‏إظهار الرسائل ذات التسميات التسامح الديني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التسامح الديني. إظهار كافة الرسائل

08/08/2018

في مستشفى الكفار

||التجديد ليس مشروعا محددا ببداية ونهاية. انه برنامج بحث مفتوح يساير الحياة وتحولاتها ويواكب تطوراتها. كل عمل يخدم التجديد هو خطوة في طريق ||
في الثالث من هذا الشهر كتب السيد عبد الرحمن ال شيبان ، على حسابه في تويتر: "صلينا اليوم صلاة الجمعة في مصلى المصحة هنا في التشيك. ما استغربه هو الإمام الذي قدم الى هنا للعلاج. فقد كان يدعو بهلاك واذلال غير المسلمين ، وهو ونحن وجميع من في المصلى ، قدمنا لبلادهم من اجل العلاج ".
هذا مثال من عشرات الامثلة التي تتكرر يوميا ، ويدور جميعها حول محور واحد ، خلاصته اتهام الخطاب الاسلامي المعاصر بالغربة عن واقع الحياة وضروراتها. نعلم طبعا ان خطيب الجمعة لم يأت بشيء من جيبه ، فقد نقل بدقة وأمانة ما وجده ، وما يجده كل باحث ، في تراثنا القديم.
لو اردنا وصف هذه المفارقة بعبارة صريحة ، فسوف نقول ان بعض ما في تراثنا الديني ، متعارض مع عرف العقلاء في هذا الزمان. الاحساس بهذا التعارض هو السر وراء الدعوات المتكررة للاعتدال والملاينة والتسامح وعدم الغلو ، وهو سر الدعوات الكثيرة للتخلي عن القناعات التي تنطوي على عناصر خرافية أو اسطورية. 
ان شريحة واسعة جدا من المسلمين المعاصرين ، يجدون بعض ما ينسب الى الاسلام ، غير معقول ، وغير متناسب مع ضرورات العصر. الشعور بهذه المفارقة ليس قصرا على من يوصفون بالليبراليين ، وليس ثمرة انبهار بالغرب او تأثر بنمط معيشته ، فهي تتكرر أيضا على لسان العديد من علماء الدين والمفكرين وبعض الدعاة.
الذين يدعون لتجديد الفقه ينتمي غالبهم الى شريحة الناشطين في المجال الديني. والدافع الوحيد لدعوتهم ، هو شعورهم بالتفارق المتزايد بين ما يعتقدونه من وعود الاسلام ، وبين عناصر الخطاب المستند الى الموروث الثقافي ، من قبيل ما ذكرناه في مفتتح المقالة.
ثمة من يتساءل: هل افلح دعاة التجديد هؤلاء ، هل قدموا مشروعا يعين على ردم الهوة بين تعاليم الدين وبين حاجات الحياة في هذا الزمان؟.
 سوف اجمل الجواب على هذا في نقطتين. اولاهما ان التجديد ليس مشروعا محددا ببداية ونهاية. انه اقرب الى برنامج بحث مفتوح يساير الحياة وتحولاتها ويواكب تطوراتها. كل عمل يخدم التجديد هو خطوة في طريق ، لا نستطيع تحديد نهايته. لان نهايته هي نهاية الحياة التي لا تتوقف عن التحول.
اما النقطة الثانية فان مفهوم التجديد يحتمل معاني شتى. بعض الناس يصرف هذا المفهوم الى استنباط احكام جديدة. وبعضهم يصرفه الى تيسير بعض ما يرونه عسيرا من الاحكام. وغيرهم يقصره على استعمال التقنيات الحديثة ، تقنيات اللغة او ادوات التواصل او الثقافة ، دون نظر جوهري في مضمون الخطاب.
والذي أرى ان تجديد الفقه والخطاب الديني بشكل عام ، لا يكون مؤثرا ما لم ينطلق من مراجعة لارضيته الفلسفية ، ولاسيما اعادة الاعتبار لدور العقل كمصدر للتشريع مواز للنص. ان الميل الغالب لعقلاء العالم إلى أمر ، يجعله حقيقة أو شبه حقيقة في وقته. مع علمنا بأنه محتمل التغيير بعد زمن. اعتقادنا بقدرة الشريعة على مواكبة التحولات التاريخية ، معناه على وجه التحديد ، هو تقبل وجود معيار خارجي ، تقاس عليه صلاحية احكام الشريعة ، وقابليتها للاستمرار او ضرورة تغييرها. هذا المعيار الخارجي ليس سوى عرف العقلاء ، الذي قد نسميه ضرورات الحياة او المصلحة ، او غير ذلك من الاسماء التي ترجع في نهاية المطاف الى تقدير عقلاء العصر لما يناسب وما لا يناسب.
الشرق الاوسط الأربعاء - 27 ذو القعدة 1439 هـ - 08 أغسطس 2018 مـ رقم العدد [14498]

