14/03/2018

نحو نماذج محلية للتنمية



من الجزائر الى العراق مرورا بمصر والسعودية ، ثمة حديث مستجد عن اعادة هيكلة الاقتصاد والعودة لمشروعات التنمية الشاملة ، التي كانت سمة بارزة في حياة العالم العربي خلال الربع الاخير من القرن العشرين. نعلم ان تلك المشروعات قد غيرت صورة البلدان العربية ، لكنها لم تصل الى غاياتها الكبرى ، اي اقامة اقتصاد ذي قاعدة انتاج واسعة متنوعة ، يحقق الرفاه والعدالة لكافة المواطنين.
خلال العقدين الماضيين ، برز النموذج الصيني في التنمية ، كدليل على انه لا يوجد مثال كوني وحيد للنمو الاقتصادي والاجتماعي. نجح مشروع مارشال في أوربا لأنه طبق في أوربا. ولا نعلم مصيره لو طبق في غيرها. وخلال الخمسين عاما الماضية طبقت توصيات صندوق النقد الدولي في عشرات من دول افريقيا وآسيا ، لكنها أخفقت في إعادة التوازن الى اقتصاديات هذه البلدان ، فضلا عن تحقيق أهداف التنمية المتوخاة.

يقول خبراء الصندوق الدولي ان التحول الاقتصادي الذي يدعون اليه لن يتحقق في عام او عامين. فهو علاج طويل الامد لمشكلات مزمنة. وأذكر ان البروفسور هما كاتوزيان الذي درس التجربة التنموية في ايران خلال السبعينات ، كان قد أشار الى هذه المسألة بالتحديد ، حين وصف المجتمع الايراني بانه ملول او سريع الضجر short-term society بمعنى انه ينشغل بالانجازات الفورية ، حتى لو كانت على حساب الاهداف الكبرى التي تحتاج عملا على المدى الطويل. وأحتمل ان المجتمعات العربية تعاني ذات المشكل. فهي تريد حلا فوريا لمشكلة البطالة ، مع علمها بان الحلول السريعة ليست سوى اسبرين ، يخفي الالم ولا يعالج مصدره. وهي تريد حلا لمشكلة الفقر بزيادة الانفاق الحكومي ، وليس بتوسيع القاعدة الانتاجية التي تستوجب الانتظار سنوات قبل رؤية ثمراتها ، رغم انها تشكل علاجا حقيقيا للمشكلة وليست مجرد اسبرين.
لم تتبع الصين توصيات صندوق النقد الدولي ، ولم تأخذ بنظرية التنمية السائدة في الاكاديميا الغربية ، بل اختطت طريقها الخاص ، حين اعلنت في 1979 برنامجا طموحا يستهدف الوصول الى مرتبة منافسة للاقتصاديات الصناعية.
يوم اطلق البرنامج ، ووجه بالسخرية. وقيل انه مجرد غطاء للتحرر من التقاليد الايديولوجية المتشددة لعصر ماوتسي تونغ. لكن اتضح لاحقا ان ذلك البرنامج كان "طريق الحرير" العصري للصين الجديدة. بين 1979 و 2003 ارتفع الناتج الوطني الاجمالي الى 1425 مليار دولار، بمعدل نمو سنوي يصل الى 9 بالمائة ، وهو اعلى معدل في العالم يومئذ. كما انخفض عدد الفقراء من 260 مليون الى 30 مليون بين عامي 1978 و2000. وتضاعفت قيمة الصادرات الصينية بما يصل الى 40 ضعفا.
نجاح النموذج الصيني كان ثمرة لموازنة دقيقة بين المعايير المتعارفة كونيا ، مثل سيادة القانون والتركيز على التعليم والابداع العلمي وحرية الاستثمار المحلي والاجنبي ، وبين متطلبات محلية مثل حماية الطبقات الفقيرة ، لاسيما في الريف ، والمحافظة على قدر معقول من التحكم في كلف الخدمات العامة ، والاستفادة القصوى من ميزات نسبية مثل توفر الخامات والعمالة الرخيصة.
بعبارة موجزة ، فان "تقليد" النماذج الناجحة ليس شرطا لازما لنجاح التنمية في هذا البلد او ذاك. على العكس من ذلك ، فان النجاح رهن بالاستثمار الامثل للامكانات المحلية ، وتحويل التنمية من سياسة تنفذها هيئات حكومية محددة ، الى مشروع وطني يجد فيه كل مواطن فرصة لابراز قدراته وامكاناته ، حتى يصل من خلاله الى صورة المستقبل التي يريدها لنفسه ولابنائه.

