14/09/2016

من طبائع الاستبداد



شهدت أول مظاهرة شعبية في حياتي يوم الاول من مايو 1973 ، وكانت المناسبة هي احتفال العراقيين بعيد العمال العالمي. كان الميدان غاصا بالناس الذين يهتفون بشعار وحيد "عمال وفلح فدوه لابو هيثم" ، اي  كلنا – عمالا وفلاحين – فداء لابي هيثم ، وهي كنية اللواء احمد حسن البكر ، رئيس الجمهورية يومئذ.
في الاسبوع التالي طلب منا معلم اللغة العربية الكتابة عن تلك المناسبة. ولسوء الحظ ، كلفني المعلم مع خمسة زملاء آخرين بشرح مطالب العمال. فلم يستطع احد منا استذكار اي مطلب غير الشعار السابق. فكتبنا جميعا ان المطلب الوحيد للعمال هو التضحية بأرواحهم فداء للرئيس.
تذكرت هذه القصة في منتصف العام 1992. كنت في مقهى على شاطيء طرابلس ، اتبادل الحديث مع استاذ في جامعة الفاتح. خلال اقامتي القصيرة في ليبيا ، لاحظت نفورا شديدا من اي نقاش سياسي. وحين يتحدث احدهم فلن تميز مايقوله عما سبق ان قرأته في صحيفة ذلك اليوم او ما سمعته في التلفزيون. من ذلك مثلا اني شكوت لمسؤول حكومي ، ويسمى عندهم "أمين اللجنة الشعبية" ، انتشار الاوساخ في وسط العاصمة على نحو يوحي بأن البلدية لاتعمل. فرد علي بمحاضرة مختصرة حول اللجان الثورية ومؤتمر الشعب الأساسي في فكر القائد ، اي العقيد القذافي.
ذكرت القصة للصديق الجامعي فضحك ، وقال لي ساخرا ان جوابي يوجد في نظرية "الكلاب الضالة" ، وهو الوصف الرسمي لمن يعارضون "فكر القائد". ثم اخرج محفظته واراني صورة القائد ، وعلق باسما: انها "حرز من الموت".
ذهبت هذه القصص وامثالها في تجاويف الذاكرة سنوات ، حتى قرأت كتابات حنا ارندت عن الحكم الشمولي ، وكيف يؤدي الى تجويف المجتمع ويفكك روابطه الداخلية ، ويحول اعضاءه الى ذرات هائمة تعيش ليومها ، وتفقد كل اهتمام بالشأن العام او المستقبل خارج اطار المنفعة الشخصية.
لعلها مصادفة غريبة ان تستعمل ارندت مصطلح "المجتمع الجماهيري" في وصف الناتج الاجتماعي للانظمة الشمولية. وهو ذات المسمى الذي اختاره العقيد القذافي لنظريته السياسية في 1977.  يتميز المجتمع المدني بالتعددية والاختلاف وتنوع المصالح والاهتمامات وحرية التعبير عنها والنقاش فيها. اما المجتمع الجماهيري ، تقول ارندت ، فهو فارغ مفكك ، اعضاؤه ذرات منعزلة ، يفكر كل منهم بمفرده ، وينظر للاخرين كذئاب تسعى لاستغلاله او كفرصة للاستغلال.
سطوة الاستبداد الشمولي تدمر ثقة  الناس ببعضهم ، وتميت الأمل في الاصلاح ، ويميل الكبار الى تحذير ابنائهم من التعبير الصريح عن ارائهم او السعي للتغيير ، كما يبالغون في تصوير الخطر المحدق بمن يعارض سياسات الدولة. ينعكس هذا على الجيل الجديد فيكون مثاله البارز هو الفرد المتوحد والمهمش ، المنكر لكل شيء والغاضب من كل شيء. الفرد الذي يبحث عن الاستقرار واليقين ، لكنه لا يستطيع رؤية المسارات الطبيعية ، لا يستطيع تحديد مصالحه ولا يستطيع تنظيمها ، كما لا يستطيع الثقة في الاخرين كي يعمل معهم على مصلحة مشتركة.
تتميز النظم الشمولية بقوة واستقرار بالغين. لكنها تزرع – ربما دون قصد – ميكروب التفكك وانعدام الثقة في المجتمع الذي تحكمه. وحين ينكسر السقف ، نجد انفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تماما الى الاجماع على اي شيء ، ويسعى افراده لضمان مصالحهم ومستقبلهم الشخصي بقوة السلاح لا القانون ، مجتمع سمته الرئيسية "حرب الجميع على الجميع" ، كما قال توماس هوبز قبل اربعة قرون.
الشرق الاوسط 14 سبتمبر 2016  http://aawsat.com/node/737491

07/09/2016

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟


كرس كارل بوبر كتابه "المجتمع المفتوح واعداؤه" لنقد الرؤية المثالية ، التي وجدها أساسا للايديولوجيات السياسية الشمولية. وأظن ان هذا الكتاب هو الذي منح بوبر الشهرة الواسعة ، وجعله واحدا من اكثر الفلاسفة تأثيرا في الوسط الاكاديمي ، خلال الربع الاخير من القرن العشرين.

