‏إظهار الرسائل ذات التسميات التربية المدرسية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التربية المدرسية. إظهار كافة الرسائل

04/06/1999

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع



وجدت كثيرا من الناس مهتما بالتحقيق الذي نشرته مجلة المعرفة عن التعليم في ايران ، وأظن هذا الاهتمام دليلا على الحاجة إلى عرض تجارب التعليم في الاقطار الاخرى ، لا سيما تلك التي اثبت نظامها نجاحا في تخريج شباب أكفاء ومؤهلين لمواجهة المتطلبات العملية للاقتصاد المحلي .

إضاءات : د. محمد الرشيد ج 1/6 - YouTube
المرحوم د. محمد الرشيد وزير التعليم

ان قراءة هذه المجلة التي تصدرها وزارة المعارف ، يساعد في تكوين انطباع مختلف عن السياسات التعليمية التي تريد الوزارة الوصول اليها ، ويمكن الجزم دون تردد ، بان الاجواء العامة في الوزارة ، قد تغيرت منذ ان حل الدكتور محمد الرشيد وطاقمه فيها ، لكن لا تزال المسافة بعيدة بين واقع التعليم والمستوى المستهدف ، رغم ان مجلة المعرفة وفرت فرصة لا سابق لها للتعبير عن ارادة التغيير ، وفي كثير من الاحيان عن اتجاهات التغيير واغراضه ، وكشفت عن وجود تيار عريض لا يشعر بالرضى عن الأوضاع الراهنة لهذا القطاع المهم ، ولديه الجرأة والاستعداد للمغامرة بحمل أعباء التغيير .

من نافل القول ان تطور المجتمع السعودي مرهون بالدرجة الاولى إلى الاطارات التربوية والتعليمية ، التي يمر بها جميع الشباب قبل دخولهم ميدان الحياة الحقيقي ، فنجاح هؤلاء الناس أو خيبتهم ، مرجوع في المقام الاول إلى ما تلقوه من تعليم ، قبل ان ينضموا إلى سوق العمل ، ثم ان أهليتهم للعمل وحمل الاعباء ، هي مفتاح حركة التطور الاجتماعي .
في مختلف اعداد المجلة ، وفي تصريحات المسؤولين عن قطاع التعليم ، تواجهك انتقادات لطريقة التعليم بالتلقين والتحفيظ ، ودعوات إلى تنشيط الحوار بين عقل الطالب ومادة الدراسة ، كي يحصل الطالب على (العلم) حتى لو قصر عن حفظ (النص) .

 وأظن ان الفرصة مناسبة الآن ـ وقد انتهت السنة الدراسية ـ لاعادة انتاج هذه الافكار على شكل برامج عمل تفصيلية ، فالحقيقة التي لا مناص من ذكرها ان عددا كبيرا من الاداريين والمعلمين ، لا يعرف كيف يقلع عن طريقة التلقين إلى التعليم ، ذلك لانهم درسوا على هذا النسق ، ومارسوا العمل سنوات طويلة ، دون ان يخبرهم أحد بان التعليم شيء مختلف عما درجوا عليه ، ولعل من المفيد عقد ورش عمل في كل منطقة تعليمية يشارك فيها معلمون وخبراء ، لمناقشة الطرق الحديثة في التعليم ، والاهتمام باستقطاب اكبر عدد ممكن من المعلمين ، للمشاركة واستعراض الصعوبات العملية التي ربما تعيق سيرورة البرامج الجديدة .

ومن المهم أيضا مناقشة الطريقة المناسبة للتوفيق بين الطريقة المقترحة والمقررات الدراسية ، التي يجد بعض المعلمين صعوبة في تجاوزها ، خاصة مع وجود عرف عام يقضي بانهاء المقرر ، بمعنى شرح كل موضوع فيه ، والتاكد من الطالب قد حفظه ، ثم امتحانه فيه على وجه التحديد ، لا في النتائج العلمية التي يفترض بالمعلم والمنهج معا ان يساعدا الطالب في التوصل اليها ، وأظن ان الاشكالية الرئيسية التي تواجه المعلمين تكمن في هذه النقطة بالذات ، فمعظم المقررات وضعت على خلفية الطرق التقليدية (التلقين).

