‏إظهار الرسائل ذات التسميات الادارة الحكومية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الادارة الحكومية. إظهار كافة الرسائل

23/02/2009

الانصاف .. لا شيء سوى الانصاف


ابسط ما نتوقعه من الوزراء والمسؤولين الذين تولوا مناصبهم اخيرا هو ارساء مبدأ الانصاف في التعامل بين اداراتهم وبين المراجعين. لا نطالب الوزير بمتابعة المعاملات ، وحتى لو اراد فلن يفعل الكثير . 99 بالمئة من المعاملات الحكومية تجري في المستويات الوسطى والدنيا من الادارة ، ولهذا فان تحسين مسار العلاقة بين الوزارة والمراجعين يتركز في هذين المستويين .
ما ندعو اليه ببساطة هو ان يصدر الوزير قائمة بحقوق المراجعين تقابل بالتحديد ما هو مطلوب منهم . لا نتحدث هنا عن قائمة بالنصائح الاخلاقية والاداب المتوقعة من الموظفين ، بل بالحقوق المستندة الى وصف قانوني واضح . حين تعترف للمراجع بالحق في شيء ، فانت تجرم كل من خرق هذا الحق وتفرض عليه عقوبة ، وتحدد جهة مرجعية تتولى تطبيقه. دعنا نأخذ مثالا : حين تتقدم الى المحكمة طالبا اثبات ملكية ارض او بناء مثلا ، فهم يفرضون عليك معايير محددة يعرفها المهندسون والمحامون ويجتهدون في الالتزام بها قبل تقديم المعاملة . لكنك تجد فيما بعد ان هناك مطالب اخرى مثل موافقة البلدية وربما وزارة الزراعة والمالية واذا كنت في المنطقة الشرقية فسوف يطلبون منك موافقة شركة ارامكو وربما غيرها ايضا .

 يتوقع المراجع ان تجرى هذه الامور كلها في ظرف شهر او شهرين خاصة اذا كان ذا همة وذهب بنفسه لمراجعة هذه الدوائر. لكنه يكتشف لاحقا ان الوقت مفتوح ، بمعنى انه قد يستغرق عاما في الحد الادنى وقد  تتضاعف حتى يخسر المراجع من الوقت والجهد ما يعادل قيمة الملك الذي يريد اثباته . الطريف في الامر ان بعض الدوائر مثل البلدية لا تكلف نفسها عناء الموافقة او الرفض رجوعا الى دفاترها الخاصة ، بل تطلب ارسال لجنة من ذوي الخبرة يعينهم عادة عمدة المحلة او القرية ، وهذا يتطلب دفع مبالغ  لهؤلاء ، غير محددة ولا يوجد لها اساس قانوني ، وتتناسب عادة مع حجم الملك وقيمته في السوق. لا تستطيع التملص من هذه الفقرة الا اذا كنت مستعدا لشكاوى ومناقشات تطول شهورا اضافية .

اذا عارضت هذه الاجراءات فسيرد عليك مسؤولو الدوائر بان هدفها هو حماية حقوق الدولة ، وهذا تبرير حسن . لكن ماذا عن حقوق المواطن صاحب المعاملة ؟. وماذا عن القيمة الاقتصادية للزمن والجهد الذي يبذله؟. نحن نجد ان الاصل عند كل دائرة هو ضمان حقوقها كاملة واجبار المواطن على الالتزام بما تقرره لضمان تلك الحقوق ، فماذا عن واجباتها ؟. اذا كنا نتحدث عن الانصاف ، فان الانصاف يقتضى الموازنة بين الطرفين ، بالغاء الاجراءات والمطالب غير الضرورية وتقديم بديل عن المطالب المكلفة . والاهم من كل ذلك هو تحديد وقت لانهاء المعاملات . يستطيع الوزير مثلا ان يقرر ان رخصة البناء يجب ان تصدر في موعد اقصاه اليوم السابع من تاريخ تقديمها . او ان اثبات الملك يجب ان لا يتاخر عن ثلاثة اشهر وان على الدوائر الاخرى ان تقدم سلفا المعايير التي تريد تطبيقها في الموافقة والرفض بحيث لا يضطر المواطن الى اللهاث وراء هذه الدائرة وتلك.

اصدار قرار من هذا النوع ربما يكون عسيرا في ظل التقاليد الادارية السائدة ، لكنه سيكون ممكنا وسهلا لو بدانا بمراجعة الاجراءات وحذف ما هو غير ضروري منها . وهناك قطعا الكثير من الاجراءات في معظم الدوائر لا داعي لها اصلا ، ومنها ما هو تكرار لاعمال يقوم بها اخرون ، ومنها ما يرجع الى ازمان قديمة ولم يعد له موضوع ولا فائدة.

اتمنى ان يبدأ الوزراء الجدد بحصر جميع التعليمات واللوائح الخاصة بمعاملات المواطنين واعطائها الى لجنة خبراء مهمتها المحورية هي حذف الزوائد والمكررات والاجراءات المعطلة ، ثم اصدار لائحة بحقوق المراجعين والجهة المكلفة بالبت فيها عند الشكوى . ستحقق هذه الخطوة قدرا من الانصاف في التعامل بين الوزارة والجمهور ، واذا نجحت فسيكون للوزير الحق في الفخر بانه كان حقا رجل التغيير 
.
عكاظ 23 فبراير 2009

