22/07/2015

تأثير الاتفاق النووي على بنية السلطة في ايران



الاتفاق النووي مع ايران ، مثل اعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا ، يعتبران – في واشنطن تعبيرا عن سياسة جديدة فحواها تشجيع التحول داخل الانظمة المعادية بدل مقاطعتها او العمل على اسقاطها.
يوم الاثنين الماضي أقر مجلس الامن الدولي بالاجماع اتفاق لوزان النووي بين ايران والمجموعة السداسية ، كما أقره في اليوم نفسه مجلس وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي. وبهذا تبدأ مهلة التسعين يوما السابقة لدخول الاتفاق حيز التنفيذ.
منذ اعلان الاتقاق بدا ان العالم يتعامل مع نتائجه كموضوع على اهبة التحقق فعلا. الشروط الكثيرة التي تضمنها الاتفاق لن تغير من حقيقة ان ايران وشركاءها الدوليين قد فتحوا صفحة جديدة ، مختلفة بعمق عما كان عليه الحال منذ العام 2006.
في داخل ايران  ، ثمة مؤشرات قوية عن انبعاث جديد للتيار الاصلاحي الذي يتبنى الآن طروحات اكثر ليبرالية مما كان عليه في ظل الرئيس الاسبق محمد خاتمي. برز هذا التيار خلال عهد الرئيس هاشمي رفسنجاني (1989-1997) وكان محور خطابه هو الانتقال الى مرحلة الدولة المدنية. حافظ التيار على وجود معقول في السلطة حتى 2005 ، لكنه كان على  الدوام هدفا لحرب ضروس من جانب تيار المحافظين ، الذي اعتبره تهديدا لمكاسب الثورة وقيمها.
انتخاب محمود احمدي نجاد رئيسا للجمهورية في 2005 حسم الصراع لصالح المحافظين. لكنه كان ايضا الذروة التي تخفي وراءها المنحدر. فقد تباطأ النمو الاقتصادي الذي عرفته البلاد في العقد السابق ، كما توترت علاقاتها مع دول العالم ، وخضعت لعقوبات شديدة ، سيما بعد قرار مجلس الامن رقم 1696  لعام 2006 ، فضلا عن ستة قرارات مماثلة في الاعوام التالية.
تباطؤ الاقتصاد اثمر عن تمرد اجتماعي غير مسبوق ، اجج التنازع بين حكومة نجاد وداعميها المحافظين. كان السلوك التحرري للرجال والنساء في شوارع طهران والمدن الكبرى مثيرا لانزعاج رجال الدين ، الذين رأوا فيها استمرارا لما كان يجري في ظل منافسيهم الاصلاحيين. بينما كانوا يطالبون برقابة اشد ، وقمعا صريحا لكل سلوك يتنافى مع تقاليد المجتمع الديني الخاصة بالمظهر واللباس.
في 2011 تحول المحافظون الى كتل مفككة متصارعة. وبدا ان عودة الاصلاحيين الى الحكم هي المخرج الوحيد من مسلسل الازمات. حين اعلن حسن روحاني ترشيح نفسه للرئاسة في 2013 قال انه استبق ذلك بعرض برنامجه السياسي على مرشد الثورة علي خامنئي ، وان هذا البرنامج يتضمن خصوصا ترميم علاقات ايران الدولية واطلاق مصالحة وطنية.
من المفهوم ان زعماء المحافظين وقادة الحرس الثوري ليسوا سعداء بخطوات روحاني. بل ان قائد الحرس الثوري قال صراحة ان قرار مجلس الامن الذي أقر اتفاق فيينا قد "خرق الخطوط الحمراء للجمهورية الاسلامية". من المتوقع ايضا ان يواجه وزير الخارجية مساءلة قاسية في مجلس الشورى الذي يسيطر عليه المحافظون حين يعرض عليهم الاتفاق. لكن الجميع في طهران يعلم ان المجلس سيوافق ، لأن المحافظين لا يملكون خيارات بديلة ، ولأن الحكومة ذات الميول الاصلاحية تراه حجر اساس في سياساتها الداخلية والخارجية.
هذا يعني اننا نقترب من تحول جذري في المشهد السياسي الايراني ، عنوانه انبعاث التيار الاصلاحي من جديد. اذا نجح روحاني في تثمير اتفاق فيينا على صعيد الاقتصاد ، من خلال اعادة تحريك المشاريع المجمدة ، وزيادة الاستثمار المحلي والاجنبي ، اي – بشكل عام – اخراج الاقتصاد الايراني من حالة الانكماش الحالية ، وتحسين مستوى المعيشة لعامة الناس ، فانه سيعزز صورة التيار الاصلاحي كخيار وحيد لقيادة البلاد. هذا سيؤدي بالضرورة الى تراجع النفوذ السياسي لرجال الدين المتشددين وقادة الحرس الثوري ، لصالح الصناعيين ورجال الاعمال.
بالنسبة للرئيس الامريكي باراك اوباما فان تشجيع تحولات مثل هذه ، حتى مع بقاء النظام ، يعتبر هدفا يستحق العناء. وهي سياسة اتبعها مع كوبا ايضا ، خلافا للاستراتيجية الامريكية السابقة التي تؤكد على تفكيك الانظمة السياسية المعادية وليس اصلاحها.
الشرق الاوسط 5 شوال 1436 هـ - 22 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13385]
https://aawsat.com/node/412161/

