07/07/2011

"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

؛؛ جوهر مبدأ المواطنة هو "الشراكة في التراب". جميع اعضاء المجتمع ، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا ، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه؛؛


في كل مجتمعات العالم ثمة صراع مستميت للتخلص من عصر التقاليد والانتقال الى الحداثة. هناك بالطبع من يرمي الحداثة باسوأ الاوصاف ويحذر منها ، لكن جميع الناس في جميع بلدان العالم يتطلعون الى منظومة القيم التي تبشر بها الحداثة ، مهما كان رأيهم في الثمن الذي سيدفع مقابلها . ابرز وعود الحداثة هي تحويل العدالة من تطلع مثالي الى منظومة قانونية ومؤسسية ، وصولا الى ارساء نظام قانوني متكامل يكفل المساواة للجميع في الحقوق والواجبات ، وينهي جميع اشكال التمييز ، على المستوى القانوني وعلى مستوى السياسات.


تبدو فكرة التكافؤ والمساواة جميلة وجذابة ، لكنها على اي حال ليست سهلة المنال. اعتادت مجتمعاتنا على فكرة التمييز والتمايز قرونا طويلة . وحين نتحدث اليوم عن تغيير هذه العادة ، فلن يكون التحول بسهولة الكلام عنه.  فهناك من يؤمن ايمانا عميقا بان السلطة والموارد العامة هي امتياز تختص به الفئة المميزة ، سواء كانت عرقا او قبيلة او دينا او مذهبا سياسيا او غير ذلك. ولا يجد هؤلاء حرجا في الدعوة الى نظام اجتماعي ذي هيكلية مزدوجة يسمح لمختلف الناس ان يعيشوا في ظله ، لكن من دون التمتع بالمساواة في الحقوق والامتيازات.

 الانتقال الى عصر الحداثة يعني – على المستوى السياسي – تبني القيم الكبرى للنظام السياسي الحديث ، ومن بينها خصوصا مبدأ المواطنة  كارضية ومعيار لتنظيم العلاقة بين ابناء البلد الواحد . جوهر مبدأ المواطنة هو "الشراكة في التراب". طبقا لهذا المفهوم فان جميع اعضاء المجتمع ، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا ، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويطابق هذا المفهوم الى حد كبير فكرة "الخراج" المعروفة في الفقه الاسلامي القديم ، والتي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا.

بناء على هذا المفهوم فان الناس يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم . لا لأن احدا أقر لهم بهذه الصفة ، بل لكونهم شركاء في ملكية النظام الاجتماعي بمجمله ، لا منا من احد ولا منحة ، بل لطفا من الخالق ونعمة مهداة لعباده. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر ، لأنها حق مترتب على ملكية مشروعة. كما لا يستطيع حرمانه من الحقوق والامتيازات المترتبة على شراكته في الملك ، مثل المشاركة في المناقشات واتخاذ القرارات المتعلقة بهذا الملك وكيفية ادارته .. الخ .

فيما يتعلق بالتنظيم القانوني ، فان ابرز تجليات العدالة فيه هي عمومية القانون ، اي تطبيقه على الجميع بغض النظر عن اشخاصهم او مكانتهم . وعكسه هو اعفاء البعض من الالتزمات التي يخضع لها بقية الناس ، او منحهم ميزات اضافية تفوق ما يستحقونه في الحالات الاعتيادية ، على وجه يؤدي الى حرمان الاخرين او انتقاص حقوقهم. ومن تجليات العدالة وعمومية القانون نشير خصوصا الى تساوي الفرص في الحصول على المناصب العامة والموارد المالية المتاحة لعامة الناس، وحرية الوصول الى مصادر المعلومات التي تؤثر سلبا او ايجابا في تحسين فرص المنافسة العادلة .

