هزيمة للذات والتحاق بالغير المعادي ، أي ترجمة السائد كصورة للذات والجديد كتهديد للذات ، وتستقطب هذه الترجمة الذكية تأييدا واسعا في المجتمعات حديثة العهد بالانفتاح على العالم ، ولا سيما المجتمعات الشديدة الاعتزاز بالذات ، بغض النظر عن الطبيعة التاريخية للثقافة الانسانية .

ظهرت نماذج لهذا الصراع في كل المجتمعات التي خاضت تجربة التمدين ، وانتهى معظمها بسيطرة الثقافة الجديدة كما حصل في أوروبا ، أو بإعادة تنسيج ، تحاور فيها الجديد والقديم ، لانتاج بديل تتشابك فيه أصول ثقافية قديمة وفلسفة عمل جديدة ، كما حصل في اليابان .

وكلا النموذجين كان نصب أعين المخططين العرب الذين كرسوا حياتهم للنهوض بمجتمعاتهم ، لكننا ـ رغم هذه المعرفة ـ نواجه في المجتمع العربي سياقا جديدا ، يتجسد في عودة جزء مهم من الشريحة الاجتماعية التي تفاعلت مع التجديد وعملت ضمنه ، إلى تبني الثقافة القديمة ، لمبررات مختلفة ، بعضها يعود إلى قصور عملية الاحلال الثقافي ، وبعضها ناتج عن الافرازات السلبية لمشروع التمدين .

وقد انبعثت الثقافة القديمة في معظم الاقطار العربية ، وتحولت في أحيان كثيرة إلى عقبة كؤود تعيق تجدد المجتمع وتحديث حياته ، وفي أحيان أخرى إلى فلسفة للانتقاض على المجتمع أو التشكيك في كل عنصر من عناصر التطور المادي والاجتماعي ، ويتجسد هذا الانبعاث في مظاهر عديدة ، بعضها يمكننا ذكره وبعضها نخشى ذكره ، فنكتفي بالاشارة اليه من بعيد ، من بينها على سبيل المثال عودة بعض الناس إلى الاهتمام بالسحر وتفسير الاحلام ، وعودة البعض الآخر إلى استعمال الوسائل المتشددة والعنيفة لقمع الاختلاف في الافكار والاراء .

ونلحظ بصورة عامة ان المجتمع العربي متباطيء جدا في الاقرار بأن التحديث المادي لا يمكن له ان يستكمل دون تحديث ثقافي مواز ، يتناول إعادة هيكلة القيم الحاكمة على رؤية الانسان العربي للآخرين والأشياء ، واعادة انتاج التقاليد والأعراف الاجتماعية لكي تخدم المتطلبات الحياتية للمجتمع في مرحلته الحاضرة ، باعتبارها نواظم للسلوك ، مرتهنة لحاجات المجتمع في مرحلته الزمنية ، وليست قيما عابرة للزمن أو مجردة .

وطرحت تفسيرات عديدة لهذه العودة ، منها ما يربطه بعلل متمكنة من الشخصية العربية ، مثل ذلك الذي اقترحه د. محمد جابر الانصاري الذي يقول ان العربي أميل إلى الصراع والمنازعة منه إلى البناء الذي يتطلب سعة صدر وصبرا ، وهو يضرب مثالا بسيطا فيقول ان انسانا ما مستعد للخروج إلى الحرب إذا دقت طبولها ، مع ما تنطوي عليه الحرب من خطر الفناء ، لكن هذا الشخص بالذات لا يرغب أبدا في حمل مكنسة لتنظيف الشارع أمام بيته .

ومن بين التفسيرات ما يربطه بنظم التربية والتعليم السائدة ، مثل رأي د. عبد العزيز الجلال ، الذي وجد ان التربية المدرسية تميل إلى انتاج شخصية مهمشة أحادية البعد ، وبطبيعة الحال فان الانسان ذا البعد الواحد لا يستطيع احتمال التغيير المتوالي في البشر والاشياء ، الناتج عن تغير مصادر الثقافة وأساليب العيش وأدوات تحصيله .

ومن التفسيرات أيضا ما يشير إلى عيوب في مشروع التمدين ذاته ، الذي ركز على تحديث الاقتصاد وسبل المعيشة ، لكنه أغفل الانسان الذي يفترض ان يكون المستهدف الأول لهذا المشروع ، فكأن المشروع افترض ان الانسان العربي كامل ، لا ينقصه غير تخلف المعيشة ، فانصب الجهد على تطوير مصادرها .

ووجدنا نتيجة لهذا ان الناس قد انصرفوا بكل همة إلى تحسين قدراتهم المادية ، ورفع مستوى معيشتهم ، لكنهم لم يبذلوا جهدا موازيا في تطوير رؤاهم وثقافتهم ، كما ان المشروع قد خلا تماما من تصور متكامل لما سيفرزه التطور المادي من حاجات اجتماعية غير مادية ، ولا سيما تغير رؤية الانسان لنفسه وتقييمه المستجد لدوره الاجتماعي وعلاقته مع الغير ، وما يترتب على هذا من اختلال في توازن القوى السائد ، وبالتالي منظومة القيم التي تحميه أو تبرر وجوده .

وثمة تفسيرات أخرى ، تدور غالبا حول واحد من الثلاثة السابقة ، وسوف نعود إلى الموضوع مرة أخرى الثلاثاء القادم .

01/02/1999

مسائل تمهيدية للبحث في المكان الاجتماعي للنساء (1-3)

ربما ترغب ايضا في قراءة 

( 1 )