15/07/2015

تمكين المجتمع .. الخطوة الاولى



يتفق الجميع فيما اظن على ان العدالة هي ابرز تطلعات الناس في مختلف بلاد العالم ، في هذا الزمان وفي سائر الازمنة. ويحفل تراثنا الثقافي بالكثير من القيم والمقولات التي تمجد العدالة وتدعو اليها. لكن نقاشاتنا الراهنة تبدو مشغولة بالمثال الاعلى ، اي العدالة في صورتها المجردة ، فقيرة فيما يخص التفصيلات القابلة للتطبيق والحساب.
التوزيع العادل للموارد والفرص المتوفرة في المجال العام ، هو – على الارجح - الموضوع الأكثر إثارة لنقاشات الفلاسفة وعلماء السياسة في القرن العشرين. السبب في ذلك هو ان هذا المفهوم يشكل جوهر الرابطة الاجتماعية ، والهدف الاعلى لأي نظام سياسي. لقد تباعد مفهوم العدالة التوزيعية الحديث عن جذوره الفلسفية النظرية التي ورثناها عن ارسطو ، واندرج بشكل متزايد في النقاشات المتعلقة بالاقتصاد والسياسة ، حيث اتخذ عنوانا اكثر خصوصية ، هو "العدالة الاجتماعية". التطور الاخر البارز في الابحاث الخاصة بهذا المجال ، هو التركيز على "تمكين" المجتمع والافراد ، باعتبارهم محور الجدل حول مسألة العدالة.
يدور مفهوم التمكين حول جعل الافراد ، ومن ورائهم المجتمع الاهلى ككل ، مساهمين فاعلين في تحقيق العدالة لأنفسهم ، بدل التعويل الكامل على الدولة ، كما كان الامر في الماضي. من المفهوم ان الدولة ستحتفظ بدور توجيهي في هذا المجال ، لكن المجتمع سيكون الحامل الرئيس لعملية توزيع الموارد. نجاح هذا التحول مشروط – على اي حال – بتقبل رجال الدولة لتحويل هذه المهمة الى المجتمع. وقد اشرت الى هذا الشرط بالخصوص لسبب واضح ، هو الميل الطبيعي عند الدولة للتمركز واحتكار مصادر القوة. وهو ميل يظهر بوضوح اكبر في الاقطار النامية والمجتمعات التقليدية مثل مجتمعنا.
وللمناسبة فان شرائح مؤثرة في النخب السياسية ، حتى في البلدان الصناعية ، لا  تظهر تعاطفا مع هذا الاتجاه ، سيما مع الربط العضوي بين تمكين المجتمع وتخلي الدولة عن مصادر القوة ، وبينها قوة التأثير في الاقتصاد. لعل ابرز النجاحات التي تحققت في هذا المجال ، في الولايات المتحدة مثلا ، هو تقبل الدولة بشكل نهائي لفكرة تخليها عن اي عمل ذي طبيعة تجارية ، وهو جزء من المهمة. بعض المفكرين يربط تلك المقاومة بمفهوم التمايز الذي يسم ثقافة النخب السياسية ، وبعضهم يربطه باعراض المجتمع نفسه عن تولي أمر نفسه ، وميل الغالبية ، سيما الطبقات الشعبية الى الاتكال على الدولة حيث استطاعوا الى ذلك سبيلا.
لهذه الاسباب فان تمكين المجتمع في صورته النهائية قد يأتي متأخرا جدا. لكن الخطوات الاولى ليست قليلة الاهمية والتأثير. نحن نتحدث عن تمكين الناس من تطوير حياتهم على النحو الذي يرتضونه لأنفسهم. هذا يتطلب مجموعة مقدمات تستطيع الدولة انجازها دون كلف سياسية كبيرة . من بين الخطوات الضرورية في هذا المجال ، نشير الى تطوير المنظومات القانونية بما يجعل الانطلاق سهلا على الافراد ، تعديل الانظمة الخاصة بحركة الرساميل ، وتمكين الافراد من الحصول على تمويل سهل ومناسب من المصارف ، أو السماح باقامة قنوات تمويل موازية.
 لكن كل هذه المبادرات قد لا تكون مؤثرة ما لم نبدأ بوضع استراتيجية وطنية لتشجيع ودعم المؤسسات الفردية الصغيرة والمتوسطة ، بحيث تصبح على المدى المتوسط (10 سنوات مثلا) مساهما ملموسا في الناتج القومي العام وتوليد الوظائف.
زبدة القول اننا بحاجة لاقناع الدولة بأن تتخفف من اعباء الاقتصاد ما استطاعت. لكن ليس بتركه هملا او تسليمه لاسماك القرش المفترسة. بل بمساعدة الطبقة المتوسطة على الانتقال التدريجي ، من هامش المنافسة الاقتصادية الى قلبها. ان الهدف المحوري لاستراتيجية كهذه هو تمكين عامة الناس ، الاذكياء والطامحين منهم خصوصا ، على الامساك بأقدارهم ، والتحول من ارقام هامشية في المجتمع الى قوة مؤثرة في تسيير الحياة الاجتماعية وبناء المستقبل. وفي ظني ان تحولا كهذا سيخلق دينامية جديدة تخدم الاستقرار وتقاوم الميول التأزيمية او الانقسامية.
الشرق الاوسط 28 شهر رمضان 1436 هـ - 15 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13378]
https://aawsat.com/node/406781/

