26/10/2016

الايام الاخيرة في حياة "داعش"

اذا صدقت توقعات العراقيين المتفائلة ، فان مدينة الموصل ستعود الى أهلها قبل نهاية العام الجاري. ثمة من يعتقد ان الامريكيين يسعون لالحاق هزيمة مدوية بتنظيم داعش قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في الثامن من نوفمبر ، مما يعزز حظوظ المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وفقا لهذا الرأي ، ستجري المعركة الفاصلة خلال الاسبوعين القادمين. لكن معطيات الميدان لا تدعم هذا الاحتمال.
المؤكد وفقا لمجريات الاحداث منذ تطهير مدينة الرمادي في نهاية العام الماضي ، ان العراقيين استجمعوا اسباب القوة ، وهم مصممون على الخلاص من داعش. في ذلك اليوم كان التنظيم يسيطر على نصف مساحة العراق تقريبا ، وكانت قواته على بعد ثلاثين ميلا فحسب من العاصمة بغداد. اما اليوم فهو بعيد جدا ومحاصر في مدينة واحدة ، وعاجزا عن تهديد اي مدينة أخرى. نتحدث اذن عن اقتراب نهاية داعش كقوة مسيطرة على الارض ، مما يؤذن بمشهد سياسي جديد في العراق والمنطقة ككل.

منذ ظهوره في ابريل 2013 شكل داعش تحديا مرهقا للمجتمعات العربية ، بكافة مكوناتها وأطيافها وحكوماتها. أساليب عمله الخارجة تماما عن الاعراف السائدة ، مكنته من النفاذ الى قلوب وعقول الشرائح المهمشة والغاضبة مما يعتبر عجزا عن مواجهة التحديات التي تواجه المجتمع ، جراء التحولات الداخلية او نفوذ الخارج.
والحقيقة ان نجاحاته الأولى قد أغرت جمهورا أوسع بأن حلم الخلافة قد يكون أقرب الى التحقيق مما كانوا يظنون ، وأن الخلاص النهائي للعالم الاسلامي ، قد يأتي على أيدي هولاء الشباب الذين لا تقف دون ارادتهم سدود ولاحدود. هذا يفسر الدعم الشعبي الكبير الذي حظي به "داعش" بين منتصف 2013 حتى نهاية 2014 في محافظات وسط العراق وشرق سوريا. وهو يفسر أيضا انضمام الالاف من الشبان اليه في مختلف انحاء العالم الاسلامي ، بمن فيهم مناصرون وأعضاء في تنظيم القاعدة الذي ولد في رحمه داعش.
سر قوة داعش تكمن إذن في تفكيره وعمله "خارج الصندوق" الذي يمثله العرف الاجتماعي والديني والسياسي السائد في المنطقة. والواضح انه تبنى هذا الاتجاه لانه لا يراهن ابدا على القوى والشرائح التي حددت اتجاهها سلفا ، بل ولا يهتم بها ولا يسعى لرضاها. حوادث مثل حرق الطيار الاردني معاذ الكساسبة حيا ، والابادة الجماعية للجنود في قاعدة سبايكر العراقية ، وسبي النساء الايزيديات في سنجار ، ومثل تفجير المساجد والاضرحة والآثار ، وتصوير كل هذه الحوادث وبثها على الانترنت ، مع التركيز على الجوانب الأكثر إرعابا ، هو بالتحديد الجانب الذي اهتم داعش بتسويق نفسه من خلاله ، اي كونه مختلفا عن اي قوة سياسية سبق ان عرفها الناس ، وانه لا يتحفظ ولا يتردد ولا يبالي ولا ينهزم.
هذه السمات التي منحت داعش قوة استثنائية ، هي ذاتها نقطة ضعفه الكبرى. فمثل هذا التنظيم قادر على اشعال الحلم وأخذه الى اقصى الحدود ، لكنه عاجز عن تحويله الى واقع قائم ومستمر على الأرض. فهو – مثل أي جماعة سياسية أخرى – محكوم بتوازنات القوى ومصادر القوة المادية على الأرض. وحين يخسر المبادرة والقدرة على فرض الواقع الذي يريده ، فانه يخسر ايضا مبررات وجوده ومشروعيته. ولهذا نستطيع القول ان هزيمة داعش في الموصل ستنعكس ليس في العراق فحسب ، بل في كل مجتمع نظر الى داعش كتحد أو مصدر للقلق.
الشرق الاوسط 26  اكتوبر  2016  http://aawsat.com/node/769386