في قضية المرأة المسلمة ودعوتها إلى ميدان العمل على نطاق واسع ، وفي دورها الاجتماعي ، والاشكالات التي تحيط بهذه القضية ، كلام كثير ، يحسن بنا خوض غماره ، طمعا في تحديد دقيق لأجزاء الموضوع ، وبحثا عن الحدود الفاصلة بين ما تقرره الشريعة وما يقرره المجتمع ، وثمة مسائل تمهيدية لا بد من البدء بها كاشارات إلى السياق العام للبحث ، لكني أعد القاريء بأن اكتفي بهذه الاشارات في الوقت الحاضر ، وأتمنى ان أجد من يشارك في هذا البحث ، إصلاحا أو تفنيدا أو تكميلا .
 هذه المسائل لا علاقة لها بموضوع المرأة على وجه الخصوص ، فهي ترتبط أساسا بالطريقة التي تجري بها معالجة هذا الموضوع وسواه على المستوى النظري ، لكن كون قضية المرأة موضوعا مطروحا للنقاش ، يستدعي مناقشة ما يعتبر تمهيدا ضروريا للبحث والمعالجة ، سيما وقد جرت العادة على تجاوز المقدمات ، رغم ضرورتها لتحديد مادة النقاش .
المسألة الاولى :
بعض القضايا تثير جدلا من نوع خاص ، بحيث يعتبرها البعض حساسة ، ويفضلون غض الطرف عنها أو التكتم عليها ، خشية ان يمتد الجدل فيها إلى نقاط ساخنة ، لا يرغب الكثيرون في طرقها ، ولدينا في المجتمع والثقافة عشرات من المسائل ، تعارف الجميع على السكوت عنها ، توقيا لعواقب ابداء الرأي ، أو انتظارا للوقت المناسب ، لكن لسوء الحظ ، فان الوقت المناسب قد يأتي متأخرا وقد لا يأتي على الاطلاق .
ثمة قضايا تعتبر قليلة الاهمية بذاتها ، أو قليلة الفوائد بالنظر لما ينتج عن تبادل الرأي فيها ، ولهذا فان تأخيرها أو السكوت عنها ، لا يترتب عليه سوى اشكالات نظرية ، وطبقا لأبي اسحاق الشاطبي فكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها مرجوح . لكن إلى جانب هذه ، ثمة قضايا ينتج عن تهميشها أو السكوت عنها ، إشكالات نظرية وعملية ، وقد يؤدي منع الجدل  فيها ، إلى تثبيت رأي واحد باعتباره معياريا لأمد طويل ،  أي تجميد الاجتهاد وغلق ابوابه ، واحالة الناس إلى نوع من التقليد الجبري ، وهو ما خالفه معظم العلماء وأهل الفكر المسلمين ، لا سيما المعاصرين منهم .
وتعتبر قضية المرأة ودورها في مجتمع المسلمين المعاصر ، واحدة من القضايا التي تصنف ضمن المجموعة الثانية ، فهي كبيرة الاهمية ، لتعلقها بنصف المسلمين على وجه التقريب ، وتؤثر ـ بشكل مباشر وغير مباشر ـ على النصف الباقي ، وهي مهمة أيضا لأنها موضع اشتباك رئيسي في الصراع بين الثقافتين الاسلامية والغربية ، وهي مهمة ثالثا لانها تعبير بارز عن مخرجات الظرف الاجتماعي المتخلف للعالم الإسلامي في العصر الحاضر ، ولا أظن أحدا يلم بأوليات المعرفة والمجتمع ، ينكر ما لتخلف المجتع من انعكاسات على ثقافته وقيمه ونظام التراتب السائد فيه ، لكن القضية ـ رغم تلك الاهمية ـ مسكوت عنها ، أو مختزلة في قوالب ضيقة من التطبيقات او الآراء .
أقول انها مسكوت عنها ، رغم كثرة ما يكتب وما يقال في هذا الامر ، فكثرة الكلام قد لا تكون سوى تكرار لقليله ، فالكثير مما يكتب ويقال اليوم في قضية المرأة المسلمة ، لا يخرج عن واحد من صنفين من الكلام ، صنف يدعوها إلى التحرر أخذا بعين الاعتبار النموذج الاجتماعي الغربي ، وصنف يعارض هذا المنحى ، ويدعوها إلى التزام النموذج التقليدي للمجتمعات الشرقية ، ويبرهن الاول على كلامه بنتائج التجربة الغربية ، ويبرهن الثاني على رده بشواهد من النص والسيرة ، أو بتصورات انتقائية عن النتائج السلبية التي آلت اليها تلك التجربة ، لكن في كل الاحوال فان المساجلة في الموضوع ، لم تسمح للطرفين بالتوصل إلى اتفاق على تعريف كل جزء من تفاصيل القضية ، ولا استبيان المسار التاريخي الذي سلكه كل رأي من الآراء المطروحة للنقاش ، حتى وصل إلى صورته الراهنة ، كما لم يدر أي نقاش جدي ، حول بدائل تعالج الاشكالات التي يطرحها كل منهما ، فكأن كلا من الطرفين قرر منذ البدء ، ان رأي الآخر باطل ، وان جوابه يجب ان يؤدي إلى نقضه ، كائنا ما كانت طبيعة ذلك الرأي أو غرض صاحبه ، بكلمة أخرى فان الجدل استهدف دائما النقض لا العرض .

لهذا السبب فمن الضروري الخروج بالنقاش حول قضية المرأة المسلمة ، من إطار السجال النقضي بين الخصوم ، ويجب غض النظر ـ ولو مؤقتا ـ عن العامل الغربي في المسألة ، لكي يتاح لنا إجراء مناقشة هادئة حول وضع المرأة المسلمة ضمن الاطار الإسلامي في مجتمع مسلم ، انطلاقا من القواعد الانسانية التي قامت عليها الشريعة الغراء ، واستقر عليها عمران العالم .
بعضنا قد يرى ان الرد على الخصوم هو الجزء الاهم في الموضوع ، لأنه موضع الابتلاء ، ولأن الخشية من تأثيرهم ليست بلا أساس ، لكن من جهة أخرى فان عدم وجود تصور متكامل حول ما نريد ، يجعلنا ندور في إطار الجدل الذي يقرره اولئك ، بدل ان نبتكر الاطار الذي نريده ونحتاج اليه ، فلنقل ان البحث في قضية المرأة له بعدان ، البعد المتعلق بمكانها في المجتمع المسلم ، بغض النظر عما يقوله الغير ، والبعد المتعلق بمعالجة الأجانب لهذ القضية ،  أيا كانت أغراضهم ، وإذا كانت حماستنا قد انصرفت حتى الآن إلى البعد الثاني ، فان العواقب السلبية لاهمال الاول لا تقل أثرا عن عواقب اهمال الثاني ، ويبدو اننا بحاجة إلى الاهتمام بما لدينا وما نحن فيه بدرجة أكبر من اهتمامنا بما عند الغير وما يقوله الغير .
( 2 )

تحدثنا في الصفحات السابقة عن الحاجة إلى طرق القضايا التي هي موضع حاجة عامة للمجتمع ، ومناقشتها انطلاقا من حاجتنا إلى استنباط معالجات معاصرة ومتوافقة مع متطلبات الشريعة ، بغض النظر عما يثيره الآخرون من إشكالات ، والمقال بحلقاته الثلاث يعالج اشكالات منهجية في الجدل حول الموضوعات التي تتسم بحساسية من نوع ما ، ومثالنا الرئيسي في هذا المقال هو مكان المرأة ودورها في المجتمع المسلم والاشكالات المحيطة بدخولها ميدان العمل على نطاق واسع ، ونواصل هنا بعرض مسالتين أخريين.

المسألة الثانية :