خلاصة المقال ان أهمية التعليم توجب تركيز الجهد عليه لتطويره وتطوير مخرجاته ، وأجد ان لدى قادة هذا القطاع رغبة واضحة في التطوير ، لكننا بحاجة أيضا إلى تحويل النوايا والافكار إلى برامج عمل .

28/03/1999

صناعة الشخصية الملتبسة




في ابريل 1977 استضافت مكة المكرمة المؤتمر العالمي الاول للتعليم الاسلامي ، الذي وجه الانظار بصورة خاصة إلى (ازدواجية التعليم) باعتبارها أحد العيوب الرئيسية في النظام التربوي لجميع الاقطار الاسلامية .

حسب معظم الباحثين الذين قدموا اوراقا للمؤتمر ، فان الازدواجية المذكورة ، هي ثمرة عجز النظام التعليمي القديم عن استيعاب التطورات الجديدة في العلوم ، مما اضطر المجدتمعات المسلمة إلى اقتباس النظام التعليمي الذي تبلور في الغرب ، بمناهجه وفلسفة عمله .

 ولأن العلوم الحديثة شديدة الالتصاق بحاجات الحياة المتغيرة وحركتها الدائبة ، فقد اصبح هذا النظام محور التنشئة الاجتماعية ، والإطار الرئيسي لتدوير الثقافة ، واعداد الاجيال الجديدة من المسلمين ، بينما اتجه النظام القديم إلى مزيد من التخصص ، فتحول من إطار تـثـقيفي وتربوي مفتوح لعامة الناس ، إلى نظام خاص يقصده راغبو التخصص في علوم الشريعة واللغة العربية دون غيرهم . بديهي ان أحدا لا يحول بين الناس والانتظام في النظام التعليمي القديم ، لكن هذا أصبح عاجزا عن ضمان فرص كافية لخريجيه ، وكان في الاصل عاجزا عن توفير الخبرات التي يحتاجها المجتمع في شؤون حياته المختلفة .

وجرى تحديد العيب الرئيسي للنظام التعليمي الحديث ، في تأسيس علومه على فلسفة مغايرة لفلسفة التوحيد ، وأنه لا يقيم اعتبارا خاصا لذلك النوع من الممارسات الاجتماعية ، التي تكرس جزئية الفرد في الجماعة وارتباطه المصيري بتطورات حياتها ، أو تساهم في تدوير الثقافة الاجتماعية بين الاجيال المختلفة ، ان التعليم الغربي ينظر للفرد كموجود مستقل له كيان قانوني محدد ، منفصل عن كيان الجماعة التي ينتمي اليها.

وفيما بعد ، حين يخرج الفرد إلى سوق العمل ، فان علاقته بالافراد الآخرين في الجماعة ، تحددها في المقام الاول مصلحته الخاصة ، وهي ـ لهذا السبب ـ علاقات مؤقتة ورسمية إلى حد كبير ، بينما اهتم التعليم التقليدي قبل تحوله الاخير ، بنقل الثقافة والقيم الناظمة للسلوك الاجتماعي إلى الفرد ، ولعب دورا في تعزيز الروابط التي تشد كل فرد إلى الآخرين من أبناء مجتمعه ، باعتباره وإياهم شركاء في السراء والضراء والمصير .

وقد حاول جميع الاقطار الإسلامية تقريبا تدارك هذا الخلل ، بادخال مواد التربية الدينية وعلوم اللغة في نظام التعليم الحديث ، لكنها بقيت منفصلة ، تلقن لطالب المدرسة باعتبارها علما من العلوم ، وليست فلسفة يقوم عليها كل علم ، كما ان القصور الذي اعترى إعداد المعلم في كل مستويات التعليم ، حدد مهمته بتلقين الطالب ما هو مكتوب في الكتب الدراسية التي اعتمدت كمنهج ، بهدف محدد ، هو إعداد الطالب للنجاح في الامتحان والحصول على شهادة (اكمال الدراسة) .

