27/07/2016

مساهمة التعليم العام في تفكيك الميول العنفية



يمكن للمدرسة ان تسهم في تفكيك ظاهرة الارهاب ، من خلال تكوين أجيال منفتحة ذهنيا ومرنة روحيا ، قادرة على البحث بين البدائل ، وميالة الى المشاركة بدل المغالبة ، والتعاون مع الآخرين بدل الانعزال ، والمصالحة مع الذات والعالم بدل الارتياب فيه او الرغبة في قهره. جيل يحمل هذه الصفات سوف يكون عصيا على محاولات التغرير مهما لبست من عباءات.

طرحت الدعوة الى اصلاح مناهج التعليم بالتوازي مع اولى خطط التنمية (1971) كجزء من استراتيجية اعداد المجتمع لاستيعاب حاجات ومخرجات الاقتصاد الجديد. وخلال العقدين الماضيين ، تطورت الفكرة الى تطوير النظام التعليمي ككل ، فلسفته ومناهجة واستهدافاته. فيما يلي ثلاث من ابرز الاغراض التي تنطوي عليها هذه الدعوة:
اولا: تعزيز النشاط الذهني ، وجعل الطالب أليفا للقراءة والبحث والتفكير. ومفتاح هذا هو تحبيب البيئة المدرسية الى نفسه ، وجعله تواقا للانخراط في النشاطات العلمية. يركز هذا المحور على تحسين المباني وعلاقة الادارة والمعلمين بالطلبة ، وربط التعلم بالمتعة والمرح. ويتوقع ان يثمر عن كسر هيبة العلم وتخفيف الانفعال الشخصي بقضاياه ، وصولا الى جعله موضوعا اعتياديا من موضوعات الحياة ، التي يشعر الطالب انه مسيطر عليها متحكم فيها ، وليس العكس.
ثانيا: تعديل الهدف المحوري للتعليم الى بناء العقل النقدي بدل العقل الحافظ.  وهو جزء من اتجاه جديد يرى أن حفظ المعلومات لم يعد ضروريا ، لان الوصول اليها بات ميسرا لكل الناس. بل ان كثرة المعلومات والميل الشديد الى التخصص ، يجعل الاستفادة الكاملة من محفوظاتها مستحيلا. البديل الصحيح هو توجيه الطلاب للبحث في مصادر المعلومات ، وتمكينهم من نقدها ومجادلتها واعادة انتاجها بانفسهم. وفي نهاية المطاف تحويل الطالب من مستهلك صرف للمعلومات ، الى شريك في اعادة بنائها واغنائها بالمزيد من الاحتمالات أو التطبيقات.
يميل العقل الناقد الى التأمل في المعلومات ومجادلتها والتفكير في دليلها ، بل ويجادل ما يعتبر مسلما وبديهيا ، ويسعى وراء ما يخفيه من أسئلة واحتمالات. خلافا للمنهج القديم القائم على حفظ المتون والاحتفاء بأراء مؤلفيها وانطباعاتهم. الغرض النهائي من هذا المحور هو تخفيف الميل للأدلجة والقسر  الذهني ، واحلال التفكير العلمي الذي يهتم بالوصف والفهم والنقد والتفسير واعادة انتاج الافكار.
ثالثا: ترسيخ فكرة الشراكة في عمران العالم. تحقق مفهوم "القرية الكونية" وانفتاح العالم على بعضه اثار إشكالا عميقا ، حول علاقة كل منا مع البشر المختلفين عنا بثقافاتهم وتقنياتهم ودياناتهم. وكذلك موقعنا في العالم الجديد: هل نحن مهددون في ديننا وتراثنا ومعيشتنا ، ام شركاء مع المختلفين عنا ، في بناء العلم والتقانة وصيانة البيئة والطبيعة على المستوى الكوني. هل نعظم ثقافة التشارك مع الغير ام اعتزالهم. لاحظ الباحثون ان فلسفة التعليم في العالم العربي ككل ، تؤكد على الخصوصية والتمايز. ان تعظيم الماضي الزاهر واستسهال الحكم على الآخر المختلف بدلا من محاولة فهمه ، يؤدي غالبا الى ترسيخ الميل الانعزالي المخاصم للعالم او المرتاب فيه.
 هذا يتطلب بالضرورة اصلاحا لمناهج العلوم الانسانية ، واهتماما بالنشاطات اللاصفية التي تؤكد على قيمة العصر والعلم الجديد وتشجع على معرفة العالم.
هذه الافكار مفيدة ليس فقط في تعزيز ميول المسالمة والتفاعل الايجابي عند الشباب ، وبالتالي تحييد النزعات الصدامية والعنفية. انها تساعد – اضافة الى هذا – في تعزيز الميل للانتاج والابداع ، وصناعة جيل اكثر احتراما لذاته ووطنه وأقوى رغبة في الاسهام في بنائه.
الشرق الاوسط 27 يوليو 2016   http://aawsat.com/node/699156

20/07/2016

مقترحات لدراسة العنف السياسي

دراسة العنف كظاهرة اجتماعية برنامج بحث مفتوح ، نحتاج الى مواصلة العمل فيه ، كي نزداد خبرة بطبيعته ، وكي نستطيع تشخيص العوامل الثابتة والمتغيرة التي تحركه او تحدد اتجاهاته او حجمه.

