20/05/2014

حلاق المؤمنين


استذكر احيانا "حلاق المؤمنين" الذي كنت امر به يوميا في طريقي الى المدرسة. وكان الحلاق المفضل للمشايخ. واشتهر بانه لا يحلق لحية ولا يستقبل حليقي اللحى. وفي تلك الايام كان العرف الجاري بين المشايخ ومن حولهم ، يعتبر حليق اللحية فاسقا. والفسق وصف يطلق في العرف الخاص كمقابل للايمان. وكان مما درسته ايام الصبا ان "كاشف الرأس" قد يلحق بالفاسق ، فلا يؤم الجماعة ولا تقبل شهادته ، ومثله من يأكل في الطريق ، لانه يعتبر ناقص المروءة. وسمعت قبل مدة ان بعض القضاة لا يقبل شهادة او تزكية ممن لا يغطي رأسه.
هذه بالتأكيد مسائل فرعية وصغيرة جدا. لكنها – وكثير من امثالها – تحولت عند بعض الناس ، في بعض الاوقات على الاقل ، الى صراط مستقيم ، او ربما حدا فاصلا بين الكفر والايمان. وحين يمر الزمن ويستذكر الناس المعارك التي اثارتها هذه المسائل ، يأسفون على الوقت الذي انفقوه فيها ، والعداوات التي اكتسبوها من ورائها ، ثم يسخرون من انفسهم او يسخرون من زمنهم.
بعد عشرين عاما من الان سوف نستذكر – على سبيل التلطف – عدد المحرمات التي اصبحت حلالا ، مثلما نستذكر اليوم فتاوى تحريم ركوب الدراجة واكل الروبيان والعمل في البنوك والجمارك وجوال الكاميرا وتحية العلم وكثير من امثالها.
التوسع في التحريم ظاهرة معروفة في المجتمعات التقليدية. فهو احد السمات الرئيسية لثقافتها التي تتسم بميل حمائي ، يتمظهر غالبا على شكل  مبالغة في اصطناع خطوط دفاع عما يعتبرونه جوهريا او ضروريا. وهذا هو السبب الذي يحملهم على الباس التقاليد ثيابا دينية او التعامل معها كأخلاقيات مرتبطة بالدين.
بعبارة اخرى فلسنا ازاء سلوك ديني ، بل ميول اجتماعية تلبس رداء الدين. ومن هنا فليس معيبا ان يقف فقيه ليقول انه قد تراجع عن رأي او فتوى سابقة له ، لان علمه اتسع ، او لأن الفهم العام والعرف الاجتماعي تغير. كما انه ليس مطالبا بالاعتذار لمن اخذوا برأيه السابق ، فقد فعلوه باختيارهم ، وكانوا – مثل ما هم اليوم – عقلاء ومسؤولين عن خياراتهم الخاصة.
ليست هذه مشكلة على اي حال. المشكلة هي قسر الناس على رأي او فتوى ، نعلم – اجمالا – انها قابلة للتغيير. هذا القسر قد يكون مخصصا حين تتبناه جهة حكومية مثل الوزارات او هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد يكون عاما حين يوصف معارضو ذلك الرأي بانهم فسقة او ملحدون او معادون للدين ، وامثال تلك الاوصاف الفارغة.
زبدة القول انه ليس من الحكمة قسر الناس على اتباع الفتوى ، سيما في مواضع الاختلاف. خير للدين ان  يتبع الناس تعاليمه وهم في راحة ويسر ورغبة ، بدل ان يتبعوها مضطرين كارهين او مستثقلين.

 الاقتصادية 20 مايو 2014
مقالات ذات علاقة


15/05/2014

اول العلم قصة خرافية



محاولتي الاولى للفخر بمناهجنا الدراسية منيت بفشل ذريع. حدث هذا قبل عقدين من الزمن تقريبا ، حين طلبت اجتماعا مع مدير مدرسة روكسبورن الابتدائية شمال غرب لندن ، حيث درس ابني. كنت قد اعددت الكثير من الكلام البليغ حول اهمية الجغرافيا والتاريخ والعلوم والقواعد ، وغيرها من الدروس التي اعرفها منذ دراستي الابتدائية. وقد سلحت خطبتي المنتظرة بما سمعته تكرارا من اصدقائي عن زملائهم الامريكان الذين لم يعرفوا اين تقع مصر ، ولم يعرفوا ان كانت سكوتلندا مثلا دولة مستقلا او جزءا من بريطانيا. كنت اظن ان معرفتنا بموقع مصر ووضعية سكوتلندا تجعلنا متقدمين على اخوتنا الامريكان.