04/01/2017

في علاقة التعليم بالتوتر الاجتماعي


بداية العام الجديد تدعونا للتوقف قليلا لتقييم ما شهدناه في العام المنصرم. لارغبة في ادانة أحد ، بل محاولة لفهم أسباب الفوضى الضاربة في المجتمعات العربية. وسوف أخصص هذه المساحة لبيان الحاجة الى مراجعة الفلسفة العامة للتعليم ، سيما ذلك الذي يتكفل بتشكيل ذهنية الطالب وهويته ، اي مناهج العلوم الانسانية.
لا ينتقل الناس من حال الوئام الى الشقاق والتنازع ، لأن سحرا قد مسهم فغير طبائعهم وقلب اخلاقياتهم.  لا تنعدم الثقة بين الناس ، ولا تنبت العداوة في نفوسهم بين ليلة وضحاها. انما تتفتح بذورها وتمتد جذورها على مدى زمني طويل ، يدركه المتأمل البعيد النظر ، الذي يرى نهاية المسار فور ان يضع الناس أقدامهم على أوله. 
 لطالما أثار اعجابي المستوى الرفيع للمناهج الدراسية في العراق وسوريا. لكن هذين البلدين بالتحديد ، ابتليا في السنوات الماضية بصراع أهلي جسد الكراهية والتوحش على نحو نادر المثال. بطبيعة الحال ليس ثمة رابط بين جودة المناهج وتفاقم الكراهية. انما العيب في المنهج الموازي الذي يربط الوطنية بالعدوان ، ويقرن التفوق بالغلبة وهزيمة الاخر المختلف ، ويصور التنافس الطبيعي على مصالح الدنيا ، كحرب وجود بين أمتنا والأمم الأخرى.
مثل كل الاحزاب الشمولية ، سعى حزب البعث الذي هيمن على السلطة في البلدين الى اعادة كتابة التاريخ ، من خلال تصوير الصراعات التي مرت على المنطقة ، طوال القرون العشرة الماضية ، كمحاولات أجنبية للقضاء على الأمة العربية. الهزائم صورت كمؤامرات ، والانتصارات صورت كبراهين على تمايز الدم العربي عن غيره. وجرى تصوير العربي باعتباره شجاعا وصادقا وصاحب حق لا جدل فيه ، والاجنبي طامعا وجبانا ومحتالا. وجرى تصوير الدين باعتباره منتجا قوميا ، يؤكد تمايز العرب وكونهم شهودا على البشر كافة.
التضخيم المبالغ فيه للهوية القومية ، استلزم التضحية بثلاث هويات ، اولاها الهوية الدينية العامة التي تشكل رابطا بين الفرد وسائر الناس وقناة لتفريغ الاحتقانات وتسكين الجراح. والثانية الهوية الوطنية التي تجمع العربي الى مواطنيه غير العرب. واخيرا الهوية الفردية التي تشير لاستقلال الانسان وتمايزه ، وكونه متحكما في مصيره الخاص.
تتماثل الايديولوجيات السياسية الشمولية ، في انها جميعا تسعى لصياغة هوية المواطن ، على نحو يحوله من شخص طبيعي الى جندي ، في خدمة الاهداف الكبرى لتلك الايديولوجيا والنظام السياسي الذي تقيمه أو تدعو اليه. ولهذا السبب فهي تعمل على تغييب العاطفة ، وتحتقر المصالح الشخصية ، وتركز على مثال الانسان الذائب في الجماعة ، الانسان الذي ينسى مراداته الخاصة وحقوقه الفردية ، وبالطبع حقوق الاخرين الفردية أيضا.
لقد رأينا الان عواقب هذه التربية. وجدير بنا ان نعيد توجيه التعليم العام على نحو يسمح لشبابنا بتشكيل شخصياتهم وفق ثقافة سياسية تفاعلية ، يدرك صاحبها قيمة ذاته واستقلالها ، كما يدرك في الوقت نفسه قيمة القانون والنظام الاجتماعي الذي يعيش فيه. ثقافة تدفع الفرد لاصلاح حياته والاسهام في اصلاح بيئته عبر القانون ، وبالتعاون مع مواطنيه ، وليس بالخروج على النظام العام وقسر الاخرين على اتباع مراداته.
لايوجد كتاب عنوانه "كيف تتمرد على النظام الاجتماعي". لكن مضمون كتاب كهذا ، قد يكون موزعا في العديد من الكتب والمناهج والممارسات التعليمية ، فضلا عن التربية الاجتماعية. وهو يسهم في تشكيل شخصية انفعالية ، تميل الى الاتباع لا الابداع. شخصية جاهزة دائما للولاء وتحويل الولاء بحسب الانفعالات والميول الظرفية.  
الشرق الاوسط 4 يناير 2017

