30/03/2016

الخلاص من ثقافة الانتحار

 

مقالة الصديق د. عبد السلام الوايل عن انماط الانتحار (الحياة 27-03-2016) واحدة من المقاربات الجادة التي تحاول وصف هذا السلوك بلغة علمية محايدة. ونعلم ان الوصف الصحيح لأي سلوك او ظاهرة مدخل ضروري لفهم حقيقتها ومن ثم دوافعها. د. الوايل عالم اجتماع جاد ومتفاعل مع ما يجري في المحيط من تحولات.

تبعا لعالم لإميل دوركايم ، عالم الاجتماع الفرنسي المعروف ، صنف الوايل انماط الانتحار الى ثلاثة : ايثاري ، أناني ، ولا معياري. وهو يميل الى الاعتقاد بأن انتحاريي المجتمعات التقليدية اقرب الى الصنف الاول ، فهم يمتازون برؤية عقائدية صلدة تحركهم للفداء ، بخلاف الانتحاريين القادمين من مجتمعات اوربية ، فهؤلاء اقرب الى الصنف الثالث الذي يجسد حالة ضياع بين نظامين قيمين متنافرين: نظام ديني موروث ، لكنه غير فاعل في الحياة اليومية ونظام علماني يضطره للتعايش معه والتعامل مع الزاماته.

اتفق مع د. الوايل بان انتحاريي المجتمعات العربية اقرب الى الصنف الأول "الايثاري". ويهمني هنا الاشارة الى سيرورة تحول الموروث الثقافي، الديني خاصة ، الى محرك للانتحار ، والدور الذي يمكن ان يلعبه التعليم العام في تعزيز التوازن الروحي بما يحول دون انقلاب فضيلة الايثار والفداء الى محرك لقتل النفس وقتل الغير.

اظن ان فكرة التنافر بين العالم الديني والعالم المادي الواقعي تشكل مفتاحا هاما لفهم تلك السيرورة ، وهي على وجه الدقة الموضع الذي يمكن لمؤسسات التعليم والتثقيف العام ان تلعب فيه دورها الرئيس.

سوف استعير من الشيخ يوسف القرضاوي عبارة "فقه المحنة" التي تصف تلك التحليلات التي تحاول تجلية الايمان من خلال تعزيز الارتياب في العالم. تظهر تمثلات هذا الخطاب في المراوحة بين تعظيم الماضي وتأثيم الحاضر ، وتنصرف الى جانبين ، هما المبالغة في جلد الذات والتأكيد على قصورها ، واتهام الآخر الحضاري ، سيما الغرب ، بالعدوان والتآمر والتكبر الخ.

هذا التمثلات ليست اكاذيب مخترعة من دون أصل ، بل هي تضخيم للوقائع ومبالغة في وصفها حتى تظهر كصورة وحيدة عن الذات (الآثمة) والعالم (المعتدي). تعميم هذه الصورة ينتهي – طبيعيا – الى الاستهانة بالعالم وما فيه ، بل وبالبشر الآثمين ، واعتبار التضحية بالنفس فداء للنموذج المتخيل ارفع الفضائل "والجود بالنفس اقصى غاية الجود".

 تبدو هذه التصورات بديهية عند عامة الناس ومثقفيهم. وهي تظهر بوضوح في التبادلات اللفظية العادية وفي الصحافة. وصم العامة بقلة الوعي والميل للتفلت ، والكلام المكرر عن الفارق بين حقيقة الدين وواقع المسلمين ، والتمثيل الانتقائي بقصص الاسلاف ، والتصوير المضخم لظلم الاخرين – سيما الغرب – للمسلمين ، تعبر جميعا عن تلك الثنائية الراسخة في الاذهان والقلوب.

الخلاص من التنافر الداخلي يتوقف على استبدال هذه الثقافة الانفعالية بأخرى تؤكد على الحركة التصاعدية (السننية) للتاريخ والتعدد الحضاري وشراكة البشر جميعا في المسؤولية عن مصير الكون.

لن يكون الاسلام اقوى اذا نشر المسلمون الرعب في العالم. نحتاج الى تصحيح المفهوم القائل بان علو الحق يعني استعلاء المسلمين وهزيمة البشر الاخرين. فهو يؤسس بالضرورة لمفهوم تنافري يبرر العدوان. كما يوسع الهوة بين العقل والواقع. علو الحق يتحقق اذا استجاب البشر جميعا لأمر الله في عمارة الكون ونشر الفضيلة. وهذا يقتضي مشاركة البشر جميعا في منع الحرب والعدوان ، وتعزيز اسباب السلم والعمران. الشراكة مع العالم هي المفتاح الذهبي للخلاص من التنافر بين موروث متخيل وعالم نتصوره آثما وبغيضا.

الشرق الاوسط 30 مارس 2016   -  https://aawsat.com/node/604356/

 

مقالات ذات علاقة

ابعد من تماثيل بوذا

اتجاهات في تحليل التطرف

احتواء الخطاب المتطرف

بحثا عن عصا موسى

تجربة التعامل مع العنف بين العلم والسياسة

تفكيك التطرف لتفكيك الإرهاب-1

تفكيك التطرف لتفكيك الارهاب-2

الحريات العامة كوسيلة لتفكيك ايديولوجيا الارهاب

حول الحرية والعنف

حيثما كنت ، غول العنف في انتظارك

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

العامل السعودي

عودة للعلاقة بين الخطاب الديني وتوليد العنف

غلو .. ام بحث عن هوية

فلان المتشدد

القانون للصالحين من عباد الله

مجادلة اخرى حول الميول العنفية

المدرسة كأداة لمقاومة العنف

مقترحات لدراسة العنف السياسي

واتس اب (1/2) أغراض القانون

واتس اب (2/2) عتبة البيت

 



23/03/2016

أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج



حسنا فعل د. حمد العيسى وزير التعليم بعرض رؤيته العامة لاتجاهات الاصلاح في النظام التعليمي وأبرز الصعوبات التي تواجه مهمته (الحياة 20-3-2016). هذه مسألة يعتبرها السعوديون اهم قضاياهم على الاطلاق.