استنباط المفاهيم القاعدية والمعايير ، يجري عبر طريقين  مختلفين ، أحدهما يبدأ باستقراء التفاصيل والتطبيقات الجزئية ، لاكتشاف متغير محدد ، يمكن اعتباره صورة أولى عن قاعدة نظرية تحكم الجميع ، ويبدأ الثاني بتحليل متغيرات تتعلق بقاعدة محددة موجودة سلفا ، لكشف نطاق التغير في تطبيقات القاعدة على موضوعات عملها ، ومعظم حالات استنباط الاحكام الشرعية تندرج ضمن هذا السياق ، لكن تكييف الموضوعات وهي عملية سابقة للبحث عن الحكم ، تندرج في السياق الاول ، فنحن نعرف ابتداء ان لله في كل واقعة حكما ـ وهو رأي أكثر الاصوليين ـ لكن إدراك المراد الرباني يحتاج إلى اجتهاد في الجانبين ، في تكييف الموضوع وتحديد عناصره وأبعاده ، واجتهاد في استنباط الحكم المناسب له ، ومع اختلاف المجتهدين واختلاف ازمانهم ومؤثرات بيئتهم ، تختلف نتيجة الاجتهاد التطبيقي في موضوعات اشتغال القاعدة الواحدة ، فيجد الفقيه أو صاحب الرأي نفسه إزاء آراء متعددة مختلفة ، ومع ان أيا من هذه الاراء لا تلزمه ـ بالمعني الشرعي ـ إلا ان وجودها يحمله عبئا أدبيا يصعب تجاوزه ، خاصة تلك التي صدرت من أسلاف فكريين أو مدرسيين للفقيه المعني ، أو تلك التي تلقاها جمهور الامة بالقبول وتحولت من ثم إلى عرف سائر في مجتمع المسلمين .
وفي ظني ان الجدل الفقهي والاجتماعي في قضية المرأة ، قد تأثر بمجريات هذا السياق ، فالكثير مما يقال اليوم عن التكييف الشرعي للمسائل المتعلقة بوضع المرأة في المجتمع المسلم ، ليس اجتهادا مستقلا في المسألة التفصيلية ، كما انه لا يبدأ بتحليل المتغيرات الفرعية المرتبطة بالقاعدة ، بل هو بصورة أو بأخرى إعادة انتاج لآراء السالفين ، وهو يتأثر بقوة بالانطباعات الشخصية عن أوضاع محددة أو حوادث ، وتستمد الاستنتاجات المتأثرة بهذا العامل قوتها ، من وضع سائد تعارف عليه المجتمع وتلقاه بالقبول ، فأصبح بديهيا أو شبه بديهي ، يستنكر غيره ، أيا كانت طبيعة هذا الغير أو دليله ، ان تحقيق القواعد والمعايير الشرعية الاصلية والنظر في تطبيقاتها المعاصرة ، هو التجسيد الدقيق للاجتهاد المستقل بمعناه الكامل ، وفي هذا فان الفقيه قد يأخذ برأي المشهور أو الاجماعات السابقة ، باعتبارها تجربة علمية لا حكما قطعيا ، وفي كل الاحوال فانه لا ينقض اجتهاد مجتهد معاصر برأي مجتهد سبقه ، كما ان العرف غير ملزم إذا لم يطابق المعايير الشرعية ، حتى لو قال البعض بامكانية تخصيصه لعمومات القواعد الشرعية ، وخلاصة ما يقال في هذا المعنى ان الاجتهاد المعاصر في قضية المرأة ، ينبغي ان يلحظ حقيقة ان الاجتهاد في عصوره السابقة تأثر بمعطيات البيئة الاجتماعية ، وان تغير الاحوال في هذا العصر تقتضي اجتهادا مستأنفا في الموضوع يلحظ معطيات الحاضر وحاجاته ، كما يحتاج تكييف كل جزء من أجزاء الموضوع إلى رأي اهل الخبرة في هذا الجزء .

 المسألة الثالثة :

من مظاهر مرونة الشريعة المحمدية ويسرها ، تقسيم الاحكام إلى اولية وثانوية ، فالاولية تحكم الموضوعات في الحالة الطبيعية ، والثانوية تحكم الموضوعات في الحالات الاستثنائية ، ويطلق عليها الفقهاء اسم (أحكام الضرورات) ويعرف الجميع ان الضرورات ليست صنفا واحدا ، فمنها ما هو آني قصير الأمد ، مثل السماح بأكل الميتة للمنقطع في الصحراء حفظا لحياته ، ومنا ما هو  ممتد لامتداد الظرف الذي ألزم به ، مثل رفع بعض الحدود في ظروف القحط والمجاعة العامة ، وقد جرى تنظير قواعد للاحكام الثانوية من النوع الثاني ، تقربها إلى الصنف الأول ، ومنها على سبيل المثال سد الذرائع ، فيستطيع ولي الأمر أو الفقيه المبسوط اليد ، ان يمنع الناس من مباح ، سدا لذريعة التوسل به إلى الفساد المؤكد ، ويقول الاصوليون ان منع المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
لكن في معظم الأحوال فان الأحكام الثانوية ، تعتبر مؤقتة أو شخصية محدودة بزمان الضرورة ومكانها واشخاصها ، بمعنى انها لا تجري مجرى القاعدة الثابتة ، فتكون بديلا عن الحكم الأولي ، فلو سد الفقيه بابا مباحا لأنه ذريعة للفساد ، فان الاطمئنان إلى انقطاع السلسلة ـ ولو في حالات محددة ـ يبريء ذمة المكلف ، إذا أخذ بالحكم الأولي أو برأي  الغير .
في تطبيق هذا المسار على موضوع المرأة المسلمة ، نجد ان بعض الآراء تؤسس على قاعدة سد الذرائع ، لا على الاحكام الأولية في الموضوع ، بديهي ان الفقيه مكلف شرعا ببيان الحكم في ما يعرض عليه من الحوادث ، وهو أقرب إلى معرفة الحكم الشرعي من غيره بسبب التخصص ، لكن من ناحية أخرى فان تطبيق الأحكام الثانوية محدود بظرفه الخاص ، لأن تمديدها إلى خارج حدود الظرف الخاص ، يجعلها بديلا عن الحكم الأولي ، بل يلغي الحكم الأولي ، فاذا وضعت حدود ضيقة لعمل المرأة أو دورها الاجتماعي سدا لذريعة الفساد ، أو سدا لذريعة إهمال ما هو أهم ، فينبغي ان تعالج المسألة من زوايا مختلفة ، فلا يكتفى بالنكير على عمل المرأة ، وكأنه ـ بذاته ـ محرم أو مكروه ، كأن يقال ان الحكم الاولي ـ  أي الجواز ـ جار بهذه الشروط أو ضمن هذه الترتيبات ، أو يقال ان عملها في المكان الفلاني ، أو ضمن الظروف الفلانية ، ممنوع أو مكروه أو مرجوح ، لهذه الأسباب ، وهو جائز في بقية الاماكن . وأظن اننا بحاجة اليوم إلى تحديدات من هذا النوع ، لتلافي الاضطرار إلى الاطارات الضيقة أو نقاط الاشتباك الساخنة ، خاصة وان الاصل هو الاباحة ، وان المنع أو الالزام هو الاستثناء ، فينبغي ان لا تضيق ابواب المباح حتى يتحول المنع إلى اصل والمباح الى استثناء .
                                                                       ( 3 )

عرضنا في المقالين السابقين ثلاث مسائل في منهج الجدل حول المسائل الحساسة ، أخذا بعين الاعتبار مثالنا الرئيسي وهو قضية المرأة المسلمة ومكانها الاجتماعي وعملها على نطاق واسع ، وتعرض المقال الاول للحاجة إلى مناقشة علمية للموضوع بذاته وبغض النظر عن السجال مع الاجانب ، وفي المقال الثاني للحاجة إلى الاجتهاد المستقل والمعاصر في المسألة ، كما ميزنا بين احكام الظرف الطبيعي وأحكام الضرورات والحاجة إلى وضع كل من الصنفين في مكانه حتى لا تتحول احكام الضرورات إلى قواعد لمعالجة الحاجات الشرعية في الظرف الطبيعي ، ونختم المقال هنا بعض مسألة أخيرة .