08/07/2015

بحثا عن عصا موسى


الاسبوع الماضي اعلن الرئيس التونسي فرض حالة الطواريء ، بعدما قتل ارهابيون 38 سائحا في فندق بمدينة سوسة على الساحل الشرقي. وكالعادة ، فقد رحب بالقرار كثيرون يؤمنون بالحلول السريعة والحاسمة للمشكلات.
هذا التاييد يشعرني بالقلق ، نظرا لما أراه من اعراض عام في الثقافة العربية عن الحلول الطويلة الامد. عرفت تونس العنف السياسي منذ زمن طويل نسبيا ، كما في حوادث قفصة عام 1980 وجربة عام 2002. لكني اميل للاعتقاد بأنه ليس ظاهرة مألوفة في هذا البلد. على ان هذا التاريخ بذاته يخبرنا ان هناك قابلية لظهور الارهاب وربما تحوله الى ظاهرة واسعة. وهذا بالتحديد ما يدفع للمطالبة بعدم الاقتصار على الحلول الامنية.
التحليل المتداول مغرم بنسبة العنف السياسي المنتشر هذه الايام الى ما يوصف بالغلو والتحريض. ومثل هذا التحليل ينصرف غالبا الى حل أحادي خلاصته نشر ما يوصف بالتدين الوسطي واسكات الدعاة المحرضين. كنت آمل ان لا يستمع السياسيون الى مثل هذا التحليل التبسيطي. لكن واقع الحال يخبرنا ان اكثرية الناس ورجال السياسة لا يودون الاستماع الى غيره. ذلك انه يقدم تبريرا بسيطا وحلا بسيطا مثله ، ولا يحملهم اي مسؤولية وراء ذلك. يمكن لاي سياسي ان يقول ببساطة ان سبب المشكلة يكمن في هذا المسجد او ذلك الداعية ، وليس في سياسات الدولة ولا اعمالها. الحل اذن هو اغلاق ذلك المسجد او اسكات الداعية.
لكنا نعلم ان الناس لا يحملون السلاح لانهم قرأوا كتابا او استمعوا الى خطيب. لا يتحول الانسان من شخص لطيف موادع الى آلة قتل وتدمير دون مقدمات طويلة. لا تتغير ذهنيات الناس بشكل مفاجيء. لم يحدث هذا ابدا ، ولا يوجد اي دليل علمي او دراسة ميدانية تدعم هذا التصور. السبب الوحيد الذي يدفعنا لقبول مثل هذه التحليلات الساذجة هو رغبتنا في الخلاص من همّ التفكير المعمق في اسباب واعراض المشكلات ، او قلة صبرنا على الحلول الطويلة الامد ، او ربما الاغترار بالقوة المادية التي تملكها السلطة. كثير من كتابنا وخطبائنا يكررون علينا صورة "المستبد العادل" التي طرحت في اوائل القرن العشرين ، باعتبارها الدواء الشافي لمشكلاتنا. لكننا نعلم ان هذا التصوير العتيق ينتمي الى ظرف تاريخي لم تعد شروطه قائمة ولا قابلة للانبعاث.
فكرة المستبد العادل تشبه كثيرا فكرة "عصا موسى" التي تلتهم الافك كله ، وتقضي على الباطل كله في لمحة عين. اظن ان ثقافتنا العامة مهووسة بهذا النوع من الحلول السحرية ، لانها سريعة ، حاسمة ، وغير مكلفة. لهذا السبب ربما نطالب الدولة بالحسم والسرعة وعدم التردد.