06/02/2008

المجتمع السري


يقول باحثون إن الاقتصاد السري في مصر يعادل تقريبا ثلث الناتج القومي الإجمالي. والاقتصاد السري هو وصف للنشاطات التجارية التي لا تخضع للتنظيم الرسمي، وهي واسعة في مصر بسبب ضيق الإطارات القانونية والمؤسسية، لا سيما التعقيدات البيروقراطية وتعسف إدارات الضرائب، والقوانين المعيقة. حالة الاقتصاد السري في مصر هي نموذج لظاهرة عامة في العالم العربي تتلخص في التباين بين القدرة الاستيعابية للإطارات النظامية من جهة وبين مستوى الحركية والنشاط الاجتماعي من جهة أخرى.
سوق شعبي في القاهرة
يمكن تشبيه العلاقة بين الحركية الاجتماعية والتنظيم القانوني بالعلاقة بين ماء النهر ومجراه، إذا كان مجرى النهر واسعا ومرنا فسوف يستوعب كل ما يصب فيه من مياه وسوف يقوده إلى الجهات الصحيحة والمفيدة، واذا كان المجرى ضيقا، فإن الماء الزائد سوف يفيض على جوانب المجرى أو يشق طرقا جديدة بعيدة عن مجرى النهر، أو يتحول إلى فيضان. قد تكون المجاري الجديدة مفيدة للأراضي العطشى وقد تكون مضرة، مثلما هو الفيضان الذي قد يفيد وقد يدمر ما يجد أمامه. في كل الأحوال فإن عجز الإطارات القانونية والمؤسسية عن استيعاب الحراك الاجتماعي سوف يؤدي بالضرورة إلى قيام مسارات ومؤسسات ونشاطات اجتماعية غير خاضعة للتنظيم الرسمي وغير قابلة للإدارة، يصفها الباحثون الاجتماعيون بالمجتمع السري مثلما يصفون التجارة غير المنظمة بالاقتصاد السري.
المجتمع السري ليس بالضرورة مجهولا او مكتوما، فالناس جميعا أو شريحة منهم على الأقل تعرف بوجوده وتمارسه وتستريح إليه، بل وتعتبره سياقا حياتيا اعتياديا مثلما النشاط المؤطر قانونيا هو نشاط حياتي اعتيادي. الفارق بين الاثنين يكمن تحديدا في وجود إطار رسمي ينظمه، لا أكثر ولا أقل. سواء عرف البيروقراطيون بوجود المجتمع السري أو غفلوا عنه، وسواء استعظموه او استهانوا به، فإن فعله وتأثيره في نفوس الناس وفي حياتهم، لا يقل عن فعل المؤسسة الرسمية وتاثيرها. وعلى أقل التقادير فإنه يؤثر في جوانب من حياة الناس لا تصل إليها يد المؤسسة الرسمية.
وفي العادة فإن الدوائر الرسمية في جميع الدول تسعى للتعرف إلى تلك النشاطات. يحركها في هذا السعي القلق الأمني، أو الرغبة في التنظيم والإدارة. لهذا يمكن القول إن الدوائر الرسمية تعرف غالبية النشاطات الأهلية غير المنظمة، معرفة كاملة او جزئية. ومن المفترض ـ نظريا على الأقل ـ أن تقود المعرفة بها الى المرحلة التالية، أي تنظيم تلك النشاطات وتأطيرها. وهنا تكمن المشكلة التي تعانيها معظم الدول العربية، أعني التباطؤ والتلكؤ في توفير المتطلبات اللازمة لتأطير النشاط الأهلي، بل وفي بعض الأحيان تنميطها جميعا كمشكلات أو تهديدات، بدل النظر إليها كفرص وعلامات صحة في المجتمع.
لعل منتديات الانترنت هي أكثر أشكال المجتمع السري شيوعا في الوقت الراهن، ويكشف العدد الكبير من هذه المنتديات عن شريحة ضخمة من الاهتمامات والهموم والنقاشات الدائرة في المجتمع. والحقيقة أنها قد أصبحت موردا رئيسيا للأفكار والمعلومات لمعظم المهتمين بالرأي العام والمشتغلين بالشأن العام. منتديات الانترنت هي شكل واحد فقط من أشكال المجتمع السري، وربما أكثرها إثارة للاهتمام. لكن الى جانبها ثمة أشكال عديدة أخرى للنشاط الأهلي، بعضها أكثر نضجا ولعله أعمق تأثيرا. هذه الأشكال وتلك هي نماذج أولية لتيارات جديدة في المجتمع، أو هي تعبيرات عن تيارات قائمة فعالة في المجال العام.
سواء أعجبتنا هذه التعبيرات أم أزعجتنا، فهي تمثِّل في مجموعها حقيقة المجتمع في لحظته الراهنة. حقيقة المجتمع كنطاق واسع ومتنوع، وهو يزداد تنوعا واتساعا مع مطلع كل شمس. إذا تخلى المجتمع عن ركوده وبدأ في الحركة، فإن الحركة بذاتها تفرز أنواعا من النشاط معظمه جديد وغير مألوف. المجتمعات الحية هي التي تسارع إلى الإقرار بحقيقة ذاتها وما تنطوي عليه من تنوع وتغير ، فتبادر إلى توسيع إطاراتها وتنظيماتها القانونية والمؤسسية كي تستوعب الوافدين الجدد إلى الحياة العامة. بينما ترفض المجتمعات الخاملة أو اليائسة الاعتراف بالجديد والتعارف معه حتى لو امتلأت الساحة بوجوده وفعله.
 عكاظ 6 فبراير 2008  العدد : 2425
https://www.okaz.com.sa/ampArticle/161781

مقالات ذات علاقة

23/01/2008

البيروقراطية والإدارة


 في العالم اليوم موجة جديدة عنوانها "تطبيق معايير الإدارة الصالحة". تستهدف هذه الفكرة وضع نظام محدد لاختبار وتقييم كفاءة الادارة العامة واهليتها لتحقيق اغراضها. انها بعبارة اخرى محاولة للاجابة على سؤال: كيف تحقق الادارة هدفها المحوري -اي خدمة المجتمع- على اكمل وجه؟.
في ما مضى من الزمن كان يقال انه لا يمكن وضع مقاييس مالية لتقييم كفاءة البيروقراطية الرسمية، لأنها لا تستهدف الربح بل الخدمة العامة. والخدمة العامة بطبيعتها انفاق من دون عائد فوري او ملموس. بخلاف الادارة التجارية التي تستهدف مباشرة زيادة الارباح من خلال زيادة الانتاج وتخفيض الكلف، والتي لهذا السبب يمكن قياس كفاءتها بالرجوع الى حجم الارباح وحجم الخسائر. لكن اقطاب الموجة الجديدة، وابرزهم -ربما- البنك الدولي، يرون جانبا آخر للمسألة. الادارة، ايا كانت طبيعتها، عمل انساني قابل للقياس والتقييم بالرجوع الى اهداف معينة ومسار عمل معين.
في بداية القرن الماضي شدد ماكس فيبر على اهمية البيروقراطية ودورها في عقلنة السياسة وتحديث الحياة العامة. واشار خصوصا الى العنصر الجوهري في البيروقراطية، اي اعتمادها على القوانين والتعليمات المكتوبة، الامر الذي يسهل المتابعة والمحاسبة ويخفف من الطابع الشخصي في العمل العام. نحن اليوم في عالمنا العربي نضيق من بطء البيروقراطيين وترددهم، لكن هذا افضل على اي حال من ادارة مفككة يعمل كل رئيس فيها بحسب مشتهياته واهوائه، وربما مصالحه وتوجهاته الشخصية.
لكننا مع ذلك بحاجة الى وضع نظام يحول دون تحول الادارة من صورتها المثالية كوسيلة لخدمة الجمهور، الى مؤسسة خاصة للافراد النافذين او ذوي المصالح. او ربما تحولها من وسيلة لتسهيل وتطوير الخدمة العامة الى عائق يسد ابواب الخير على الناس باسم القانون او باسم المصلحة العامة. ولهذا السبب بالتحديد ظهرت الموجة الجديدة التي تسعى لنزع الصورة السلبية التي ارتسمت في اذهان الناس عن البيروقراطية وقدرتها الفائقة على التعطيل والاعاقة. في فبراير 2005 استضاف الاردن مؤتمرا شاركت فيه 16 دولة عربية، لمناقشة العلاقة بين الادارة والتنمية. وكشفت مناقشات المؤتمر عن خسائر بمئات الملايين يتكبدها العالم العربي بسبب سوء الادارة. وضرب المشاركون امثلة كثيرة على تلك الخسائر، ومن بينها تعطيل استثمارات محلية واجنبية كانت ستوفر فرص عمل جديدة، وبينها ايضا مشروعات حكومية كانت سترفع الدخل القومي وتحسن مستوى المعيشة، وصولا الى ابطاء او اعاقة تحديث قطاعات الخدمة الحكومية.
حاولت مؤسسات عديدة وضع معايير للإدارة الصالحة، من بينها البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبرنامج الامم المتحدة الانمائي، واخيرا منتدى التنمية في مؤتمره الخامس والعشرين الذي انعقد في البحرين مطلع 2004. بالنسبة لهذه المؤسسات جميعا فان الاهداف الكبرى للادارة الحكومية هي: الارتقاء بمستوى معيشة المواطنين، حماية حقوقهم المدنية والمعالجة العقلانية للمشكلات التي تظهر في البيئة الاجتماعية. وبناء على هذه الاهداف فإن كل عمل مضاد او معطل لواحد منها يعتبر فسادا.
تختلف المعايير التي وضعتها كل من المؤسسات المذكورة عن بعضها في جوانب محددة، لكنها تتفق على مبادئ اساسية، من بينها: الشفافية، اي جعل عمل الادارة علنيا وقابلا للكشف لعامة المواطنين، واخضاع كل الاعمال للمساءلة والمحاسبة بغض النظر عن شخص المدير او رتبته، ووجود هيئات محايدة يرجع اليها المواطنون عند التنازع مع المؤسسات الحكومية. وأظن أن أبرز مشكلات الادارة في البلاد العربية هو افتقارها للحياد. ومن المؤسف ان هذا الجانب لم يتعرض للنقاش والدراسة بشكل مركز وموضوعي. الادارة العامة غرضها الخدمة العامة، ويجب ان يتم هذا من دون التفات الى أي جانب. بعبارة أخرى فإنه ينبغي التأكيد على ضرورة أن تكون محايدة، لأن حيادها واجب وضرورة وإلا دخلت في نفق الفساد، مهما حاولت اتقاءه.
  عكاظ 23 يناير 2008  

