30/12/2015

انا المسؤول

 "القدر الأكبر من المساءلة حول حريق مستشفى جازان ، يقع  على المسؤول الأول عن قطاع الصحة. ولذا فالمساءلة تقع علي شخصيا قبل أي احد".

هذا تصريح لوزير الصحة السعودي المهندس خالد الفالح ، وأظنه أهم تصريح لوزير عربي خلال سنة 2015. هناك طبعا تصريحات كثيرة مهمة لسياسيين ووزراء حول مختلف قضايا الشأن العام. لكنا نادرا ما سمعنا قياديا في قطاعات الخدمة العامة يخرج الى العلن بعد حدث كارثي كالذي جرى في جازان ويعلن انه يتحمل المسؤولية عن التقصير الذي قاد الى الكارثة.

مثل هذا السلوك كان قصرا على المجتمعات المتقدمة. سمعنا مثلا رئيس فنزويلا يقول قبل ثلاثة اشهر انه سيحلق شاربه ، ان لم تنته الحكومة من بناء ربع مليون وحدة سكنية ، وعدت بها خلال هذا العام. وسمعنا عن وزير بريطاني استقال بعدما كشفت الصحافة انه قبل ضيافة على حساب احد السماسرة. وعن وزير ياباني انتحر بعدما انكشفت علاقاته العاطفية خارج اطار الزواج .. الخ.

اما في العالم العربي فيقضي العرف بان يعلق الوزير مسؤولية الكوارث على مشجب القضاء والقدر ، او تقصير المقاولين أو كسل الموظفين أو حتى جهل الشعب. هذا اذا لم يكن مؤدلجا فيحولها على احدى المؤامرات الدولية الكثيرة.

تحمل الوزير المسؤولية عن أخطاء وزارته تقليد راسخ في المجتمعات المتقدمة. وهو يكافأ عادة على انجازاتها ، فعليه بالمقابل تحمل المسؤولية عن عيوبها. والغرض من هذا التقليد هو مقاومة الفساد والتسيب في رأس الهرم الأداري. ان معرفة قادة الجهاز بانهم سيكونون الملومين على أي تقصير ، هو الذي يجعلهم حريصين على مقاومة الفساد والتسيب في المستويات الأدنى.

نعرف أيضا ان المسؤولية المقصودة هنا هي مسؤولية أخلاقية وسياسية وليست جنائية. وهي تعني قبول الوزير بمبدأ التحقيق المحايد (اي غير الخاضع لتاثيره أو تأثير العاملين تحت إدارته) في اسباب الخطأ ثم الاستعداد للاستقالة وتحمل اللوم ، اذا تبين انه كان قادرا على منع الخطأ لكنه تهاون او قصر في أداء الواجب. ومن ذلك مثلا وضع لائحة عمل خاصة بالسلامة المدنية في المباني والمشروعات التي تديرها وزارته ، ووضع برنامج للتفتيش الدوري للتأكد من التزام الادارات الفرعية بالمعايير واللوائح ، وتوفير الأموال اللازمة لضمان تطبيق هذه المعايير.

لقد اعتدنا على سماع "كليشيه" ان المنصب تكليف لا تشريف ، من معظم الذين تقلدوا مناصب رفيعة. لكنا وجدناهم لاحقا ، احرص على التمسك بالكرسي ، من حرص الطفل على حليب أمه. معنى التكليف ان تتخلى عنه اذا تبين فشلك فيه او عجزك عن القيام به.

لو تقبل كافة القياديين في الاجهزة الرسمية مبدأ المسؤولية السياسية والاخلاقية ، واعلنوا استعدادهم لترك مناصبهم في حال الاخفاق ، لتحولت الادارة الحكومية الى مصنع للقادة وخبراء الادارة ، ولأصبحت الخدمات العامة مضرب المثل في الكفاءة والانجاز.

بالعودة الى تصريح الوزير الفالح ، فاني ادعو جميع وزرائنا ومديري قطاعات الخدمة العامة في بلدنا ، الى الاعتبار بما فعله هذا الوزير الشجاع ، وتكرار مبادرته حتى تتحول الى تقليد ثابت في اجهزة الدولة وقطاع الأعمال. يجب ان يؤمنوا جميعا بان رأس الجهاز يتحمل كامل المسؤولية ، عن كل عيب في الادارات التابعة له ، مثلما يتقبل المديح حين يحقق انجازات ونجاحات. هذا طريق مجرب لترسيخ الانضباط وتعزيز قيمة الكفاءة.