http://aawsat.com/node/822051

24/11/2015

سؤال التسامح الساذج: ماذا يعني ان تكون متسامحا؟

||التسامح ببساطة هو ايمانك الداخلي بأن كل انسان له حق مطلق في اختيار طريق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة. انت اخترت ما يناسبك من عقائد وغيرك اختار ما يناسبه. وعند الله تجتمع الخصوم||
ماذا يعني ان تكون متسامحا؟. سؤال كهذا قد يبدو مغاليا في السذاجة. لكني أجد احيانا أن مانراه بديهيا هو بالتحديد ما يحتاج الى توقف وتأمل. الحقيقة اني جربت توجيه هذا السؤال في وقت سابق الى عدد من الشبان ، فوجدتهم جميعا يشرحونه في معنى اللين والتلطف في معاملة الآخرين. وهو ذات المعنى الذي شرحه ثلاثة خطباء استمعت اليهم في أوقات مختلفة. وكانت أحاديثهم في سياق نقض الاتهام الموجه للدين الاسلامي بأنه يشجع العنف والشدة.
واقع الأمر ان التسامح في معناه العميق ، سيما المعنى الذي نتداوله في الجدالات السياسية ، شيء مختلف تماما. فهو المعيار الناظم للمواقف العامة والعلاقة مع المخالفين لك والمختلفين معك. التسامح يعني ببساطة ايمانك الداخلي بأن كل انسان ، انت وغيرك ، له حق مطلق في اختيار الطريق الذي يراه كفيلا بتحقيق سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة. انت اخترت ما رايته مناسبا لشخصك من أفكار او عقائد او نمط عيش او دائرة مصالح او موقف سياسي او رؤية للمستقبل. اختارها عقلك ، أو ارتاحت لها نفسك حين وجدتها شائعة في محيطك ، أو ورثتها عن أبويك.
غيرك أيضا مثلك. يختارون طريقة حياتهم ، ديانتهم ، مواقفهم السياسية والاجتماعية ، بحسب ما تمليه عليهم عقولهم ، أو بحسب ما تطمئن اليه نفوسهم ، وهم يتحملون المسؤولية الكاملة عن خياراتهم. ليس لك حق في منعهم من الاختيار ، كما لم يكن لهم حق في منعك. ولن تحمل أوزارهم ، كما لم يحملوا وزرك.
مبدا الاختيار الفردي الحر يرتبط بجذر عميق في حياة البشر هو الايمان بعقلانية الانسان وحريته ، وكونه – لهذا السبب - قادرا على التقدير المسبق لعواقب قراراته وافعاله. لأن الانسان عاقل وحر ، فهو مسؤول عن أفعاله. ولو كان مجبرا على أي شيء ، فليس من العدل ان يتحمل مسؤوليته او يثاب او يعاقب عليه.
