10/01/2018

صدمة التراث الاسطوري



في الموقف من الفلسفة ودخالتها في تشكيل المفاهيم الدينية ، انقسمت المدرسة الدينية الشيعية الى فريقين: فريق اعتبر الفلسفة تهويما في عوالم بعيدة عن الطبيعة المباشرة والبسيطة للنص ، وفريق اعتبر العقل شريكا للنص في ادراك الحقيقة المركبة والمعقدة للوجود.

ملاهادي السبزواري
لازال الجانب الاعظم من نقاشات الفلسفة الدينية التقليدية ، يدور في إطار الرؤى التي وضعها صدر الدين الشيرازي (1571- 1640م) ، ولا سيما في كتابه الشهير "الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة". يعرف الشيرازي ايضا بالملا صدرا وصدر المتألهين. وقد كرس كتابه لتجسير الفجوة بين مقولات الفلسفة اليونانية ، والمفاهيم التي تطورت في الاطار المعرفي الاسلامي ، خاصة تلك التي تبدو متعارضة مع التفسير المادي للعالم.

نشر علماء كثيرون شروحا على الكتاب ، ابرزها حاشية الملا هادي السبزوراي ، المتوفى في 1873م.  

في حديثه عن نعم الله على عباده ، ذكر الشيرازي خلق الحيوانات: "وبعضها للاكل.. وبعضها للركوب والزينة.... وبعضها للنكاح". ويستفاد من العبارة ان النساء نوع من الحيوان. واستدل عليها بالاية المباركة (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا). وعلق السبزواري على هذا بقوله "ادراجها في سلك الحيوانات ايماء لطيف إلى أن النساء ، لضعف عقولهن وجمودهن على ادراك الجزئيات ورغبتهن إلى زخارف الدنيا ، كدن ان يلتحقن بالحيوانات الصامتة حقا وصدقا. أغلبهن سيرتهن كالدواب. ولكن كساهن صورة الانسان ، لئلا يشمئز عن صحبتهن ويرغب في نكاحهن. ومن هنا غلب في شرعنا المطهر جانب الرجال وسلطهم عليهن في كثير من الاحكام". (الحكمة المتعالية للشيرازي ، ط3 دار احياء التراث العربي-بيروت، 3/136 -الهامش)

تذكرت هذا النص وأنا أقرأ مقالا للدكتور ابراهيم المطرودي (الرياض 3 ابريل 2013) نقل فيه نصا مماثلا للمفسر الشهير الفخر الرازي ، في تفسير الآية (خلق لكم من أنفسكم أزواجا) حيث اعتبرها دليلا على أن "النساء خلقن كخلق الدواب والنبات ... خلق النساء من النعم علينا، وخلقهن لنا، وتكليفهن لإتمام النعمة علينا، لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا... لأن المرأة ضعيفة الخلق، سخيفة، فشابهت الصبي". 

ويستدرك المطرودي بأن الرازي "يسحب ثقافته التي كوّنها عن المرأة بنفسه أو شاعت في زمانه، ويجعلها جزءاً من النص الديني، فتتحوّل بفعله الكتابي التفسيري من موقف شخصي أو ثقافي اجتماعي إلى معنى ديني، يجد سنده في النص الديني نفسه، ويصبح بعد ذلك جزءا منه".

مضت قرون منذ كتب الاعلام الثلاثة تلك الكتب ، وتوالى عليها علماء كثيرون بالقراءة والشرح والتدريس. لكن احدا من هؤلاء – فيما نعلم - لم يوجه نقدا لمثل المقولات المذكورة أعلاه. وهي للمناسبة متكررة بصيغ شتى عند فقهاء ومحدثين آخرين.

صحيح ان فقهاء اليوم ما عادوا يكتبون اشياء كهذه. وصحيح ايضا ان المئات ممن قرأوها طيلة القرون الماضية لم يتعرضوا لها بالنقد ، لم يقولوا انها بعيدة عن روح الدين ، غريبة على الذوق الانساني السليم.

اعلم ان بعض الناس سيشعر بالصدمة حين يقرأ تلك النصوص. وبعضهم سيقول ان "لكل فارس كبوة" ولا يؤاخذ عالم بهنة هنا او هناك. لكن ما يهمنا بيانه هو ان تلك الأقوال نتاج لثقافة سادت في زمن ، ثم جرى تثبيتها وتمريرها عبر الأزمان ، فباتت جزء من تكويننا الثقافي ورؤيتنا للعالم حولنا. ان رؤيتنا المشوشة للطبيعة الانسانية ، حقوق الانسان ، حرية الاعتقاد والتفكير ، المساواة ، ومواقفنا في حالات الخلاف والاختلاف ، متأثرة بعمق بذلك النوع من الموروث الثقافي الذي استوعب قدرا غير قليل من التصورات الاسطورية ، وأعاد انتاجها كجزء من الرؤية الدينية للعالم.


الشرق الاوسط الأربعاء - 22 شهر ربيع الثاني 1439 هـ - 10 يناير 2018 مـ رقم العدد [14288]


مقالات ذات علاقة




03/01/2018

ربيع ايراني..؟


هل تتجه ايران الى "ربيع" شبيه بما حدث في مصر وتونس؟.

ربما نعم وربما لا. الثورة الشعبية من الظواهر التي لازالت غامضة. لا أعرف في علم الاجتماع أو السياسة ، نظرية متقنة ، تسمح بقياس قابلية ظرف سياسي محدد لاطلاق ثورة او نجاحها. لهذا أظن ان أسئلة من نوع هل ستنفجر الثورة ومتى وكيف وهل تنتصر ، غير واقعية على الاطلاق ، رغم انها ما زالت تثير خيال الباحثين.