المسألة الرابعة :

اليسر من الاسس الكبرى التي قامت عليها الشريعة المحمدية ، قال تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وصح في الأثر الشريف (يسروا ولا تعسروا) وتحديد التوازن بين طرفي العسر واليسر مسألة تخصصية ، يقررها أهل الخبرة في كل تطبيق من تطبيقات الشريعة ، ثم ان مفهوم العسر واليسر قد ينصرف إلى حالات شخصية ، وقد ينصرف إلى وضع عام ، يتعلق بالمجتمع المسلم كمجموع ، ولا نريد بسط الحديث في هذا الموضوع بالذات ، فهو معروف عند الجميع ، لكني أريد اقتراح موضوعين محددين يتعلقان بقضية المرأة ، للبحث في تطبيق التوازن بين طرفي العسر واليسر على المستوى العام . الاول في التشغيل الواسع النطاق للنساء ، وأظن ان المسألة تتعلق بنحو مليون وظيفة في القطاعين العام والخاص ، فهذه المسألة تبحث من جانب الاقتصاد الكلي ، أي تأثير اشتغال النساء على ميزان المدفوعات الوطني ، وبالتالي على فرص تنشيط الدورة المحلية لرأس المال والحياة الاقتصادية ، وعلى مستوى الاقتصاد الجزئي ، أي تأثير اشتغال النساء على مستوى معيشة العائلة السعودية ، وتبحث من الجانب الاجتماعي ، أي تأثيره على فاعلية المجتمع ونمو شخصيته ، مقابل التحديات التي تواجهه والتاثير الثقافي الخارجي عليه ، وتبحث ثالثا من الجانب التربوي ،  أي تأثيره على نمو الشخصية الفردية للمرأة وانعكاسه على قدراتها التربوية ، وضمن الاطار العام ، فاننا نبحث الموضوع من زاوية أثره في الثقافة الاجتماعية السائدة ، لجهة انعكاسه على تقدير الفرد لذاته وللآخر ، وتطوير تصوره للآخر باعتباره انسانا له حقوق انسانية مماثلة . فهذه القضايا جميعها ذات علاقة وثيقة بقضية المرأة ، ومن المهم جدا ان نضعها تحت المجهر ، كي لا نقع أو نوقع مجتمعنا في العسر الذي لا تريده الشريعة ، ان البحث فيها قد يكشف لنا عن مصالح راجحة ، تركناها حفظا لمصالح مرجوحة ، ظنا بانها المقدمة وانها الاهم .

أما الموضوع الثاني فان من مظاهر اليسر في الشريعة المحمدية ، اختلاف الفقهاء في الرأي ، وجواز الأخذ بالرأي الأيسر بين الاراء المختلفة ، وهذا الامر مريح لعامة الناس ، فهو يعينهم على تلافي  البحث عن مخارج أو حيل للتهرب من الاحكام التي يجدونها صعبة التطبيق ، ومريح لولي الأمر فهو يتيح له الأخذ بجانب التيسير على عامة الناس ، إذا احتاج إلى تقرير إجراءات رسمية في موضوع من الموضوعات ، وهو مريح أيضا للفقيه الذي لا يستطيع ترك ما توصل اليه من رأي ، لأن العلم حجة على صاحبه ، لكنه في المقابل لا يجد مسوغا لالزام الناس بما لا يطيقون ، أو بما يكون سببا لتهربهم من طريق الشريعة ، فيحيلهم  على فتوى غيره ، أو يسمح لهم بالرجوع إلى الغير ، وكلا الرأيين ، اليسير والعسير ، صادر عن مجتهد مؤهل لهذا الدور ، واتباعه من جانب ولي الامر أو من جانب عامة المكلفين مبريء للذمة ، ومعذر امام الخالق ، فالفتوى كما يذهب أكثر الاصوليين ليست منجزة بالضرورة للمراد الرباني من الحكم ، لان معرفة الواقع  أي مراد الخالق ، فوق طاقة البشر القاصر ، لكن الاخذ بها ـ مع ذلك ـ مبريء للذمة ومعذر للمكلف يوم الحساب .

أما وقد انتهينا من الموضوع ، فنعود إلى ما بدأنا به ، فنقول اننا بحاجة إلى بحث مستفيض لموضوع المرأة المسلمة ، وما يتعلق بدورها الاجتماعي من أحكام ، بحثا يأخذ بعين الاعتبار الاحكام الشرعية الاولية ، ويضع كل تخصيص لهذا الحكم في حدود ما يوجب التخصيص ، ثم اننا بحاجة إلى الفصل الحاسم بين ما هو حكم شرعي وما هو عرف اجتماعي ، فحتى لو أردنا الاخذ بالعرف ، فاننا نأخذ به باعتباره عرفا ، ولا نلقي عليه عباءة الحكم الشرعي ، خشية ان يختلط الامر على الناس ويضيع الشرع في غمرة الاعراف والتقاليد .

30/11/1998

اشكالية التعدد في اطار الوحدة



عندما تنظر إلى مجتمع عربي من الخارج ، فسوف تراه شريحة واحدة ، يشبه كل فرد فيه الآخر ، في ملامحه وفي كلامه وتفكيره ، وفي نمط حياته ، وهذا من طبيعة العقل الابتدائي ، الذي يميل إلى التعميم ويتفادى التفاصيل ، إذ التفصيل يحتاج إلى تأمل وبذل شيء من الجهد الذهني .

وبالنسبة لكل عربي فان هذا التقدير الأولي ، مرغوب ومطلوب ، كصورة نهائية للمجتمع الذي يود أن يراه ، فهو يعكس ـ ولو على مستوى الاستعارة والمجاز ـ فكرة الوحدة التي تعتبر ثابتا من ثوابت التفكير العربي والاسلامي ، وأملا عزيزا على قلب كل عربي ومسلم .
ربما كان الاستعمار ابغض شيء عند المسلمين المعاصرين ، فهم يرونه تجسيدا مقاربا لمفهوم الشيطان ، الذي يؤكد النص الديني على عداوته المطلقة للانسان وخالق الانسان ، ويحتفظ كل مسلم في ذاكرته بفكرة تعد من الثوابت والبديهيات ، خلاصتها أن الاستعمار سعى بكل دأب إلى تفريق الأمة الاسلامية وتقسيمها ، فكأن الاستعمار هو الشيطان الذي يقول عنه القرآن (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) ولهذا فان كل مبادرة أو مسعى ، يشم منه رائحة الاختلاف عن التيار السائد ، فانه ينسب إلى خطة استعمارية .

 لقد تحول العداء للاستعمار ، إلى موضوع إجماع بين المسلمين ، فكل من تصدى لهذا الأمر أو دعا إليه ـ ولو على مستوى الخطابة ـ حصل على تقدير العامة وتأييدهم ، ذلك لان مقاومة الاستعمار هي الوجه الثاني للكفاح من اجل الوحدة .
والوحدة ، فوق أنها مطلب إنساني فطري ، فهي إحدى الأولويات الدينية الكبرى ، التي دعا إليها القرآن بصورة مباشرة وغير مباشرة .

ومع كل التأكيد على ضرورة الوحدة ووجوب الحفاظ عليها ، فان المجتمع المسلم لم يكن في يوم من الأيام ، موحدا بالمفهوم الذي يتخيله معظم الناس ، فقد كان هناك على الدوام آراء متباينة وتفسيرات مختلفة واجتهادات متعددة ، على المستوى الفكري والعقيدي ، وعلى المستوى الاجتماعي حافظت القبائل والطوائف والأعراق ، على قدر من الخصوصية والتميز عن غيرها ، وعلى المستوى السياسي كان الوصول إلى السلطة وممارستها ، موضوعا ثابتا للخلاف بين مراكز القوى ومجموعات الضغط المختلفة ، وعلى المستوى المعيشي كان هناك فقراء وأغنياء ومتوسطون .

في ظل هذه التباينات التي هي من سنن الحياة ، بقي المسلمون أمة واحدة ، ذلك أن الوحدة في حقيقتها هي اجتماع المختلفين على قواسم مشتركة ، وكانت شهادة أن لا اله إلا الله ، والشعور بالمصير المشترك ، والمصلحة الظاهرة في الوحدة ، هي هذه القواسم .

