16/03/2016

انقاذ النزعة الانسانية في الدين


يبدو المفكر العراقي د. عبد الجبار الرفاعي متشائما جدا من اتساع الموجة الدينية في هذه الأيام. وهو موقف غريب من جانب شخص يصنف كرجل دين وباحث في العلوم الدينية.
يوضح الرفاعي في كتابه المثير "انقاذ النزعة الانسانية في الدين" اسباب تشاؤمه بتعبيرات محددة. بعضها بسيط جدا وبعضها في غاية التعقيد. لكن القضية المحورية التي شكلت خلفية الكتاب هي ما يصفه بأدلجة الدين. اي انتزاع مضمونه الروحي واستخدامه كسلعة في سوق السياسة ، او كمركب للقوة والسلطة والنفوذ.
أدلجة الدين اسوأ أثرا من الالحاد حسب رأي الرفاعي. ربما تكون لا دينيا لكنك منسجم مع الكون الذي تعيش فيه ، مشاركا في  عمرانه. اما الدين المؤدلج فهو منقطع عن الوظيفة الاولى للايمان ، اي تعظيم قيمة الانسان ، وهو ، من جهة أخرى ، منفصل عن العالم الحقيقي ، يدور حول ذاته ، منشغل بالتغلب على بقية الخلق عن مشاركتهم في عمران الدنيا.
الدين المؤدلج لا يرى غير نفسه ، لا يرى العالم المتغير ولا يرى البشر المختلفين ، ولهذا فهو لا يشعر بتحولات الزمان. ونتيجة لهذا فهو لا يسهم في تلك التحولات ، ولا يشجع أتباعه على المشاركة فيها. لعل هذا يفسر ، جزئيا على الاقل ، سبب انكفاء المسلمين على انفسهم وضآلة اسهامهم في تيارات التطور التي تموج في عالم اليوم.
اسلامنا بحاجة الى "مصالحة بين المتدين ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه ، والاصغاء لايقاع الحياة المتسارعة التغيير ، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا التي تفاجئنا كل يوم بجديد تتبدل معه صورة العالم".
هذي هي خلاصة الرسالة التي اراد الرفاعي ابلاغها لمن يهمه أمر الدين وأمر المسلمين.
كان الرفاعي ولا زال قريبا من الجماعات الاسلامية الناشطة في الساحة. لكنه يشعر باحباط شديد ازاء ما حققته من نفوذ جماهيري وانتصارات سياسية. وسبب احباطه يكمن في ما يظنه انقلابا في طبيعة الجماعة الدينية واستهدافاتها. في زمن سابق كان رجال الجماعة يتحدثون عن دين يدعو الى المحبة والتعاطف مع القريب والغريب ، دين يقدس العلم ويعلي شأن الانسان ، دين يمجد الايثار وانكار الذات ، ويعتبر الجزاء الاخروي مكافأة تستحق التضحية بالمكاسب الدنيوية.
اما اليوم فان رجال الجماعة ذاتهم مشغولون بالصراع مع القريب والغريب على النفوذ ومكاسب السياسة. الكلام عن المحبة والتعاطف حله محله خطاب مشحون بمفردات الفخر بالقوة والمفاصلة مع المختلف وتهديد المخالف. مفردات مثل الحلم واللين والحكمة والسلام حلت محلها لغة الحرب والقوة والغلبة والدم وتمجيد البندقية. وباتوا يتحدثون عن "هلاك" مناوئيهم و "الدعس" على معارضيهم كما لو ان الامر لعبة كمبيوتر.
لم يعد السعي لرضا الله ورجاء عفوه محور حياتهم كما في الماضي ، فيومياتهم مشغولة بحسابات الارباح والخسائر في سوق السياسة والنفوذ الجماهيري وحساب عدد الاتباع والمحازبين.
حقق الاسلاميون الكثير مما سعوا اليه من القوة والنفوذ. وكان حريا بهم ان يوجهوا جهدهم لحاجات شعوبهم ، واكثرها حرجا استئصال الفقر والارتقاء بالعلم وتنشيط الاقتصاد واصلاح جهاز الدولة والمصالحة مع العالم. لكن الواضح انهم في واد آخر ، فهم لازالوا مشغولين بتكرار قصص الماضي واوهامه.
هذه بعض النتائج المأساوية لتحويل الدين من "رحمة للعالمين" الى أيديولوجيا. ولهذا يرى د. الرفاعي اننا كمسلمين بحاجة الى انقاذ انفسنا ، كما اننا بحاجة الى انقاذ ديننا. نحن بحاجة الى استعادة المضمون الانساني في الدين الحنيف ، الدين الذي كان رحمة وطريقا للخلاص وتحرر الانسان من عبودية القوة وعبودية الماضي. 
الشرق الاوسط 16 مارس 2016

09/03/2016

في رثاء د. طه جابر


احتمل ان القليل من شبابنا قد عرف د. طه جابر العلواني ، الذي رحل عنا نهاية الاسبوع الماضي (4 مارس 2016). لم يكن العلواني من نوع الدعاة الذين يعيشون على الصراعات ، ولا ممن يحسبون قيمتهم بعدد المستمعين والقارئين ، رغم انه مثل اي رجل علم آخر كان يتمنى ان يستمع اليه الناس وان يجادلوه.

