13/03/2019

التجديد المستحيل


لاحظت ان دعاة الاصلاح في الفكر الاسلامي المعاصر ، اعرضوا بغالبيتهم عن الحديث المنسوب للرسول (ص) "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". بخلاف رواد المنهج التقليدي الذين احتفوا به ، مع ان غالبيتهم تتخذ ، من حيث المبدأ على الاقل ، موقفا متشككا ازاء دعوات التجديد المعاصرة.
والحق ان معالجة التقليديين لفكرة التجديد ، بعيدة جدا عن جوهرها. فقد صرفوا النقاش ، من التجديد كقضية قائمة بذاتها ، الى هوامشها البعيدة ، مثل تحديد من يصدق عليه وصف المجدد. كما اهتموا بنوعية علمه ، فاستبعدوا حملة العلوم كلها عدا الفقه والحديث. واهتم بعضهم بتوضيح ان انطباق وصف المجدد على شخص بعينه ، مشروط بان يتوفاه الله عند نهاية قرن وبداية قرن جديد. فلو توفي في منتصف القرن – مثلا - خرج من قائمة المجددين.
ومن المتوقع بطبيعة الحال ان يصرف كل اهل مذهب وصف المجدد ، الى علماء مذهبهم دون سواه ، كما فعل جلال الدين السيوطي في ارجوزته الشهيرة "تحفة المهتدين بأخبار المجددين". وهو الأمر الذي عارضه الحافظ ابن كثير والمناوي في "فيض القدير".
كما تضمنت نقاشات قدامى الاسلاميين خلافا ، حول صحة ان يكون لكل قرن مجدد واحد او اكثر من واحد. ونعلم ان هذه النقاشات جميعا ، بعيدة كل البعد عن جوهر الفكرة التي يعالجها الحديث ، أعني بها فكرة ان التجديد مبدأ لازم ، حتى لو تعلق الأمر بنظام فكري او ايديولوجي ينطوي على مضمون مقدس مثل دين الله.
والذي أرى انه يستحيل التوصل الى فهم دقيق لمبدأ التجديد ، في إطار المنهج التقليدي ، فضلا عن القيام بهذه المهمة. أما سبب هذا الزعم الجازم فيرجع الى جوهر هذا المنهج ، وأخص بالذكر صفتين اساسيتين فيه: أولاهما انصراف مفهوم العلم الى التراكم الأفقي ، بدل التطور والتحول. اما الثانية فهي الملازمة المتكلفة بين الفكرة وشخص قائلها ، الأمر الذي يجعل نقد الافكار موازيا عندهم للتشنيع على الأشخاص ، وما يمثلون من قيمة تاريخية. واحتمل ان هذا تعبير عن ميل قوي لتثبيت المنظور المذهبي للقضايا العلمية ، او ربما تحويل المذهب الى بنية ايديولوجية قائمة بذاتها.
افترض ان الصفة الثانية واضحة بما يغني عن مزيد البيان. لكن في خصوص الصفة الأولى ، فان الفرضية الأساس في تطور العلم ، هي ان الجديد يعتمد على سابقه او يستفيد منه ، يعارضه او يزيد عليه ، ثم يتجاوزه. اي ان اللاحق يقدم تفسيرا اقرب للحقيقة من السابق ، ولهذا يحتل مكانه.
لكن المشهود عندنا ، ان المنهج التقليدي في علم الدين ، يسير باتجاه معاكس تماما. فاللاحق يكتسب قيمته من موافقته للسابق ، وليس تجاوزه ، فضلا عن نقده ومعارضته. بل ان معارضة التفسيرات والرؤى الموروثة ، تعامل عند رواد هذا المنهج كدليل على الجهل ، او حتى سوء النية في بعض الأحيان. وهذا ما وصم به عديد من المفكرين الذين طرحوا تفسيرات وتصورات جديدة خلال الخمسين عاما الماضية.
سوف أعود للمسألة في قادم الأيام. لكن زبدة ما ينبغي بيانه هنا ، هو ان جوهر التجديد كمبدأ علمي وعملي ، هو نقل المعيارية والمرجعية من القديم الى الجديد. فاذا بقي القديم ثابتا في مكانه ، واذا طولب الجديد  بان يتبع خطى القديم ، فان الأمل في التجديد ليس سوى سراب.
الأربعاء - 6 رجب 1440 هـ - 13 مارس 2019 مـ رقم العدد [14715]
https://aawsat.com/node/1631026

