27/08/2015

شبكة الحماية الاجتماعية


في مثل هذه الأيام يتوقع الناس جميعا ، ان يخرج احد الوزراء المكلفين بالشؤون الاقتصادية ، ليخبرهم عن تقييم الحكومة للظرف الاقتصادي الراهن. نعلم ان اي وزير سيقول ان الوضع لا يبعث على التشاؤم ، وسوف نصدقه كالعادة. لكننا بحاجة للاطلاع على مبررات هذا التطمين او التبرير. لأن الأوصاف المجردة والتصريحات الموجزة ما عادت تقنع احدا.

منذ عقد تقريبا اصبح سوق المال مؤشرا على الوضع الاقتصادي عند عامة الناس. وهم يقولون ان كبار المستثمرين والمضاربين اكثر معرفة ومتابعة لما يجري ، وان لبعضهم اتصالات تمكنه من معرفة ما يحجب عن غيره. ولعل هذا الشعور غير بعيد عن الحقيقة ، بحسب الاعراف السائدة في العالم على الاقل. في الايام الماضية كان اللون الاحمر هو المسيطر على مؤشرات السوق المالية. بعض المحللين قالوا انه انعكاس للانخفاض المماثل في الاسواق الدولية. وقال آخرون انه متأثر بتقديرات صندوق النقد الدولي ، كما نسبه غيرهم الى الانخفاض المستمر في اسعار البترول ، خلافا لتوقعات بتحسنها في الربع الاخير من العام الجاري.

على اي حال هناك شعور عام بأن الوضع الاقتصادي ليس طيبا. وهناك مبررات قوية (مادية) تدعم هذا الشعور. تقديرات الاقتصاديين تؤكد وجود مشكلة ، لكنها في الوقت نفسه تحذر من المبالغة في القلق. لازلنا بعيدين – بحسب تقديرات الاستاذ عبد الحميد العمري - عن ازمة شبيهة بما حصل في  2009 ، فضلا عن اختها الاشد وطأة في منتصف ثمانينات القرن المنصرم.

هذا أمر طيب وربما يوفر علينا بعض القلق غير الضروري. لكن سواء بقي الوضع على حاله حتى الربع الاخير من العام القادم ، كما يقدر بعض المحللين ، او ازداد تأزما ، فاننا بحاجة للتخطيط المبكر لاستيعاب الانعكاسات السلبية للأزمة ، كي لا نؤخذ على حين غرة.

لقد دعوت سابقا الى دراسة معمقة لانعكاسات الازمة الاقتصادية التي مرت بها المملكة بين 1983 حتى 1990. وهي في رأيي واحدة من اكثر الحقب حرجا في تاريخنا المعاصر. بل اظن انها اسهمت بالنصيب الأوفر في تكوين ارضية الازمات التي واجهناها في العقد المنصرم ، وبعضها لا يزال قائما حتى اليوم ، ومنها – على سبيل المثال لا الحصر- تبلور تيار العنف السياسي وتفاقم التعصب في المجتمع.

لست خبيرا في الاقتصاد ولا استطيع سوى التعويل على اراء الاقتصاديين وأهل الاختصاص. لكني اعرف من بحوثي ومراقبتي للحراك الاجتماعي ، ان الاقتصاد هو المحرك الاقوى للتحولات الاجتماعية ، في الاتجاه الايجابي أو في الاتجاه السلبي. ومن هذا المنطلق فاني اشعر بقلق يتجاوز الاشكالات الخاصة بالمعيشة ، والتي عبر عنها عدد من الاقتصاديين في الصحافة السعودية خلال هذا الاسبوع. محور هذا القلق هو تكرار تجربة الثمانينات التي اشرت اليها ، سيما في ظل ظروف اقليمية سيئة جدا ، ستلعب بالتأكيد دورا موجها للتأزم الاجتماعي لو حصل لا سمح الله.

من هنا فاني ادعو الى وضع ما يمكن وصفه بشبكة أمان اجتماعي ، محورها هو حماية الشرائح الاجتماعية الاكثر عرضة لانعكاسات الازمة الاقتصادية ، سواء بقيت على حالها الراهن او تفاقمت.  ثمة شرائح تعيش ضمن هامش مناورة ضيق ، ولا تستطيع تحمل ادنى انخفاض في الدخل او ارتفاع في كلفة المعيشة. قد يكون هؤلاء من أطيب الناس وأكثرهم كدا. لكن الازمات الاقتصادية لا ترحم أحدا ، وغالب ضحاياها ينتمون الى هذه الشرائح. وقد قيل قديما "كاد الفقر ان يكون كفرا" وللحق فان التفاوت الشديد في الدخل ، وما يؤدي اليه من عجز عن مواجهة ضرورات المعيشة قد يكون المولد الاكبر للكفر بالمجتمع وأعرافه ونظامه القيمي.

دعونا نفكر في مشروع موسع لاحتواء الازمة ، يستهدف خصوصا الحد من انعكاساتها السلبية على مستوى المعيشة ، والحيلولة دون تحولها الى محرك للتمرد والتعصب. الكلفة الاقتصادية والسياسية والقيمية لمشروع كهذا ، اقل كثيرا من الكلفة  الباهضة لتفاقم التأزم الاجتماعي ، ويجدر بنا ان نبادر اليوم قبل ان نواجه الاسوأ.