تجربة العالم ، وبالخصوص تجربة العرب في السنوات العشر الاخيرة علمتنا ان اسرع الحلول قد يكون أسوأها ، وان الحل البطيء الممل قد يكون هو الاختراق الحقيقي.
ربما نقتل جميع الارهابيين ، لكن هذا الحل بذاته سيغذي البيئة الثقافية-الاجتماعية الحاضنة لبذور الارهاب. لو واصلنا الاعتماد على الحلول الأمنية السريعة ، فقد نرتاح من العنف اليوم ، لكنه سيعود الينا غدا او بعد غد.
اعلان الطواريء يدفع بالمجموعات الارهابية تحت الارض. كانت مصر تحت قانون الطواريء منذ 1956 حتى 2011. وكانت سوريا كذلك منذ العام 1971 ، وكان العراق مثلهم منذ 1968 ، وليبيا منذ 1969. وها نحن اليوم نرى ان العنف السياسي اكثر تجذرا ورسوخا وقوة في هذه البلدان على وجه التحديد. فهل كانت احكام الطواريء علاجا؟.
المغالاة الايديولوجية والتحريض على القتل والقتال – سواء كان دينيا او علمانيا – هو الرداء الخارجي او التبرير الثقافي/النفسي للميول العنفية. أما مصدر هذه الميول فيوجد في العلاقة بين المجتمع والدولة ، او في الاقتصاد او في النظام الاجتماعي أو في الثقافة العامة.
بعبارة اخرى فاننا بحاجة الى البحث في هذه المصادر: التوترات الثقافية التي تقود الى تأزيم الهوية ، او تأزم العلاقات الاجتماعية ، او انسداد الافق السياسي ، او ضيق القانون ،  او العجز عن التكيف مع المسارات الاقتصادية ، او غيرها. كل من هذه يشكل مصدر توتر نفسي يجعل افرادا بعينهم ، او ربما شريحة اجتماعية مستعدة لتقبل العدوان باعتباره حلا او باعتباره تنفيسا او انتقاما.
معالجة هذه المصادر يتطلب سياسات موسعة وطويلة الامد ، قد لا نشعر بثمارها خلال عام او عامين. لكنها ربما تكون طريقا للخلاص من بذور العنف ومن جذوره الكامنة في اعماق المجتمع.
الشرق الاوسط 21 شهر رمضان 1436 هـ - 08 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13371]
http://goo.gl/Z4WiIC


01/07/2015

الحل يبدأ في الموصل

 

  ربما ننشغل كثيرا في البحث عن كلمات مناسبة لإدانة المجزرة ، التي ارتكبها تنظيم داعش في مسجد الإمام الصادق في الكويت. وعلى أي حال فقد فعلنا شيئا كهذا بعد الحادث المماثل في الأحساء قبل تسعة أشهر، ثم في القطيف والدمام.


حقيقة الأمر أن بعضنا يضع يده على قلبه خائفا ، من أن تأتي الجمعة التالية بمجزرة مماثلة في مسجد ما، في هذه المدينة أو تلك. بعض المتحدثين قال: إن «داعش» بدأ للتو في استهداف المجتمعات الخليجية. وهذا تقدير غير دقيق، فقد حاول سابقا، وحاول تكرارا. ونحمد الله أن مجتمعات الخليج وحكوماتها ما زالت مصممة على مقاومة هذا الوحش الأعمى.

