اجتمع قادة الدول الافريقية
في مقر منظمة الوحدة الافريقية ، التي ينطوي اسمها على حلم رومانسي ، اصبح تحققه
اليوم ، اصعب كثيرا من اليوم الذي تاسست فيه هذه المنظمة .
فالقارة الافريقية التي عانت
كثيرا من وطأة السيطرة الاجنبية ، اصبحت قبيل نهاية القرن العشرين ، وفي ظل النخب
الوطنية ، ابعد ماتكون عن تحقيق اهداف قادة الاستقلال ، على صعيد السياسة كما على
صعيد الاقتصاد.
في اوائل السبعينات
الميلادية أثار أ . سيكوني جدلا واسعا بين المثقفين والسياسيين الافارقة ، حينما
اصدر كتابه المسمى افريقيا اساءت الانطلاق
الى حد اعتبره بعضهم تدليلا على ان هذا المفكر المعروف بتعاطفه مع هموم العالم
الثالث ، مايزال محملا بنزعة استعلائية مستمدة من انتمائه الى اوربا ، التي ينسب
اليها اسباب التخلف المسيطر على الامم الافريقية .
سياسة التظاهر
والحق ان سيكوني لم يبد اي
قدر من التعاطف ، وهو يوجه النقد الى المناهج والسياسات ، التي اتبعتها النخبة
الافريقية ، في الفترة التي اعقبت زوال الاستعمار الاوربي المباشر ، بل انه اعتبر
هذه النخبة مضللة او متواطئة ، في ابقاء اوضاع التخلف الاجتماعي والاقتصادي ، دون
علاج جذري او طويل الامد
وقد نال التوجه التظاهري في
السياسة والاقتصاد ، اكبر قدر من النقد في ابحاث سيكوني ، الذي لم يحظ بشهرة كبيرة
رغم انه يعتبر احد الاوائل ، الذين اشاروا الى العلل الجوهرية في اقتصاديات العالم
الثالث ، ولاسيما في جانب الارتباط الحرج ، بينها وبين التمويل الخارجي من جهة ،
وبينها وبين السياسة من جهة اخرى .
ان قيمة ابحاثه تظهر الان
بجلاء اكبر ، فقد اعتمد على تحليل اقتصاديات الدول النامية ، في الربع الثالث من
القرن العشرين ، ليستنتج ان معظم الدول المعنية ، ستواجه قبل نهاية القرن اضطرابات
اجتماعية وسياسية ، تطيح بمعظم ما اعتبره السياسيون في تلك المرحلة ، مكتسبات او
انجازات تستحق الاشادة
تعليم يصنع التخلف
ومن ذلك على سبيل المثال
السياسات التعليمية ، فبينما كانت الحكومات تعتبر التعليم الريفي ابرز مظاهر
النهوض الحضاري ، فان سيكوني اعتبره مجرد قناة ، ترفد نهر البيروقراطية المدينية
بالاعوان .
ومن خلال البحث المستوعب
للعلاقة بين سياسات التعليم في الريف ، وبين هجرة المتعلمين الى المدينة ، استنتج
ان المدارس الريفية لاتفعل شيئا ، سوى امتصاص الطاقة البشرية من الجوهر الاقتصادي
لتلك الدول ، اي الزراعة الريفية ، وراى ان
هذه الحركة ستؤدي الى تدمير
امكانات النمو الاقتصادي ، مما سيضطرها في مرحلة لاحقة الى العودة للاعتماد على
المساعدات الخارجية ، على مستوى تمويل العجز ، او على مستوى العون المباشر ،
الغذائي وغيره .
وخلاصة ما اراد سيكوني قوله
هو ان معظم الدول الافريقية ، تستطيع النهوض اعتمادا على تطوير الاقتصاد الزراعي
، لانها تملك الامكانات والفرص ، المادية
البشرية ، التي تؤهلها للنهوض في هذا المجال .