إن معظم المعلمين ـ ولا نقول كلهم خوف المبالغة ـ لا يعرف كيف يدرس الفيزياء على قاعدة التوحيد ، ولا يعرف كيف يدرس التاريخ على قاعدة التواصل الحضاري بين أجيال البشرية ، ولا يعرف كيف يغرس في عقل الطالب المقومات الثقافية لهويته ، باعتبارها مجال تواصل بين مختلف الأفهام ، وهو في الغالب عاجز عن مساعدة الطالب على تشكيل شخصيته وثقافته الخاصة ، المستقلة ولكن المتواصلة في آن واحد ، ان معظمهم لا يعرف كيف يقوم بهذه المهمة ، لأن أحدا لم يبذل كبير جهد في تعليمه طبيعة هذه المهمة ولا كيفية القيام بها .

لا يقتصر الخلاف بين النظامين على نوع المناهج المعتمدة في كل منهما ، ولا في طريقة التدريس أو مسمى المدارس ، بل في الناتج الأخير ، أي شخصية الفرد الذي تشكلت ثقافته عبر واحد من المسارين ، وفي ذلك المؤتمر حذر الباحثون من ان استمرار ازدواجية النظام التعليمي تنذر بتخريج شريحتين متعارضتين ، تعبر إحداهما عن اتجاه شديد التمسك بالدين وتعبيراته ، بينما تنظر الاخرى إلى التدين باعتباره شأنا جانبيا في الحياة .

 لكني أجد المشكلة أبعد من هذا التقدير ، فنحن اليوم نواجه شخصية واحدة ، لكنها ملتبسة ، يتجاور فيها البعد الديني والبعد العلمي ، لكنهما لا يتواصلان ، ويتجسد الالتباس في عجز الشخص عن منح أحد البعدين فرصته للاشتغال في مختلف أمور الحياة ، فهو تقليدي إلى أبعد حد في حياته الاجتماعية ، وهو عصري إلى أبعد حد في حياته المهنية .

بالنسبة لبعض الناس فان هذا الامر طريف ومسل ، وربما مثير للاعجاب ، لكن هذا هو بالتحديد فحوى المقولة الشهيرة (مالقيصر لقيصر وما لله لله) وهي على أي حال مقولة طريفة ومثيرة للاعجاب .

22/03/1999

كتب الطبخ هي الاكثر رواجا في معارض الكتب



إذا قدر لك التامل في أصناف الكتب التي تعرضها دور النشر العربية في المعارض السنوية المتخصصة ، مثل سوق القاهرة الدولي للكتاب ، أو معرض بيروت أو غيرهما ، فسوف تلاحظ ان الكتب الجديدة قليلة في الجملة ، وان الكتب التي تقدم شيئا جديدا ، نادرة جدا.
 الكتب التي تقدم جديدا هي في الغالب ترجمات عربية لدراسات وضعت في لغات أجنبية ، والكتب الأكثر مبيعا هي كتب التراث ، دواوين الشعر ، وكتب التدبير المنزلي ، وفي معرض الظهران للكتاب الذي انعقد هذا العام ، كان أكثر الكتب مبيعا هو (الشيف رمزي) المتخصص في الطبخ .
على مستوى التعليم فان قضية مثل تعريب  التعليم في الجامعات ، لا زالت موردا للأخذ والرد ، ويقرر عدد من الاساتذة بالفم الملآن ان استمرار التعليم الجامعي باللغات الاجنبية ، ضروري لتسهيل وصول الطالب إلى المصادر العلمية الاجنبية.
 وهذا التبرير يعني ان المصادر العربية غير موجودة أو غير موثوقة ، ولا يزال راغب التضلع في العلوم مضطرا الى احتمال مشقات السفر إلى أوربا والولايات المتحدة لمواصلة أبحاثه .
هذه الامور التي ربما يمر بها بعض الناس مرور الكرام ، تكشف عن خلل في غاية الأهمية ، خلل في حركية الثقافة العربية ، اننا نتحدث عن هذا وقد مرت سنين طويلة على بداية التعليم الحديث والجامعي ، ودخول الطباعة والصحافة ، ثمة جامعات عربية تجاوز عمرها الآن ثلاثة أرباع القرن ، واحتفل غيرها بمرور نصف قرن على قيامه ، وخلال هذه السنوات الطويلة ، تخرج مئات الآلاف ممن كان عليهم المعول في تحريك عجلة العلم والثقافة العربية .

