13/02/2019

المعرفة الدينية كموضوع تخصص


كان الفيلسوف الاندلسي ابوالوليد ابن رشد (1126-1198م) من أوائل الذين التفتوا الى تداخل الاختصاص بين علوم الشريعة والعلوم الموازية. فقد كرس رسالته الشهيرة "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" لوضع تصور للتراتب المنهجي بين مناهج وموضوعات الفلسفة والشريعة ، والحد الفاصل بينها.
تمثال ابن رشد في قرطبة-اسبانيا
ونشهد بين فترة واخرى بروزا لنفس الجدل. ويشعر علماء الشريعة بالمرارة ازاء كثرة المعترضين على الاحكام الفقهية ، سيما من أولئك الذين لم يدرسوا هذا العلم وفق المنهج التقليدي المعروف. احتجاجهم ليس بلا أساس. فهم يقولون ان علم الشريعة مثل كل علم آخر ، كالطب والفيزياء وغيرها ، له مناهجه ولغته ومعاييره. فلا يصح الجدل في موضوعاته لغير المؤهلين فيه ، ولا يصح رد الخبير بقول العامي الذي لا يعرف سوى ظاهر الأحكام وأمثلتها.
يتصل هذا الجدل بقضية أسبق حول علاقة الشريعة بالعلوم العقلية. ان السؤال المطروح هنا: هل أقامت الشريعة علما خاصا بها ، من أجل فهمها وتفسير نصوصها ، ام ان البشر هم الذين أقاموا علم الشريعة. واذا كان الجواب هو الثاني ، فهل اقيم هذا العلم من الصفر ، ام جاء امتدادا لمجموع المعارف البشرية في مختلف المجالات.
كان هذا احد الموضوعات التي حاول ابن رشد معالجتها في كتابه المذكور أعلاه. لكني أظن ان تطور المعارف في القرن العشرين ، يسمح بتجاوز رؤيته ، رغم جودتها يومئذ.
يمكن النظر الى الخطاب الديني كتعبير عن أحد مصدرين:
·      منطوق النص ، اي ما ورد في النص القرآني والنبوي حرفا بحرف.
·      مفهوم النص ، اي فهم البشر للنص في ظرف معين. والذي يتشكل في سياق علاقة ديناميكية بين النص وقابليات البشر الذهنية والروحية ، اضافة الى قيود النظام الاجتماعي. في هذا الجانب يتدخل عرف المجتمع كصانع لموضوع الفكرة الدينية وتطبيقاتها ، اي فرض حدود النص.
في الاطار الاول (منطوق النص) تجد لعلماء الشريعة دورا محوريا. فعلى امتداد التاريخ وحتى اليوم ، قدم الفقهاء والمفسرون والرواة رأيهم ، باعتباره مطابقا للنص. لكنا نعلم ان رأيهم هو أحد الأفهام المحتملة ، وليس ذات النص او حتى الفهم الاخير.
في الاطار الثاني (مفهوم النص) يشارك المجتمع بدور أوسع في صياغة التجربة الدينية ، التي تتشكل في سياق تفاعل بين مجموع المنظورات المتوفرة في وقته: منظور الفقيه والفيلسوف والاقتصادي وعالم الاجتماع والمعماري والسياسي الخ. ان الاعراف والتقاليد الملحقة بالدين او التي لها ظلال دينية ، تتشكل غالبا في الاطار الثاني وليس الأول.
لم يكن هذا التمايز ملحوظا في تاريخ الاسلام المبكر. ولم تكن فكرة استقلال العلوم مهيمنة ، كما هي اليوم. ولذا كان الفقيه مفسرا وطبيبا وقاضيا وفلكيا ، وربما اضاف اليه علما آخر كالفيزياء والكيمياء او غيرها.
نعرف طبعا ان هذا الحال اختلف الآن ، وبات لكل علم رجاله وموضوعه ومعاييره الخاصة ، بل ولغته المتمايزة أيضا.
لكن رغم الاتجاه الشديد للتخصص ، فان كل علم يستهلك منتجات العلم الآخر ويعتمد عليه. ولا يوجد علم منفصل تماما عن بقية العلوم. وهذا يعيدنا الى النقاش حول التخصص في علم الشريعة. فهل نريده مستقلا بموضوعه ، لكنه متفاعل ومستهلك لنتائج بقية العلوم ، ام نريده منفصلا عن كل علم آخر ، برجاله وقضاياه ومعاييره. واذا كان الجواب هو  الأول ، فهل للخبراء في العلوم ذات العلاقة ، حق مناقشة قضايا الشريعة المتصلة بعلومهم أم لا؟.
الأربعاء - 7 جمادى الآخرة 1440 هـ - 13 فبراير 2019 مـ رقم العدد [14687]
https://aawsat.com/node/1588786

06/02/2019

الحرية في الفقه.. مشكلة المفهوم

||انفصال المعرفة الدينية عن تيارات الحداثة ، أبقى ثقافتنا العامة اسيرة للتراث القديم بلغته ومفاهيمه وطرق تعبيره الخاصة.||


النقاش حول مقالة الاسبوع الماضي ، لفت انتباهي الى غفلتنا عن التحول التاريخي للمفاهيم والمصطلحات وحتى المعاني الأولية للالفاظ. وذكرني هذا بقصة في بواكير دراستي لاصول الفقه ، قبل اربعة عقود تقريبا. فقد اطنب الاستاذ في شرح العلاقة بين اللفظ و المعنى والفرق بينهما ، وبين العام والمصطلح ، وبين المعنى الحقيقي والمجازي.. الخ.