الشرق الاوسط 27-8-2015
http://aawsat.com/node/437901

19/08/2015

عودة للعلاقة بين الخطاب الديني وتوليد العنف



 كثير من الاصدقاء ازعجه مقال الاسبوع الماضي لانه – بحسب تقديرهم – برأ الخطاب الديني من توليد العنف السياسي او تبريره. والحق اني أرى مبالغة غير محمودة في اعتبار هذا الخطاب ، مولدا وحيدا او رئيسيا للتطرف والعنف. ذلك اني اميز بين توليد الفعل وبين تبريره. كما اني غير مقتنع بأن عامة الناس يعملون بتدبير مسبق على تشكيل ثقافتهم ، اي الخلفية الذهنية التي تتحكم في الاعم الاغلب من افعال الفرد وردود فعله. أقنعني البحث والتأمل في أحوال الناس بأن ذهنيتهم تتغير غالبا بعدما يتغير موقفهم من تحولات الحياة الواقعية ، او حينما يتغير موقعهم في النظام الاجتماعي.
المرحوم د. راشد المبارك
بعبارة اخرى فان دور اللغة الدينية يقتصر غالبا على توصيف او توجيه موقف اتخذه سلفا فرد او جماعة. هذا الموقف قد لايكون منشؤه دينيا ، بمعنى ان موضوعه ليس من داخل الدين ، او بمعنى انه ليس مستمدا من قيم دينية. بل استخدم الدين كعباءة لموقف شخصي او اجتماعي او سياسي او ايديولوجي.
 لا نستطيع بطبيعة الحال الحكم على من فعل هذا بانه كان حسن النية او سيء النية. بل اظن ان استخدام اللغة الدينية او التبرير الديني منشؤه في الغالب سهولة تقديمه الى عامة الناس ، او ربما غياب الفاصل بين الذات الفردية او الجمعية وبين الذات الدينية ، او اختلاط الهوية الاجتماعية بالهوية الدينية ، على نحو يلغي المسافة بين ما هو ديني وما هو شخصي. وهذه ظاهرة ملحوظة في الحياة العامة ،  سيما في المجتمعات المحافظة. ومن ابرز تمثيلاتها التي نراها كل يوم تقريبا ، ردود فعل الاشخاص على انتقاد مجتمع او جماعة دينية. حين تقول ان مجتمعا ما مثلا احتقر انسانا او انتهك حقوق الانسان ، سوف تسمع على الفور جوابا فحواه ان الاسلام ضمن حقوق الانسان او انه سبق الغرب في اقرار حقوق الانسان. المعنى الضمني لهذا الجواب هو ان المجيب افترض ان نقد المجتمع (الذات الجمعية) يعادل نقد الدين ، وان اقحام الدين في الجواب سوف يحوله من رأي شخصي الى موقف جمعي. هذا النوع من رد الفعل ليس موقفا دينيا بل اجتماعي او سياسي يستخدم لغة الدين.
الصراع ضد الحداثة هو احد نماذج استعمال اللغة الدينية في صراعات اجتماعية/سياسية. خلال سبعينات القرن العشرين عملت شخصيات وجماعات اسلامية على خلط الموقف السياسي من الدول الغربية ، بالموقف من منتجات الحضارة الغربية والفكر الانساني بشكل عام ، في سياق عمل مخطط او عفوي لبث الهمة في نفوس المسلمين. وكان السياق العام لهذا العمل هو اقناعهم بانهم يتعرضون لعدوان غاشم ، وانهم قادرون على هزيمته اذا نهضوا. هذا نوع من التعبئة الروحية استهدف الترويج لتيارات محددة ، ويبدو انه قد حقق نجاحا باهرا في الاقطار التي تفتقر للتعدد الثقافي او الحياة السياسية المفتوحة. لكننا نعلم ان هزيمة الغرب تتجاوز قدرة الداعين  اليها. فكانت نتيجة التعبئة هي تحويل الشعور بالظلم والرغبة في مقاومة العدوان ، الى ارتياب وكراهية للغرب وكل ما يرمز اليه.
يعتقد المرحوم د. راشد المبارك ان الموقف من الغرب هو احد مولدات التشدد ومن ثم الكراهية (راجع المبارك: فلسفة الكراهية). ويعتقد داريوش شايغان ان العجز عن الانتقال من الارتياب في الغرب الى استخدامه او منافسته ومن ثم تجاوزه ، كان من اسباب التأزم الداخلي في المجتمعات الاسلامية. وهو تأزم ادى الى تطبيع التصارع الداخلي الذي يشكل بيئة طبيعية للتشدد والعنف (د. شايغان: النفس المبتورة).
لازلنا اذن نتحدث عن مواقف تصاغ بلغة دينية. أوليس هذا تأكيد لمسؤولية  التيار الديني والثقافة الدينية عن توليد العنف او تبريره؟.
في رايي لا. علينا ان نفصل بين المواقف المؤسسة على ارضية القيم الدينية ، وبين استخدام اللغة الدينية كوعاء لعرض المواقف والاراء التي تمثل مصالح اجتماعية او سياسية. اعلم ان مثل هذا التمييز عسير. لكنه ضروري كي نرى الاشياء كما هي في الواقع ، بدل ان نستكين للتفسيرات المجردة ولو كانت مريحة.


الشرق الاوسط 19-8-2015
http://aawsat.com/node/432766

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...