وربما وجد بعض الناس ان الوضع الثقافي العربي بخير ، فلدينا عشرات من الصحف و الدوريات ولدينا المئات ممن يجيدون الحديث في الاذاعات وعلى المنابر ، وتمتليء الدوائر الحكومية والشركات بالالاف من خريجي الجامعات.

لكن الحديث ليس عن (الكم) الثقافي ، مع ان ما يذكر قليل بالمقارنة مع الامم الأخرى ، بل عن (الكيف) وتحديدا عن فاعلية الثقافة السائدة في تهيئة الطرق أمام تحديث العالم العربي ، ونستطيع الاستدلال بكل بساطة على ان الثقافة المتداولة في العالم العربي ، لا تلعب هذا الدور ، من تفسير الاقبال على النوعية المذكورة سلفا من الكتب ، ومن تأمل متأن في محتويات الصحافة اليومية والاسبوعية التي يقرأها أكثر الناس ، ان الاقبال على كتب التراث من قبل عامة الناس ، يعني انهم مشغولون بهم الماضي أكثر من هموم الحاضر ، أو لعلهم يهربون من هموم الحاضر بتجاهلها ، والانشغال بما مضى لأن همومه غير مكلفة ، أو لعلهم لا يجدون في الحاضر الثقافي شيئا يستحق العناء.
 أما الاهتمام بالشعر فينطوي على شعور بالعجز عن التعبيرات المباشرة عن الهموم الفعلية ، أو رغبة في الانصراف إلى التأمل الوجداني الأقرب إلى التصور والخيال ، بدل الانشغال بالواقعي والمادي ، كما ان الاهتمام بثقافة التدبير المنزلي تعني تطور التيار الاستهلاكي من استهلاك مجرد ، أي رغبة في التملك والاحتذاء ، إلى منهج حياة منظم ومؤسس على أصول محددة .

لكن الامم لا تتقدم بالهروب من الحاضر إلى الماضي ، والمشكلات لا تعالج بترك الميدان الواقعي المادي إلى التأمل الوجداني ، كما ان شيوع ثقافة الاستهلاك والتملك في المجتمعات ، تضعف مبررات الانتاج والابداع ، وتعزز خيار الاعتماد على الغير في تدبير حاجات الحياة ، بدل تطوير الكفاءة الذاتية .

الثقافة والعلوم على مستوى العالم العربي كله لا تزال تحت خط الفقر ، بمعنى انها عاجزة عن مسايرة النشاط الاقتصادي القائم فعلا في البلدان العربية ، والدليل البسيط على هذا ، اننا لا نزال بحاجة إلى (شراء) الخدمات العلمية من الخارج ، فاذا احتجنا إلى بناء عمارة كبيرة أو جسر أو طريق رئيسي ، استقدمنا شركة اجنبية لتضع لنا المخطط وتشرف على التنفيذ ، وإذا احتجنا مصنعا أو تجهيزات لمصنع اشتريناها جاهزة من الخارج ، وإذا احتجنا إلى صيانة هذه الاشياء وتجديدها ، عدنا إلى الخارج ، فأين الذين تعلموا واين نتاج الجامعات والمدارس العليا ، الم تقم هذه المؤسسات من أجل ان نستغني عن الخبير الاجنبي في اقامة منشآتنا ؟ .

المخططون في القطاع الخاص والادارات الرسمية يقرون بالحاجة إلى الاعتماد على الخبرات الوطنية ، لكنهم ـ وقت الحاجة ـ يذهبون إلى الأجانب ، بتبرير بسيط وقابل للتفهم ، خلاصته ان المنطق يقضي باتباع أحدث السبل في الانشاء والتاسيس ، لانك لا تريد القيام بتجارب بل تريد انشاء يعتمد عليه لسنين طويلة قادمة .

انه تبرير قابل للتفهم كما ذكرت ، لكن المشكلة انه صحيح اليوم كما كان صحيحا قبل نصف قرن ، وسيكون صحيحا بعد عشرين أو ثلاثين عاما في المستقبل ، فمتى سنعتمد على خبرائنا ومتى سيعمل رجالنا بمفردهم ؟ .