لا اتذكر الآن مما تعلمته يومذاك ، سوى اشارات بقيت في الذهن ، من بينها تأكيد الاستاذ على ان "التبادر علامة الحقيقة". والمقصود بهذا القول ان لكل لفظ معنى حقيقي ، نعرفه اذا تبادر قبل غيره الى أذهاننا. ووفق ما تعلمته يومئذ فان المعنى الأول للفظ يبقى لصيقا به على الدوام.
ومرت السنين ، فتعلمت ان اللغة ليست كائنا مستقلا ، بل هي جزء من ثقافة المجتمع الذي يتحدثها ، وانها – خلافا لما تعلمته سابقا – لا تنتج المعاني. فالمجتمع هو الذي ينتج المعاني ، ويلصق بكل منها اللفظ الذي يراه قادرا على حمل المعنى وايصاله.
اما المعاني فهي التصوير الذهني لعناصر الواقع ، المادية مثل التعاملات ، والنظرية مثل الاخلاقيات والمعارف والجماليات والمثل والاعراف.

المعاني اذن هي ما نريد التعبير عنه حين نتحدث. اما اللفظ فهو وعاء المعنى او ظرف الرسالة. ونعلم ان الناس لا ياكلون الوعاء ، بل الطعام الذي فيه ، ولا يهتمون بالظرف الذي يحمل الرسالة ، بل بالرسالة التي في الظرف.
بعد هذا الاستطراد  اعود الى مقالة الاسبوع الماضي ، التي ذكرت فيها ان مفهوم الحرية في التراث الفقهي الاسلامي محدود في معنيين ، هما الاسر/السجن والرق/العبودية. فقد اثارت هذه الدعوى جدلا ، فحواه انها تنطوي على رجم للفقه وأهله بالقصور او التقصير.

Image result for ‫أشعيا برلين‬‎
ايزايا برلين
لكن صديقي المهندس فؤاد عسيري لفت انتباهي الى حقيقة غفلت عنها ، وخلاصتها ان مفهوم الحرية الذي نعرفه اليوم ، لم يكن متداولا في غابر الزمان. وقد ذكر المفكر البريطاني-الروسي  ايزايا برلين انه أحصى 200 تعريف للحرية ، يشير كل منها الى معنى متمايز عن نظيره. ذكر برلين هذا في محاضرة شهيرة جدا سنة 1958 عنوانها "مفهومان للحرية" وقد اصبحت نصا مرجعيا في التراث الفلسفي الخاص بالحرية. وفقا لهذا التعداد فان اكثر من ثلاثة ارباع تلك التعريفات/المعاني يرجع الى القرن السابع عشر وما بعده.

بعبارة اخرى فان معظم المعاني التي ينطوي عليها مفهوم الحرية ، لم تكن معروفة أو متداولة في الماضي ، بل تطورت وتبلورت في سياق التطور العام الذي مر به المجتمع الانساني خلال القرون الثلاثة الماضية.

هذا لا يعفينا – على اي حال – من الاشارة الاجمالية الى نقطتين مهمتين:

الاولى: ان اغفال البحث الفقهي لمفهوم الحرية الحديث ، ناتج – حسب ظني – عن اعتزاله لتيارات العلم والفلسفة الجديدة ، رغم سعة تأثيرها في حياة البشر جميعا ، المسلمين وغيرهم. الحرية من القيم المعيارية الكبرى ، وهي تشكل ارضية لشريحة واسعة من احكام الشريعة والقانون. ونعلم ان الزمان متغير اساسي في تشكيل موضوع الحكم الشرعي وأغراضه.

الثانية: ان انفصال المعرفة الدينية عن تيارات الحداثة ، أبقى ثقافتنا العامة اسيرة للتراث القديم بلغته ومفاهيمه وطرق تعبيره الخاصة. هذا احد الاسباب الذي تجعلنا نتعامل مع قيمة عظيمة مثل الحرية بشيء من الارتياب ، وتضطرنا لتبرير ارتيابنا بان معانيها ولدت او تطورت في الاطار المعرفي الغربي ، وندعي ان لدينا مفهوما مختلفا. وهذا بعيد عن الحقيقة. ولو كان لبان.

الشرق الاوسط الأربعاء - 1 جمادى الآخرة 1440 هـ - 06 فبراير 2019 مـ رقم العدد [14680]

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...