12/09/2007

حتى لا تكون الادارة الحكومية عش دبابير



                                                                                                       ~ينبغي جعل عمل الدوائر الحكومية علنياً ومكشوفاً وتمكين الصحافة والناس من نقد موظفيها }
لا اعرف الذي اطلق على المديرين وكبار الموظفين اسم “المسؤول” ، فهذا اللقب لم يُنقل من تراث العرب القديم . ولعله وضع كترجمة لمسمى الرئيس او المتصدي (officer, principal, director) الذي وصلنا مع انتقال نظم الادارة الاوروبية الى العالم العربي . على اي حال فان اختيار ذلك المسمى ينم عن ذكاء صاحبه ورغبته في نقل جوهر المفهوم الاوروبي الحديث في الادارة الحكومية ، اي كون الوظيفة تكليفا تترتب عليه محاسبة ومساءلة وليست مجرد سلطة للامر والنهي والتصرف.
في سياق نقل التجربة الاوروبية ، تميل معظم الدول العربية اليوم الى اطلاق مسمى “الخدمة المدنية” على منظومة الادارة الحكومية. وقد اقتصر هذا الوصف على العنوان العام ولم يسرِ الى افراد الادارة كما هو الحال في الدول الصناعية . نعرف ان الموظف الحكومي هناك يوصف رسميا بالخادم المدني civil servant ، لكن يبدو ان لهذا المسمى وقعاً ثقيلاً في ثقافتنا ، ولهذا اعرضنا عن استعماله في وصف الموظفين الحكوميين . وعلى اي حال فان اختيار المسميات يعكس رغبة في تحقيق معنى ومضمون الاسم . وفقا لهذا فانه ينبغي ان يعمل موظفو الدوائر الحكومية ، في جميع مراتبهم ، كخدام للشعب ، لا كمتسلطين عليه.
يُعتبر مفهوم “الخدمة العامة” ومفهوم “المسؤولية والمحاسبة” من ابرز ما يميز نظم الادارة الحديثة عن نظيرتها التقليدية.  حين نقول ان فلانا مسؤول ، فهذا يعني – في الاصل النظري على الاقل – انه معرض للمساءلة على اعماله ، اي ان سلطته غير مطلقة . صاحب السلطة المطلقة الوحيد هو رب العالمين الذي “لا يسأل عما يفعل” اما باقي الناس فهم جميعا معرضون للمساءلة والحساب. الموظف الحكومي يقبض راتبه مقابل خدمة الناس وليس مقابل التسلط عليهم ، لأن اموال الحكومة هي في الاصل وفي النهاية اموال عامة ، اي مملوكة لمجموع الشعب . الموظف بهذا المعنى اجير عند المواطنين ، وليس من المعقول ان يستأجر المواطنون من يهينهم او يعطل مصالحهم او يؤذيهم بمثل “تعال بكرة” ، و “شوف لك احد” و “تعرف الطريق” وامثالها
مثل كثير من المفاهيم والانظمة الجيدة التي تطبق بالمقلوب حين تنتقل الى مجتمعات متخلفة ، فان مسمى “المسؤول” اصبح عندنا علامة على صاحب السلطة ، اي الشخص الذي بيده الامر والنهي والقرار ، والذي يستطيع ان يفعل ما يشاء من دون ان يتعرض للمساءلة والمحاسبة . هذه الخلطة المقلوبة هي نتاج للثقافة التقليدية التي يمكن ان نصفها بالسلطوية ، والتي تخلط بين عنصري الادارة المدنية والسلطة السياسية ، وتنظر الى الاولى كامتداد للثانية
هذه الثقافة ليست حكرا على بلدنا او بلدان العالم الثالث ، فهي موجودة في كل بلاد العالم . لكن المجتمعات المتقدمة اكتشفت سوءاتها مبكرا وحاولت توفير علاجات . من ابرز هذه العلاجات هو اختصار مجال التصرف الشخصي للموظفين ، كبارا كانوا او صغارا ، وذلك بالتوسع في وضع القوانين واللوائح لكل كبيرة وصغيرة ، وجعل هذه القوانين – وليس رأي المدير - معيارا وحكما فاصلا بين الدائرة الحكومية وبين الجمهور.
ومن بين العلاجات الفعالة ايضا ، العلنية او الشفافية ، اي جعل عمل الدوائر الحكومية علنيا ومكشوفا للجميع ، وتمكين الصحافة وعامة الناس من مناقشة كل دائرة وتقييم ونقد موظفيها بأشخاصهم ووظائفهم ، بل نقد القوانين واللوائح التي تنظم عملهم. ومن بين العلاجات المؤثرة هو التغيير المنتظم لاصحاب المناصب ، كي لا يتحول المنصب الى عش للدبابير. على ان أبرز علاج هو توزيع السلطة وتوزيع مصادرها في المجتمع ، وبين أبرز آليات هذا التوزيع هو تعزيز منظمات المجتمع المدني ، تخصيص الخدمات العامة ، وتعزيزر اللامركزية الادارية.
تطوير الخدمة العامة يحتاج اذن الى تغيير في فلسفة الادارة الحكومية وفي البيئة الثقافية الحاضنة لها . وهذا يحتاج الى جهد واسع النطاق تشارك فيه اجهزة الاعلام والتعليم والهيئات التشريعية فضلا عن النخبة الاجتماعية ، وهو يحتاج خصوصا الى مُدونّة لحقوق المواطن يكون لها صفة قانونية عليا ويجري تداولها وشرحها حتى تتحول الى عنصر ثابت في ذهنية كل المواطنين.