العجز عن تصور معنى التعدد في إطار الوحدة  ، هو واحد من ثمار انقطاعنا الثقافي عن تجربة اسلافنا في العصور الاسلامية السابقة . وبسبب هذا العجز فاننا نتطلع اليوم إلى وحدة قوامها انصهار المجموع في بوتقة واحدة ، اجتماعية وثقافية واقتصادية ، انصهارا يذيب الفروقات الفردية ، ويلغي ذاتية كل فرد واستقلاله .

 نجد هذا الشعور الخفي ـ لكن المسيطر على سلوكنا ـ في الضيق بالآراء المختلفة حتى لو لم تكن متناقضة أو متعارضة ، ونجدها في التوجس من تعبير الطوائف الاجتماعية أو الجماعات السياسية ، عن ذاتها وأفكارها بصورة صريحة أو من خلال رموزها الخاصة ، حتى ضمن السياق الايجابي الذي يتحاشى نقد الغير ، ونجدها في القلق الشديد من كل تشكل اجتماعي ـ سياسي أو فكري ـ متميز عن التيار العام .

وبصورة عامة فان مفهوم الوحدة الذي نحمله ويتبادر إلى أذهاننا ، يختلف عن مفهوم الوحدة الحقيقية ، كما لا يطابق حقيقة الوحدة التي كانت سائدة في عصور الاسلام السابقة . يصعب علينا اليوم فهم إمكانية ان يكون هناك تعبيرات عن الدين مختلفة ، وهي في نفس الوقت صحيحة ، أو ـ على اقل التقادير ـ مبرئة للذمة ، ويصعب علينا تصور ان الطريق إلى الله ليس محددا في مذهب معين ، أو اجتهاد مخصوص ، كما يصعب علينا أن نتعايش ، إذا كنا على خلاف في بعض المعتقدات أو الفروع الفقهية .

 ويضيف القلق الدفين من مؤامرات الاستعمار على الوحدة الاسلامية ، زيتا على نار الرغبة المحمومة في التماثل ، فكلما رأينا مختلفا يعبر عن رأيه ، أو يعلن عن نفسه ، استذكرنا سياسة (فرق تسد) التي سار عليها الاستعمار ، فنسبنا ظهور هذا الاختلاف إلى مؤامرة استعمارية جديدة ، أو رميناه بالتعاون مع الاستعمار أو ـ مع إحسان الظن ـ خدمة أغراض الاستعمار دون وعي .

05/06/1995

سياسة الامس وتاريخ اليوم



ماهو حدث سياسي اليوم سيصبح بعد ايام تاريخا ، ومانسميه اليوم تاريخا ، كان في زمنه وضمن ظروف تكونه ، حدثا سياسيا ، وطلب الى فيلسوف معاصر ان يعرف مهنة الصحافة فاكتفى بالقول ان ( الصحافي هو مؤرخ اللحظة ) وقد اصبحت هذه المقولة  تعريفا للعلاقة بين كاتب السياسة وكاتب التاريخ .
والتاريخ يفعل فعله في الاحداث كما يفعل في الاشخاص ، فهو يجردها من ظروفها ، ومن التفاصيل الصغيرة التي تحيط بها ، فيبقى على ما هو علم بارز منها ،كما الانسان اذ يجرده من تفاصيل حياته ، ويبقي منه اسمه وابرز ماكان في حياته ، فترى نصف قرن من حياة شخص ، ملخصة في صفحة او بضع صفحات ، بينما تسع حياته لو اردنا جرد تفاصيلها ، الاف الصفحات .

الرواية والتحليل
ومعظم الناس لايحبون التفاصيل الصغيرة والدقيقة ، في حياة الاشخاص كما في الاحداث ، الا بقدر ماتحتويه من اثارة للمشاعر الانسانية ، اي بمقدار ماتوجد هذه التفاصيل من علاقة عاطفية بين المتفرج ورجل الحدث ، أو بينه وبين المشاركين فيه ، ولو ان صحيفة كتبت عن حادثة حريق مثلا ، فوضعت الخبر التفصيلي عن مجرياته في جهة وعرضت تحليلا وشهادات فنية او هندسية في الجهة الاخرى ، فالمؤكد ان اكثر القراء سيكتفون بالخبر ويتركون التحليل  .

ويرجع ذلك في ظني الى اعراض عفوي ، عن التعامل التحليلي مع الصورة الكاملة للحدث ، وقد ورد في الاثر (اعقل الخبر عقل رعاية لاعقل رواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل) .  لهذا لايرغب الا القليل من الناس ، في مشاهدة البرامج الوثائقية التي يعرضها التلفزيون ، بينما ـ على العكس من ذلك ـ يقبلون على مشاهدة الاعمال الدرامية ، لاسيما تلك التي تنطوي على قدر من المبالغة او اثارة الخيال.
 لقد استطاع رجال السينما الامريكية ، ان يفرضوا انفسهم على حياة الناس ، في شتى بقاع العالم ، حينما قدموا ابطالا مثل ( رامبو ) الذي يمثل بالنسبة للمشاهد ، تعبيرا عن الرغبة العميقة للانسان في اختراق حدود المنطق ، مايتعلق منه بالقدرات الجسمانية والروحية للانسان الطبيعي ، او مايتعلق بالامكانات الموضوعية لمجال العمل المحيط بالانسان .

العالم سينما
ان جميع الذين يشاهدون ( رامبو ) يعرفون في قرارة انفسهم ، ان المسألة تمثيل في تمثيل ، وان مايرونه هو عبارة عن سلسلة من الخدع ، التي يجيد السينمائيون حبكها وترتيبها ، لكنهم في لحظة المشاهدة ، كما في لحظة التذكر ، لايرغبون في استذكار هذه المعرفة ، ويفضلون استعراضها في اذهانهم كما لو كانت حقيقة .  بل ان بعض الناس ولاسيما في سن الشباب ، يحتفظون بصور كبيرة لابطال مفترضين مثل ( رامبو ) تعبر عن علاقة الود التي قرروا اقامتها مع هذا البطل ، بالنظر لما تغذيه هذه العلاقة ، من قابلية للتعويض عن نزوع للبطولة الحقيقية ، لايستطيع صاحبه ايجاد الاسباب ، التي تحوله من امل الى حقيقة ، واذ ذاك فان الانسان يحاول الاحتفاظ به كحلم عزيز يحتل مكان الحقيقة ، فيخفف على صاحبه وجع فقد الامل او خيبته .

ويبدو لي اننا نقف من التاريخ (الذي كان سياسة في الماضي) ومع السياسة (التي ستصبح تاريخا في الغد) موقف المتفرج على عرض سينمائي ، تثيرنا البطولات ، ونتفاعل ـ عاطفيا ـ مع الاحداث التي تجري امامنا ، لكن القليل منا ، والقليل جدا فحسب ، هم الذين يغوصون في بحر الحدث محاولين قراءة ماوراء سطوره العريضة ، واذا قيض لنا ان نرتاح الى موقف ، او ان نعجب برجل من رجال الحدث ، فاننا لانجتهد في معرفة الظروف والاسباب ، التي جعلت منه بطلا يستحق الاعجاب ، وربما تخيل احدنا نفسه وقد اصبح مثل ذلك البطل ، لكن ليس الى الحد الذي نسعى معه لاكتساب صفاته وامكاناته ، انه تخيل تولد عن اعجاب واختلط بالحلم ، ثم تشكل في صورة ، حفظت في مكان ما من اروقة الذاكرة ، كما تستريح ملفات الارشيف ، يستدعيها الانسان ساعة اراد الاسترخاء ، ويعيدها الى ملفها ساعة انشغل  بحياته.