المجتمع العربي يتقدم على المستوى الاقتصادي ، لكن ثقافته لا تتطور بسرعة موازية أو في نفس الاتجاه ، ولهذا فانها لا تخدم حاجاته ، بكلمة أخرى فالوضع اليوم ينم عن افتراق بين اتجاهات الحياة واتجاهات الثقافة ، وإذا تباينت الثقافة والحياة ، أمسى الانسان يعيش في عالم مزدوج ، عالم مجزأ ومتباين الأجزاء ، يريد كل جزء ان يصنع انسانه الخاص .

17/03/1999

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي


دار موضوع الثلاثاء الماضي حول تنازع الثقافات في المجتمع الواحد ، بفعل دخول عناصر التقدم المادي على خط الصراع بين ثقافة تنتمي إلى زمن يوشك على الافول وآخر يريد احتلال المشهد ، وزبدة القول ان المجتمع ـ في وقت محدد ـ هو حالة ثقافية / زمنية ، لا تريد إعلان موتها ولا التنازل عن مواقعها ، رغم انها تعبير عن زمن انقضى وانتهت مبررات وجوده.
 لكن الجدل بين الثقافتين لا ينتهي بسهولة أو في زمن قصير ، خاصة إذا تبلور دفاع الثقافة القديمة في قوى اجتماعية تكافح دون حلول الجديد ، بذريعة ان القديم تجسيد لأصالة المجتمع وروحيته ، والجديد تعبير عن هزيمة للذات والتحاق بالغير المعادي ، أي ترجمة السائد كصورة للذات والجديد كتهديد للذات ، وتستقطب هذه الترجمة الذكية تأييدا واسعا في المجتمعات حديثة العهد بالانفتاح على العالم ، ولا سيما المجتمعات الشديدة الاعتزاز بالذات ، بغض النظر عن الطبيعة التاريخية للثقافة الانسانية .

ظهرت نماذج لهذا الصراع في كل المجتمعات التي خاضت تجربة التمدين ، وانتهى معظمها بسيطرة الثقافة الجديدة كما حصل في أوروبا ، أو بإعادة تنسيج ، تحاور فيها الجديد والقديم ، لانتاج بديل تتشابك فيه أصول ثقافية قديمة وفلسفة عمل جديدة ، كما حصل في اليابان .

وكلا النموذجين كان نصب أعين المخططين العرب الذين كرسوا حياتهم للنهوض بمجتمعاتهم ، لكننا ـ رغم هذه المعرفة ـ نواجه في المجتمع العربي سياقا جديدا ، يتجسد في عودة جزء مهم من الشريحة الاجتماعية التي تفاعلت مع التجديد وعملت ضمنه ، إلى تبني الثقافة القديمة ، لمبررات مختلفة ، بعضها يعود إلى قصور عملية الاحلال الثقافي ، وبعضها ناتج عن الافرازات السلبية لمشروع التمدين .

وقد انبعثت الثقافة القديمة في معظم الاقطار العربية ، وتحولت في أحيان كثيرة إلى عقبة كؤود تعيق تجدد المجتمع وتحديث حياته ، وفي أحيان أخرى إلى فلسفة للانتقاض على المجتمع أو التشكيك في كل عنصر من عناصر التطور المادي والاجتماعي ، ويتجسد هذا الانبعاث في مظاهر عديدة ، بعضها يمكننا ذكره وبعضها نخشى ذكره ، فنكتفي بالاشارة اليه من بعيد ، من بينها على سبيل المثال عودة بعض الناس إلى الاهتمام بالسحر وتفسير الاحلام ، وعودة البعض الآخر إلى استعمال الوسائل المتشددة والعنيفة لقمع الاختلاف في الافكار والاراء .

ونلحظ بصورة عامة ان المجتمع العربي متباطيء جدا في الاقرار بأن التحديث المادي لا يمكن له ان يستكمل دون تحديث ثقافي مواز ، يتناول إعادة هيكلة القيم الحاكمة على رؤية الانسان العربي للآخرين والأشياء ، واعادة انتاج التقاليد والأعراف الاجتماعية لكي تخدم المتطلبات الحياتية للمجتمع في مرحلته الحاضرة ، باعتبارها نواظم للسلوك ، مرتهنة لحاجات المجتمع في مرحلته الزمنية ، وليست قيما عابرة للزمن أو مجردة .