خلال الثلاثين عاما الاخيرة عاش العلواني في مجتمعات مفتوحة ، فواجه الاشكالات التي يطرحها الناس من خارج الدين ، طمعا في معرفته او اعتراضا على أحكامه. والمؤكد ان تصديه لهذه النقاشات ، هو الذي اخذه الى التعمق في دراسة القيم الدينية وكشف له عيوب التراث الموروث ونقائصه. لو بقي المرحوم في مدينة الفلوجة ، وسط العراق ، حيث ولد ، او في بلد مماثل ، فهو بالتاكيد لن يواجه تلك الاشكالات الجدية والعميقة ، وسيكتفي على الارجح بالاجوبة الاعتذارية والتبريرية او الانشاء المتعارف في امتداح الارث الديني ، أي تكرار مقولات الاسلاف في قالب لغوي جديد.
كرس د. طه حياته لتجديد مناهج العلم الشرعي ، سيما أصول الفقه ، واهتم بمقاصد الشريعة وغاياتها ، باعتبارها معايير حاكمة على استنباط الاحكام. وفي منتصف الثمانينات سعى لاقناع الدعاة والكتاب الاسلاميين بالتعمق في علم الاجتماع. في احدى المناسبات تحدث قائلا ان بعض ما يقال على المنابر وفي ادبيات الاسلاميين يتعارض – في العمق - مع اغراض الرسالة المحمدية ، رغم تزيينه بالايات والاحاديث والقصص التاريخية التي توهم المتلقي بانه دين او دفاع عن الدين. وكان يرى ان هذا التناقض ثمرة لجهل الداعية بديناميات الحركة الاجتماعية والعوامل المؤثرة فيها.
المسألة ببساطة – يقول د. طه – ان لكل ايديولوجيا اغراض محددة تسعى لانجازها ، او على الاقل تذكير الناس بها كي لا تنسى. وان على الناشطين في المجال الديني ، استيعاب اغراض الرسالة ومقاصدها وفهم تصريفاتها وتطبيقاتها الواقعية ، كي لا ينزلقوا جهلا او غفلة ، الى تبرير المفاهيم المعاكسة. هذا يتطلب ان تدرك بعمق المسارات التي يسلكها الحدث او الظاهرة الاجتماعية قبل ان تتجلى أمامك في المشهد ، او تتحول الى مشكلة يسألك الناس عن موقف الدين منها او علاجه لها.

تحدث العلواني عن حرية التفكير والتعبير والاعتقاد ، واعتبرها من اعظم القيم التي اراد الاسلام اقرارها وضمانها للناس كافة. وتحدث عن العدل في مختلف صوره وتطبيقاته باعتباره ابرز تجليات الايمان في العلاقات الاجتماعية والتعاملات بين البشر.
لكنه لاحظ في الوقت نفسه ان المنهج الموروث في قراءة التراث الديني ودراسته ، قد يحمل القراء على تبجيل الظلم ومعاداة الحرية ، متوهمين انهم يحمون ساحة الدين. وتساءل حينئذ: هل يمكن ان نحمي الدين اذا تناسينا اغراضه ، وتساهلنا في الدعوة لما يعارضها او ينقضها؟.

كتابه الهام "لا اكراه في الدين: اشكالية الردة والمرتدين" نموذج واضح عن الرؤية الجديدة التي يتبناها الفقهاء الاصلاحيون كبديل عن طرق الاستدلال القديمة. رغم ان الكتاب مكرس لنفي مفهوم الردة وما يعرف بحد الردة. الا ان طريقته في الاستدلال ، تلقي ضوء كاشفا على الفرصة المتوفرة لتطوير ادوات جديدة للاجتهاد ، تنطلق من المصدر الاهم للشريعة ، اي القرآن الكريم ، كما تلتزم بمقاصد الشريعة والمستقلات العقلية كمعايير حاكمة على كل حكم فرعي.
ترك د. طه جابر العديد من الكتب والابحاث التي يستحق جميعها الاشادة والاهتمام. رحم الله د. طه وغفر له وجزاه خيرا عما قدم. 
الشرق الاوسط 9 مارس 2016

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...