31/05/2017

نسبية المعرفة الدينية



من حيث المبدأ ، يتجه الخطاب الديني الى كل البشر ، في كل الازمان والأماكن ، باعتباره مثالا ومنهجا كونيا ، قادرا على توحيد الأحياء وتعزيز الالفة فيما بينهم ، وصولا الى تشكيل أمة واحدة تسود الكوكب. وفي هذا المجال لا يختلف دين عن دين. الاسلام مثل المسيحية واليهودية والبوذية وجميع الاديان الأخرى ، كل منها يقدم نفسه كخطاب كوني وقوة توحيد للعالم. وهي جميعا تدعو  للتعارف والتفاهم بين الاقوام والجماعات البشرية المختلفة ، تمهيدا للاندماج والتوحد..
لكن تاريخ العالم يخبرنا ان الأديان التي نجحت أولا في توحيد المجتمعات الصغيرة ، سرعان ما أصيبت بداء الانقسام والتفكك الداخلي.
الامبراطورية الرومانية المقدسة 117م

ومن المفارقات ان كل الاديان تسعى للتوسع ، من خلال ضم مجتمعات جديدة الى قاعدة اتباعها ومعتنقيها. لكن هذا المسار بذاته ، يفتح الباب لدخول أعراف تلك المجتمعات وموروثاتها الثقافية ، الى النسيج الثقافي للدين. وطالما بقيت ابواب المعرفة الدينية مفتوحة لجميع اتباع الدين ، فان احتمالات التحول في تلك المعرفة ، تبقى مشرعة بنفس القدر. المزيد من الاتباع يعني المزيد من الاضافات ، والمزيد من الاضافات يعني احتمالات جديدة لظهور جماعات متمايزة داخل الدائرة الدينية.
اختلاف الفتوى من بلد لآخر ومن زمن لآخر ، مثال شائع عن تلك الحقيقة. وهو للمناسبة من الأمور التي يحبذها كافة اتباع الأديان ، ويرونها دليلا على يسر الدين وانفتاحه. بعض الباحثين ينظر لاختلاف الرأي والفتوى كقضية علمية بحتة ، سببها اختلاف العقول وتعدد الأدلة. لكن الواقع يخبرنا ان عقل الانسان لا يعمل في العزلة.  فهو يتأثر بالمعارف المنظمة والأدلة ، إضافة الى التصورات الذهنية المنعكسة عن ظرفه الاجتماعي ، أي أنماط معيشة الناس وهمومهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم ومصالحهم ومخاوفهم. تترك هذه المؤثرات بصمتها على الفتوى والرأي الديني ، مثل اي تعبير ثقافي آخر. العوامل البيئية تؤثر في فهم الباحث لموضوع البحث كما تؤثر في مسارات تفكيره ، وتؤثر اخيرا في صياغته لنتاج عقله. اختلاف البيئة الاجتماعية لعالم الدين ، هو السبب وراء تعدد النماذج الدينية واختلافها بين بلد وآخر ، أو حتى بين جيل وآخر في نفس البلد.
المفترض ان نتعامل مع تعدد النماذج الدينية كسياق طبيعي في الحياة. بل من المنطقي القول انه مؤشر على اتساع التجربة الدينية وميلها الى الثراء والتكامل. لكننا مع ذلك سنواجه سؤالا لا يسمح باجابة نهائية ، وهوسؤال المسافة الممكنة للاختلاف بين النماذج المحلية للدين من جهة ، والمسافة الممكنة للاختلاف بين كل من هذه النماذج ، وبين النموذج النظري الاصلي. سبب هذا السؤال هو القناعة القائلة بأن النموذج الاصلي للدين ، هو الوحيد الذي يتمتع بمشروعية كاملة ، أما النماذج المحلية فمشروعيتها نسبية ، ومشروطة بقربها الى الأصل أو بعدها عنه.
بالنسبة لمعظم الناس ، يبدو ذلك السؤال بديهيا وضروريا. فجميعهم يود الاقتراب من الاصل قدر المستطاع. لكنه ، من ناحية أخرى ، سؤال غير منطقي ، بل لا يبعد ان يكون بلا موضوع. فكل متدين ينظر الى كلا النموذجين: المحلي والأصلي ، من زاويته الخاصة. اي أن رؤيته محكومة بظرف الانقسام ، وبالتالي فهي منحازة. فهل يمكن لرؤية منحازة ان تقدم حكما محايدا؟.
نتيجة الجواب ليست مهمة ، المهم ان قبولنا بالسؤال في الاصل يمثل اقرارا ضمنيا بأن المعرفة الدينية نسبية ، وان التطبيقات الدينية من جملة تلك المعارف ، التي قد تطابق الحقيقة الدينية او تفارقها.
الشرق الاوسط 31 مايو 2017