أظن أن الهدف المباشر لتنظيم داعش ، هو التشكيك في قدرة النظام الاجتماعي على الصمود أمام العواصف الصغيرة. وهذا تمهيد ضروري كي يتخلى الجمهور عن إيمانه بالنظام العام والجماعة الوطنية، ويستبدل بها مبدأ «حارة كل من ايدو الو» حسب تعبير دريد لحام في واحدة من مسرحياته القديمة. هذه الحارة مثال لمجتمع مفكك يأخذ أعضاؤه حقهم بعضلاتهم وليس بالقانون، ويحكمه حملة السلاح وليس الإجماع الوطني أو الإرادة العامة، كما هو شأن الدول الحديثة والمجتمعات المتمدنة.

بعد عام كامل من إعلان «داعش» دولته المزعومة في الموصل، لم يعد ثمة شك في أن الدماء والخراب هي الوعد الوحيد لهذا التنظيم المتوحش. لا زلت واثقا أن مجتمعات الخليج ستقاوم هذا التوحش. لكني في الوقت نفسه أشعر – مثل جميع الناس – بأن علينا أن لا نستهين بقدرته على التمدد في أوصالنا وثنايا مجتمعاتنا. لقد قيل الكثير عن الثغراث وخطوط الانكسار التي يتسرب منها هذا الوحش. وعلينا أن نواصل البحث الجاد والعمل الجاد لسد تلك الثغرات.

لكن لعل من اللازم اليوم أن نتجه إلى رأس الأفعى أيضا، وأعني بها تنظيم داعش في العراق، وفي مدينة الموصل على وجه التحديد. في الأربعينات الميلادية كانت حركات التحرير الماركسية تتحدث عن الدولة - القاعدة كضرورة لتدعيم وتعزيز انتشار تنظيماتها في المجتمعات الأخرى. ويعرف جميع أصحاب التجارب الحركية أن وجود سلطة حليفة مستقرة على أرض، توفر دعما عظيما، ماديا ونفسيا وسياسيا، للتمدد والانتشار.

صحيح أن «داعش» تمدد في مساحة واسعة من الأرض السورية، فضلا عن انتشاره المادي في العراق وليبيا، وربما غيرهما. لكن «داعش» العراق هو الرأس وهو مصدر الخطر الحقيقي. «داعش» السوري ليس مستقرا ولا مستقلا عن عاصمته في شمال العراق. ولهذا فإن القضاء المبرم على هذا التنظيم يبدأ من رأسه أي من عاصمته في الموصل.

منذ احتلال هذه المدينة نهاية يونيو (حزيران) 2014 حاول العراقيون جهدهم، ولم يفلحوا في القضاء على رأس الأفعى. يمكننا أن نقول الكثير في فشل الحكومة العراقية وأسباب إخفاقها والمبررات التي طرحت لتركها وحيدة تصارع مشكلاتها. لكن الحقيقة الماثلة أمامنا اليوم تخبرنا ببساطة أن كل يوم إضافي يمضيه التنظيم في الموصل، يزيده قوة وقدرة على التمدد، ليس في العراق فحسب، بل في الخليج وشمال أفريقيا وصولا إلى أوروبا.

إنني أدعو دول الخليج خصوصا والدول العربية عموما إلى الوقوف صفا واحدا مع الحكومة العراقية، وتنظيم حملة كاسحة للقضاء على هذا التنظيم في العراق.

في رأيي أن تبادل اللوم مع العراق وكيل الاتهامات لحكومته، مهما كانت صحيحة أو جدية، ترف لا يحتمله الموقف الحرج القائم اليوم. لو واصلنا سياسة التفرج والانتظار فقد نضطر لمحاربة التنظيم، ليس في الموصل، بل في كل شارع ومدينة على امتداد الخليج.

دعونا إذن نصغي لدعوة الإمام علي بن أبي طالب «اغزوهم قبل أن يغزوكم فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا».

حتى أسابيع قليلة كانت الموصل تبدو بعيدة جدا عن حدودنا، وكان «داعش» مجرد تهديد يلوح في الأفق. أما اليوم فالواضح أن المسافات طويت، وأصبح «داعش» تهديدا داهما وجديا. وقد رأينا فعله رأي العين في الكويت والسعودية وفي تونس ومصر، ولا نعلم أي هدف آخر سينضم إلى هذه القائمة خلال الأسابيع التالية.