كل انسان يرى نفسه محقا في اختيار مبادئه ومعتقداته ومواقفه. ولولا هذه القناعة لما تبنى ايا منها. هذا هو الأمر الطبيعي. لكن الناس يختلفون في الموقف من خيارات الآخرين. فبعضهم يراها باطلة تماما وربما مثيرة للسخرية. وبعضهم يراها مبررا لقمع حاملها وحرمانه من بعض حقوقه ، بل ربما قتله. آخر النماذج التي رأيناها من مثل هذا النوع هو تنظيم داعش الارهابي الذي سبى النساء في سنجار لأنهن كافرات ، وجلد المسلمات في الرقة لأن حجابهن غير مطابق لما يراه سنة صحيحة ، وقتل المصلين في الكويت لانهم مبتدعة ، وقتل ابناء عشيرة البونمر في الانبار لانهم خونة ، وقتل عشرات المدنيين في بيروت وباريس لأن حكومتهم معادية. بعبارة أخرى ، فهو نموذج عن شريحة من المجتمع تريدك نسخة طبق الأصل عن النموذج الذي يرضاه التنظيم ، والا فأنت عدو أو ربما قتيل.
كي نتخلص من هذه المسارات الحرجة فعلينا ان نؤمن بأن ما توصلت اليه عقولنا هو احد احتمالات الحق ، وان ما توصلت اليه عقول الاخرين هو احتمال آخر للحق. أن نؤمن بأن الطريق الى الله ليس زقاقا ضيقا مثل ازقة قرانا القديمة ، بل هو شارع عريض يتسع لكل خلق الله.
مما تعلمناه في "أصول الفقه" ان الفقه هوالظن الغالب. فما يتوصل اليه الفقيه باجتهاده ، رأي علمي وليس بالضرورة مراد الخالق. ولذا فقد يتراجع الفقيه عن هذا الرأي ويستبدله بغيره في وقت لاحق ، او قد يخالفه غيره من الفقهاء وأهل النظر. في مناسبة سأل احدهم العلامة محمد حسين النائيني عن معنى هذا التغيير: هل هو انتقال من الحق الى الباطل او من الباطل الى الحق؟. فأجابه العلامة ببساطة: انه انتقال من أحد معاني الحق الى معنى آخر. بعبارة أخرى فان الحق ليس له صورة واحدة هي الصورة التي في ذهنك او في ذهني.
اذا آمنا بهذه الحقيقة ، فعلينا ان نراجع ما في انفسنا من استعلاء على الغير ، قائم على قناعة بأن غيرنا على باطل. ذلك ان ما عندنا قد يكون صورة من صور الحق ، وما عند غيرنا صورة أخرى ، قد تبدو لنا مناقضة او غريبة أو بعيدة الاحتمال. لكن هذه هي طبيعة العقل الذي يريك ما لا يري غيرك ، ويري غيرك ما لا يريك. واقع الأمر ان كل ما نعرفه وما نؤمن به من اعتقادات واراء ومواقف ، هي اجتهادات لبشر أمثالنا ، تقبلناها لاننا الفناها او تعلمناها ، فاستقرت في عقولنا او اطمأنت اليها نفوسنا. وهي قد تكون حقا كاملا او ناقصا.
جوهر التسامح ان تؤمن بحق الآخرين في مخالفتك ، مثلما أعطيت لنفسك الحق في مخالفتهم.
"النهار" الكويتية 24 نوفمبر 2015