وطرحت تفسيرات عديدة لهذه العودة ، منها ما يربطه بعلل متمكنة من الشخصية العربية ، مثل ذلك الذي اقترحه د. محمد جابر الانصاري الذي يقول ان العربي أميل إلى الصراع والمنازعة منه إلى البناء الذي يتطلب سعة صدر وصبرا ، وهو يضرب مثالا بسيطا فيقول ان انسانا ما مستعد للخروج إلى الحرب إذا دقت طبولها ، مع ما تنطوي عليه الحرب من خطر الفناء ، لكن هذا الشخص بالذات لا يرغب أبدا في حمل مكنسة لتنظيف الشارع أمام بيته .

ومن بين التفسيرات ما يربطه بنظم التربية والتعليم السائدة ، مثل رأي د. عبد العزيز الجلال ، الذي وجد ان التربية المدرسية تميل إلى انتاج شخصية مهمشة أحادية البعد ، وبطبيعة الحال فان الانسان ذا البعد الواحد لا يستطيع احتمال التغيير المتوالي في البشر والاشياء ، الناتج عن تغير مصادر الثقافة وأساليب العيش وأدوات تحصيله .

ومن التفسيرات أيضا ما يشير إلى عيوب في مشروع التمدين ذاته ، الذي ركز على تحديث الاقتصاد وسبل المعيشة ، لكنه أغفل الانسان الذي يفترض ان يكون المستهدف الأول لهذا المشروع ، فكأن المشروع افترض ان الانسان العربي كامل ، لا ينقصه غير تخلف المعيشة ، فانصب الجهد على تطوير مصادرها .

ووجدنا نتيجة لهذا ان الناس قد انصرفوا بكل همة إلى تحسين قدراتهم المادية ، ورفع مستوى معيشتهم ، لكنهم لم يبذلوا جهدا موازيا في تطوير رؤاهم وثقافتهم ، كما ان المشروع قد خلا تماما من تصور متكامل لما سيفرزه التطور المادي من حاجات اجتماعية غير مادية ، ولا سيما تغير رؤية الانسان لنفسه وتقييمه المستجد لدوره الاجتماعي وعلاقته مع الغير ، وما يترتب على هذا من اختلال في توازن القوى السائد ، وبالتالي منظومة القيم التي تحميه أو تبرر وجوده .

وثمة تفسيرات أخرى ، تدور غالبا حول واحد من الثلاثة السابقة ، وسوف نعود إلى الموضوع مرة أخرى الثلاثاء القادم .

10/09/1998

المدرسة ومكارم الاخلاق



نتحدث عادة عن دور (تربوي) للمدرسة ، إضافة إلى دورها التعليمي المعروف ، وكان قد لفت انتباهي ملاحظة لأحد المدرسين ، قال فيها ان التربية مهمة الوالدين ، أما المدرسة فمهمتها التعليم ، حيث لا يتسع الوقت لأداء المهمتين في آن واحد .

المبررات التي عرضها الاستاذ تبدو منطقية لا يصعب تفهمها وقبولها ، رغم صعوبة القبول بالمحصلة النهائية ، فهو يقول مثلا ان معظم الاساتذة يجدون المنهج الدراسي طويلا ، بالقياس إلى عدد الحصص والوقت المخصص له خلال العام ، كما ان عدد الطلبة في معظم الصفوف يتجاوز الحد المناسب ، مما يضطر المعلم إلى انفاق كامل الوقت المخصص في شرح المنهج ، سيما وانه سيكون مدار تقييم الطالب في الامتحانات الشهرية أو النهائية .
وعلى رغم منطقية التبرير ، فلا زلت مترددا في قبول محصلته ، وهو اذا صح في بعض المدارس ، فلا ينبغي ان يكون صورة عن الوضع الاعتيادي في جميعها .