في هذا الكتاب الذي نشر عام 1945 تتبع بوبر جذور النزعة التسلطية -الشمولية في فلسفة افلاطون ، كارل ماركس ، وفريدريك هيغل. واظن انه ساهم في كبح الاتجاه الذي تعاظم في منتصف القرن العشرين ، والداعي الى الاخذ بنموذج معدل للاشتراكية في غرب اوربا.


رغم المسافة الشاسعة التي تفصل بين افلاطون وماركس وهيجل ، الا ان رؤية الفلاسفة الثلاثة تشكل أساسا لاتجاه عريض يركز على على أولوية "الصالح العام" ، على نحو يسمح بالغاء المصلحة الخاصة في حال التعارض. ان القبول المبدئي بهذه الرؤية التي تبدو في - الوهلة الاولى - معقولة ، ينتهي الى اضعاف المبادرة الحرة ، التي يحركها الميل الفطري عند البشر للكسب والاستزادة. كما يوفر تبريرا للتهوين من حقوق الافراد وحرياتهم.

وكما رأينا في التجربة الاشتراكية ومعظم التجارب العربية ، فان هذا الاتجاه قد ينتهي الى دولة بوليسية شديدة القسوة ومستعدة لاختراق كل الخطوط ، بما فيها الحقوق الأولية للافراد. وطبقا لوصف هما كاتوزيان ، فان دولة من هذا النوع لا تتوقف عند الفرض المتعسف لقانونها الخاص ، بل ربما تعطي لنفسها الحق في فرض اللاقانون ايضا ، حين تصبح أهواء رجالها وآراؤهم الشخصية واجتهاداتهم الخاصة أوامر لا تناقش.

ان التسلط مشكل بحد ذاته. لكن استناده الى ايديولوجيا حاكمة ، تجعله اكثر من مجرد سوء تقدير للعواقب او شخصنة للسلطة. كل صاحب ايديولوجيا ، ايا كان مصدرها او قاعدتها الفلسفية ، يتلبس – بالضرورة – دور الداعي الى ما يراه حقا او قيمة فوقية. وهذا يعني منطقيا تمييزه لنفسه ورفعها فوق من يدعوهم. في الحقيقة فانه يرى نفسه متفضلا عليهم حين يدعوهم ، وقد يستغرب من بجاحتهم حين يجادلونه ، او يلوم جهلهم اذا رفضوا دعواه.

لو كان داعية الايديولوجيا شخصا من عامة الناس ، فسوف يتوسل – كما هي العادة – بلين الكلام والجدل المعقول. وقد يعدهم خيرا او يحذرهم من سوء المآل لو اعرضوا عن رأيه. وفي نهاية المطاف ، فان غاية ما يصل اليه هو الابتعاد عن طريق الرافضين والتركيز على المستجيبين لدعوته.

لكن الامر مختلف تماما حين تكون الايديولوجيا خطابا تتبناه الدولة وتوجه سياساتها. الدولة – بطبيعتها - لا تعرف ، كما لاحظ الكسيس دو توكفيل ، سوى املاء قواعد صارمة ، وفرض الرأي الذي تميل اليه مهما كان كريها. بل حتى الارشاد والتوجيه العام ، يتحول في سياق عملها الى أوامر لا تقبل الجدل.

نعرف ان الدولة خادم للشعب ، وكيل عنه ، وأمين على ماله. فاذا تحولت الى داعية ايديولوجي ، تغيرت المعادلة ، وتحول شغلها الى تحديد من يقف مع الحق (اي خطابها) ومن هو منحرف عنه او معارض له. بطبيعة الحال فان المجتمع سينقسم الى موال مخلص ومعارض صريح ومعتزل مرتاب كاره للسياسة وأهلها.

واذا استعملت قوتها في فرض الحق الذي تتبناه ، اي الخطاب الايديولوجي الخاص ، فان جانبا مهما من رد الفعل الاجتماعي سينصرف الى تأليف ايديولوجيا نقيضة تبرر موقف الرفض او الاعتزال. وفي هذه النقطة يتحول التمايز الطبيعي بين الحاكم والمحكوم الى تفارق ايديولوجي وثقافي ، ومن ثم انشقاق اجتماعي.

الشرق الاوسط 7 سبتمبر 2016
 http://aawsat.com/node/732576

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...