وكانت المدرسة الليبرالية تدعو في الاصل الى دور حيادي تماما للدولة ، بمعنى ان لا تمنع احدا من شيء ولا تعطي احدا شيئا . لكنها في المقابل تحرم الدولة من القيام باي عمل ذي طبيعة تجارية او تحقيق الارباح . بل ان احد كبار المنظرين شبه دور الدولة بالحارس الليلي ، الذي مهمته الوحيدة هو ردع العدوان وتامين الامن للجميع . لكن الرؤية الاكثر انتشارا في عالم اليوم تميل الى خط وسط بين هذه النظرية وبين نظرية دولة المنفعة العامة التي تلتزم بضمان حد متوسط من المعيشة الكريمة لجميع المواطنين . ويشمل هذا تأمين التعليم والصحة الاولية والاستثمار في الخدمات التي لا يمكن لعامة الناس ان يقوموا بها ، مثل الكهرباء والمواصلات الخ.
والمبرر الرئيس لهذه الرؤية هو ان شريحة كبيرة من المجتمع لن تستطيع الاستفادة من النظام القانوني والاداري بسبب الفقر الشديد الذي يحول دون حصول ابنائها على قسط من التعليم يؤهلهم للمنافسة ، او بسبب بعد مناطق سكناهم عن المناطق الجاذبة للاستثمار الخاص ، الامر الذي يجعلهم – بشكل طبيعي – خارج دائرة التنافس العادل على الموارد المتاحة للجميع. بعبارة اخرى فان هذه النظرية تدعو الدولة الى : أ) توفير البنية القانونية التي تضمن للجميع فرصا متساوية . ب) توفير المنظومات الادارية التي تسهل الاستفادة من تلك الفرص . ج) مساعدة المواطنين ، ولا سيما الشرائح الضعيفة بينهم ، على تخطي العوائق التي تمنعهم من استثمار الموارد المتاحة بصورة متساوية مع الآخرين.

وقد اطلق على العنصر الاخير مسمى "التمييز الايجابي" ، فهو ينطوي على محاباة لشريحة محددة ، لكن تلك المحاباة مقبولة لانها تستهدف بصورة محددة تمكين ضعفاء المجتمع من تجاوز اسباب ضعفهم وبلوغ مستوى من الكفاءة الذاتية يؤهلهم للاستفادة المتساوية من موارد البلاد المتاحة للجميع.

بصورة ملخصة يمكن القول ان فكرة العدالة الاجتماعية تتمحور حول توفير الفرص المتساوية للجميع ، ثم ضمان المنافسة العادلة بينهم على الارتقاء . وبالعكس من ذلك فان الظلم يكمن في حرمان الناس من الفرص او التمييز بينهم او محاباة البعض على حساب البعض الاخر او اغفال الشرائح العاجزة وتركها تحت مطحنة المنافسة بين الاقوياء. 


مقالات ذات علاقة 


من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي


21/06/2011

التيار الديني الاصلاحي امام خيار حاسم


؛؛ منذ 1991 ادى الجدل الداخلي الى تلاشي حالة الميوعة والتعميم ، ووجد الاسلاميون انفسهم امام اسئلة لا يمكن تركها دون حسم ؛؛


وصول باراك اوباما الى البيت الابيض كان له وقع استثنائي بين السلفيين السعوديين. هذا لا ينبع من اهتمامهم بالسياسة الامريكية ، بل لانهم فهموه كتحد جدي لمسلمات ايديولوجية حول الديمقراطية والحكم الصالح . يهمنا النظر في موقف التيار السلفي السعودي لانه يشكل ما يقترب من "مرجعية دينية وسياسية" لكثير من التيارات السلفية في العالم العربي. الجدل بين السلفيين السعوديين سوف ينتقل بالضرورة الى اشقائهم العرب ، وانعكاسات الجدل سوف تظهر هنا وهناك.


قبل بضع سنوات قسم د. سعد الفقيه المدرسة السلفية السعودية الى خمس شرائح لكل منها موقف خاص من الديمقراطية . هناك بطبيعة الحال الكثير من التناظر والتماثل في التفاصيل ، الامر الذي يسمح باختصار عدد الاطياف تتشكل منها المدرسة السلفية الى ثلاثة رئيسية :

** الطيف المتحجر ، والمتشدد ، والمتغير. يتمثل الاول في الحماة التقليديين للتراث الفقهي الاخباري . واغلبهم رجال دين كبار في السن يعملون في المؤسسات الدينية الرسمية او على حاشيتها . اعتاد هؤلاء معالجة الامور من زاوية فقهية بحتة . لا تشغلهم السياسة قدرما يقلقهم تبدل سلوكيات الجيل الجديد وشيوع الاختلاط وسماع الموسيقى الخ .
** يتالف الطيف المتشدد من رجال دين متوسطي العمر تأثروا بصورة متوازية بالطيف الاول وبرجال دين غير سعوديين . وهو طيف مسيس ومهتم بالنفوذ الشعبي. هويته الايديولوجية تشكلت من خلال الصدام مع الاعداء وليس من خلال البناء الذاتي للمتبنيات. وهو يتبنى ايديولوجيا متشددة تميل بشدة نحو السجال والتبرير. ولهذا فان خطابه لا يعرض مشروعا اجتماعيا او سياسيا بقدر ما يركز على نقض المشروعات او الخطابات الموازية . بين ابرز من يمثلون هذا الطيف نذكر الشيخين سفر الحوالي وناصر العمر.