20/09/2015

التسامح وفتح المجال العام كعلاج للتطرف

يمكن للدين ان يبرر الكراهية مثلما يبرر المحبة. لكن خطاب الكراهية بذاته خطاب مستقل ، يظهر في هذا الظرف او ذاك ، فيحتاج الى تبرير ايديولوجي كي يمسي مقبولا بين الناس. في العراق مثلا لم يرجع حزب البعث الى مبررات دينية قبل قصف القرى الكردية بالسلاح الكيمياوي خلال حملة الانفال. وفي المانيا استند خطاب الكراهية النازي على ايديولوجيا قومية وليس مبررات دينية. مثلما استند خطاب الكراهية في مجموعات الكوكلوكس كلان الامريكية الى دعاوى عنصرية ، اعتبرها اصحابها ايديولوجيا قائمة بذاتها. وجرى مثل هذا في جنوب افريقيا وغيرها.
الكراهية كسلوك او كمشاعر تشكل منظومة مستقلة ، تستعين بالمبرر المناسب في كل ظرف. نعلم ان اتجاهات الرأي العام تتباين من ظرف لآخر. لكن ما يهم دعاة الكراهية ومستثمروها هو اقناع عامة الناس بان هذا السلوك غير المقبول ، طبيعي او ربما ضروري.
على اي حال فان المشكلة التي نواجهها اليوم هي الجماعات التي تربط بين الكراهية والدين. ولهذا نحتاج الى التركيز على العوامل الدينية التي يمكن ان تبرر او تغذي مشاعر الكراهية او تحمي المصالح المرتبطة بنشر الكراهية.
في هذه المساحة الصغيرة سوف اقترح نوعين من العلاج ، هما تعزيز قيمة التسامح وفتح المجال الديني:
أ) نقصد بقيمة التسامح معناها الفلسفي ، اي اعتبار تعددية الحق ، وحق الانسان في اختيار المعتقد ونمط الحياة الذي يريد. ومحاربة الفكرة القائلة بان طريق الحق واحد ، او ان احدا من البشر مخول بجبر الآخرين على هذا الطريق. يجب تحويل هذا المفهوم الى عنصر رئيس في التربية المدرسية ، وفي التوجيه العام. هذا لا يعالج – بالضرورة – المشكلة الراهنة ، لكنه يساعد على تفكيك الذهنية التي تسمح بولادة خطاب الكراهية او تفاقمه. نحن – بعبارة اخرى – نوفر وقاية للاجيال الجديدة التي نخشى ان يجرفها تيار الكراهية والعنف.
ب) شهدت العقود الثلاثة الماضية ما يمكن اعتباره افراطا في توحيد المجال الديني ، ادى الى انقسامات مركزية. نحن اليوم نتحدث عن خمسة او ستة تيارات دينية تقتسم معظم الساحات. وجميع هذه التيارات تستثمر الموروث التاريخي في تعزيز مشروعيتها. ولهذا فهي تزداد انغلاقا مع مرور الزمن. وزاد في الوضع سوءا ان هذا العدد القليل من التيارات ، نجح – لاسباب مختلفة – في الاستيلاء على المجال السياسي الأهلي ، فاختلط الديني الذي طبيعته الثبات والاستمرار بالسياسي الذي طبيعته التحول والتنوع. ونتيجة لهذا اصبح الفضاء السياسي العام في اكثر من دولة عربية ، مغلقا او ضيقا على كل من يبحث عن خيارات بديلة او مختلفة.
في معظم الدول العربية ، ثمة صراع ظاهر او مكتوم بين فريقين: الدولة والتيار الديني ، الذي يتبنى في الغالب المقولات التقليدية الموروثة. هذا تعارض لا يمكن حله بادماج المجالين ، الرسمي والاهلي ، ولا بتحالف الدولة مع التيار الديني التقليدي، فهما عالمان متناقضان جوهريا.

الحل الصحيح هو فتح المجال امام حياة سياسية اعتيادية ، تساعد على ظهور خيارات بديلة للجمهور ، ومن بينها خصوصا خيارات دينية بديلة. اعتقد ان التعددية السياسية الحرة (اي غير التوافقية او المضبوطة بضوابط حكومية او دينية) يمكن ان تشكل أداة فعالة لاحتواء الطامحين والباحثين عن أدوار ، وهو المقدمة الضرورية لاصلاح خطوط الانكسار الاجتماعي والسياسي ، او على الاقل تلافي انعكاساتها الخطرة ، سيما تفاقم حالات الاحباط بين الاجيال الجديدة ، وهي الارضية التي تسمح بظهور الاتجاهات الراديكالية او تبرير الكراهية والعنف.

"القبس" الكويتية 20/09/2015 
http://www.alqabas.com.kw/Articles.aspx?ArticleID=1091015&CatID=323

17/12/2013

الكراهية




في منتصف تسعينات القرن المنصرم ، يوم كانت الجزائر على وشك الانزلاق في حرب اهلية شاملة ، سئل الشيخ محفوظ نحناح ، رئيس حركة المجتمع الاسلامي الجزائرية عن الحل الذي يقترحه للنزاع الداخلي ، فأجاب ببساطة ان الحل هو الآية المباركة "كفوا ايديكم واقيموا الصلاة". من يحمل سلاحا فليلقه جانبا وليتجه الى الله بقلبه ، ايا كانت النتيجة.