ثمة مهمات تربوية لا يمكن للبيت ان يؤديها ، بل لا ينبغي التعويل عليه فيها ، الا اذا كنا واثقين من تفهم الوالدين لها ، وهو أمر لا يمكن ضمانه في اغلب الاحوال .

من ذلك مثلا اخلاقيات التعامل مع الغير ، فقد ورثنا قيما وسلوكيات تحتاج الان إلى شطب أو تحتاج إلى تهذيب ، ولا نتوقع ان يكون الآباء الذين اعتادوا على هذه القيم ، وربما آمنوا بها ، قادرين على نقضها وتعليم خلافها لابنائهم ، قيم من النوع الذي يلخصه القول المشهور (كن ذئبا والا اكلتك الذئاب) وقيم من النوع الذي يلخصه القول الآخر ( ما حك جلدك غير ظفرك) و (الذي يأخذ أمي اقول له عمي ) فهذه الامثال التي تشير الى قاعدة ثقافية لخط كامل من السلوك الاجتماعي ، انما تؤسس في الحقيقة لشخصية الانسان المتفرد ، الذي لا يؤمن بفضيلة التعاون مع الغير ولا الاندماج في الجماعة ، الا اذا ضمن عودة الفائدة عليه شخصيا ، حيث تكون مصلحته الذاتية معيار التفاضل ، دون مصلحة الجماعة التي هو عضو فيها أو جزء منها ، تلك القيم ، وان امكن رؤية وجه ايجابي لها ، الا انها تنتهي في المحصلة ، إلى تبرير الافراط في عبادة الذات ، ورؤية الاخرين باعتبارهم موضوعا للاستثمار ، لا شركاء في الكفاح من أجل ارتقاء الحياة وعمران الارض .

خلال السنوات القليلة الماضية تحدثت الصحف كثيرا عن مسألة التطرف ، وأشار بعضها إلى دور للمدرسة في بلورة أو تثبيط الاتجاه المتطرف ، ونحن نعلم ـ من قراءة تاريخنا الاجتماعي ـ ان المجتمع مؤهل لاعادة انتاج السلوكيات والافكار المتطرفة ، وان كثيرا من الآباء قد تبلورت شخصيتهم وثقافتهم  في وسط يؤمن بهذا النوع من التفكير ويمجد أصحابه ، قبل ان تظهر الثمار المرة للتطرف في السنوات الأخيرة .

 وفي حالة كهذه فاننا لا نستطيع الاعتماد على التربية المنزلية في انتاج شخصية الجيل الجديد ، الذي نتمنى ان نراه متواضعا ، متوازنا ، متعاونا ، قادرا على استقبال آراء الاخرين والتعامل معها بعقل مفتوح ، قادرا على التعامل مع الآخرين باعتبارهم أحد اثنين ـ كما يقول الامام علي بن ابي طالب ـ (اما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) . تحتاج بلادنا في مرحلتها الحاضرة وفي مستقبلها ، اشخاصا قادرين على الملاينة والتكيف ، قادرين على نسيان مسبقاتهم الذهنية والنفسية حين يعملون وحين يتعاملون .

ومن ذلك أيضا السلوكيات الفردية ، التي وان لم تتضمن إضرارا مباشرا بالغير ، الا انها تعبر عن شخصية عابثة ، لا أبالية ، لو نظرت مثلا إلى المعارك العظيمة التي يخوضها الناس في الشوارع من أجل اللحاق بالاشارة الخضراء ، أو تجاوز سيارة بطيئة ، المعارك التي تكلفنا في كل عام من الضحايا والاصابات وتلف الممتلكات ، ما يشبه نتائج الحروب ، فالواضح ان طالب المدرسة يتعلم هذه الاشياء من ابيه أو من اقرانه أو من الاخرين الذين يراهم في الشوارع ، ولعله يجد الامر ممتعا قبل ان يصبح ضحية . الذين يمارسون هذا النوع من السلوك ليسوا جميعا من الصبيان ، معظمهم من الكبار الذين لهم ابناء في المدارس .