19/10/2016

الغنوشي المثير للجدل


لطالما كانت آراء السيد راشد الغنوشي مثيرة للجدل. من يريده اكثر ليبرالية ينتقد اصراره على استعمال اللغة الدينية في عرض مواقفه السياسية ، ومن يتمنى بقاءه ضمن الحركة الاسلامية ينتقد توجهاته الحداثوية ، التي تبدو أقرب الى العلمانية منها الى المألوف الديني.
الاحد الماضي كان مناسبة للتذكير بواحد من هذه المواقف الجدلية ، حين قال على هامش اجتماع لقيادة حزب النهضة انه  ''لا يمكن أن نكفّر الدواعش.. لا يمكن أن نكفّر أحدا يقول لا اله الا الله" واضاف ان داعش هو صورة للاسلام الغاضب والخارج عن العقل .

  في ظروف اخرى ستبدو المسألة عادية. لكن هذه التصريحات لاتؤخذ كتوصيف نظري مجرد ، سيما بالنظر الى الانعكاسات الشديدة للازمة الليبية على الامن في تونس. في مارس الماضي احتل مقاتلو التنظيم مدينة بن قردان الجنوبية ، فيما قيل انه مقدمة لاعلان امارة اسلامية في تونس. لحسن الحظ فان سكان المدينة رفضوا وجود مقاتلي داعش بينهم ، مما سهل على الجيش تطهيرها في بضعة أيام.
لا احد اعتبر القضاء على مجموعة بن قردان نهاية لداعش التونسي. ثمة تقارير متطابقة تتحدث عن "آلاف" من الشباب التونسي في صفوف التنظيم ، في العراق وسوريا وليبيا ، الامر الذي يؤكد وجود بيئة اجتماعية مناسبة للتنظيم في هذا البلد.
ومن هنا فان وصفهم كمسلمين خاطئين او غاضبين فحسب ، سوف تصنفه الاطراف المنافسة كمحاولة احتواء لأعضاء الجماعة المتطرفة ، او كدعوة لاعتبارهم "طيفا" داخل التيار الديني ، وليس كخوارج على الجماعة أو اعداء للمجتمع المسلم.
هناك بالطبع تساؤل جدي حول ملاءمة هذا النوع من التوصيف لزعيم حركة ، سبق ان اعلنت (مايو 2016) بانها تحولت الى حزب سياسي حداثوي ، وتخلت عن مهماتها الدعوية والدينية البحتة ، رغم ان كثيرين يجدون صعوبة في فصل الغنوشي وحزبه عن تاريخهما الدعوي والديني. ايا كان الامر فان تصريحات من هذا النوع الذي ينتسب عادة الى المجال الديني البحت ، سوف تعيد الالتباس بين السياسي والديني ، وبين التراثي والحداثي ، الذي كان يراد حسمه في اعلان مايو المذكور.
لكن – من ناحية أخرى – يمكن اعتبار ذلك التصريح مفيدا في سياق اعادة توصيف المجال السياسي الاسلامي. نعلم ان الجرائم البشعة لتنظيم داعش حملت كافة الجماعات الاسلامية على التبرؤ منه ، كراهية لأفعاله او تحاشيا لتحمل تبعات نسبتها الى التيار الديني ككل. هذا كله مفهوم ، لكنه لا ينفع كثيرا في تحديد موقع التنظيم داخل المجال الديني او خارجه.
أقول ان تصريح الغنوشي قد يكون مفيدا لانه يعين ربما على تقبل فكرة ان المجال الديني ليس طيفا واحدا ، وانه ليس دار الحق والخير المطلق. بل هو – مثل كل مجال عقيدي او سياسي آخر – متنوع ومتعدد المشارب والاتجاهات ، فيه الاكثر اعتدالا والاشد تطرفا ، وفيه التقليدي المتشدد الى جوار المتحرر المعادي للتقاليد. المجال الديني هو مجتمع المسلمين ، بكل ما ينطوي عليه من محسنين وآثمين. وهو لهذا السبب ليس معيارا للحق ولا هو المثال الديني الكامل ، بل بشر مثل سائر البشر ، الذين يسعون للاحسان ما استطاعوا ، فيصيبه بعضهم ويضل آخرون. داعش وأمثالها من الجماعات المسلحة ليست تعبيرا عن حقيقة الدين ولا عن حقيقة المجتمع الديني ، بقدر ما هي تعبير عن هموم فريق في هذا المجتمع. قد نعتبرها نموذجا مجسدا للطيش والضلال. لكن لا احد يدعي ان غيرهم ملائكة في ثياب البشر.
الشرق الاوسط 19 اكتوبر 2016 http://aawsat.com/node/763846

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...