رأس الأفعى يوجد في الموصل والقضاء على تهديد «داعش» يبدأ في الموصل. والطريق إلى ذلك هو الاصطفاف مع الحكومة العراقية، مهما كانت سيئة أو ناقصة أو معيبة، الاصطفاف معها في مهمة محددة، هي القضاء المبرم على إعصار التوحش الذي يوشك أن يقضي على مكاسب قرن من المدنية والنظام في بلادنا وجوارها.

الشرق الاوسط الأربعاء - 14 شهر رمضان 1436 هـ - 01 يوليو 2015 مـ رقم العدد [13364]

https://aawsat.com/node/396766

30/06/2015

الأمل في المستقبل

 قلت في مقال الاسبوع الماضي اني اعتبر تساوي الفرص وتعدد الخيارات امام المواطنين عنصرا مؤثرا في تعزيز الوحدة والهوية الوطنية. خلال الاسبوع جادلني اصدقاء في صحة هذه الفرضية. وكان نقدهم منصبا على ما اعتبروه تجاهلا للعامل الاكثر حرجا في المسألة وهو الشحن العنصري والطائفي والقبلي الذي يحول الاختلافات البسيطة والطبيعية الى خطوط انكسار مؤثرة في قيمة الوحدة والهوية الوطنية الجامعة.
ومع تقديري لهذا الاعتراض وقبولي به، الا اني كنت أحاول لفت الانتباه الى الظرف النفسي والاجتماعي الذي يجعل الناس اكثر استعدادا للمخاصمة او التوافق. لم يكن خلق الله متفقين منذ البداية ولم يكونوا جنسا واحدا. كما ان الانتقال من اشكال الحياة البسيطة والقروية الى اشكال معقدة ، وتطور وسائل الاتصال ، وانفتاح العالم على بعضه يوفر اسبابا اضافية لتوترات نفسية واجتماعية ، تحتاج الى تبرير ثقافي ، ينصرف في احيان كثيرة الى تصوير العالم على شكل كتل متصارعة. نجد هذا مثلا في المقولة المشهورة عن انقسام العالم الى فسطاطين.
السؤال الذي يهمني التركيز عليه هو: لماذا يختار بعض الناس اتجاه التصارع ، بينما يختار الآخرون اتجاه التوافق والتكامل؟.
كل الناس يعون حقيقة انهم ينتمون الى اطار اجتماعي او ثقافي او سياسي خاص ، يجعلهم بالضرورة متمايزين عن غيرهم ، في ثقافتهم او تقاليدهم او نمط عيشهم او سلوكياتهم اليومية. فلماذا يقرر رجل الدين مثلا ، بمحض ارادته او بالانسياق العفوي مع محيطه ، ان تكون علاقته مع المتمايزين عنه علاقة صراع وتناحر ، بينما يبحث التاجر او السياسي عن مصلحة مشتركة بينه وبين المختلف عنه؟
ضربت مثلا باشخاص ينتمون الى طبقة النخبة للتوضيح ، لكن المثال يصدق بالنسبة لعامة الناس ايضا. ثمة من يميل الى التلاقي مع المختلفين والتركيز على العوامل التي تجمعه بهم ، وثمة في المقابل من يميل الى اعتزال مخالفيه ، فيبحث عن عوامل التفارق ومبررات الخصام بينه وبينهم.
في رايي ان الدافع لهذا الخيار او ذاك لا يوجد في الثقافة او التقاليد او الدين. في كل ثقافة محلية كما في كل قراءة دينية ، مبررات لكلا الخيارين. لكن تحديد احدهما واختياره دون الآخر ، يتأثر بعوامل خارج اطار الدين والثقافة والتقاليد. ابسط الادلة على هذا هو ما نراه في ظروف الانقسام والصراعات الأهلية ، حيث يتصاعد دور المتطرفين الذين "يستعملون" المبررات الثقافية والدينية لاقناع الناس بدعواتهم. في هذه الظروف نجد التمايز بين الاطياف الاجتماعية واضحا وصريحا ، ونجد كل فريق يطالب الآخر باثبات حسن نواياه ، ويستذكر الناس حوادث قديمة او تافهة للاستدلال على سوء الطرف المقابل. حتى المعتدلين ورواد الوحدة ودعاة التوافق ينكفئون في هذه الظروف ويتراجع دورهم ، بل قد ينساق بعضهم في الصراع بدل ان يلعبوا دور الموجه والضابط لحركة الجمهور. بينما نجد عكس هذه السلوكيات في ظروف الهدوء والسلام.