دار معظم النقاشات المحلية في السنوات الاخيرة حول المحتوى العلمي للمناهج وكفاءتها في الاستجابة لحاجات سوق العمل. ويهمني هنا الاشارة الى جانب آخر ، هو فلسفة العمل داخل النظام التعليمي نفسه وانعكاسه على نظيره في السوق.

خلال الثلاثين عاما الماضية زاد عدد السعوديين الذين تخرجوا من جامعات غربية او درسوا تخصصات علمية بحتة داخل المملكة عن نصف مليون. لكن مازلنا نستعين بخبراء وشركات استشارية اجنبية ومقاولين اجانب في تنفيذ معظم المشروعات الكبرى.

هذا لا يدل على ان طلابنا غير مؤهلين ، بل يؤكد ان "بيئة العمل" سلبية في التعامل معهم. نجاح الاستشاري والمقاول الاجنبي لا يرجع لكفاءة موظفيه بل كفاءة منظومة العمل. تعرفت في السنوات الاخيرة على عشرات من الشبان السعوديين ، كانوا مغمورين في وظائف ثانوية  في القطاع الحكومي او في شركات محلية ، فلما انتقلوا الى شركات اجنبية ، اصبحوا "بيضة القبان". ظهرت كفاءاتهم وقدراتهم ، وباتوا العصب الرئيس لهذه الشركات.

لطالما سألت – مازحا – اصدقائي العاملين في البنوك: متى ستملك بنكك الخاص؟. هؤلاء الشبان يديرون اعمال البنك اعلاها وادناها ، فلماذا نشعر بالحاجة الى "مشرف" امريكي او بريطاني او هولندي او فرنسي؟. هذا الكلام بعينه ينطبق على معظم مقاولي ارامكو مثلا. فالمهندس السعودي يشارك في وضع المخططات ويدير تنفيذها. فمتى سنثق بقدرته على استلام العمل كاملا؟.

في "بيئة العمل السلبية" يقتصر دور الموظف على اتباع قائمة تعليمات وضعها آخرون. هذا يساوي غالبا ان يضع عقله في الدرج حتى نهاية الدوام.

اول الطريق لتصحيح بيئة العمل ، هو تطبيق مفهوم "الشورى" ، اي النظر لمجموعة العمل كفريق مسؤول عن منظومة ، يتشارك في النقاش حول اهدافها ووسائلها وحقوق اعضائها وواجباتهم ومعايير النقد والمحاسبة على تلك الاعمال.

-         هل للمدرسة او الجامعة دور في هذا؟

اشار الوزير العيسى في مقاله الى "التلقين" كمحور لعلاقة المدرسة بالطالب. وهذا في ظني جوهر مشكلة التعليم في العالم العربي ككل. يقوم التلقين على فرضية ان الطالب عنصر سلبي منفعل ، كأس فارغ يملأه الكبار.

نحن نحتاج لتعزيز الروح الجمعية في الجيل الجديد ، لكنا نواجه حقيقة مزعجة فحواها ان قيمة الفرد غفل في ثقافتنا العامة ، نعتبر الشاب مجرد "برغي" في مكينة المجتمع ، يزرعه ويديره اخرون ، ويبقى فعله ودوره مشروطا بارادة الاخرين. هذا الفهم الاعوج سائد في علاقة المعلم بالطالب وفي علاقة المعلمين بالادارة وعلاقة المدرسة بمدير التعليم والوكيل والوزير. انها سلسلة كاملة قائمة على علاقة سلبية من الادنى للاعلى.

حين ينتقل الطالب الى العمل ، فسوف يطبق ما تربى عليه ، ما ألفه وعرفه. بعبارة اخرى فان بيئة العمل السلبية هي نتاج لفلسفة سلبية بدأت في المجتمع والمدرسة.

زبدة القول ان للتعليم العام دورا مؤثرا في تصحيح بيئة العمل ، بما يؤدي الى تمكين الشباب من الامساك بمفاصل الاقتصاد الوطني ونظام الخدمات العامة. لكن هذا مشروط بتصحيح بيئة التعليم والعمل في المدرسة وفي وزارة التعليم نفسها. لا يمكن للوزارة ان تعالج مرضا في المجتمع ما لم تبدأ باكتشافه وعلاجه في جسدها الخاص. اذا اصبحت بيئة العمل في المدرسة ايجابية تفاعلية ، فسنرى انعكاسها في السوق ، والعكس بالعكس.

الشرق الاوسط 23 مارس 2016 http://aawsat.com/node/598476

مقالات ذات صلة


أسس بنكا او ضع عقلك في الدرج

 اول العلم قصة خرافية

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

سلطة المدير

فتاة فضولية

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

التخلي عن التلقين ليس سهلا

هوية سائلة؟

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...