؛؛ منذ 1991 ادى الجدل الداخلي الى تلاشي حالة الميوعة والتعميم ، ووجد الاسلاميون انفسهم امام اسئلة لا يمكن تركها دون حسم ؛؛
وصول باراك اوباما الى البيت الابيض كان له وقع استثنائي بين السلفيين السعوديين. هذا لا ينبع من اهتمامهم بالسياسة الامريكية ، بل لانهم فهموه كتحد جدي لمسلمات ايديولوجية حول الديمقراطية والحكم الصالح . يهمنا النظر في موقف التيار السلفي السعودي لانه يشكل ما يقترب من "مرجعية دينية وسياسية" لكثير من التيارات السلفية في العالم العربي. الجدل بين السلفيين السعوديين سوف ينتقل بالضرورة الى اشقائهم العرب ، وانعكاسات الجدل سوف تظهر هنا وهناك.
قبل بضع سنوات قسم د. سعد الفقيه المدرسة السلفية السعودية الى خمس شرائح لكل منها موقف خاص من الديمقراطية . هناك بطبيعة الحال الكثير من التناظر والتماثل في التفاصيل ، الامر الذي يسمح باختصار عدد الاطياف تتشكل منها المدرسة السلفية الى ثلاثة رئيسية :
** الطيف المتحجر ، والمتشدد ، والمتغير. يتمثل الاول في الحماة التقليديين للتراث الفقهي الاخباري . واغلبهم رجال دين كبار في السن يعملون في المؤسسات الدينية الرسمية او على حاشيتها . اعتاد هؤلاء معالجة الامور من زاوية فقهية بحتة . لا تشغلهم السياسة قدرما يقلقهم تبدل سلوكيات الجيل الجديد وشيوع الاختلاط وسماع الموسيقى الخ .
** يتالف الطيف المتشدد من رجال دين متوسطي العمر تأثروا بصورة متوازية بالطيف الاول وبرجال دين غير سعوديين . وهو طيف مسيس ومهتم بالنفوذ الشعبي. هويته الايديولوجية تشكلت من خلال الصدام مع الاعداء وليس من خلال البناء الذاتي للمتبنيات. وهو يتبنى ايديولوجيا متشددة تميل بشدة نحو السجال والتبرير. ولهذا فان خطابه لا يعرض مشروعا اجتماعيا او سياسيا بقدر ما يركز على نقض المشروعات او الخطابات الموازية . بين ابرز من يمثلون هذا الطيف نذكر الشيخين سفر الحوالي وناصر العمر.
** يمتاز الطيف الثالث (المتغير) بانفتاحه على شريحة من الاكاديميين من الطبقة الوسطى . وقد طور خطابا يقترب من خطاب التنظيمات الاسلامية التي انبثقت من تيار الاخوان المسلمين. يعبر هذا الطيف عن تطلعات سياسية واضحة واهتمام خاص بكسب الجيل الجديد من السعوديين . كما اظهر استعدادا غير اعتيادي للحوار مع الاطياف السياسية والدينية التي يتشكل منها المجتمع السعودي. ومن وجوههخ البارزة نذكر الشيوخ سلمان العودة ، عايض القرني ، عبد الوهاب الطريري ، محمد دحيم ، وعبد العزيز القاسم . فضلا عن مفكرين مدنيين مثل د. محمد الاحمري ود. مسفر القحطاني.
من البديهي ان يبدأ الجدل حول الانتخابات الامريكية وفوز "المرشح الاسود ذي الجذور الاسلامية" وسط هذا الطيف ، لان تكوينه الطبقي والثقافي يجعله اكثر استيعابا للمتغيرات ومعانيها الثقافية وانعكاساتها على الجمهور .
بدأ الجدل مبكرا لكنه وصل الذروة بعد فوز اوباما بالرئاسة. في البداية كان الجميع متفقا على ان فوز اوباما مستحيل . قال المتشددون ان العملية الديمقراطية مجرد لعبة لالهاء الجمهور ، وان الرئيس القادم رجل ابيض سبق ترويضه من جانب اللوبي اليهودي وكبار رجال الاعمال. وجود منافسين ضرورة كي تبدو اللعبة حقيقية. مبرر هذا الاعتقاد هو ان النظام الديمقراطي والامريكي خصوصا فاسد ، وثني ، وخاضع لسيطرة الراسماليين الاوغاد.
اما الطيف المتغير فركز على دلالات وصول "المرشح الاسود ذي الجذور الاسلامية" الى التصفيات النهائية. وقارن بين الفرص الممكنة في نظام ديمقراطي وتلك المتوفرة في الانظمة التقليدية العربية . يقول الشيخ سلمان العودة "لو كان اوباما في بلد عربي لوجدته في احد مراكز الترحيل" في اشارة الى المعاملة المهينة التي يتلقاها العاملون الاجانب في الخليج. بعد فوز اوباما كتب د. الاحمري اراء وقعت كالصاعقة في الوسط السلفي : " المثال الأعلى للحكم هو الحكم الديمقراطي وأن ما عداه من أنظمة لا تستحق أن تذكر في الأخبار أي أخبار إلا أخبار المقهورين، أو المغلوبين على أمرهم، من أهل الهوامش الفاشلة أو المتخلفة". وينظر الاحمري الى الديمقراطية كطريق للخلاص الديني : "ابن مسلم أسود يحكم أمريكا، إنها الأمم العملية التي تجردت من الوثنيات المتخلفة ... [والوثنية] من علامات الفشل المقيم في قلوب وعقول بعض المسلمين، الذي أسلمت كلماتهم ، ولكن الوثنية تحتل قلوبهم ، والعالم الإسلامي تضعه هذه الوثنية خلف الأمم ، وتمسك به جاهلا تابعا خائفا ، وتدمر روحه ". وقال الشيخ عايض ان فوز اوباما تجسيد لقيم الاسلام التي تحض على اولوية الكفاءة ، وهي قيم تركها المسلمون.
رد الطيف المتشدد بخشونة على هذه الطروحات ، فندد الشيخ ناصر العمر بالانزلاق الى تمجيد النظام الامريكي ، وقال ان الذين تحدثوا في الموضوع مصابون "بحالة من الهوس" هو انعكاس لما يعانونه من كبت سياسي ناتج عما وصفه بـ "الديكتاتورية الادارية" في العالم العربي. وعاب عليهم عدم فهمهم للنظام الامريكي : " قد تكون هناك [في امريكا] حرية نسبية ، لكن في النهاية هي حكم ديكتاتوري" واعتبر كلام بعض الكتاب عن الديمقراطية في الصحف السعودية نوعا من "الديكتاتورية الفكرية".
الطيف المتغير ينظر بجد في التجارب المتكررة التي تكشف فضائل الديمقراطية . تجربة حزب التنمية والعدالة التركي كانت جرسا كشف للكثيرين عن الامكانات الهائلة للديمقراطية. لكن انتصار اوباما سوف يثبت قدرتها على ابتكار المعاجز.
تجربة الانتخابات الامريكية حركت فعلا السكون الثقافي والعقيدي وطرحت تحديا جديا على حراس النسق المهيمن , ومن المؤكد اننا سنسمع عن تحولات ايجابية في المستقبل القريب. التحول في المدرسة السلفية السعودية مهم جدا لانها التيار الوحيد الذي قاوم – حتى الان – اي تغيير جوهري في ايديولوجيا تجاوزها الزمن.
مقالات ذات علاقة
-------------------
التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري