28/02/1995

عن مكارم الاخـــــلاق


في الايام  الاخيرة من شهر رمضان ، يزداد تاكيد الخطباء والمتحدثين على ادراك مكارم الاخلاق ، قبل ان تفوت الانسان فرصته ، للتزود بما امكن منها  .
والحق ان هذا  الشهر المبارك فرصة للتامل الذاتي ، عز ان يجد الانسان نظيرا لها ، في غمرة انشغالاته بهموم الحياة ، وصراعه المستميت من اجل لقمة العيش .

 ولايدري الانسان وهو يستقبل ايام رمضان الاخيرة ، عن مقدار نجاحه في ادراك تلك المكارم ، ما الذي حصل عليه منها وما الذي فاته .

ويبدو لي ان الاخلاق عندنا لاتتجسد في امثلة واضحة ، ولاتتأطر باطار معلوم ، لكي يشعر الانسان بالرضا من نتاج محاولاته ، او يشعر بتانيب الضمير لتقصيره في  السعي .
الحاجة للتحديد
ان عدم التحديد ، يجعل السعي وراء التمثل والاحتذاء لهاثا غير محدد المقصد ، والمفترض ان مكارم الاخلاق ، مثل غيرها من العناصر المعنوية ، والصفات القابلة للاكتساب ، نماذج عملية قابلة للتاطير ، فاذا كسرنا حدودها اصبحت مطلقة ، عائمة ، وعصية على التحول من فكرة الى نموذج .
وقد دافع بعض الفلاسفة القدماء عن اطلاق الفضائل ، ومنعها من النمذجة ، مبررين هذا التوجه ، بان محاولة الانسان التحلي بالفضائل الاخلاقية ، يستبطن سعيا الى الكمال ، فكل واحدة منها هي مرحلة في سلم ، يصعده الساعي الى الكمال الانساني ، والكمال مطلق لايمكن نمذجته ، فتحديد نهايات للمراحل قد يشعره بالاكتفاء والقناعة بالقليل ، اما تركها من غير تحديد ، فانه يبقي الصاعد منجذبا الى التعالي ، يقوده الشوق الى التكامل ، فيدفعه شوقه مرحلة بعد مرحلة ، وهو لما يزل قلقا من بقائه رهين قصور الهمة ، عن بلوغ العلو المأمول .

كلام مجرد
 والذي اظن ان هذا المنطق الذي يبدو متماسكا في اساسياته ، انما يعبر عن تصور نظري فحسب لمكارم الاخلاق ، فهو امتداد للنظرية الجوهرانية في تطور العلم ، وامكانية السيطرة على السلوك بالتحكم العقلي المستقل ، بغض النظر عن مؤثرات الواقع الخارجي ومتغيراته ، وعلى هذا المستوى فان المسألة تخرج من نطاق البحث التطبيقي ، وتبقى موضوعا للجدل الفلسفي المجرد .
اما الذي يهمنا ويهم الناس من موضوع مكارم الاخلاق ، فهو قابلية تطبيقها ، والتمثل بها في الحياة العملية للافراد والجماعات ، وخلاف غرض التطبيق ، فان المسألة برمتها تخرج عن نطاق الاهتمام والدعوة .

واذا قلنا بان الغرض من الحديث عن الفضائل الاخلاقية ، هو دعوة الناس الى احتذائها ، فانه من الضروري اخراجها من حالة الاطلاق الى حالة التحديد ، والتحديد ليس في جوهره غير اعتبارها نسبية ، بمعنى ان الصحيح منها ، هو الصحيح ضمن مستوى معين ، وبالنسبة الى مكان معين وزمان معين .

ثمة جدل قديم في الفكر الاسلامي حول ذاتية الافعال ، يرجع اليه كما ارى بعض الاشكالات ، التي ربما ترد على فكرة نسبية الاخلاق ، فهناك من سيعترض بان القول بالنسبية ، ربما حملنا على الشك في وجود حقيقي وثابت لبعض الفضائل ، فهل يمكن ان يكون العدل ـ على سبيل المثال ـ نسبيا ؟ اي صحيحا في ظرف وغير صحيح في آخر ، او يمكن اعتبار الظلم نسبيا اي خطأ في بعض الاحيان وصحيحا في غيرها ، ومثلهما العفو والرحمة وحب الناس ، وغير ذلك من المكارم .