عكاظ  12 سبتمبر2007  العدد : 2278

29/08/2007

ميكنة الإدارة شيء.. وجودة الخدمة العامة شيء آخر



قرار مجلس الوزراء بتوحيد ادارات تقنية المعلومات في كل وزارة هو خطوة أخرى ضمن برنامج اقره المجلس في بداية العام الماضي (2006) بهدف تحويل المعاملات الحكومية إلى معاملات الكترونية خلال خمس سنوات. وخصص للمشروع مبلغ ثلاثة مليارات ريال. من الناحية الشكلية على الاقل نرى اجهزة الكمبيوتر في جميع الوزارات وفروعها والدوائر التابعة لها.
 لكن وجود هذه الاجهزة لم يقربنا من مفهوم الحكومة الالكترونية التي ينشدها جميع المخططين في عالم اليوم. امامنا على سبيل المثال تجربة وزارة التعليم العالي، فقد توقع الجميع ان تكون السباقة في تطبيق المفهوم لانها الجهة التي تعلم الناس جميعا كيف يمتلكون ناصية التكنولوجيا الرقمية. لكن ولشديد الاسف فان حالة استعلامات الوزارة وموقعها الالكتروني هي ابسط دليل على الفارق بين ما يقال على الورق وما يجري على الارض. يكفي الانسان مراجعة الوزارة شخصيا أو هاتفيا أو زيارة موقعها على الانترنت ليعرف أي تكنولوجيا واي حكومة الكترونية سوف نصل اليها الآن أو في المستقبل القريب
على أي حال فان المجال يضيق عن بسط هذه الهموم التي يعرفها كل الناس. وما يهمنا في هذه السطور هو التأكيد على الاطار المفهومي الذي يندرج فيه مفهوم الحكومة الالكترونية أو تسويد التعاملات الالكترونية بشكل اعم. افترض ان هذا الاطار هو تحقيق «الجودة النوعية» في اداء الدوائر الرسمية. وهو يعني على وجه التحديد انجاز الخدمات العامة على افضل وجه بأقل كلفة في اسرع وقت. اذا اعتبرنا هذه العناصر الثلاثة اهدافا للتطوير، فان تطبيق التعاملات الالكترونية يمثل احدى الوسائل الضرورية للوصول اليها. لكن انجازها بصورة كاملة يتوقف على مقدمات اخرى، قانونية ومالية وادارية
على المستوى القانوني، نحن بحاجة إلى مراجعة انظمة ولوائح العمل السائدة حاليا، ووضعها جميعا امام اسئلة محددة، منها مثلا: كم من الاجراءات المقررة في تلك اللوائح يعتبر ضروريا، وما هي هذه الضرورة على وجه التحديد، وما هي كلفتها من حيث الوقت والمال على الموظف والمواطن، وما هي البدائل الممكنة.
سوف اضرب مثالا على هذا بواقعة محددة. طفل لابوين سعوديين ولد خارج المملكة، بلغ السابعة عشرة فاحتاج إلى استصدار بطاقة شخصية، بحسب اللوائح الجارية فان من واجبه اثبات مشروعية دخوله إلى البلاد، لكن الامر حدث قبل سبعة عشر عاما، والجواز الذي دخل به حين كان رضيعا مفقود. خلال هذه السنوات جميعها كان الولد مقيما في البلاد ويدرس في مدارسها، وقد سبق لاخوته الذين ولدوا في الخارج مثله ان حصلوا على بطاقات شخصية. لكن حسب التعليمات فان عدم توفر الجواز يقتضي بحثا وربما قرارا من اعلى مرجع في الاحوال المدنية. يستغرق الامر شهورا مع ان الموافقة شبه مضمونة كما في كل الحالات المماثلة، تدور المعاملة بين العديد من الدوائر والموظفين، رغم ثبوت جنسية ابويه وسبق اخوته في المعاملة وكونه مقيما مؤكدا في البلاد (من خلال سجلات المدارس على الاقل).
 هذه المعاملة تكلف المواطن والدائرة الرسمية الكثير من الوقت والمراجعات (وكلها ذات قيمة مالية)، مع ان الجميع يقول لك بان جميع المعاملات المماثلة تنتهي بالموافقة بسبب القرائن الاخرى.السبب الوحيد لهذه المعاملة الطويلة هو ان الموظف المباشر وكذلك مديره المباشر لا يملك الصلاحيات الضرورية للموافقة أو الرفض. هذه المعاملة هي نموذج عن عشرات في مختلف دوائر الحكومة. والواضح انه لا يمكن حلها الا باجراءات قانونية تتلخص في مراجعة اللوائح واعادة هيكلة الصلاحيات.
على المستوى الاداري، ينبغي لكل وزارة الطلب من فروعها تحديد وقت اقصى لكل معاملة واخبار المراجعين بهذا باعتباره حقا لهم. ومنح الفرصة للمراجع كي يتظلم اذا تعرض للتأخير أو الاهمال. في نفس السياق ايضا فاننا نحتاج إلى تمييز دقيق بين المعاملات التي تحتاج إلى «موافقة» من الادارة الحكومية، وتلك التي تحتاج فقط إلى «علم» الدائرة بحدوثها. من ذلك مثلا الزام المواطنين بالكثير من التراخيص من البلدية أو وزارة التجارة أو غيرها من الوزارات.
وفي المنطقة الشرقية مثلا، انت تحتاج إلى موافقة وزارة الزراعة وشركة ارامكو اذا اردت استخراج صك ملكية لمزرعة. الواضح ان جوهر هذه الموافقات هو «عدم الاعتراض» أو ما يعرف احيانا بالعلم والخبر وليس الموافقة بمعناها الفني، لانه ليس لاي من هذه الدوائر شأن بما هو ملك ثابت للاشخاص بحسب رأي القاضي الشرعي.
هذه المعاملات تستغرق الكثير من الوقت والمال والجهد، وربما يجتهد موظف فيعترض على جانب من المعاملات لا يخص دائرته، وكثيرا ما تعطلت المعاملات لهذا السبب. والخلاصة اننا بحاجة إلى اعادة تعريف المقصود بالموافقات الرسمية، هل هي مجرد تبليغ لأخذ العلم ام هي حقا طلب موافقة على اثبات الملك، واذا كان الاخير هو الصحيح فيجب ان يسأل القاضي : وما شأن البلدية أو ارامكو في ذلك طالما ان المزرعة مملوكة في الاصل؟
مختصر القول ان تحقيق الجودة النوعية في العمل الحكومي هو اطار اوسع من مجرد الميكنة أو الانتقال إلى المعاملات الالكترونية. هذا التحول هو خطوة، لكن تحقيق الجودة بكمالها يتوقف على مقدمات اخرى، قانونية وادارية ومالية. ولنا عودة للموضوع في وقت اخر.
عكاظ   29 أغسطس /2007  العدد : 2264