اما سبب رغبتي في الاجتماع الى مدير المدرسة ، فهو عدم ارتياحي مما ظننته افراطا في تخصيص معظم وقت الصف للرسم وقراءة القصص وتشكيل المنحوتات الطينية. قال لي المدير انه يتفهم قلقي وانه قد عمل سابقا في دول عربية ، ويعرف انهم يهتمون كثيرا بتعليم العلوم والجغرافيا والتاريخ وقواعد اللغة الخ. وانهم كانوا يفعلون ذلك في بريطانيا قبل زمن لكنهم تخلوا عنه.
كان هذا التغيير جزء من تحول اوسع في فلسفة التعليم وادواته. خلاصة الفلسفة القديمة: العلم = معلومات كثيرة تمكن الفرد من انتخاب افضل الخيارات المتاحة. اما الفلسفة الجديدة فخلاصتها ان العلم = عقل رياضي ، قدرة على التخيل تنتج خيارات جديدة غير متوفرة سابقا.

فيما مضى كان الاعتقاد السائد ان المعلومات والمعارف الكثيرة التي يحشى بها ذهن الطفل/الطالب سوف تجعله عارفا بالحياة ، مستعدا لاي مسار دراسي. لو قرر لاحقا ان ينضم الى المسار العلمي فلديه قاعدة اولية عن العلوم. ولو قرر ان يتخذ مسارا ادبيا فلديه بدايات مناسبة. بعبارة اخرى فقد كانت المرحلة الابتدائية تمهيدا للمرحلة الثانوية وما بعدها. وكان هذا التمهيد ينصرف الى معنى محدد هو "المعلومات والقواعد الاولية لكل علم".

في فلسفة التعليم الجديدة يجري التركيز على تعزيز القدرات الذهنية. قراءة القصص والروايات غرضها توسيع خيال الطفل. الاكثر قدرة على التخيل هو الاقدر على اطلاق العقل ، وراء حدود المتعارف والمألوف ، وابتكار عوالم جديدة واحتمالات اضافية. لا تستطيع ان تبدع فكرة ، اذا كان خيالك محدودا ومحصورا في اطار المألوف والمتوفر. الابداع هو فتق لحجاب الغيب ونقل المستحيل الى دائرة الممكنات. الايمان بالغيب يعني – في احد وجوهه – الايمان بوجود عوالم وراء المشهود والمعروف ، قابلة للارتياد اذا توفرت وسائله. من لا يؤمن بالغيب فانه يبقى اسيرا لحدود العالم الذي يعرفه. ميزة المبتكرين والعلماء هو ايمانهم بالعوالم المستورة والمغيبة. وهذا ما رفعهم فوق عامة الناس ، الذين سجنوا عقولهم في المتعارف والمنقول الذي ألفه الجميع واستأنسوا به.

اخبرني مدير المدرسة ايضا انهم يخصصون جزءا كبيرا من الساعات المدرسية للفن التشكيلي ولا سيما الرسم. هذا ايضا عمل يتعلق بتعزيز العقل الرياضي. حقيقة التكنولوجيا هي التركيب المعقد لعوامل وعناصر لا تبدو مؤتلفة في الاصل. يقيم المهندس او المبتكر رابطة صحيحة بين مجموعة عناصر مادية متوفرة ، كي تؤلف عنصرا جديدا مبتكرا يؤدي وظيفة جديدة.  القدرة على ابتكار هذه الروابط تعتمد بدرجة كبيرة على الادراك العميق للمسافات والمساحات وفروق القوة بينها وكيفية ايجاد معادلات تناسب فيما بين تلك الاجزاء ، كي تتحول من كتل منفصلة الى مركب واحد متكامل الوظائف. حين نحاول رسم لوحة ، فاننا نركز على العلاقة بين الخطوط والمسافات والمساحات وتدرجات الالوان. قابلية اللوحة للتاثير في عين المشاهد هي محصلة تلك العلاقة المعقدة. وهذا هو الاساس في تركيب جهاز جديد يؤدي وظيفة محددة ، او تصميم مشروع هندسي ، او حتى تاليف فكرة جديدة غير مألوفة.
اما حديث المدير عن تشكيل الطين ، وهو ايضا من الدروس اليومية ، فقد ذكرني بما تكتبه صحافتنا دائما عن التلاؤم المفقود بين مخرجات التعليم وسوق العمل.

