23/01/2019

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

||المسألة التي تثيرها رواية "الخبز الحافي" هي تقلص خيارات الافراد او حتى انعدامها ، بحيث لا يعود الانسان قادرا على التحكم في حياته او تحديد ما يريد وما لايريد||

كتب الاديب المغربي محمد شكري روايته "الخبز الحافي" في 1972. لكنه أخر نشرها حتى 1982. خلال هذه السنوات العشر ، ترجمت ونشرت بالفرنسية والانجليزية ، ثم نشرت في 35 لغة أخرى. ربما كان خروج الرواية عن مألوف الكتابة العربية ، عاملا في اشتهارها على مستوى العالم. وهذا لا يقلل – على أي حال - من قيمتها الفنية الرفيعة ، وما أظهره الكاتب من قدرة فائقة ، في عرض تفاصيل الحياة اليومية لمجتمع غارق في الفوضى.

أثار اهتمامي في الرواية تصويرها لاشكالية التصارع بين الغرائز والخيارات العقلائية. وللمصادفة فقد قرأتها في وقت كان ذهني مشغولا بجدل المفاضلة الشهيرة بين الخبز والحرية ، وامكانية تحقيق الحرية الفردية في غياب الضرورات الأولية للحياة ، وما يقابلها من اعتبار الحرية شرطا لتمكين الفرد من اخذ حياته بيده ، بدل انتظار من ينعم عليه بلقمة العيش.
كانت هذه الجدالات الفلسفية الطويلة ، ترتسم في ذهني مثل خطوط على سبورة ، وأنا اتنقل بين صفحات حياة شكري ، التي صاغها كدراما مفجعة في روايته.
اعلم ان معظم الناس سيميل للرؤية القائلة بان الحرية أمر ثانوي عند انسان جائع. وهي رؤية اتخذها الماركسيون منطلقا للتنديد بمفهوم الحرية الليبرالي ، مقابل المساواة التي اعتبروها ذروة القيم الناظمة للحياة الاجتماعية ومبدأ العدالة.

أعلم أيضا ان معظم المدافعين عن أولوية الحرية ، ينتمون لمجتمعات لم تذق ألم الجوع ، وما يرافقه من شعور عميق بانكسار النفس وذبول الأمل في الحياة.
القائلون بأولوية الحرية يعرضون بدورهم أدلة ، يصعب المرور عليها دون تأمل عميق في محتواها. ولعل أبرز هذه الأدلة ، هو ذلك الذي يربط بين تحرر الانسان وتبلور قابلياته الذهنية. يستطيع الانسان – وفقا لهذه الرؤية - تدبير حياته اذا تحرر من العوائق التي تعطل عقله او تكبح ارادته. بل هو قادر على التحرر النهائي من خطر الجوع واحتمالاته. نذكر مثلا ان ملايين البشر فقدوا حياتهم في المجاعات التي ضربت العالم في القرون الماضية. لكن هذه الظاهرة تقلصت بشكل كبير في الخمسين عاما الماضية. وكان اخرها مجاعة الصين الكبرى ، التي حصدت 30 مليونا بين 1958-1961. وتقدر "الامم المتحدة" ان المجاعات قد حصدت 75 ألفا من البشر في كل عام خلال العقود الخمسة الاخيرة. وهذا يعادل 10 بالمئة من ضحايا السنوات السابقة ، رغم ان عدد سكان العالم يزيد عن ضعف ما كان عليه قبل نصف قرن.
هذا التطور لم يأت بشكل تلقائي. بل نتيجة لجهود البشر في توفير الغذاء. وهو يؤكد قابلية الانسان لتدبير حياته ، واحتواء ما يواجه من تحديات ، اذا تحرر ذهنيا وجسديا مما يكبح اراداته او يعطل فاعليته.
الفارق في مستوى المعيشة مثال آخر على كون الحرية علة للتقدم ، او على اقل التقادير ، كونها عاملا محوريا في الارتقاء الاقتصادي. حيث نجد ان سيادة القانون وحمايته للحريات العامة ، قاسم مشترك بين المجتمعات المزدهرة صناعيا واقتصاديا. كما ان ضعف المنظومة القانونية الضامنة للحريات ، قاسم مشترك بين الاقتصاديات الاقل ازدهارا. ومعنى الحرية المقصود هنا هو – على وجه التحديد – تعدد الخيارات وحرية الانسان في الاختيار.
المسألة التي تثيرها رواية "الخبز الحافي" هي تقلص خيارات الافراد او حتى انعدامها ، بحيث لا يعود الانسان قادرا على التحكم في حياته او تحديد ما يريد وما لايريد. ليس نتيجة للاستبداد ، بل نتيجة للفوضى وغياب القانون. وتلك قصة أخرى ربما نعود اليها لاحقا.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 جمادى الأولى 1440 هـ - 23 يناير 2019 مـ رقم العدد [14666]
https://aawsat.com/node/1557356/


مقالات ذات علاقة 

 


ان تكون عبدا لغيرك

تحكيم القانون وليس التعويل على الاخلاق

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات -دراسة موسعة 

الحرية التي يحميها القانون والحرية التي يحددها القانون

الحرية المنضبطة والشرعية: مفهوم الحرية في مجتمع تقليدي...