الشرق الاوسط الأربعاء - 26 جمادى الآخرة 1439 هـ - 14 مارس 2018 مـ رقم العدد [14351]

07/03/2018

العدالة الاجتماعية كهدف للتنمية




يعد جون رولز واحدا من اعظم فلاسفة القرن العشرين. وقد ساهمت اعماله في تغيير وجهة البحث في العدالة وتطبيقاتها بشكل جذري. هذا ما قاله امارتيا سن ، الفيلسوف والمفكر الهندي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد. قد تكون عبارات مثل "أهم" و "اعظم" انطباعية ، سيما اذا صدرت عن أشخاص تأثروا فعليا باعمال رولز. لكن ثمة ما يدلنا على انه كان بالفعل مفكرا استثنائيا ، يندر اغفاله في اي دراسة جادة حول العدالة او التنمية البشرية في العالم المعاصر. طبقا لتقارير غوغل الاكاديمية ، فان اسمه يظهر كمرجع لدراسات عامة واكاديمية بما يزيد عن 160 الف مرة ، من بينها 110 الاف مرة خلال السنوات الخمس الماضية فحسب. وهذا رقم يتجاوز عدد الارجاعات المسجلة لأي مفكر آخر في العالم.
السر الذي جعل اعمال رولز واسعة التأثير ، هو نجاحها في البرهنة على ان التزام السياسات العامة بقيمة العدالة ، طريق لتسريع النهوض الاقتصادي والاجتماعي ، وتعزيز الاستقرار الذي تنشده كافة الحكومات ، خلافا لانطباع عام بين السياسيين والاقتصاديين ، فحواه ان النمو الاقتصادي قد يتطلب تأجيل حقوق الانسان الاساسية. في هذه النقطة بالذات ، تتمايز رؤية رولز عن الليبرالية الكلاسيكية التي افترضت امكانية التضحية بالمساواة أو على الاقل تأجيلها ، في سبيل النهوض بالاقتصاد والمعيشة وتعزيز الحريات الفردية.  كما تمايزت عن الرؤية الماركسية التي نادت بتأجيل الحريات الفردية والمدنية ، حتى إقرار المساواة الكاملة بين جميع المواطنين.


يصر رولز على ان نظريته "العدالةكانصاف" نظرية سياسية ، بمعنى انها قابلة للتطبيق في إطار سياسات وبرامج عملية ، غايتها اعادة تشكيل البنية الاساسية للنظام الاجتماعي ، بما فيها القانون والسياسات الرسمية وبرامج العمل ، وصولا الى اقامة نظام اجتماعي عادل.
نعرف ان هذا التقدير لم يكن مجرد تأمل فلسفي. لقد ثبت فعليا ان رؤية رولز – رغم ما يظهر عليها من نزوع مثالي – قابلة للتحول الى برامج عمل. في العام 1990 تبنت الجمعية العامة للامم المتحدة جدول مؤشرات لقياس النمو الاقتصادي/ الاجتماعي الذي تحققه اقطار العالم في كل عام. وضع الجدل على يد محبوب الحق ، احد اشهر منظري التنمية المعاصرين ، بمساعدة امارتيا سن ، والسياسي الاسكوتلندي تام داليل. يشكل مجموع تلك المؤشرات دليلا للمخططين في كل بلد ، نحو تحقيق الهدف الأعلى للتنمية ، اي تعزيز العدالة الاجتماعية ، من خلال توسيع خيارات الافراد وتمكينهم من ادارة حياتهم ، على النحو الذي يترجم تصورهم الخاص للسعادة.
وفقا لرؤية رولز فانه يمكن للعدالة ان تتحول من تطلع مثالي الى قيمة متحركة في واقع الحياة ، اذا صيغ مفهومها في سياق نقاشات مفتوحة بين مواطنين عقلاء أحرار. ان نقاشا حرا بين الناس ، سيفضي الى إبراز مفهوم للعدالة ، واقعي وقادر على توحيد الاطياف الاجتماعية المختلفة. وهو يقرر  في كتابه "الليبرالية السياسية" أن النظم الليبرالية تواجه تحديا جديا ، يتمثل في قابليتها لانشاء فضاء واحد يوفر العدالة لجميع المواطنين ، مهما اختلفت مشاربهم ومتبنياتهم الدينية والايديولوجية ومستوى معيشتهم.
عقلانية الانسان تتجلى – حسب رولز – في قدرته على ادراك حقيقة العدل وتمييز ما هو خير لنفسه وللآخرين. وبهذا فهو يؤكد على قيمة محورية غالبا ما تناساها السياسيون ، وهي ان سعي الانسان لصالحه الخاص ، لا يغير من حقيقة ان ذاته وفطرته خيرة ، وانه قادر على تدبير حياته دون عدوان على حقوق غيره. 

الشرق الاوسط الأربعاء - 19 جمادى الآخرة 1439 هـ - 07 مارس 2018 مـ رقم العدد [14344]

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...