جوهرية الريف
وهذا يعني ان توجه الدولة جل
اهتمامها الى الريف ، بل ان تعتمده كقاعدة لمشروعية عملها السياسي وشرعية بقائها ،
خلافا للسياسات التي اتبعها الاستعماريون قبل ذك ، والتي تضمنت على المستوى
الاقتصادي ، تعزيز اعتماد البلاد على تصدير المواد الخام ، وعلى المستوى السياسي مساعدة
النخبة المدنية ، في السيطرة على خيوط السياسة والحياة العامة ، الامر الذي استتبع
تهميش الريف واستثنائه ، ليس من المشاركة في صناعة السياسة الوطنية ، بل وحرمانه
ايضا من نصيبه في الثروة الوطنية ، التي يشارك في توفيرها .
وفي الوقت الحاضر فان تنبؤات
سيكوني وغيره من المفكرين ، الذي اهتموا منذ منتصف الستينات ، بدراسة واقع التنمية
في العالم الثالث ، اصبحت اكثر قدرة على اثبات مصداقيتها ، فليس ثمة دولة افريقية
، بل ليس ثمة قطر من اقطار العالم الثالث ، الا وهو يعاني من الاضطراب الاجتماعي ،
الذي لايصعب ملاحظة خلفياته الاقتصادية .
الفقر والانشقاق
ومع انه لايمكن نسبة كل تطور
سلبي ، في العلاقة بين المجتمع والدولة الى خلل اقتصادي ، الا ان معظم اسباب عدم
الرضى العام ، هي في حقيقتها شعور بالحرمان ، أو عجز عن تحقيق الرغبات ، ان
الاكثرية الساحقة من الناس تلخص الرضا ، او تحقيق الذات ، في وجود وضع معيشي ملائم
أو قابل للتطور ، وقدرة على تحقيق الامان الحياتي.
وثمة من ينكر هذه العلاقة
الوثيقة بين الاقتصاد والاستقرار ، مدللا على رايه باوضاع البلدان التي تعاني من
انشقاقات اجتماعية ، على رغم ما تتمتع به من اوضاع معيشية مريحة ، وهو اعتراض صحيح
، تدعمه ادلة كثيرة
.
لكن يبدو ان المعاناة الكبرى
في افريقيا ، ترجع الى فشل الحكومات في تامين مستوى من المعيشة ، يليق بكرامة
الاكثرية الساحقة من المواطنين .
ان الفشل على هذا الصعيد قد
اثار الشك في مشروعية الدولة ، وعزز الانفصال بين النخبة والقاعدة العريضة من
الشعب ، ذلك لان اكثر النخب السياسية في القارة السوداء ، لا تملك ايديولوجيا اخرى
تبرر بها وجودها على راس السلطة ، سوى قيادة النهوض الاقتصادي ، او انها على الاقل
لم تستطع اقناع الناس ، بان ثمة ايديولوجيا اخرى تستحق الرهان .
وفي بعض الحالات فان
الانشقاق قد ارتدى ثوبا اخر ، لايوحي بان الفقر او عدم المساواة ، هو المحرك
الرئيس ، لكن الذي لايشك فيه هو ان الجماعات الايديولوجية ، لم تستطع الحصول على
الكثير من الأنصار المتحمسين ، خارج المناطق الفقيرة ، او التي تخضع للتمييز .
كما يمكن التاكد من ان الفقر
هو السبب الرئيسي ، للانشقاق الاجتماعي الواسع النطاق ، من ملاحظة ان الدول التي
تنعم بمستوى معقول من المعيشة ، تعتبر اقل عرضة للازمات الاجتماعية ، او على اقل
التقادير فان الازمات التي تتعرض لها ، لاتكون خطيرة وشاملة ، بمثل ماهي عليه في
البلدان التي تعاني عجزا على المستوى المعيشي ، او تمايزا شديدا بين قطاعات
المجتمع .
4 فبراير 1996