هناك بالتأكيد بواعث ايديولوجية (دينية خصوصا) وراء بعض اشكال العنف. لكن هذا عامل واحد فحسب. ولا يصح اعتباره علة تامة كما يقول اهل المنطق. الارهاب – كما عرضنا في مقال الاسبوع الماضي – ظاهرة مركبة ، تتشكل بتأثير عوامل عديدة ، وتتطور في مسارات مختلفة ، ثم تنتهي الى تجسيد واحد ، نراه في شكل اغتيالات او تفجيرات او عمليات حربية ، تبلغ ذروتها في احتلال مدن بأكملها ، كما جرى في سوريا والعراق وليبيا.

دراسة الظاهرة تستلزم من حيث المبدأ التخلي عن أي حكم مسبق او رغبة في التبرئة او التجريم. نحن بصدد مشكلة مزمنة تواجه جميع البلدان ، وتخلف خسائر كارثية في الانفس والعمران. ولهذا ينبغي التركيز على تحليل الظاهرة طمعا في تفكيكها ومعالجتها ، وليس البحث عن شماعة نعلق عليها عباءة الجرم. لست متأكدا من امكانية اجتثاث العنف في أي مجتمع. لكننا نستطيع الخلاص من ظاهرة الارهاب السياسي التي يمكن ان تنبعث بين حين وآخر ، بالترافق مع ما يحدث من انكسارات او توترات داخل المجتمع او في محيطه.

الخطوة الاولى لدراسة الظاهرة الاجتماعية هي وصفها السطحي وتحديد علاقتها بالعوامل المحركة: هل هي منظومة افعال مستقلة ام هي انعكاس لأزمات اخرى نشطة في المحيط الاجتماعي ، ازمات اقتصادية او اجتماعية او سياسية او غيرها. هذا تمهيد ضروري لتمييز العنف السياسي في البلدان المستقرة عن نظيرتها المحتلة او تلك التي تشهد حروبا اهلية أو انقسامات حادة. 

كما ان فرضية كون العنف منبعثا عن أزمات بعينها (كصراع الاجيال او تأزم الهوية مثلا) سيوجهنا الى تفكيك البواعث والاسباب في المقام الأول ، وربما نفكر في ممارسي العنف كضحايا يجب دعمهم ماديا ونفسيا للتحرر من تأثير تلك البواعث ، بدل التشدد في معاقبتهم.

وفي هذا السياق أيضا ينبغي التمييز بين العنف المنظم ونظيره العشوائي او الفردي. في الحالة الأولى نركز على "المنظمة" بينما نركز في الحالة الثانية على البيئة الاجتماعية الحاضنة.

الخطوة التالية هي وضع كافة العوامل المحتملة في مستوى واحد من حيث القيمة. هذا يشمل بطبيعة الحال العامل الايديولوجي البحت ، ازمات المعيشة ، العوامل المرتبطة باضطراب الشخصية ، الجمود الثقافي وعجز المجتمع عن استيعاب الاجيال الجديدة المختلفة ثقافيا وروحيا ، تأزم الهوية الجمعية ، الجمود السياسي وضيق المجال العام ، واخيرا دور المنظمات التي تتبنى العنف ومقدار ظهورها العلني على وجه الخصوص في النشاطات الاجتماعية الاعتيادية.

من المهم في المرحلة التالية عزل المؤثرات الخاملة. فبعض العوامل السابقة قد تكون فعالة جدا في مجتمعات بعينها ، بينما تكون ضئيلة التأثير في مجتمعات أخرى. في خط مواز ينبغي التحقق من موقع كل عامل ضمن السياق الزمني لتطور الظاهرة ككل ، او تبلور "ارادة الفعل الارهابي" عند الافراد والمجموعات الصغيرة.

فيما يخص النقطة الاخيرة ، نعلم ان بعض الارهابيين اختاروا منذ اللحظة الاولى الانضمام لجماعة ارهابية عن وعي مسبق بطبيعتها واغراضها ودورهم فيها. بينما "انزلق" اخرون دون وعي ، ثم تورطوا. في الحالة الثانية نجد ان العامل الايديولوجي (الدين مثلا) يلعب دورا متأخرا ، وقد ينحصر في تبرير العنف وليس في خلق ارادته.

الشرق الاوسط 20 يوليو 2016 http://aawsat.com/node/693641

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...