وراء المشـــــهد
ماتعرضه علينا وسائل الاعلام ـ وكتب التاريخ بالطبع ـ هو الصورة النهائية للحدث ، اي القشرة الخارجية للصورة ، ولعل التشكيل اللوني او الضوئي للصورة ، يوحي للعين بما ليس فيها حقيقة .
 لكن وراء هذه القشرة ، ثمة عالم من الحركة المتفاعلة ، وثمة نسيج ضخم من الخيوط ، تربط عشرات من الأجزاء المخنلفة الى بعضها ، حتى يتشكل المظهر الخارجي للحدث ، ان حدثا ما في ساعة وقوعه ، ليس الا نتيجة لتلك الحركة وتفاعل الاجزاء . كذلك الامر بالنسبة للرجال ، فظهورهم في الصورة التي تثير الاعجاب ليس وليد ساعته ، بل هو نتيجة مجموعة من الظروف والتفاعلات ، التي سبقت هذا الظهور ، ثمة عدد نادر من الاشخاص صنعوا ظرفهم ، وظهروا في نهاية المسار الذي قرروه ، وشكلوا اجزاءه بانفسهم ، ولهذا يعتبر امثال هؤلاء ، شخصيات تاريخية بكل المقاييس .

 اما غالبية الابطال الاخرين ، فقد ساهموا بقدر في بطولاتهم ، وساهم الاخرون بالقدر الاكبر ، لكن لان التاريخ لايحفظ ـ كما اسلفنا ـ الا المعالم البارزة من الاحداث ، فانه حفظ لنا اسم البطل وصور بطولته ، بينما غيب كل اجزاء الظرف الذي صنع البطولة ، ومكن شخصا من الظهور تحت عنوانها .

قدر قاهر
بالنسبة لعامة الناس فان التاريخ ( الذي كان سياسة بالامس ) والسياسة ( التي ستغدو تاريخا في المستقبل ) ليس خيارا يقبلونه ان رغبوا فيه او يرفضونه ، انه قدر ، وهو لازم لايستطيع منه المرء فكاكا ، ستراه امامك في ثقافتك ، وتراه امامك في معيشتك ، وتراه منتصبا يقرر نيابة عنك مستقبلك الذي ستصل اليه بعد حين.
العالم ميدان يلعب فيه بضعة افراد ويتفرج المئات ، وحينما تنتهي اللعبة يخرج الخاسرون كما الرابحون وقد نالوا شيئا ، قليلا او كثيرا ، عدا المتفرجين الذين دفعوا ثمن التذاكر، واتعبوا حناجرهم في الصراخ ، فهم لم ينالوا غير فرجة مدفوعة الثمن.
اذا كنت لاتستطيع المشاركة في اللعبة ، فانت قادر على ماهو ادنى ، وهو المعرفة بها وباسرارها ، فلعلك تستطيع تقدير مكانك ، حتى لاتفاجئك الايام .

29/05/1995

الناس والسياسة



ان قلة المعلومات المتاحة لعامة الناس حول مهنة السياسة ، هي السبب الرئيسي لشعورهم بغربتها وبعدها عن عالمهم ، وبالنظر الى الظروف المحيطة بالعمل السياسي في العالم الثالث ، ولاسيما عدم الاستقرار ، وماينشأ عنه من مشاحنات يطال شرارها بعض الناس احيانا ، فقد استقر العرف العام على تفضيل البعد عن السياسة ، باعتباره سبيلا للسلامة .
وينطوي تحت القرب من السياسة ممارستها ، كما ينطوي تحته مجرد الحديث فيها سلبا او ايجابا ، وفي بعض الازمنة ـ لاسيما في السنوات الماضية ـ كان الحديث في السياسة لايجري الا بين المقربين وأهل  الثقة ، حتى لو كان مضمونه غير مثير او غير معاد لجهة محددة ، فالحديث كان تدخلا ، و (التدخل في السياسة) كان تهمة خطيرة ، بغض النظر عن مضمون ومعاني ذلك التدخل .

الخوف والجهل
ويبدو لي ان الخوف من السياسة ـ وهو طبع تجده عند معظم العامة وكثير من المثففين في العالم العربي ـ قد ادى بهم الى تجاهل متعمد لما يجري في اروقتها ، تجاهلا ادى بالتدريج الى جهل حقيقي بها وبمضامينها واساليبها . وقد يبدو الجهل بالسياسة ، مريحا لبعض من يعنيهم امرها ، لكنه ـ بالنسبة للحكومات على وجه الخصوص ـ سبب للمتاعب ، ومعيق لمبادرات اصحاب القرار .

وفي ظني ان الكثير من مشروعات الاصلاح التي لم يجر تنفيذها ، انما اعيقت بسبب القلق من ردود الفعل السلبية ، من جانب الجمهور ، او على الاقل من جانب الاشخاص ، الذين يتمتعون بقوة تاثير على الجمهور ، على الرغم من ان تلك المشروعات ، لم تات الا بعد الدراسة والتمحيص ، وبعد ان دارت في اذهان الزعماء ورجال السياسة ، حتى اختمرت وتأكد صلاحها .

ان القلق من الاستقبال السلبي لمشروعات الاصلاح ، هو سبب مهم جدا لتعطيلها ، مع مايترتب على ذلك التعطيل من تفويت للمصالح العامة ، اذكر على سبيل المثال ان سياسات تحرير الاقتصاد التي اتجه اليها عدد من البلدان العربية منذ منتصف السبعينات ، لم تنطلق بالقوة المطلوبة ولا بالعمق الكافي بسبب معارضة الناس لها ، معارضة انطلقت من فهم غير دقيق لفوائد السياسات الجديدة وتاثيراتها على حياتهم وسبل عيشهم .

نتاج السنين
عدم الفهم الدقيق هذا لم يات من فراغ ، بل هو نتاج لسنوات طويلة من الجهل بحقائق مايجري في البلاد ، جهلا ادى بهم الى الريبة في كل مبادرة تقوم بها حكومتهم ، لاسيما اذا بدا انها ستكلفهم بعض العبء في البدايات .

وقد جرت عادة السياسيين العرب على اخفاء الحقائق عن جمهورهم ، او لنقل ـ على سبيل التحفظ ـ انهم لم يعتادوا اعلام الناس بحقيقة مايدور في بلادهم ، من نجاحات ومن اخفاقات .  وتبعت الصحافة ووسائل الاعلام هذه السيرة ، فهي لاتقول للناس الا ماسبق ان قاله اصحاب الشأن ، او ما رغبوا في قوله ، وهو في العادة قطر من بحر الحقيقة ، هذا اذا كان صحيحا .