انظر إلى مثال آخر على مستوى التهذيب الشخصي ، الاب الذي يفتح نافذة السيارة ليلقي بعلبة المرطبات ، أو بقايا المأكولات ، أو المناديل الورقية في الشارع  ، انما يعلم اولاده الجالسين معه في السيارة ، كيف يفعلون حين يصبحون كبارا ، انه لا يؤذي شخصا بعينه في هذه الحالة ، بل يؤذي مجموع الناس الذين يرغبون في رؤية بلادهم نظيفة ، وهو يزيد في أعباء المساكين ، الذين قضت عليهم اقدارهم بان يعملوا جامعين لقمامة الشوارع ، في صيف بلادنا الحارق ، الولد لا يتعلم هنا كيف يرمي الاوساخ ، بل يتعلم كيف يكون عابثا ، قليل الاهتمام بما لا يخصه مباشرة .

لننتقل إلى جانب آخر يتعلق بصورة المستقبل في عيون الطالب ، ففي السنوات الماضية اعتاد الناس على اعتبار الوظيفة الحكومية الضمان الوحيد للمستقبل ، وكانوا يعتبرون هذه الوظيفة شيئا مؤكدا اذا أنهوا دراستهم ، بغض النظر عن طبيعة الاختصاص ومستوى الاداء الدراسي ، ربما لهذا السبب لم يكن كثير من الطلبة يجهدون انفسهم في الدراسة ، ولا في اختيار التخصص المناسب ، همهم ان يتخرجوا بأسهل الطرق ، لكي يضمنوا كرسيا في دائرة وراتبا في آخر الشهر ، عن دوام لا يتجاوز الثلاثين ساعة في الاسبوع ، اذا بالغوا في الاخلاص .

لقد انقضى ذلك الزمان ، واصبح الحصول على وظيفة من هذا النوع مثل جوائز المسابقات ، لا ينالها غير المحظوظين ، اصبحنا اليوم نسمع عن مئات من الناس ، من خريجي المدارس والجامعات ، يبحثون عن وظيفة فلا يجدون ، ليس لانعدام الفرص كما أظن ، بل لقلة الكفاءة أو لصعوبة الشروط ، وهذه هي الحال الطبيعية التي كنا سنصل اليها على  أي حال ، رغم ان العادة قد جرت على اعتبار ظروف السنوات الماضية هي الحالة الطبيعية ، مع انها في حقيقة الامر حالة استثنائية محدودة بموضوعها وزمنها ، طالب اليوم بحاجة إلى تفكير جديد في مستقبله ، وبحاجة إلى مؤهلات جديدة لمواجهة تحديات هذا المستقبل . الاب الذي اعتاد على ما مضى ، لا يزال يظن بان الحصول على وظيفة حكومية ، ممكن دائما ، وان ما ينقصه هو (الواسطة) وهل يمكن ايجاد واسطة لعشرات الالاف الذين ينهون دراستهم كل عام ؟ .

ترى هل يمكن الاعتماد على الوالدين في توجيه ابنهم إلى الوجهة الاخرى ، وكيف لهما ان يعرفا طبيعة هذه الوجهة وحاجاتها ، هذه الوجهة الجديدة وليدة ظرف جديد ، لم يسبق لهما التعرف عليه ، ولا معرفة حاجاته ولا مواجهة تحدياته ، فمن أي كيس سيستخرج الاب ما يعطيه للولد ، وهل سمعتم باناء ينضح ما ليس فيه ؟ .

لكل ما سبق اعود إلى القول بأن (التربية) هي مهمة المدرسة ، فهي التي يفترض فيها العلم بالوجهة التي ينبغي ان يقاد الطالب اليها ، وهي التي ينبغي ان تعرف صورة الشخصية القويمة ، التي سيجتهد الطالب في اكتسابها ، وهي الجديرة بتوجيه الجيل الجديد إلى مكارم الاخلاق والفضائل .

قد تعيق ظروف خاصة هذه المدرسة أو تلك عن القيام بدورها التربوي ، فتنصرف إلى حشو أدمغة طلابها بالمعلومات بدل تربية نفوسهم ، لكن لا ينبغي ان تتحول هذه الحالة إلى قاعدة عامة مقبولة ، والا فاننا نغامر بأثمن ما لدينا ، اعني رأس مالنا البشري والانساني ، الذي لا قيمة لأي شيء إذا فقدناه أو فقدنا ما هو ضروري فيه .

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...