28/06/2017

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت


؛؛ حين يسيح الناس في الفضاء المجازي ، فانهم لايؤدون اعمالهم فقط، بل يتعلمون اشياء جديدة ومثيرة. ويعيدون تشكيل هويتهم ورؤيتهم لانفسهم والعالم ؛؛
 مع تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991 ، أطلق عدد من الأكاديميين مصطلح"انفجار الهوية"لوصف التمرد الجمعي للقوميات التي خضعت منذ الحرب العالمية لهيمنة موسكو. قدر اولئك الباحثون ان معظم الدول الكبرى ، سوف تتقلص الى كيانات قائمة على اساس قومي او عرقي.
لم تصدق تلك النبوءة. لكن الذي حصل في الواقع هو ما تنبأ به مانويل كاستلز ، عالم الاجتماع الاسباني ، الذي رأى ان ثورة الاتصالات تقود العالم الى نوع من الهوية الموحدة. عرض كاستلز هذه الفكرة في 1989. لكنها لم تثر اهتماما يذكر حتى نهاية العقد التالي. في كتابيه الآخرين "مجتمع الشبكات" و "قوة الهوية" اهتم كاستلز بانعكاسات التواصل العابر للحدود على السلوك اليومي للأفرد والمجتمعات. وقدم في هذا الاطار تصورا متينا عن هوية معولمة ، تتشكل في العالم الافتراضي ، لكنها تعيد تكوين نفسها في العالم الواقعي ، على نحو يتعارض - في معظم الاحيان - مع المكونات المحلية الموروثة.
والحقيقة ان نظرية كاستلز تذهب الى مدى أبعد. فهو يقول ان ما كنا نسميه بالعالم المجازي ، لم يعد مجازيا على الاطلاق. فقد بات عالما حقيقيا ، وهذا واضح في مجال التجارة والثقافة ، وهو سيؤثر في نهاية المطاف على مفهوم ومضمون الدولة.
لا تعمل الدولة في الفراغ ، حسب رؤية كاستلز. فهي تكثيف للعلاقات والافكار والافعال التي تجري ضمن نطاقها الحيوي ، اي الارض التي تبسط عليها سيادتها. ومع تغير ثقافة البشر وعلاقاتهم ، وتغير الاقتصاد ونظم التبادل ضمن هذا النطاق وعلى امتداد العالم ، فان مفهوم الدولة وفلسفتها وديناميات عملها ، ورؤية الناس لها وتعاملهم معها ، سوف تتغير هي الأخرى.
نتيجة بحث الصور عن ‪manuel castells‬‏
ربما يتوجب علينا الانتظار بضع سنوات. لكن الذي سنراه في نهاية المطاف هو هوية فردية/جمعية معولمة ، اقتصاد معولم تحركه نظم المعلومات والاتصالات العابرة للحدود ، ودولة مضطرة للتناغم مع تحول البنية الاجتماعية التي تشكل مجالها الحيوي.
ما الذي يهمنها من هذا الحديث؟.
الواقع ان المجتمعات العربية عموما ، ومجتمعات الخليج بصورة أخص ، هي أكثر من ينطبق عليها التقدير السابق. الاحصاءات الخاصة بنفوذ الانترنت واستعمال الهواتف الذكية ، والتوسع السريع للتجارة الالكترونية والتعامل على الفضاء المجازي ، تؤكد الحقيقة التي تنبأ بها كاستلز ، أي تحول شبكة الانترنت من وسيط لتبادل الأفكار ، الى مجال لاعادة صياغة الحياة اليومية.
نعلم ان اكثر من نصف الأخبار المتداولة في العالم العربي اليوم تدور على الانترنت ، وان التجارة الالكترونية تنمو بنسبة لا تقل عن 6% سنويا. ونعلم ان جميع الاجهزة الحكومية والمنظمات التجارية ، تسعى لنقل ما تستطيع من عملياتها الى الفضاء الافتراضي. هذا وغيره سيحول الانترنت الى مجال حيوي يومي لجميع الناس ، صغارا وكبارا. وحين يسيح الناس في الفضاء المجازي ، فانهم لا يؤدون اعمالهم فقط ، بل يتعلمون اشياء جديدة ومثيرة. وفي هذا السياق يعيدون تشكيل ثقافتهم وعلاقاتهم ، وبالتالي هويتهم ورؤيتهم لانفسهم والعالم.
بالنسبة للمجتمعات العربية فان هذا التطور ، يستدعي حسما سريعا لسؤال: من نحن وماذا نريد وكيف نفهم العالم وكيف نتعامل معه.
في وقت ما ، قد يكون قريبا جدا ، سنجد انفسنا مختلفة عن انفسنا التي اعتدناها ، وسنضطر للتكيف مع انماط حياة غير التي ورثناها أو تعلمناها. ربما نحب هذا التحول او نبغضه ، لكنه سيحدث على أي حال.
الشرق الاوسط 28- يونيو - 2017