23/05/2007

حان .الوقت للتخلي عن السعودة القسرية



أغلبية العاملين في السوق مقتنعون اليوم بأن الاستراتيجية التي تبنتها وزارة العمل لإحلال العمالة السعودية محل الاجنبية قد ادت غرضها واستنفدت مفعولها، وقد حان الوقت للتخلي عنها. قرار مجلس الوزراء بإعفاء المقاولين الذين ينفذون مشروعات حكومية من قيود تلك الاستراتيجية، ولا سيما في تحديد نسبة العمال السعوديين في كل منشأة، هو اقرار بالحاجة الى مراجعة كلياتها وتفاصيلها. ربما نجح كبار المقاولين في ايصال صوتهم الى اصحاب القرار. لكن صغار المستثمرين قد اوصلوا صوتهم ايضا. المشكلة ليست اذن في عدم علم الوزارة بالازمة التي تواجه هذا القطاع، بل في اصرارها على المضي في سياساتها المتشددة ولو كان الثمن غالياً.
أتمنى ان يقوم معالي وزير العمل او وكلاء الوزارة بجولة في المناطق الصناعية في أي مدينة من مدن المملكة كي يروا انعكاسات تلك السياسة، او لعلهم يخصصون وقتا للاستماع الى صغار المقاولين واصحاب الورش والحرفيين، كي يكتشفوا ان المشكلة اليوم لم تعد فتح مؤسسات وهمية لتاجير العمال كما صرح وزير العمل في وقت سابق. المشكلة التي يواجهها صغار المقاولين والحرفيون اليوم هي بالتحديد عدم القدرة على العمل وعدم القدرة على التوسع، وبكلمة مختصرة العجز عن الاستجابة لقوى السوق. خلال السنوات الثلاث الماضية حافظ الاقتصاد السعودي على حركية متنامية، أدت بالضرورة الى ارتفاع كبير في الطلب على البناء والخدمات المختلفة، وهذا يستدعي زيادة في قوة العمل. 
يمكن للوزارة الاحتجاج بانها تريد استثمار زيادة الطلب هذه في تشغيل ما تبقى من المواطنين العاطلين. لكن هذه الحجة تنطوي على تبسيط مخل لفكرة التشغيل ومعالجة البطالة. نعرف جميعا ان زيادة الاستثمار ستؤدي اتوماتيكيا الى خلق فرص جديدة متنوعة للسعودي والاجنبي على حد سواء. وفي كثير من الاحيان فان فرصة العامل السعودي مرهونة بنظيره الاجنبي. لناخذ كمثل ورش صيانة السيارات : يمكن لمستثمر صغير، قد يكون شابا حديث التخرج او عاملا سابقا، او متقاعدا من شركة، او ربما متدربا طموحا، يمكن له ان يفتح ورشة يعمل فيها بنفسه ويوفر فرصة لسعودي آخر. لكنه قطعا لا يستطيع الاقتصار على فنيين سعوديين، لان هؤلاء سيحصلون ببساطة على فرص في شركات كبرى تقدم رواتب اعلى وضمانات وظيفية افضل.
بعبارة اخرى فان الورشة يمكن ان تقدم فرصة للتدريب والعمل لاول مرة او ربما عملا ثابتا لاصحابها، لكنها لا تستطيع منافسة الشركات الكبرى التي يتزايد طلبها على الفنيين المؤهلين. اذا منع صاحب الورشة من استقدام ما يكفيه من الفنيين الاجانب فلن يستطيع فتح ورشته، واذا لم يفتحها فسوف نضيع فرصة تشغيل لشخص او شخصين، ونضيع فرصة استثمار يمكن ان يسهم في تنشيط قطاعات اخرى من السوق. تجولت هذا الاسبوع في منطقة صناعية تضم عشرات من ورش الصيانة والاعمال المختلفة، فوجدت كثيرا منها شبه عاطل. حين تسأل يقولون لك ببساطة : ليس لدينا عمال ولا نستطيع تلبية طلبات العملاء. تحدثت ايضا الى عدد من المقاولين فاتفقوا جميعا على انهم يعتذرون يوميا عن اخذ عقود جديدة لانهم غير قادرين على تنفيذها. والسبب مرة اخرى هو قلة العمال. هذه الفرص الضائعة هي استثمارات يمكن ان تسهم في توليد وظائف او توفير فرص جديدة، لكنها تذهب هدرا بسبب التشدد في سياسات العمل. لكل استراتيجية مدى محدد تؤدي خلاله غرضها وتفتح الباب امام استراتيجية بديلة.
استراتيجيات العمل تتبع منحنى يشبه ما يسمى في الاقتصاد السياسي بمنحنى الاشباع الحدي، اي نقطة الذروة في التأثير. من بعد هذه النقطة يبدأ التراجع وصولا الى نقطة الضرر، اي تحول الاستراتيجية المفيدة الى معطل ومعيق للتقدم. من المتفق عليه ان القطاع الخاص هو الدينامو الاقوى للاقتصاد، وان صغار المستثمرين والمستثمرين الجدد هم قوة التجديد والتصعيد. ولهذا فان اي استراتيجية قطاعية، مثل تلك المتعلقة بمعالجة البطالة، ينبغي ان تخضع للاهداف الكلية لحركة الاقتصاد ومن ابرزها اجتذاب المزيد من المستثمرين الجدد الى منظومة الانتاج. العلاج الطويل الامد للبطالة يكمن في زيادة الاستثمار، وزيادة الاستثمار تتوقف على اجتذاب الرساميل الصغيرة واصحاب الطموح من صغار المستثمرين. يمكن لاستراتيجية وزارة العمل الحالية ان توفر فرصا لمئات من الشباب العاطلين، لكنها في الوقت نفسه تعطل فرصا استثمارية قد توفر آلافاً من الوظائف الجديدة. واظن انه قد حان الوقت لمراجعة هذه الاستراتيجية التي استنفدت اغراضها.
عكاظ 23   مايو 2007  العدد : 2166
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070523/Con20070523112683.htm

18/04/2007

لا بديل عن اللامركزية



في ماضي الزمان كانت عاصمة البلد هي حقيقة البلد وجوهرها، اما بقية البلد فهي ملحقات بالعاصمة. الميل الى التمركز، على المستويين القانوني والسياسي، هو سمة ثابتة لجميع الحكومات الحديثة. وربما كان ضرورة لمعالجة الاشكال الناتج عن التاثير السلبي للاتساع الجغرافي على وحدة القانون. وبالنسبة للدول حديثة التاسيس، فقد كان ضعف الجهاز الاداري وحداثة عهده سببا اضافيا لتركيز السلطات والصلاحيات في الحلقات العليا من الادارة.

لهذه الاسباب فضل المعنيون ارجاع كل امر صغير او كبيرالى مسؤول في العاصمة، يملك صلاحيات استثنائية او يعتبر مفوضا في تفسير بنود القانون وربما تجاوزها في بعض الاحيان. لكن يبدو ان هذه الحاجة المرتبطة بظرف خاص قد تحولت الى عادة جارية حتى بعد زوال ذلك الظرف.

 وهذا شأن التقاليد والاعراف الاجتماعية التي تقوم تبعا لحاجة محددة او ظرف مؤقت، لكنها تتحول من ثم الى قيد على جميع الناس في مستقبل الايام كما في حاضرها بغض النظر عن الدواعي والضرورات التي اوجبتها. منذ اوائل الثمانينات اتجه العالم بمجمله تقريبا الى التخلي عن النظام المركزي في الادارة، بعدما اكتشف انها لم تعد عونا للدولة بل عبء عليها. كان المحرك المباشر لهذا الاتجاه هو التطور الهائل في انظمة الاتصال.

 لكن قبل ذلك كانت مبررات التحول في طور تكاثف وتكامل. اكتشف المهتمون بالكفاءة الادارية مثلا ان الادارة المركزية قد حولت جيوش الموظفين الى آلات تفتقر للابداع والمبادرة والتفاعل، فهي لا تعمل الا اذا تلقت الاوامر من فوق. وبالعكس من ذلك فان توزيع الصلاحيات في مختلف المراتب وربطها بالمسؤولية والمحاسبة قد ادى الى تقليل الفاقد وتيسير الاعمال وبالتالي رضا الجمهور. 