عند انطلاق الربيع العربي تابعت بشكل حثيث مسارات الأحداث ، وتأملت طويلا في العوامل التي اتفق الدارسون على انها "خطوط انكسار" اي تلك الصدوع في بنية النظام الاجتماعي/السياسي ، التي تدعم احتمالات سقوط نظام سياسي او صموده. وتوصلت حينها الى ترجيح احتمال سقوط النظام السوري وصمود النظام التونسي. لكنا نرى الآن ان النتيجة جاءت معاكسة تماما. أعلم ان باحثين آخرين رجحوا الاحتمالات نفسها التي اكتشفنا لاحقا انها خاطئة في الحالتين.


نستطيع القول ان أسئلة "هل" و "متى" ليس لها جواب مبني على اساس علمي. لهذا يميل الباحثون للاهتمام بنطاق آخر ، يرونه أكثر فائدة من الناحية العملية ، يدور حول سؤال: كيف يمكن للنظام الاجتماعي ان يتفادى الثورة.

أهمية هذا السؤال تأتي من حقيقة ان الثورة ليست من التحولات المريحة لغالبية الناس. انها قفزة في المجهول ، فرارا من حالة يأس عام من إصلاح النظام السياسي اعتمادا على ادواته القانونية او عرف المجتمع.

أرى ان جميع المعالجات المندرجة ضمن استراتيجية تفادي الثورة ، تستهدف نتيجة واحدة ، هي تعزيز الأمل في قابلية النظام للاصلاح بالادوات التي يتيحها النظام ذاته. وحين يتلاشى هذا الأمل ، فسوف يتجه الى واحد من خيارين: اعتزال الدولة واغفالها تماما ، او التفكير في استبدالها.

فيما يخص ايران ، أظن ان فقدان الأمل يرجع لعاملين متعاضدين ، هما: استيلاء الدولة على المجال الأهلي ، وتخشب القانون.

تاريخيا كان المجال الديني خارج هيمنة الدولة ، وحاضنا لجانب واسع جدا من النشاط الاهلي المدني ، حيث تعاون الناس فيما بينهم على حل مشكلاتهم. منذ  1979 وسعت الحكومة هيمنتها على المجال الديني ، فتحول الى صدى للسياسات الرسمية. ومع الاخذ بعين الاعتبار ان اي خطاب ديني رسمي ينطوي – بالضرورة – على مضمون إقصائي ، فان الصوت الآخر غاب عن المجال الاهلي او عزل في نطاقات ضيقة.

اما تخشب القانون ، فمرجعه أن قواعد القانون واللوائح التنفيذية تستهدف في المقام الأول اغلاق الفجوات على المخالفين للقانون ، وليس تمكين الاكثرية الصالحة من تحصيل حقوقها ، أي كون القانون منبعثا من الارتياب في طبيعة الانسان وليس الثقة به او بميله الفطري الى الخير. بحسب علمي فان القانون في ايران ضيق وعسير. ويزيد من عسره كون الحكم شديد المركزية ، مهووسا بالقلق من تدخل الاجانب او معارضي الحكم الديني.

المجتمع المدني الحر يمكن الناس من التعاون على حل مشكلاتهم ، والقانون اللين الواسع الأفق يعين الاكثرية على نيل حقوقها. وحين يغيب هذا وذاك عن بلد ، فان عامة الناس سيعجزون عن حل مشكلاتهم بأي وسيلة قانونية او غير مكلفة.

لا تستطيع تفادي الثورة بدعوة الانصار الى تظاهرات معاكسة. ولا تستطيع تفاديها باتهام الأجانب ، ولا باغلاق قنوات التواصل بين الناس. الحل الوحيد هو توسيع افق القانون وتليينه وتمكين الجمهور من المشاركة في حل مشكلاته.

تبدأ الانهيارات في العادة بتظاهرات صغيرة ، وقد تكون مهذبة ولطيفة ، يمكن احتواؤها بسهولة ، اذا تواضع الحاكمون وانصتوا لصوت التغيير. لكن لو كرروا سؤال "من أنتم" الذي قاله العقيد القذافي يوما ما ، فسيسمعون الجواب الذي يكرهه كل حاكم ، كما حصل فعلا في ليبيا وغيرها.

الشرق الاوسط  الأربعاء - 15 شهر ربيع الثاني 1439 هـ - 03 يناير 2018 مـ رقم العدد [14281]
 http://aawsat.com/node/1131071
 


مقالات ذات علاقة

 

الانتخابات الايرانية : صراع بين منطقين

الانتخابات الايرانية وعالم السياسة المتغير

الايديولوجيا السياسية للتيار الاصلاحي في ايران

بدل الانشغال بالتفاصيل ، راهنوا على تغير النسق

تأثير الاتفاق النووي على بنية السلطة في ايران

جدل الدين والدولة في ايران

حدود الديمقراطية الدينية : عرض كتاب

خاتمي وفكرة توطين الديمقراطية

د. توفيق السيف: ولاية الفقيه نظرية ادت غرضها وحان الوقت لتجاوزها

دور الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الاول

ربيع ايراني..؟

فرصة جديدة لإيران

قراءة في كتاب "حدود الديمقراطية الدينية"

المرأة الغامضة في مفاوضات جنيف



الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...