مقالات ذات علاقة


21/06/2017

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

انتقل العلامة شحرور الى رحمة الله في 21-12-2019. للاطلاع على فكره وكتبه ، انظر موقعه على الشبكة https://shahrour.org/

Muhammad-Shahrur.jpgالحوارات اليومية للمفكر السوري د. محمد شحرور على قناة روتانا ، هي في ظني أفضل عمل ثقافي قدمه الاعلام العربي خلال هذا الشهر المبارك. تعرفت على شحرور للمرة الأولى في مطلع تسعينات القرن المنصرم ، من خلال عمله المثير للجدل "الكتاب والقرآن". وللحق فان تحليله الفريد للنص القرآني قد صدمني وسفه كثيرا من قناعاتي المستقرة. لكنه علمني ان فهم النص مشروط بالعبور منه الى ما وراءه. هذا "الوراء" قد يكون تخيلا للاحتمالات الممكنة في النص ، أو ربما قائمة معايير أولية بسيطة ترجع اليها كافة الاخلاقيات والمثل ، أو إطارا عاما يجمع ما تظنه الخيوط التي تربط بين حياة البشر المادية وحياة الانسان المعنوية.
وجدت ثلاثة مفاهيم تشكل ما أظنه اطارا عاما يجمع كل آراء محمد شحرور ، هي الدنيوية ، المعنوية ، والعقلانية. من حيث المبدأ تصور شحرور الاسلام وكتابه المقدس كمنهج لتنظيم حياة البشر في الدنيا. ما يتعلق بالغيب والآخرة مجرد تكملة للقواعد التي تنظم الحياة الدنيوية. ثم انه تصور الحياة الدنيا العاقلة كنموذج أولي لتطبيقات القيم الدينية. والحق ان القرآن لا يدعونا لغير القيم العليا وقواعد العيش الكريم ، التي توصل اليه عقلاء البشر في كل زمان ومكان. ربما تختلف تطبيقات تلك القيم ومقاصدها الفورية بين ظرف وآخر او بين مكان وآخر ، بحسب موقعها في التشكيل العام للظرف الاجتماعي – الاقتصادي الراهن. لكنها في نهاية المطاف ليست أدوات تبرير لذلك الظرف ولا السلوكيات او المفاهيم المتولدة عنه. بل هي على العكس من ذلك ، نماذج مرجعية لنقد السلوكيات والافعال والمفاهيم السائدة ، وتأكيد على تجاوز التطبيقات الظرفية الى النموذج الاعلى.
المعنوية هي النقطة التي تلتقي عندها كافة الأديان والدعوات الروحية. لطالما استمعنا الى من يقول ان الاسلام متمايز على سائر الأديان ، بما يحويه من توازن بين جانبيه المادي والروحي. لكن ماذا تغني روحانيات الدين ان لم تملأ القلوب بالمحبة لسائر خلق الله. ان ما جرى من افراط في استعمال الشعار الديني في الصراعات الاجتماعية والسياسية ، قد حجم روحانيات الدين ، وحولها من عالم مستقل موازن للميول المادية ، الى أداة للأغراض المادية ، من خيوط وصل تربط بني آدم الى تبريرات للعدوان عليهم.
في هذه الأيام أرى نوعا من إعادة الاعتبار لمعنويات الدين. اي تلك المفاهيم القائلة بان عباد الله جميعا يمكن ان يلتقوا على شاطيء واحد ، هو عمل الخير ، حتى لو سلكوا سبلا شتى او اختاروا مذاهب وأديانا مختلفة. ويلفت انتباهي خاصة الاراء الجديدة التي يطلقها دعاة ومفكرون ، وفحواها ان قصد الخير بشكل عام ، كاف لنيل رضا الله.
جوهر معنوية الدين هي الايمان بأن رسالة الله واحدة ، تختلف اشكالها واطارات عملها بحسب اختلاف ازمنة الناس ، وان رحمة الله تتسع لجميع خلقه ، المذنبين والمحسنين. ونقطة الالتقاء بين العقلانية والمعنوية هي الايمان بدور الضمير الانساني كنقطة اتصال بين الانسان وربه ، ودور العقل كمولد لمعاني الافعال. مهما كان اتجاه الانسان وقناعاته ، فان عقله قادر على كشف محتوى الفعل ، اي التمييز بين الصلاح والفساد فيه ، حتى لو كان جاهلا بتعاليم الدين.
قد تكون ممن يتوسع في اقامة شعائر الدين او ممن يقتصد فيها. ما هو مهم في كل الاحوال هو قصد الخير لنفسك ولعامة الخلق ممن تعرفهم او لا تعرفهم. هذا هو  الايمان بالله.
الشرق الاوسط 21 يونيو 2017

مقالات ذات علاقة

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...