واكتشف المهتمون بالتنمية السياسية ان المركزية الادارية قد جعلت النظام السياسي اسيرا للبيروقراطية، فبدلا من ان يستخدمها في تعزيز علاقته مع الجمهور، فانها تحولت الى عازل بين المجتمع والدولة يعيق اي تواصل وتفاعل. واكتشف المهتمون بالقانون ان جيوش البيروقراطيين المجردين من الصلاحيات والمتحررين في الوقت نفسه من المسؤولية، قد حولت القانون الى حروف بلا روح ولا مضمون، فهم يطبقون ما يرونه على الورق ويبالغون في العناية بالجوانب الشكلية كما لو ان النصوص القانونية هي الغرض النهائي للدولة، بدل ان تكون وسائل لارشاد القائمين على تطبيق القانون وتعيين الاطار الذي ينبغي لهم ان يعملوا ضمنه.

 اما الطامة الكبرى فقد وجدها المهتمون بالانماء الاقتصادي، فكل معاملة تدور بين المكاتب اسابيع وربما شهورا قبل ان تصل الى غايتها، ويضيع معها الكثير من الزمن والجهد، وكلها في حساب الاقتصاد رأس مال، مستثمر او مضيع. كان صدور نظام المناطق قبل عقد ونصف من الزمن اعلانا بان المملكة تتجه الى نظام قائم على اللامركزية الادارية، ولهذا عد واحدا من ابرز خطوات الاصلاح.

 لكن لسبب ما فان هذا النظام البالغ الاهمية ما زال اقرب الى اطار نظري منه الى استراتيجية قيد التطبيق. مازلنا حتى اليوم بحاجة الى الذهاب الى العاصمة لمتابعة ابتعاث طالب جامعي، او معادلة شهادة متوسطة، او الموافقة على تسجيل طالب ابتدائية في مدرسة اجنبية، او اثبات الدخول في احد المنافذ الحدودية، او تثبيت التعيين في وظيفة، او تصحيح خطأ في معاملة لاستقدام عامل اجنبي، او تغيير اسم طفل، او رصد بضعة الاف ريال لصيانة طريق، او الموافقة على انشاء مركز صحي او مكتبة في قرية، او تمييز حكم لأحد القضاة، او الموافقة على مخطط سكني.. ومئات من الامثلة الاخرى التي يعرفها – ويعاني منها – مئات الالاف من الناس. كان المقدر ان تطبيق نظام المناطق سوف ينقل جانبا كبيرا من هذه الاعمال من العاصمة الى مناطق المملكة المختلفة، ولو حصل هذا، فلا شك انه سيخفف عن كاهل الادارة المركزية جبالا من الاعباء وسيتيح لها الفرصة كي تنشغل بالامور الاكثر الحاحا مثل وضع الاستراتيجيات المستقبلية وتطوير العمل القائم ومراقبة الاداء والبحث عن الثغرات القانونية والادارية التي تؤذي المواطنين.. الخ.

 تحقيق اللامركزية الادارية يتطلب استراتيجية ذات مسارين :

 اولهما : اعادة صياغة نظام العمل الحكومي بحيث تفوض الادارات المحلية في المناطق جميع الصلاحيات المتعلقة بادارة المنطقة واعمالها، بحيث لا يرجع الى العاصمة الا في أمر يتعلق مباشرة بسيادة الدولة (مثل موضوعات الامن العام والدفاع)، أو امر يخضع لاستراتيجية وطنية شاملة (مثل مشروعات الانماء الشامل والخطط العامة للتعليم.. الخ) او أمر يتعلق بمناطق متعددة (مثل خطوط المواصلات التي تربط بين المناطق).

اما العمود الثاني فهو اعادة النظر في التعليمات والتعميمات التي تفرض على المتعاملين مع الدوائر الحكومية اجراءات غير ضرورية، مثل المراجعة الشخصية المتكررة. هناك دائما بدائل مناسبة، جربت هنا وجربت في بقاع اخرى من العالم وثبت انها آمنة تماما فوق ما توفره من جهود وأموال، والاهم من ذلك كله رضا الجمهور الذي هو الراسمال الاكبر لأي نظام سياسي. لا بديل عن اللامركزية الادارية اذا اردنا بناء بلدنا على نحو يجاري التطور السريع في عالم اليوم، ولكي لا ننطلق من فراغ، فان نظام المناطق هو نقطة انطلاق مناسبة، ونحن بحاجة الى وضعه على مائدة النقاش ثم تطبيق مفاده.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070418/Con20070418104323.htm(

11/04/2007

عيوب المركزية الادارية كما تظهر في الطرق



أيام القمة العربية كانت فرصة لسكان الرياض كي يكتشفوا واحدا من عيوب المركزية الادارية. لاربعة ايام كان الجو شديد الهدوء والهواء نظيفا. وتحول معظم السائقين فجأة الى اناس مسالمين لا يسابقون ولا يغضبون ولا يطلقون زمامير سياراتهم على اعنتها، ولا يواصلون كبس الضوء العالي كي يجبروا من امامهم على اخلاء الطريق الممتلئ اصلا. وكان في وسع الناس ان يصلوا الى مقاصدهم في دقائق، مقابل ساعة او نحوها في الايام السابقة.

 في هذه الايام نفسها اكتشف سكان المنطقة الشرقية واحدا من فضائل اللامركزية، فكثير من سكان الرياض الذين حصلوا على اجازة خلال ايام القمة جاؤوا الى الشرقية كي يتبضعوا او يستمتعوا بربيعها الجميل، فشهدت المطاعم والفنادق والاسواق ازدهارا استثنائيا، واستمتع الناس باوقات سعيدة مع عائلاتهم واطفالهم. لا يمكن بطبيعة الحال عقد قمة عربية كل اسبوع كي يواصل الناس استمتاعهم بما يحصل على حاشيتها.
لكن المؤكد ان كثيرا من سكان الرياض ومثلهم من سكان الشرقية قد تساءلوا: اليس من الافضل توزيع الثقل السكاني بين مناطق المملكة بدل تركيزه في المدن الكبرى؟. قبل قرون كتب عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته المشهورة ان العمران يتطلب زيادة السكان وكلما زاد سكان بلد زادت الصنائع فيه وتوفرت اسباب المعيشة. وهذا ما يسمى في ادبيات التنمية اليوم بالتحضير حيث يعتبر نمط المعيشة المديني ضرورة لقيام اقتصاد حديث.

 في هذا السياق فان ابرز الفوارق بين المدينة والقرية هو الحجم السكاني الذي تجعل اقامة الخدمات العامة والنشاط الاقتصادي بشكل عام مجديا وجذابا، وهو ما لا يتوفر في القرى قليلة السكان. ولو قدر لابن خلدون ان يرى حال المدن المزدحمة اليوم فلربما غير رأيه، او وضع – على اقل التقادير- حدا اعلى لزيادة السكان في المدن كما فعل اقتصاديون وعلماء اجتماع معاصرون. لا شك ان ضآلة عدد سكان القرية تجعل اقتصادها هشا ومحدودا، كما ان ضخامة مجتمع المدينة يجعل اقتصادها نشطا ومتنوعا.

 لكن ثمة معادلة حرجة هي اشبه بمسار ينتهي عند نقطة محددة. قبل هذه النقطة يكون الحجم السكاني الكبير مثاليا للاقتصاد، ولكنه يتحول من بعدها الى عقبة ومصدر لانواع من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والامنية وغيرها. ربما لا يحسب كثير من الناس القيمة المادية وغير المادية للوقت الذي ينفقونه في الطريق الى اعمالهم. اذا كنت من سكان الرياض او جدة فالمقدر انك تضيع ساعة ونصف الساعة يوميا تقريبا بسبب الزحام.