النظرية والتطبيق
الجواب على هذا ان بعض الافعال له قيمة ذاتية ، فالظلم سيء في كل الامكنة وكل الازمان ، والعدل طيب في كل الازمان وكل الامكنة ، لكن الجدل ليس في هذا الموضع بل في موضع التطبيق ، فنحن نجد في القرآن الكريم ايات كثيرة ، تدعو الى صلة الرحم ، والبر بالوالدين والحب للاهل ، واسداء المعروف اليهم ، وثمة ايات اخرى تنهى عن المودة والحب لأي من هؤلاء ، بل تعتبر مودتهم قادحا في ايمان صاحبها ، يقول تعالى في سورة المجادلة (لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا اباءهم او ابناءهم او اخوانهم او عشيرتهم) فهذه الاية تتضمن نهيا صريحا عن صلة الرحم ، واظهار المودة الى الاقربين ، لا لأن صلة الرحم مثلبة ، بل هي من امهات الفضائل ، ولكن لأن تطبيقها في هذا المورد على وجه الخصوص ، مؤد الى نتيجة سيئة تخالف الاغراض المبتغاة من مكارم الاخلاق .

فهذا المثال واشباهه ، يدل على ان فضيلة مثل المودة وصلة الرحم ، قد فقدت مضمونها ، عندما خرجت من صورتها الاصلية النظرية ، ودخلت حيز التطبيق على مورد محدد ، وهو مانقوله من ان القيمة المعتبرة لكل من الفضائل ،  تتحدد عند الاتصال بموضوعها ، اي انها تكون ذات قيمة رفيعة ، بالقياس الى موضوع محدد ، وتكون مجردة عن قيمتها ، بل تنطوي على قيمة عكسية ، بالقياس الى موضوع آخر محدد .

فاذا صح هذا الكلام ، فانه يأخذنا الى كيفية التحلي بالمكارم ، وحدود ماينبغي للانسان ان يسعى فيه ، والذي ارى ان المسلم مطالب بالسعي الى كمال متناسب مع قدراته ، والربط بالقدرة هنا يشير الى امكانية اجتماعية بالدرجة الاولى ، فهو يفعل حسنا اذا استطاع ان يجعل سلوكه اقوم من سلوك المحيطين به في بيئته المباشرة ، وليس يعيبه من ثمّ ، ان يكون هذا المستوى قاصرا عن مستوى الكمال النظري .

درجات في سلم
ان محاولة الانسان التحلي بفضائل غير قابلة للتطبيق ، او هي على الاقل عسيرة التطبيق ضمن بيئته المباشرة ، يجعله غريبا بين اقرانه ، او ربما يضطره الى التخلي عنها سرا وادعائها علنا ، اي الخروج من الحياة الاعتيادية السوية الى حياة مزدوجة ، بعضها للناس وبعضها للذات ، فيبذل جهدا لاظهار نفسه بالمظهر الذي تعهد الالتزام به ، دون ان يكون مؤمنا بامكانية تحقيقه .

ان مراعاة المحيط مبرر للاقتصار على مستوى بسيط من المناقب ، لكنه في ظني خير وبركة ، فوجود قابلية للثبات عليه ، يحوله بالتدريج من ممارسة ارادية مقصودة في كل تطبيق ، الى سلوك عفوي يمارسه الانسان آليا ، وهذا بدوره يؤهله للانتقال الى مرحلة اعلى في سلم التصاعد ، فهو في كل الاحوال متدرج لايخشى عليه التراجع ، ولا الازدواجية ، يفعل مايستطيع ويترك مالايستطيع ، وهذا هو حد التكليف الشرعي .

اذا قدرت ان تخرج من هذا الشهر المبارك وقد ارتقيت درجة ، اي تمثلت بعض المناقب ، ولو ضمن مستوى متواضع ، فانك قد حضيت بصيد وفير ، فليكن مباركا عليك رمضان ، ولتكن مباركة حياتك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...