الحرية بوصفها مشكلة

الحرية بين مفهومين

الحرية عند أهل الفقه

الحرية والانفلات

 الحرية والنظام العام

الحرية وحدودها القانونية

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم

الخبز الحافي والحرية المستحيلة

دعاة الحرية وأعداء الحرية

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

العلاقة الجدلية بين الحرية ورضا العامة

عن الحرية والاغـتراب

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات

في تمجيد الحرية

كيف يضمن القانون حرية المواطن ؟

مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع الخاطئين

مجتمع العبيد

معنى ان تكون حرا ، اراء قديمة وجديدة

ملاحظات على حديث قصير – غريب

من يتحدث حول الحرية.. وماذا يقول ؟

يحبون الحرية ويخشونها

16/01/2019

مجتمع الخاطئين

|| ما نراه كل يوم تقريبا من خشونة في النقاشات العامة، لا يمكن نسبته الى الجهل او قلة التهذيب فحسب. ثمة عوامل أخرى محتملة ، وينبغي اخذها بعين الاعتبار كي نتفادى مواجهة التعصب بتعصب مضاد.||

لم اسمع يوما ان شخصا ادعى انه معصوم لا يخطيء. كل منا يصيب حينا ويخطيء أحيانا. ولا أظن احدا ينكر هذه الحقيقة في نفسه فضلا عن غيره.
رغم ذلك فقد تجد من يخاصمك لو خطأت قوله أو انتقدت رأيه. بل ربما يخاصمك لو خطأت شخصا آخر ، تربطه به علاقة مودة او متابعة في دين او سياسة او غيرها. ولعل اكثر ما حدث لي وللكتاب الآخرين من خصومات ، كان نتيجة لشيء من هذا القبيل.
ربما ننسب هذا التعامل الى الجهل أو قلة التهذيب ، أو غيرها من صفات التنقيص. لكني أرجح انه ليس كذلك في معظم الحالات. ومبرر هذا الترجيح أنك ترى ذات الشخص الذي يرد هنا بكلمات نابية ، يستعمل في مكان آخر الفاظا تنبيء عن لطف وصبر ومعرفة. المعرفة والتهذيب ليسا رداء ترتديه ثم تنزعه. بل طبائع لا يمكن للانسان حملها هي ونقيضها في الوقت نفسه.

دعني اقترح ثلاثة اسباب محتملة:
الاول: قد ينتج الغضب من عدم التمييز بين احكام ذات محمولات مختلفة. ومثاله الخلط بين وصف شيء بانه خطأ ، او القول بانه باطل. ونعلم ان المحمول القيمي للتعبير الثاني أثقل نسبيا من سابقه ، رغم امكانية استعمالهما كمترادفين.  
الثاني: الخلط بين الشخص والفكرة. وجدت اشخاصا يبدأون ردهم على الناقدين ، بذكر انجازاتهم السابقة ، والتأكيد على مقامهم ومعارفهم.. الخ. وربما ينزلقون أكثر فيشيرون الى ان الناقد دونهم علما أو مكانة ، او انه من اتباع هذه الجماعة او تلك الخ.. والواضح ان هذا النوع من الردود ، مبعثه الخلط بين نقد الفكرة والعدوان على صاحبها ، أو أنه يماهي بين التعرض للفكرة والتعريض بصاحبها.
الثالث: القلق على الهوية وحدودها. ومن ذلك مثلا اني نشرت في الشهر الماضي دراسة حول المساواة بين المرأة والرجل ، تتضمن مراجعة للأدلة المتعارفة في هذا الحقل. فجادلني كثير من السادة حول فساد المجتمع الغربي ، واعتبروا ان الكلام عن المساواة ثمرة للانبهار بالغرب ، وأمثال ذلك من الأوصاف. لكني لم أر مناقشة واحدة في الموضوع نفسه ، اي المساواة ، ولا سيما اعتبارها حقا أصليا للانسان ، ولا حول الادلة التي جرت مراجعتها ، ولم يتكرم أحد بمجادلة الأدلة التي ساقتها المقالة لدعم دعاواها.
وسبق ان واجهت نفس هذه النوعية من الردود ، حين كتبت عن مفهوم الاجتهاد وحرية الاعتقاد ، وغيرها. في معظم هذه الردود ، تجد قاسما مشتركا ، فحواه ان الاخذ بما هو مطروح في الفكر الغربي ينطوي على انتقاص مكانة الدين او قيمة أهله ، وان نقد استدلالات متفق عليها بين جمهور العلماء ، تهوين من شأنهم او من القيمة العلمية لتراثهم. وقد تكون تمهيدا للتعريض بالدين نفسه. بل قال أحدهم صراحة ان ما اسماه "تسفيه" اراء العلماء ، يمهد بالضرورة لتسفيه احكام الدين نفسه.
ينبيء هذا النوع من الاعتراض عن قلق على الهوية او قلق على حدود الجماعة. هذا قلق قابل للتفهم ، لكنه لا يفيد كثيرا في الارتقاء بالنقاش العلمي او الاجتماعي ، بل قد يؤدي الى كبت الآراء الجديدة والافكار الخلاقة ، وبالتالي تجميد العقول في ثلاجة الموروث.
زبدة القول ان ما نراه كل يوم تقريبا من خشونة في النقاشات العامة ، لا يمكن نسبته الى الجهل او قلة التهذيب فحسب. ثمة عوامل أخرى محتملة ، وينبغي اخذها بعين الاعتبار كي نتفادى مواجهة التعصب بتعصب مضاد.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 جمادى الأولى 1440 هـ - 16 يناير 2019 مـ رقم العدد [14659]

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...