هذا الوقت الذي يبدو قصيرا، يعادل عشرة بالمائة من الوقت المفيد للعمل (16 ساعة في اليوم). وتقاس الخسارة الاجمالية بضرب مجموع عدد الاشخاص الذي يحصدون هذه الخسارة في متوسط قيمة ساعة العمل. واظن ان حسابا من هذا النوع سيكشف عن خسائر سنويا بمئات الملايين. لكن هذه ليست الخسارة الوحيدة، اذ يضاف اليه استهلاك السيارة نفسها واستهلاك الوقود، وهي نفقات غير مرئية لكنها حقيقية.

ويضاف اليه ايضا التدمير المنتظم للبيئة بسبب الكميات الهائلة من الكربون والملوثات التي تقذفها محركات السيارات في الهواء. كما يضاف اليه الخسائر على المستوى الشخصي، فالشوارع المزدحمة هي الاماكن الطبيعية للتوتر النفسي والقلق الذي يؤدي مع التكرار الى تدهور في الصحة البدنية والجسمية. اذا تركنا الطرق وازدحامها، ونظرنا الى المسألة من زاوية التخطيط الحضري، فان التزايد العشوائي للسكان يثمر عن ضغط شديد على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والخدمات البلدية وغيرها، وهذا يؤدي بالتأكيد الى انخفاض كفاءتها او انخفاض مستوى الخدمة المقدمة.

 في الحقيقة فان هذه المشكلة جعلت مؤسسات الخدمة العامة في كثير من البلدان عاجزة عن القيام بواجباتها، وكان الحل الوحيد هو ترك الناس يدبرون انفسهم. من يريد العيش في مدينة كبيرة فعليه ان يتحمل نفقات علاجه وتعليم ابنائه واحيانا تفريغ برميل الزبالة امام بيته وهكذا. صحيح ان زيادة السكان تؤدي الى نشاط اقتصادي اضافي، لكنها - اذا تجاوزت حدا معينا - فسوف تعود الى استلاب الفوائد من خلال المسارات التي اشرنا اليها.

 المدينة المزدحمة اشبه برجل يسرف في الاكل كي يستمتع بماله، لكنه يعود فينفق جزءاً اكبر على معالجة الامراض الناتجة عن التخمة والاسراف. الحل الوحيد لهذه المشكلة يكمن في تطبيق اللامركزية الادارية. معظم الازدحام ناشئ عن تمركز اوعية التوظيف الاساسية (الدوائر الحكومية والشركات الكبرى) في العاصمة، من دون ضرورة سوى ان العادة قد جرت على هذا النحو. اللامركزية تعني نقل الكثير من الادارات من العاصمة، واهم من ذلك تهيئة السبل القانونية كي يستغني الناس عن الذهاب الى العاصمة لانجاز كل عمل صغيرا كان او كبيرا.

http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070411/Con20070411102590.htm

09/07/1998

حـديـث النــــــــاس



رغم انشغال الناس بمتابعة مباريات المونديال ، فان الوضع الاقتصادي يحظى بنصيب كبير من الأحاديث التي تدور في المجالس والسوق ، لا سيما بعد القرارات التي اتخذت الشهر الماضي لخفض الانفاق في ميزانية العام الجاري ، وقد غذى الوزير النعيمي الآمال بتحسن قريب في الاوضاع ، حين بشر الناس بان اسعار البترول سوف ترتفع ، إذا التزمت الدول المنتجة باتفاقات تحديد الانتاج الأخيرة ، وان هذا التحسن سوف يبدأ بالظهور في اوائل السنة القادمة .

ونود ان نحمل تصريحات وزير البترول على محمل الجد ، فلنا حاجة في التفاؤل ، وانتظار الخير الآتي ، لكني آمل ان لا تؤدي هذه التصريحات الى اعتبار الامور طبيعية تماما ، أي ان لا يقول المخططون بأن الانخفاض الحالي في اسعار البترول ، طبيعي ويحدث في كل مكان .. الى آخر ما يقال عادة ، عندما يراد تطييب الخواطر القلقة في الازمات ، نأمل حقا ان تتحسن اسعار البترول في اوائل السنة القادمة ، لكن من جهة اخرى ، يصعب التصديق بانها سوف تتجاوز المعدلات التي سادت خلال السنوات العشر الاخيرة ، خلافا للتفاؤل الذي ساد اواخر العام الماضي ، بان الاسعار سوف تقف عند معدل 16 دولارا للبرميل .

كثير من الناس الذين يشغلهم هذا الموضوع ، وانا منهم ، يسمعون تصريحات متفائلة مثل هذه ، كما يقرأون ما ينشر ويسمعون ما يقال ، مما يخالف فحواها ، ويعلمون بان التطمينات وتطييب الخواطر لا تعالج مشكلة ولا تغير حالا الى احسن منه ، وان خففت من القلق الوقتي لدى القلقين . ما يهمنا الان هو النظر في المسألة ككل ، فالعاقل من يتعظ بتجارب غيره فضلا عن تجاربه الخاصة .

بدأت انعكاسات  الانخفاض الحالي في اسعار البترول ـ ومعها الدخل الوطني ـ تظهر تدريحيا في السوق ، فانخفض مؤشر اسعار الاسهم المحلية مع انخفاض الطلب ، كما تدور احاديث عن احتمال رفع اسعار الخدمات العامة مثل الكهرباء والوقود ، وهي اجراءات سبق ان اتخذت عندما واجهت البلاد ازمة مماثلة قبل ثلاثة اعوام ، ونجحت الى حد ما في اختصار عجز الميزانية ، لكن معالجة عجز الميزانية ليس دواء طويل الامد لاقتصاد البلاد ، الا اذا اردنا التوقف في المستوى الابتدائي للاقتصاد أي ابقاء الناس متكلين في حياتهم ومعايشهم على الانفاق الحكومي المباشر ، وهو أمر لا يريده أحد ولا يستصوبه أحد .

يقول أهل الرأي في السوق بأن ما نحتاجه اليوم ، هو حلول جذرية وسياسات واقعية واستراتيجيات طويلة الأمد ، تؤدي الى تحرير الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكلي والكامل على مبيعات البترول الخام ، واذا كنا قد وجدنا انفسنا مضطرين في بدايات معركة النمو ، الى التعويل على عائدات البترول ، والتساهل في ربط حياة الناس بصورة كاملة بالانفاق الحكومي ، فلا ينبغي الاسترسال في هذا النهج الى النهاية ، فهو يتحول  مع مرور الزمن ، من حافز للنمو الى مثبط لامكاناته ، في الوقت الذي لا تستغني البلاد عن مصادر جديدة لمواصلة نموها الاقتصادي والاجتماعي .

من ناحية أخرى فان رفع اسعار الخدمات العامة ، ليس محبوبا ولا مبررا عند أكثرية الناس ، لا سيما من الطبقات الوسطى والفقيرة ، صحيح ان الحكومة تدعم اسعار الكهرباء مثلا ، لكن من الصحيح ايضا ان الناس ليسوا مسئولين عن السياسات التي تتسم بالتبذير من جانب شركات الكهرباء ، والتي تتحول تاليا الى فواتير يتحمل عبئها المستهلك الذي لا ناقة له ولا جمل ، والحق ان الاحتكار الشامل الذي تتمتع به الشركة السعودية الموحدة للكهرباء (سكيكو) قد مكنها من فرض اراداتها الخاصة على جمهور المستهلكين ، وهناك من يدعي ان بالامكان اختصار فواتير الكهرباء  بصورة ملموسة ، لو وجدت شركات منافسة لشركة سكيكو ، وهناك من جرب فعلا وتأكد من هذا المدعى ، الامر نفسه يقال بالنسبة للوقود ، فنحن نعلم ان تكاليف انتاج البترول في المملكة ، تعتبر الاقل على مستوى العالم ، وان الحكومة لا تدعم اسعار الوقود ، أي ان ارامكو كانت تربح سابقا ، ولا تزال تربح من مبيعات الوقود ، والاحرى ان تخفض اسعاره  الآن ، تماشيا مع انخفاضه في السوق العالمية ، لا ان ترفعه كما يتوقع المتشائمون . الغرض ان التفكير يجب ان ينصب على سياسات اكثر واقعية ، وعدم رمي عباءة المسئولية على الحائط الواطئ للمستهلك البسيط .