يومذاك ، بدا هذا المنطق مغاليا في التبسيط. بل لقد وصفه احد الزعماء السياسيين بالسذاجة والفشل في استيعاب تعقيدات الوضع الجزائري. لكن الايام مرت ، وتوصل الجميع ، الحكومة والمعارضة ، الى ان المخرج الوحيد المتاح من الازمة المستفحلة ، هو الطريق الذي اقترحه نحناح. استعادت الجزائر سلمها الاهلي ، ثم استعادت الدولة من يد العسكريين ، ليس لان الجيش هزم المعارضة المسلحة او العكس ، بل لأن شرائح كثيرة في الطرفين قررت ان تضع السلاح ، حتى لو وصفت بانها جبانة او انهزامية.

كرر هذه الفكرة ديزموند توتو ، اسقف جنوب افريقيا ، الحائز على جائزة نوبل للسلام. سأله صحفي عن نصيحة يوجهها لمواطنيه ، سيما المناضلين وضحايا التمييز العنصري. فأخبره بان وصيته الوحيدة هي نسيان التاريخ.

في اوقات لاحقة سمعت الاسقف يتحدث ساخرا عن تجربة الاستعمار الاوربي في افريقيا. لكنه كان – في كل مرة – يؤكد ان هذا التاريخ مجرد رواية نعود اليها كي نتسلى او نسخر ، او ربما كي نأخذ درسا في قدرة الانسان على الانزلاق في الآثام. لكننا – يقول توتو - نريد ان نتحرر من هذا التاريخ ، بكل ما يحويه من الم وكراهية. نريد تركه وراء ظهورنا ، كي لا يشغلنا عن بناء مستقبل مختلف.

كلام الاسقف الحكيم مثل كلام المرحوم نحناح ، ينطلق من تفسير بسيط لعجز الناس عن التسالم والتحرر من الكراهية ، خلاصته: ان الانسان قد ينزلق في الغضب او التصنيف السلبي للآخرين ، لأي سبب. لكنه بمرور الوقت ، يصبح اسيرا لدوامة الكراهية والكراهية المضادة ، مثل مدمن المخدرات الذي يبدأ بدوافع بسيطة ، لكنه يعجز لاحقا عن الخروج من دوامتها.

لا سبيل للتحرر من دوامة الكراهية غير الارادة الفردية. وتحديدا ارادة التحرر من تاريخ الكراهية ، ومن الذاكرة المشحونة بقصص الكراهية ، ومن ناشري الكراهية وتجارها ودكاكينها. لم يعد الامر خيارا او رفاهية. الدماء والدمار والدموع التي تقتحم عيوننا وآذاننا كل ساعة ، على امتداد العالم العربي والاسلامي ، نذير بان مستقبلنا قد يذهب وقودا لنيران حروب تؤججها كراهيات انفلتت من رفوف التاريخ واستوطنت نفوسنا وحياتنا. لن ينتصر احد في معركة الكراهية. ولو تغلب يوما فسوف يحمل على كتفيه جبالا من الخسائر والاثم والالم ، تجعل الهزيمة اكثر شرفا واحسن حالا.

الاقتصادية 17 ديسمبر 2013

مقالات ذات علاقة

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع

فلان المتشدد

خديعة الثقافة وحفلات الموت

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة

اتجاهات في تحليل التطرف

ابعد من تماثيل بوذا

ثقافة الكراهية

تجريم الكراهية

تجارة الخوف

في انتظار الفتنة

العامل السعودي

غلو .. ام بحث عن هوية

نحتاج إلى قانون يحمي السلم الأهلي وحقوق المواطن

21/08/2012

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

||لا يعيش الانسان في فراغ ، فهو مثل سمكة في بحر ، يتاثر بتياراته وبالاختلافات الفيزيائية للماء والاشياء السابحة او الهائمة فيه وحواليه||