ما يدفع الناس لخيار التفارق او خيار التلاقي ليس موجودا في الثقافة ، بل في الظرف الاجتماعي/السياسي. وهذا هو بالتحديد ما اظننا بحاجة الى التأمل فيه وتحديده على نحو دقيق.
يهمني التاكيد ايضا على تعددية العوامل المشار اليها. نحن لا نتحدث عن عامل واحد او "علة تامة" كما يقول اهل المنطق ، بل عن عوامل متعددة ، لكل منها تأثير في نطاق محدد او في ظرف خاص دون غيره.
لقد اخترت احد هذه العوامل ، اي توفر الفرص بالتساوي امام الناس جميعا وكونها محمية بالقانون. وأرى هذا من العوامل الاوسع تأثيرا والاكثر استمرارية. وقد اخترته بالخصوص لارتباطه بعامل الأمل في المستقبل. تعزيز أمل الأفراد في المستقبل هو الذي يدفعهم لخوض مغامرات النجاح الدنيوي ، اي يدفعهم للاصرار على النجاح والتقدم في حياتهم. الأمل في المستقبل ينصرف غالبا الى الأمل في الجماعة الوطنية والنظام الوطني.
ثمة فارق مهم بين خيار التفارق/التصارع وبين خيار التوافق/التلاقي. الخيار الاول عبارة عن معادلة صفرية: اما انا او انت او لا انا ولا انت. بينما الخيار الثاني هو معادلة رابح-رابح: انا وانت ، كلانا نربح. حين يكون الفرد مشغولا بتحقيق النجاح فسيكون أميل للخيار الثاني ، لأن عقله يدعوه للتوافق مع الآخرين الذين سيكون لهم تأثير ، اليوم أو غدا ، في نجاحه. وحينما يختار المعادلة الصفرية ، اي خيار التفارق ، فلن يهتم بأحد سوى نفسه ومن يتفق معه مئة في المئة ، لأنه ابتداء لايرجو شيئا خارج اطاره الاجتماعي الخاص.
لا يوجد بلد بلا فرص. لكن في البلدان الفاشلة ، يجري تصميم النظام على نحو يسمح لعدد قليل من الناس بالاطلاع على أكثر الفرص المتولدة في المجال العام ، ويحجبها عن اكثرية الناس.
كون الفرص متساوية والخيارات متعددة امام الناس ، يعني ان يحصل الفرد في الجوف أو عرعر او القنفذة على نفس الفرص التي يحصل عليها نظيره في الرياض. ليس فقط اطلاعه على وجود هذه الفرص ، بل ايضا قدرته على الحصول عليها واستثمارها في تحسين مستواه المعيشي ومكانته الاجتماعية ودوره في المجتمع الوطني.
هذا يقودنا الى واحد من عيوب المركزية الادارية ، حيث تتحذ معظم القرارات الكبرى وتتقرر النفقات في المركز. وهو يجعل المدن الكبرى محورا لكل نشاط عمراني او استثماري ، ومعه - بطبيعة الحال - الفرص المتولدة عنه. من المهم التأكيد على اننا لا نتحدث عن "مؤامرة" بل عن منظومة اعراف سياسية او ادارية تجعل الامر على هذا النحو.
زبدة القول ان تعزيز الأمل في المستقبل هو الذي يدفع الناس لمحاولة النجاح والتطور ، وهذا يجعلهم اكثر التصاقا بالمجتمع الوطني ، لانه الاطار الطبيعي لتحقيق الذات والأهداف الحياتية. ان اعادة تصميم النظام على نحو يتيح الفرص للجميع بالتساوي هو الذي يجعلهم أكثر ميلا لمعادلة رابح - رابح ، اي خيار التلاقي والتكامل. هذا العامل الاقتصادي يمكن استعماله بشكل مؤثر في تعزيز الوحدة الوطنية والهوية الجامعة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 7 شهر رمضان 1436 هـ - 24 يونيو 2015 مـ رقم العدد [13357]
http://goo.gl/yYH44Q

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...