منذ عدة أعوام يلح الخبراء على تخصيص شركات القطاع العام وخفض النفقات الحكومية ، باعتبارهما عنصرين جوهريين لتصحيح المسار الاقتصادي ، وقد بدأت أولى بشائر القبول بهذه الاقتراحات مع قرار تخصيص خدمة الاتصالات ، والحديث عن تخصيص النقل الجوي ، لكن الواضح ان الامر بحاجة إلى ما هو أكثر ، كما يحتاج إلى إزالة الصفة الاحتكارية التي تتمتع بها هذه القطاعات ، مع تحولها من مفهوم الخدمة العامة إلى الخدمة التجارية المدفوعة الثمن ، إذ لا يعقل أن تحافظ شركة الهاتف على احتكارها لهذه الخدمة ، مع أن التزامها الاول سيكون منصبا على مصالحها كشركة تجارية ، كما انه لن يكون منطقيا تمتع الخطوط السعودية بميزة احتكار خدمة النقل الجوي بعد تخصيصها ، واجبار المستهلك على دفع قيمة أعلى لما يشتريه من الخدمات ، اذا كان بالوسع ايجاد هذه الخدمة باسعار اقل .

ما أردت قوله ان تخصيص الخدمات العامة ذات الطبيعة التجارية ، وهو الاجراء الذي اعتبره الخبراء ضروريا لخفض النفقات الحكومية وتنشيط القطاع الخاص ، بحاجة الى أن يوضع ضمن مفهوم أوسع من بيع اسهم الشركات المملوكة للحكومة ، لتوفير بضعة عشرات من الملايين ، ينبغي ان يوضع ضمن مفهوم تطوير اهتمامات القطاع الخاص من الاستثمارات الجزئية والقصيرة الامد ، الى الاعمال الاستراتيجية الطويلة الامد ، ولتحقيق هذا المفهوم ، فاننا بحاجة الى تحرير السوق من الامتيازات الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الشركات على حساب البقية ، ولا سيما على حساب المستهلك النهائي ، كما ينبغي التأكيد على تضمين مفهوم الخدمة العامة في الاستثمار ، والتخلص من عقلية الربح المادي الاقصى ، السائدة في السوق ، والتي ترسخت في السنوات الماضية كنتاج للتدفق المفاجيء للثروة والفرص ، وقصور المفاهيم والقيم التي يجري نشرها وتعليمها ، عن استيعاب الحقائق الجديدة ، التي افرزها تطور الصراع بين المال والقيمة الاجتماعية ، بين العناصر المادية وغير المادية في النمو الاقتصادي

يقول الناس ايضا ان المحافظة على المستوى المرتفع للمعيشة ، بحاجة الى ابتكار مداخل وأدوات واطارات استثمار جديدة ، لا سيما في قطاع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة ، ويضربون مثلا على هذا المدعى بقطاع البناء والاسكان ، الذي لا يمكن التساهل في اهميته وحيويته ، فمع تراخي صندوق التنمية العقاري او توفقه احيانا عن الاقراض السكني ، فان هذا القطاع قد انكمش الى حدود مقلقة ، وقد كان يمثل شريحة واسعة من اجمالي القطاع الخاص ، ويمكن اعادة تنشيطه بتغيير سياسات الاقراض السائدة في البنوك المحلية .

 ولنا في تجارب الدول الاخرى درس وعبرة ، في بريطانيا مثلا يتم تمويل 60 بالمائة من عمليات بناء وتملك البيوت السكنية بقروض شخصية ، ونظرا لاتساع هذا القطاع فقد تأسست ـ الى جانب البنوك العادية ـ بنوك متخصصة في هذا المجال ، يطلق عليها (جمعيات البناء) حيث يستطيع أي مواطن بغض النظر عن امكاناته المادية الفعلية ، اقتراض مبلغ لشراء مسكن خاص ، كما ان شركات البناء تنظم اتفاقات مع تلك البنوك ، لاقراض من يرغب في شراء المساكن التي تبنيها ، ان قطاع الاسكان من القطاعات المزدهرة في بريطانيا رغم ان الحكومة لا تقدم قروضا ، بل تضع سياسات وتوجيهات لتعمل هيئات التمويل الخاصة على ضوئها . ان تنشيط قطاع البناء يمكن ان يتوازى مع وضع توجيهات للاستثمار في صناعة مواد البناء ، ومعظمها من نوع الاستثمارات المتوسطة ، من اجل رفع مستوى التكامل الرأسي لهذه الصناعة ، وتمكين البلاد من انتاج كل ما يلزمها لبناء مساكن ابنائها .

في نفس المجال نحن بحاجة الى تغيير بعض مفاهيم الملكية السائدة في الانظمة ، والمفاهيم السائدة في المجتمع ايضا ، لتمكين المواطن من امتلاك شقة في عمارة او طابق في بيت ، يتشارك في ملكية ارضه مع الغير ، والسماح بتأجير الارض لفترات طويلة ، مئة سنة مثلا ، بحيث تعامل المنشآت المقامة فوقها معاملة الملك الحر طيلة فترة التاجير ، اضافة الى تشجيع اقامة الجمعيات التعاونية للسكن ، ومنحها امتيازات مالية او قانونية ، لتخفيض كلفة البناء او الاستملاك السكني ، مما سيؤدي الى تنشيط قطاع البناء والعقار والصناعات المرتبطة بالبناء .

الخلاصة ان الناس ـ معظمهم على الاقل ـ ينظرون بقلق الى انعكاسات الانخفاض الراهن في الدخل الوطني على معيشتهم ، لكنهم في المقابل ليسوا غافلين عن حقيقة ان هذا التطور السلبي لم يكن اختياريا ، كما ان اعادة الوضع الى ما كان عليه في أوائل الثمانينات او بعيدها ، ليس من الاحتمالات التي ينظر اليها غالبية الناس ، الاكثرية حسب ما أظن تعرف بعض الحقائق او كلها رغم انها لا تعلن بصورة رسمية ، ولا تناقش في الصحافة المحلية ، ما يطمح اليه الناس هو سياسات جديدة تتعامل مع الشأن الاقتصادي باعتباره قضية مستقبلية ايضا ، وليس مشكلة وقتية محدودة ، ذلك يحتاج الى سياسات جديدة والى توجيه جديد لمراكز الثقل ، وتعديل الانظمة السائدة لتكون عونا على هذا التوجيه ، فلعلنا نعود الى وضع اقتصادي طبيعي ، لا يعتمد كليا وقطعيا على عدد براميل البترول التي نبيعها وقيمة كل برميل .

عكاظ 9 يوليو 1998

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...