الثقافة في معناها الضيق هي مجموع المعارف التي يتلقاها الفرد بشكل نظامي ، من خلال القراءة والنقاش والتفكير الخ. ولذا يطلقون صفة "المثقف" على شريحة من الاشخاص المهتمين بالمعرفة والممارسين لها بصورة منتظمة ، ولا سيما من خلال القراءة والنقاش.
اما المعنى الموسع للثقافة فيشمل مجموع التجارب الفردية والجمعية التي شارك فيها الفرد مباشرة او تلقاها على شكل مستخلصات مشروحة او رمزية. وهي تشمل التجارب المعرفية والفنية والحياتية والروحية ، كما تشمل اشكال المعاناة والفرح. ويعبر عن الثقافة من خلال اللغة وطرق الكلام او في اطار الفعل والممارسة الحياتية اليومية والتقاليد الاجتماعية. الثقافة في هذا المعنى هي الخلفية الذهنية المسؤولة عن 90%  على الاقل من افعال الانسان الاعتيادية ، لاسيما افعاله العفوية.
رؤية الانسان لنفسه وللعالم من حوله ، رؤيته لموقعه في هذا العالم ، وتعامله مع الاخرين ، هي – الى حد كبير – ثمرة لخلفيته الذهنية ، او – بحسب تعبير استاذنا ابراهيم البليهي – البرمجة الذهنية. حقيقة الامر انه لا يوجد انسان في العالم الا وهو مبرمج على نحو ما. قليل من الناس يساهم هو في برمجة نفسه وتحديد مكونات ذهنيته . اما الاكثرية الساحقة من البشر فان ذهنيتها تتشكل في حالة اللاوعي.
لا يعيش الانسان في فراغ ، فهو اشبه بسمكة في بحر ، يتاثر بتيارات هذا البحر وبالاختلافات الفيزيائية للماء والاشياء السابحة او الهائمة فيه وحواليه. الكلام والاصوات التي يسمعها الفرد ، والمشاهد التي يراها ، والالوان التي يميزها ، والخواطر التي تراود ذهنه ، والمخاوف التي تنتابه ، ومشاعر الفرح والاسى التي تعتمل في داخله ، اشواقه وامانيه ورغباته ، كلها تسهم في تشكيل ذهنيته ، اي تصوره عن نفسه وعن العالم. نادرا ما يتحكم الانسان في هذه المصادر او في تاثيرها عليه ، فهي تحدث امامه او في داخله دون ان تستأذنه ، وهي تتفاعل مع نفسه ، مع عقله وقلبه ، سواء احبها او كرهها. محبة الاشياء وكره الاشياء ، ارادته لها او عجزه عنها ، تسهم ايضا في تشكيل ذهنيته.
هذا يفسر لنا اختلاف اراء الناس بحسب انتماءاتهم الاثنية والثقافية واطاراتهم الاجتماعية ومواقعهم ومهنهم. لو كنت رجل دين فسوف تكون لغتك واطار علاقاتك الاجتماعية وهمومك مختلفة عن الطبيب والمهندس. ولو كنت عربيا فستكون مختلفا على الارجح عن الامريكي والياباني ، ولو كنت امراة فانشغالاتك ونطاق علاقاتك ستكون بالتاكيد مختلفة عن الرجال.
هل يكفي هذا للقول ان اختلاف الناس هو الظرف الطبيعي؟. هل يكفي هذا لتبرير الدعوة الى حرية التفكير وحرية التعبير؟. هل نقول ان التسامح لا يعني فقط اللين في التعامل مع الاخرين ، بل يعني تحديدا الايمان بان لهم الحق في ان يختلفوا عنك مثلما انت – بطبيعتك – مختلف عنهم؟.
الاقتصادية 21 اغسطس 2012

15/04/2010

وجهات "الخطر" وقهر العامة


الصديق د. عبد الرحمن الوابلي (الوطن 9 ابريل 2010) عاتب على الشيخ سلمان العودة فكرة "التكافؤ الثقافي" التي اطلقها في برنامجه التلفزيوني الاسبوعي "الحياة كلمة" (تلفزيون MBC    في 2 ابريل 2010). كان العودة يجيب سائلة حول صحة زواج فتاة سنية برجل شيعي. والمعروف ان بعض قدامى الفقهاء قد رفضوا التزاوج بين اتباع الاديان والمذاهب المختلفة. وبعضهم ركز على منع زواج الفتيات اللاتي يتبعن مذهبه من رجل يتبع مذهبا آخر ، لان الفهم السائد يعتبر المرأة طرفا ضعيفا في العائلة وانها – لذلك – سوف تترك مذهبها الى مذهب الزوج.