الشرق الاوسط 30 ديسمبر 2015

http://aawsat.com/node/531686/

16/12/2015

التدين الجديد



لطالما عاد ذهني الى كتاب "الدين والطقوس والتغيرات"  لعالم الاجتماع الجزائري د. نور الدين طوالبي ، سيما حين افكر في التضخم الواضح للطقوس الدينية في المجتمعات العربية ، وخصوصا مجتمعات المدن. على خلاف ما عرفناه في الماضي ، حين كان الناس جميعا متدينين بالفطرة ، لكنهم أقل اكتراثا بالطقوس. يقدم الكتاب خلاصة لبحث ميداني في الاحياء المحيطة بالجزائر العاصمة ، سعيا وراء تفسير معنى ومبررات التدين المديني ، مقارنة بنظيره القروي التقليدي.
والحقيقة ان باحثين كثيرين لاحظوا الطبيعة المركبة للتدين المديني الجديد ، قياسا على التدين الريفي الذي يتسم بالبساطة. لعل ابرز سمات التدين الريفي هو ما تعبر عنه المقولة المشهورة "دع الخلق للخالق" التي تشير الى قدر من عدم الاكتراث بما يفعله الآخرون. ربما يرجع هذا الى شعور داخلي بالضعف. لكني أميل الى الاعتقاد بان سببه الرئيس هو بساطة "الحمل الديني" في الحقب السابقة ، قياسا الى ما يشهده عصرنا الحاضر من تضخم كبير في الخطاب الديني ، رغم انه لا زال سطحيا في ملامسة موضوعاته المفترضة ، ومركزا على ظواهر الحياة اليومية دون حقائق الحياة ومحركاتها الكبرى.
 أعلم ان كثيرا من الناس يضيق بموضوع كهذا. لأنه قد يرى مناقشة الواقع الديني من خارجه ، بابا للتشكيك في صدقيته وكونه خيرا كله. لكن علم الاجتماع لا يهتم كثيرا بالحكم على الظواهر والموضوعات التي يدرسها ، قدر اهتمامه بشرحها وتفسيرها. اما الحكم بكونها طيبة او سيئة فهي مهمة الأخلاقيين او علماء الدين أو غيرهم.
ان الغرض من هذه الاثارة هو توضيح بعض الاسئلة والاحتمالات المرتبطة بالموضوع. ومن بينها خصوصا طبيعة التدين الجديد. وقد أشرت في مقال الاسبوع الماضي الى  رأي المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه الذي رأى في الاتساع الملحوظ للمشاعر الدينية بين الجيل الجديد ، محاولة لتشكيل هوية فردية مستقلة ، وهي بهذا المعنى دليل على ان تيار التحديث يحقق اختراقا عميقا في البيئة الاجتماعية المحافظة.
نعرف ان "الايمان" هو العنصر الجوهري في الدين. وهو تعبير عن تحول روحي عميق في نفس الانسان ، ينطوي – من بين أمور أخرى – على انتقال اهتماماته من دائرة المصالح التي هو جزء منها ، الى الكون الذي يشكل في مجموعه مشهدا لتجلي الخالق. بخلاف التدين الهوياتي الجديد ، الذي يبدأ كسعي لتشكيل هوية مستقلة ، لكنه يعود ثانية لتحويل الانتماء المحلي الى هوية اضيق نطاقا منه.
من حيث المبدأ ، فان الايمان في الحالة الاولى مثل التدين في الحالة الثانية ، ينطوي على تعريف للذات ، اي هوية فردية. لكنه في الأولى منطلق من رغبة في التعارف والتواصل مع الكون ككل ، يقود الى انفتاح على الخلق جميعا وسعي للمشاركة في عمران الارض ، دون نظر للتمايزات الثقافية والاجتماعية بين الناس. اما في الحالة الثانية فهو ينطلق من تعارض مع المحيط القريب ، ولهذا يتسم بالصلابة والرغبة في الزام الغير بالامتثال والتماثل.
يعتقد طوالبي مثل غوشيه ان التدين الهوياتي يؤدي – دون قصد – الى علمنة الحياة. لأن اشتغاله المتضخم بالدين ، يحول الدين في نهاية المطاف الى دائرة مصالح حادة الاطراف او ربما مشروع هيمنة ، لا يختلف كثيرا عن الايديولوجيات السياسية العادية التي تستهدف الهيمنة بشكل صريح. هذا يعني تجريده من المضمون القدسي الذي يؤلف القلوب والارواح ، وتحويله الى واحد من تجليات الحياة الاعتيادية ، التي يتصارع الناس حول تفاصيلها ومكاسبها وخسائرها في كل يوم من أيامهم.
الشرق الاوسط 16 ديسمبر 2015

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...