http://aawsat.com/node/939756


17/05/2017

الفتاوى الغريبة وحكمتها الخفية


في ديسمبر 2008 نشرت صحيفة "الوطن" تقريرا للزميل عضوان الاحمري ، استعرض أغرب الفتاوى خلال العام. وتنشر الصحافة تقارير مثل هذا بين حين وآخر.
استغراب تلك الفتاوى لا يتعلق بصحة أو خطأ أدلتها. فليس هذا ما يهم عامة الناس. موضع الاثارة والاستغراب هو تطبيق مضمون الفتوى. وأذكر ان وزير الاعلام السابق د. محمدعبده يماني رحمه الله ، عرض علي يوما كتابا عن الحديث المعروف بحديث الذبابة. ووجدت ان كاتبه قد بذل جهدا فائقا في التحقق من الروايات التي تسند الحديث المذكور. لكن المرحوم يماني لم ينس الاشارة الى ان المشكلة لا تكمن في صحة الاستدلال ، بل في كون مؤدى الحديث مما يجافي الذوق العام. ولذا يقع موقع السخرية.
المرحوم د. محمد عبده يماني

اعلم أيضا ان بعض الفقهاء المعاصرين يختار السكوت عن فتاوى كانت محل اجماع في الماضي ، لأن الجمهور ما عاد يقبلها. ومن بينها مثلا فتاوى تحريم التصوير ، والدراسة في الخارج والعمل في البنوك واقتناء الاسهم ، و السفر الى البلدان الاجنبية ، والمتاجرة في الاسواق المستقبلية ، وتولي النساء للوظائف القيادية..الخ.
هذا يشير الى حقيقة ان المسألة الشرعية لا تنتهي بمجرد اعلان الفتوى فيها. دعنا نقول ان عملية الاجتهاد تتألف في المنهج الموروث من ثلاث مراحل ، هي التكييف الموضوعي للمسالة ، ثم البحث عن الادلة ذات العلاقة ، واخيرا انتخاب الحكم المناسب.
لكن التحولات الاخيرة في تعامل الناس مع الشريعة وأهلها ، تستدعي إضافة مرحلة رابعة ، هي اختبار الانعكاسات المترتبة على اعلان الفتوى. والمرجع في هذا الاقتراح ان المصلحة شرط في الحكم. واشتهر بين العلماء ان "الاحكام تدور مع المصالح وجودا وعدما". ومعنى هذا القول ان فتوى الفقيه تسقط من الاعتبار ، اذا ترتب عليها تضييع مصلحة عقلائية ، او تسببت في فساد.
ومن أجلى وجوه الفساد التسبب في إعراض الجمهور المسلم عن احكام الشريعة ، او جعلها موضعا للسخرية والتندر من قبلهم او من قبل غيرهم. ولا يختلف الحال بين ان يرفض الحكم لما يتسبب فيه من عسر على الناس او حرج ، كما في القول بحرمة السفر الى البلاد الاجنبية ، أو لأنه - في اللفظ او الفحوى - مخالف للذوق العام او طبيعة البشر ، كما في النهي عن محبة الزوجة غير المسلمة.
لا بد ان بعض القراء سيرى في الكلام السابق معالجة لسطح المشكلة. وهذا رأيي أيضا. لكن لو أردنا الذهاب درجة واحدة في العمق ، فقد نجد ان جوهر المسألة ليس رد فعل الجمهور على غرابة الفتوى ، بل في ان بعض الفتاوى تناقض حكم العقل أو تهدر المصالح الجارية للناس.
لا يتسع المجال للتفصيل في هذا. وزبدة القول ان المشكل الجوهري يكمن في الفرضية القائلة بان بعض الاحكام الشرعية ينطوي على حكم خفية لا يدركها العقل ، وان على المؤمن ان يأخذ بها تعبدا وتسليما ، لأنها حكم الله ، وهو الاعلم بما يصلح عباده وما يصلح لهم.
لا يوجد اي دليل معتبر على صحة الالزام بالفرضية المذكورة. فاحكام الشريعة ، سيما الموجهة للمجتمع كنظام ، غرضها تحقيق مصالح قابلة للتشخيص العرفي ، اي ان مضمونها ظاهر لعامة العقلاء. بديهي ان وضوح المصلحة العقلائية ، يستدرج حكمها ، لما ذكرناه من ان الاحكام تدور مع المصالح نفيا او اثباتا. ولنا عودة الى الموضوع في وقت آخر ان شاء الله.
الشرق الاوسط 17 مايو 2017

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...