المرحوم د. عبد الرحمن الوابلي. انتقل الى رحمة الله في مارس 2016

هذي بطبيعة الحال ليست نصا قطعيا بل اجتهاد توصل اليه فقهاء سابقون بناء على ما تيسر لهم من معرفة او دليل. لكن الفتوى بقيت متداولة عبر الزمن حتى وصلت الينا . ولان اكثر فقهائنا يخشون من مخالفة الماضين ، فقد اخذ بها كثير منهم ، وعارضها بعضهم باجتهاد جديد. الدكتور الوابلي يعارضها من زاوية المصلحة ، فهو لا يجادل في ادلتها ، بل في ما يترتب عليها . ولعل بعض الناس يجادل بان المصلحة ليست حجة في الشرع ، او ان المصالح هي ما عرفه الشرع او اهل الشريعة دون غيرهم ، وبناء عليه يرفض كلام الوابلي ونظرائه.

لكننا نعرف ان المصلحة هي جزء عضوي من مفهوم الحكم الشرعي لا سيما في المعاملات ، ومن بينها عقد الزواج وسائر العقود. وقد اشتهر بين الاصوليين ان الاحكام تدور مع المصالح ، فاذا ثبت ان حكما يؤدي الى تعطيل مصلحة ثابتة للمسلمين ، فان هذا الحكم يصبح محل شك وليس المصلحة التي تعارض معها. من ناحية اخرى فان تحديد المصالح والمفاسد ليس من الامور التي ترجع الى الفقهاء بل الى عرف عقلاء المسلمين ، فاذا رأى عقلاء المسلمين ان رأيا فقهيا مثل الراي المشهور في "تكافؤ النسب" يؤدي الى ضرر واضح على مجتمعهم ، جاز لهم تعطيله ، لاننا – حسب تعبير الامام ابي  حامد الغزالي – "لا نهدم مصرا كي نبني قصرا".

الوابلي اعتبر راي الشيخ العودة من نوع "وجهات الخطر" وليس وجهات النظر. اقول ان الحق هو ما قاله الوابلي. لكننا نستطيع فهم السبب الذي حمل العودة على الاخذ بهذا الراي ، وهو على الارجح الخشية من صدم المتدينين التقليديين لو افتى باجازة ذلك الزواج ، تقابلها خشية مماثلة من خسارة جمهوره المتنور فيما لو استند الى الفتوى القديمة التي تجيز منعه. وجود العنصر الشيعي في المسألة يمثل تحديا خاصا للمفتي ، لان جمهوره الرئيس ، اي التيار السلفي ، لا يتسامح ابدا ازاء علاقة من ذلك النوع الذي سألت عنه الفتاة.

كان على الشيخ العودة ان يصرح بالحكم الشرعي المعروف ، اي تكافؤ النسب ، ويبدي رايه فيه ، اما بقبوله او رفضه ، او يبين الاراء المختلفة فيه. اما مقولته عن "التكافؤ الثقافي" فهي مشكلة جديدة لا يصعب التنبؤ بنتائجها ، وهي قد تؤدي الى نفي احكام شرعية راسخة ومشكلات لا تحصى. دعنا نفترض ان زوجين يتبعان مذهبا واحدا وينتميان الى قبيلة واحدة ، لكنهما يتفاوتان في التحصيل العلمي ، او ينتميان الى لغتين مختلفتين ، او بلدين مختلفين ، بعبارة اخرى فانهما لا يتكافآن ثقافيا .. فهل يمكن للقاضي ان يطلقهما جبرا بناء على هذا الراي كما يفعل في قضايا تكافؤ النسب المعروفة؟.

نعرف ان الكلام عن "التكافؤ الثقافي" لا يستند الى اي دليل، وهو – مثل الراي في تكافؤ النسب - يتعارض مع المصالح الثابتة للمسلمين، لكننا على الاقل نعرف ايضا ان موضوع تكافؤ النسب محدود في المجتمعات القبلية اما التكافؤ الثقافي فهو واسع وتطبيقه – لو حصل – سيكون مصيبة على المسلمين.

ابريل 2010

مقالات  ذات علاقة
-------------------


الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...