حين يلمس الطبيب يدك ، فانه يدرك على الفور ان كنت مريضا او معافى. وحين يلمس الجيولوجي الصخرة ، فانه يدرك طبيعة الارض التي تنتمي اليها. وحين يستعمل مبرمج الكومبيوتر برنامجا لمدة دقيقتين ، فانه سيعرف حدود فاعليته وربما عيوبه. يتجلى الفارق بين الخبراء وبين سائر الناس في النظرة الاولى. يركز الناس – عادة – على الاشكال الخارجية للمواد والاشياء. اما الخبير فيركز على عنصر محدد ، يظنه مفتاحا لفهم طبيعة المادة التي يراقبها.  ربما يستمع الى صوت المكينة ، او يتلمس الجسد ، او ينظر في اللوحة ، او ينصت الى حفيف الريح ، كي يخبرك بما لا تستطيع اكتشافه من النظرة الاولى.


تشكيل الطين يستهدف تمرين ادوات الاحساس – الاصابع مثلا – على التواصل الفائق السرعة مع العقل ، بحيث تعمل في وقت لاحق بصورة عفوية ، تستوعب ما تلمسه ، تدرك طبيعته وحجمه الخ. لكن هذا ليس الهدف الوحيد. الهدف الاخر هو تعويد الاطفال على العمل اليدوي ، الذي يبدأ لعبا ، لكنه يتطور الى تشكيل صحيح ومفيد. نعرف ان الذين اعتادوا على العمل اليدوي – الوسخ احيانا – في صغرهم وحققوا نجاحات وحصلوا على تقدير الاخرين ، سوف يواصلون هذا العمل حين يكبرون. مثل هؤلاء لا يرهبون الطبيعة ، ولا يخشون من محاولة التحكم فيها ، فقد سبق لهم ان جربوا هذا ولو في نطاق ابتدائي.

في كل مرة اصادف طفلا يكافح لحفظ احكام زكاة الابل وأمثالها ، اتذكر ذلك المدير الذكي. واتذكر ايضا ان ابني الذي درس عنده ، نجح مع ثلاثة من زملائه حين بلغوا المرحلة الثانوية ، في تصميم كاميرا ، صوروا بها فعلا ورأينا صورها ، علما بانهم لم يشتروا اي قطعة من السوق ، بل استعملوا مواد متوفرة في كل مكان ، في صناديق القمامة احيانا. صحيح ان هذه الكاميرا لن تباع ، وهي ليست قادرة على منافسة الكاميرات المتوفرة في السوق. لكن ما يهمني في حقيقة الامر هو جرأة هؤلاء الفتيان على ان يصنعوا شيئا من لاشيء ، ما يهمني هو قدرتهم على تحويل الاشياء البسيطة المهملة الى تركيب معقد يؤدي وظيفة جديدة.

اسأل نفسي دائما : اي تعليم نريد؟ تعليما يخرج اطفالا حافظين لاحكام زكاة الابل ، ام اطفالا يتجرؤون على تحويل المهملات الى مصنوعات مفيدة؟.

اميل الى اختيار الجواب الثاني. فان كنت مثلي ، فخذ طفلك الى المكتبة ودعه يشتري كل ما يراه امامه من قصص وروايات خرافية او غريبة. الخيال الواسع هو البداية الصحيحة للعقل المبدع.

نشر في مجلة احوال المعرفة التي تصدرها مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض
العدد 74 ( مايو 2014) ص ص 28-29

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...