06/03/2019

المد الديني باعتباره ظاهرة اجتماعية

تستهدف هذه المقالة ايضاح الفارق بين الدين والظاهرة الدينية ، اي بين الايمان والعرف الاجتماعي. لهذا نبدأ بالتمييز بين التدين الفردي ونظيره الجمعي. الدين في جوهره المنفرد الذي لايخالطه شيء ، علاقة بين الفرد وخالقه. يتأثر قبول الفرد للدين بالعديد من العوامل الخارجية. لكنه في نهاية المطاف رهن بالارادة الواعية للفرد ، الذي سيحمل اعباء الالتزام الجديد والاستمرار فيه. بهذا المعنى فان الايمان فعل فردي في الجوهر ، بداية واستمرارا.
اما التدين الجمعي فهو وصف للمظهر العام ، اي المجال المشترك بين مجموع المؤمنين. ينتج المجال المشترك نمطا متمايزا من العلاقات الانسانية ، تبرز في مضمونه او مظهره الرموز الدينية. من ذلك مثلا التبادلات الثقافية كالصحافة والخطب والمدارس ، التي تتخذ الدين موضوعا لها ووظيفة ثابتة لاصحابها. وكذا التجارة في السلع التي تخدم الحياة الدينية كطباعة الكتاب الديني وصنع سجادة الصلاة وتنظيم حملات الحج ، وكذلك الاحتفالات والعروض الفولكلورية والنشاطات الاستعراضية التي تستعمل لغة دينية. ومنها أيضا الازياء والملابس التي تشير الى التزام ديني او طقس ديني.
بعبارة موجزة فان الحديث عن التدين الجمعي ، يتناول الاطار المادي والمظاهر الخارجية ، الجمعية خصوصا ، التي تدل الناظر على القناعات الدينية للمجتمع ، كما تدل على الارضية القيمية للسلوكيات والاعراف العامة. قد يكون المشاركون في هذه السياقات مؤمنين أتقياء ، وقد يكونون غير مؤمنين على الاطلاق. لكنهم جميعا يشاركون في نموذج سلوكي وحياتي عام ، يشكل نوعا من موقف جمعي او ما نسميه أحيانا دائرة مصالح اجتماعية.
ينطبق هذا الوصف على كافة المجتمعات المحافظة ، التي يلتزم غالبية افرادها بتعاليم الدين. ولايختلف حال المجتمع المسلم عن المسيحي او البوذي او غيره. انه أشبه بعرف ثابت ، لايتغير الا حين يجرد الناس قناعاتهم الدينية الخاصة عن تمظهراتها الاجتماعية. مثلما يحصل حين يعيش المسلم في قرية مسيحية او المسيحي في مدينة مسلمة.
وكما يتقلص التمظهر الاجتماعي للتدين في ظروف معينة ، فانه يتصاعد في ظروف أخرى. يتصاعد ويتسع حتى يهيمن على مجالات حياتية ومجتمعية ، كانت في العادة خارج اطار العلاقات الدينية. في هذه الحالة يتحول التدين الجمعي الى ما يسمى بالمد الديني. وقد شهد المجتمع العربي تحولا من هذا النوع اواخر القرن الماضي ، وجرى تعريفه باسم "الصحوة الاسلامية".
هذا التحول هو ظاهرة اجتماعية ، تشكلت بفعل مؤثرات في المجتمع نفسه وفي خارجه. وليس لتلك المؤثرات علاقة مباشرة بالدين. بعبارة اخرى ، فان المد الديني حراك اجتماعي ذو طبيعة تاريخية ، لبس رداء الدين واستعمل لغته ، خدم الدين في ناحية كما استخدمه في ناحية أخرى. انه – على وجه الدقة – تعبير عن حاجات اجتماعية في وقت محدد.  
ومثل سائر الظواهر الاجتماعية ، تولد عن المد الديني آليات وانماط عمل جديدة ، ساهمت في اعادة ترتيب القيم والاولويات ، وتبعا لها ، العلاقات بين افراد المجتمع. من ذلك مثلا ان الشكل الديني تحول الى عامل تفضيل للشخص ، يفوق تاثيره العوامل الاخرى كالثروة والعلم والنسب.
في سياق هذه الظاهرة كان الدين يلعب دور الوسيط في العلاقة بين الاطراف الاجتماعية ، سيما بين منتجي المادة الدينية ومستهلكيها ، وليس دور الهدف او معيار التقييم. لهذا السبب بات الابرع والابلغ في الحديث عن الدين ، اكثر نفوذا وتاثيرا من العالم بالدين. لأن الدين – كما سلف – وسيط ، وبالتالي فان جانبه الرمزي ، اي الصورة والشكل واللغة ، هي نقطة التقييم الرئيسية ومحور العلاقة بين الاطراف.
الأربعاء - 28 جمادى الآخرة 1440 هـ - 06 مارس 2019 مـ رقم العدد [14708]

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...