وأذكر ـ على سبيل المثال ـ جدلا دار بين اثنين من الزملاء ، حول ظروف الاستثمار في بلد عربي كبير ، وكانت كبرى الصحف قد نشرت في ذلك اليوم ، تحقيقا على صفحة كاملة ، حول مصنع للتلفزيون والالكترونيات ، تابع لشركة حكومية قابضة ، وتحدث رئيس الشركة التي تنضوي تحتها مصانع اخرى حول طاقة المصنع ، والمستوى التقني الرفيع لعمله  ، واعتماده على اليد العاملة الوطنية (من الباب الى الباب) واعتبره مثالا ناجحا ، لجهود العرب في نقل التكنولوجيا وتوطينها . وأقسم احد الزميلين ان المقال كاذب (من الباب الى الباب) وقرر الاخر انه لابد ان يشتمل على شيء من الحقيقة ، اذا لم نقل كثيرا منها ، وفي النهاية فقد تحدثوا الى احد مهندسي المشروع ، الذي اخبرهم بان الكلام الذي نشرته الصحيفة ، هو نص كتيب دعائي ، كان المصنع قد وزعه لمناسبة افتتاحه قبل بضع سنوات ، اما رئيس الشركة الذي تحدث للصحيفة ، فهو برتبة وكيل وزارة ، لم يسبق له ان زار المصنع منذ ان تولى منصبه ، اما المصنع نفسه فهو مغلق منذ عامين ونصف ، بسبب نقص العملة الصعبة ، الضرورية لاستيراد المواد الخام وقطع الغيار .
وقد ضحكنا على انفسنا وعلى مجادلاتنا ، وعلى  تمنياتنا الساذجة .

مايقال في العادة
ولو تابعت تصريحات اهل السياسة أو الاعلام في بلد ، لظننت سكان الجنة يحسدون اهل هذا البلد ، على ماهم فيه من نعيم ، فلا مشكلات ولاصعوبات ، بل انتصارات وانجازات ومكاسب تتوالى كل يوم ، واذا وجدت مشاكل فهي تافهة ولاتستحق الذكر ، وهي معروفة ومحددة ، وهناك من يقوم بحلها ، بحيث لايستحق الامر حتى مجرد الالتفات اليه ، فضلا عن القلق  لاجله .

اما اذا اطلت الازمات برأسها فالتبرير موجود في الجيب الثاني ، فمن يتحدث عن ازمة كاذب ، ومن يشير الى مشكلة مغال ومبالغ ، وان مايقال مجرد اشاعات مسمومة يطلقها الاعداء والاجانب ، الذين يتآمرون على البلاد ومكاسبها ، الى آخر قاموس التبرير المعروف .
لقد مضى زمن كانت الاقطار العربية ، تتعرض بالفعل لحملات اعلامية ، تستهدف الضغط عليها لابتزاز مواقف سياسية ، لكن يبدو ان احدا لايصدق الان ان كل مايقال هو اشاعات مغرضة ، لان الناس اصبحوا غير قادرين على ابقاء عيونهم مغمضة واذانهم محشوة بالطين ، خاصة وان اصحاب الشأن من زعمائهم لايتكلمون ، واذا تكلموا فانهم يقيسون كلماتهم بالمثاقيل .

لهذا السبب نجد ان معظم العرب ، لايستمعون الى وسائل الاعلام الوطنية في بلادهم ، واذا استمعوا اليها فانهم لايصدقون ماتقول ، حتى يجري تكراره من مصادر اعلامية اخرى ، ولا أظنني مجافيا للحقيقة ، اذا قلت بان الاذاعة البريطانية ، هي الاذاعة التي تحظى باكبر عدد من المستمعين في العالم العربي ، لاسيما في اوقات الازمة ، حينما يشعر الناس بالحاجة الى المعلومات .
 هذا التطلع العام الى مصادر المعلومات في الخارج ، يستبطن اتهاما لصدقية وسائل الاعلام الوطنية ، وجدوى ماتقدمه للجمهور .

طير في السرب
والحقيقة ان الاذاعة والصحافة لاتستطيع ان تغرد خارج سربها ، فاذا كانت السياسة مغلقة في بلد ، فلابد ان تكون الصحافة والاذاعة كذلك ، واذا كانت مفتوحة وشفافة ، فان وسائل الاعلام مجرد تعبير عن حقيقة تجري ، قد توسع اطارها قليلا أو قد تضيقه قليلا ، لكنها لاتستطيع ان تكون غير ناقل لحقيقة تجري على ارض الواقع .

لو كان الناس يعرفون حقيقة مايجري في بلدهم ، اذن لاستطاعوا توقع ماسيأتي من أزمات ، واذن لبادروا في تقديم العذر لحكومتهم اذا واجهوا المشكلات ، بل ولعل بعضهم يبادر الى شد ازر الحكومة ومساعدتها في البحث عن علاج ، ولاشك ان بعض الجمهور قادر على تقديم العون اذا وجد الطريق مفتوحا وتلمس حرارة الترحيب .

والعمل في السياسة في أي بلد من البلدان العربية ، زراعة للهموم ووجع القلب ،  ويبدو لي ان معظم السياسيين العرب ، كثير منهم على الاقل ، يرغب في ان يشاركه الناس همومه ، لكنه يجد صعوبة في الانتقال من الانغلاق الكامل الى الانفتاح ، من الحجب الثقيلة الى الستائر الخفيفة الشفافة .

 وثمة من السياسيين من لايزال مسكونا بهاجس الانكشاف امام الاعداء ، او انكشاف العيوب امام الاصدقاء ، فهو بين اقدام واحجام ، يدفعه الى الصراحة رغبته في تخفيف اعبائه ، ويعيده الى محله خوف العواقب .
لكن من ناحية اخرى فان اغلاق الابواب لايحل المشاكل ، وان أخر انكشافها ، كما ان فتح الابواب لاياتي بالحلول السحرية ، انه وسيلة للتواصل بين اللاعبين وجمهورهم ، لجعل الميدان اكثر الفة واكثر دفئا .

وهو الى ذلك الوسيلة الوحيدة لجعل الجمهور سندا وعونا في المشكلات ، فضلا عن كونه سبيلا لتمكين السياسيين من انفاذ اراداتهم ، واطلاق ايديهم في طريق النجاح .


نشر في (اليوم) 29 مايو 1995

21/11/1994

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة



خلال تجربتها الانمائية الحديثة حصدت بلادنا الكثير من ثمار النمو الاقتصادي ، على اصعدة عديدة منها اتساع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، وارتفاع مستوى المعيشة ، فضلا عن تكامل الحد الادنى المطلوب من الخدمات المدنية ، وقد تغيرت صورة البلاد  بسرعة كبيرة ، قياسا الى التجارب المماثلة في بلدان أخرى ، فخلال السنوات القليلة الفاصلة بين أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات ، تحولت من دولة يغلب عليها الطابع الصحراوي الخشن ، الى دولة حديثة المظهر حيوية الاقتصاد .
كان لهذا النمو السريع والشامل ، تكاليفه على الصعيد الاجتماعي كما كان له ثماره ، وتلك معادلة في الحياة الاجتماعية لايمكن التنكر لها او تغافلها .
على اي حال ، لانحتاج للوم انفسنا على الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي. ثمة انعكاسات هي ناتج قسري عن تغير طبيعة العمل ومستوى المعيشة ، واخرى ناتجة عن اغفال المعالجة الضرورية ، للتطورات الاجتماعية المحتملة خلال مرحلة الانماء وما يليها ، فلننظر الى بعض الامثلة.

اعوام العزلة

حتى منتصف الثلاثينات الميلادية كانت معظم اقاليم المملكة ـ باستثناء المدن الثلاث الرئيسية في الحجاز ، التي ياتيها الناس مرة او مرات قليلة في العمر ـ منعزلة عن الاخرى على المستوى الاجتماعي ، فلا طرق معبدة ولا وسائل انتقال ، ولا وسائل اتصال ميسرة ليجول الناس بين هذا الاقليم وذاك ، أو يعرف اهل هذا الاقليم عن جيرانهم في الاقليم الاخر ، ولهذا فقد كانت المجتمعات المتعددة التي تألفت منها المملكة ، غريبة عن بعضها ، مختلفة في وسائل تدبير لقمة عيشها ، وبالتالي في العديد من وسائل تعبيرها عن ذاتها ، وتقرير خياراتها الحياتية .
لكن وصول بعثات  التنقيب الاجنبية الاولى ، ثم تدفق البترول وما اوجده من فرص عمل غير متوقعة ، وما جاء به من ثروة ومكانة ، غير هذه الصورة  ،  فقد بدأ الالاف من الناس من مناطق مختلفة يتحركون صوب منطقة البترول ، التي يوفر العمل فيها عائدا مجزيا ومريحا ، بالقياس الى مصادر  العيش الضيقة المعتادة ، أو صوب المدن الرئيسية التي استقبلت ثمار الدفعات الاولى من عوائد البترول ، على شكل زيادة في الطلب على الخدمات والسلع ، مما ادى الى تنشيط سوق العمل.

توسع المدينة

 لعلها من المفارقات ان المئات من اهل بلادنا ، الذين غادروها في الربع الاول من القرن العشرين ، الى الهند والبحرين والعراق والشام بحثا عن الرزق ، اصبحوا الان قادرين على استقدام اعداد متزايدة من اهل تلك البلاد للعمل هنا ، فلقمة العيش كبرت واصبحت قريبة .

في الرياض ـ على سبيل المثال ـ لم يستطع الاستاذ محمد المانع (1903-1987) كما يخبرنا في بعض كتاباته ، العثور على سكن خاص له ولموظفين آخرين ، عملوا في الديوان الملكي في ثلاثينات القرن ، الا بعد جهد جهيد ، فلم تكن المدينة لتستقبل من الاغراب الا قليلا ، يحلون ضيوفا على اهلها ، ولم يتوقع احد ان احدا من خارج اقليمها بحاجة الى السكن الدائم فيها ، اما الاستاذ سعيد الغامدي الذي درس تطور المجتمع القروي في قرى بلحمر الجنوبية ، فيروي ان واحدا من اهلها استقدم عاملا يمانيا لمساعدته ، فكانت هذه الخطوة موضوع حديث المجالس لعدة اشهر ، وعقدت لاجلها اجتماعات ودارت مناقشات بين شيوخ القرية ، انتهت الى (قرار) بان يقيم الرجل سكنا خاصا لأجيره على اطراف القرية ، لان القرية لاتحتمل رؤية (اجنبي) بل وتخشى منه .

اما اليوم فهذه القرية ، كما هو الحال في الرياض ، تضم بين جنباتها من غير سكانها ، مايوازي عدد هؤلاء او ربما يزيد ، لقد تغير التركيب السكاني في مدن المملكة وقراها خلال العقود الثلاثة الماضية ، بحيث اصبحت قادرا على ان ترى في كل مدينة ، نماذج اجتماعية لكل اقليم من اقاليم المملكة .

تأثير الهجرة

يؤدي خروج عدد كبير من الناس من مجتمعاتهم الاصلية ، الى اهتراء في النظام الداخلي لهذه المجتمعات ، يتجسد في صورة انحلال لقوة الضبط الاجتماعي للافراد ، ثمة قرى كانت تعتبر الراديو اداة من ادوات الشيطان ، وتعليم العلوم الحديثة تهيئة للكفر بالله ، اما السفر الى البلاد الغريبة فهو رضى بالكفر عن الايمان ، لكن العشرات من الشباب الذين خرجوا الى المدن الكبرى ، لاجل العمل اكتشفوا عادة الاستماع الى الراديو ، ومن ثم الانخراط في الصف المدرسي ، ولحقتهم اخواتهم او بناتهم ، ثم استطاع بعضهم السفر الى البلاد المبغوضة ، فوجدوا ان متعة الاكتشاف تستحق التمرد على الضوابط القديمة .

ولان الامر لايبقى سرا على الدوام ، فقد انتهى ذلك التمرد الابتدائي ، الى تلاشي قدرة المجتمع على ضبط ابنائه ، ضمن الاطارات السلوكية السائدة ، والتي يحميها توافق اجتماعي ، هو مانسميه بالقيم او التقاليد ، بكلمة اخرى فان هذه التقاليد التي سادت عشرات من السنين ، اصبحت عاجزة عن الصمود في وجه رياح التغيير .

الفرصة والقصور

هل كان هذا الامر طيبا بصورة مطلقة ؟
ربما كان ضروريا ، له نتائجه الحسنة وهي كثيرة لكنه لايخلو من بعض الاشكالات ، من بين نتائجه الطيبة هو ظهور الفرصة التي تحتاجها البلاد ،  لتحقيق مفهوم التواصل الثقافي والاندماج الاجتماعي بين سكانها ، فلم يكن من الصحيح بقاء ابناء البلد الواحد ، غرباء عن بعضهم متجاهلين احوالهم ، بينما تفرض عليهم الحقائق الموضوعية ، ان يكونوا شركاء في سرائهم وفي ضرائهم .

ومن النتائج السلبية هو قيام مجتمعات جديدة غير متعارفة . في المدن الكبرى على سبيل المثال ، ستجد المهاجرين من الاقاليم ، اكثر ميلا الى اقامة شكل جديد عن مجتمعهم الاصلي ، يعبر عنه في صورة تكتلات اجتماعية لابناء قرية واحدة او قبيلة واحدة ، وينطوي هذا الاتجاه على مبررات للانعزال عن شركائهم في هذه المدينة ، ممن ينتمون الى الاقاليم والقرى الاخرى.

ولا ارى لهذا التوجه الانعزالي مبررات كافية ومعقولة ، ماخلا الشعور الطبيعي بالتوافق الثقافي ، بين ابناء القرية او القبيلة الواحدة ، وهو توافق يوفر لاصحابه الاطمئنان والامان النفسي ، ويندر تحققه بسهولة بين اشخاص ينتمون الى اقاليم مختلفة.

على ان هذا التبرير يكشف ـ اذا صح ـ عن حالة غير مقبولة ، من ضعف التكيف الاجتماعي والثقافي لدى المواطن ، يعبر عنه بالهروب من المجتمع الواسع والمتنوع الذي تمثله المدينة ، الى مجتمع ضيق وأحادي ، هو اعادة انتاج متكلف لصورة القرية ، وهذا بدوره ناتج عن قصور في المنهج التعليمي والاعلامي ، الذي ينبغي ان يعيد صناعة صورة المجتمع في ذهن الفرد ، منذ طفولته وحتى يكبر ، المجتمع الكبير المتمثل في الوطن ، بديلا عن مجتمع القرية الصغير والسابق للدولة ، ان التواصل بين الافراد من مختلف الاصول والانتماءات الاجتماعية ، هو الذي يحقق مفهوم المواطنة ، ويقيم علائقها بين ابناء الوطن الواحد ، اما الانقطاع ـ ايا كان سببه ـ فهو سبب قوي لقيام حالة من الشتات الاجتماعي ، يصعب في ظلها بناء وطن للجميع .
نشر في (اليوم) 21نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...