** يمتاز الطيف الثالث (المتغير) بانفتاحه على شريحة من الاكاديميين من الطبقة الوسطى . وقد طور خطابا يقترب من خطاب التنظيمات الاسلامية التي انبثقت من تيار الاخوان المسلمين. يعبر هذا الطيف عن تطلعات سياسية واضحة واهتمام خاص بكسب الجيل الجديد من السعوديين . كما اظهر استعدادا غير اعتيادي للحوار مع الاطياف السياسية والدينية التي يتشكل منها المجتمع السعودي. ومن وجوههخ البارزة نذكر الشيوخ سلمان العودة ، عايض القرني ، عبد الوهاب الطريري ، محمد دحيم ، وعبد العزيز القاسم . فضلا عن مفكرين مدنيين مثل د. محمد الاحمري ود. مسفر القحطاني

من البديهي ان يبدأ الجدل حول الانتخابات الامريكية وفوز "المرشح الاسود ذي الجذور الاسلامية" وسط هذا الطيف ، لان تكوينه الطبقي والثقافي يجعله اكثر استيعابا للمتغيرات ومعانيها الثقافية وانعكاساتها على الجمهور .
بدأ الجدل مبكرا لكنه وصل الذروة بعد فوز اوباما بالرئاسة. في البداية كان الجميع متفقا على ان فوز اوباما مستحيل . قال المتشددون ان العملية الديمقراطية مجرد لعبة لالهاء الجمهور ، وان الرئيس القادم رجل ابيض سبق ترويضه من جانب اللوبي اليهودي وكبار رجال الاعمال. وجود منافسين ضرورة كي تبدو اللعبة حقيقية. مبرر هذا الاعتقاد هو ان النظام الديمقراطي والامريكي خصوصا فاسد ، وثني ، وخاضع لسيطرة الراسماليين الاوغاد.

اما الطيف المتغير فركز على دلالات وصول "المرشح الاسود ذي الجذور الاسلامية" الى التصفيات النهائية. وقارن بين الفرص الممكنة في نظام ديمقراطي وتلك المتوفرة في الانظمة التقليدية العربية . يقول الشيخ سلمان العودة "لو كان اوباما في بلد عربي لوجدته في احد مراكز الترحيل" في اشارة الى المعاملة المهينة التي يتلقاها العاملون الاجانب في الخليج.  بعد فوز اوباما كتب د. الاحمري اراء وقعت كالصاعقة في الوسط السلفي : " المثال الأعلى للحكم هو الحكم الديمقراطي وأن ما عداه من أنظمة لا تستحق أن تذكر في الأخبار أي أخبار إلا أخبار المقهورين، أو المغلوبين على أمرهم، من أهل الهوامش الفاشلة أو المتخلفة".  وينظر الاحمري الى الديمقراطية كطريق للخلاص الديني : "ابن مسلم أسود يحكم أمريكا، إنها الأمم العملية التي تجردت من الوثنيات المتخلفة ... [والوثنية] من علامات الفشل المقيم في قلوب وعقول بعض المسلمين، الذي أسلمت كلماتهم ، ولكن الوثنية تحتل قلوبهم ، والعالم الإسلامي تضعه هذه الوثنية خلف الأمم ، وتمسك به جاهلا تابعا خائفا ، وتدمر روحه ". وقال الشيخ عايض ان فوز اوباما تجسيد لقيم الاسلام التي تحض على اولوية الكفاءة ، وهي قيم تركها المسلمون.

رد الطيف المتشدد بخشونة على هذه الطروحات ، فندد الشيخ ناصر العمر بالانزلاق الى تمجيد النظام الامريكي ، وقال ان الذين تحدثوا في الموضوع مصابون "بحالة من الهوس" هو انعكاس لما يعانونه من كبت سياسي ناتج عما وصفه بـ "الديكتاتورية الادارية" في العالم العربي. وعاب عليهم عدم فهمهم للنظام الامريكي : " قد تكون هناك [في امريكا] حرية نسبية ، لكن في النهاية هي حكم ديكتاتوري" واعتبر كلام بعض الكتاب عن الديمقراطية في الصحف السعودية نوعا من "الديكتاتورية الفكرية".

الطيف المتغير ينظر بجد في التجارب المتكررة التي تكشف فضائل الديمقراطية . تجربة حزب التنمية والعدالة التركي كانت جرسا كشف للكثيرين عن الامكانات الهائلة للديمقراطية. لكن انتصار اوباما سوف يثبت قدرتها على ابتكار المعاجز. 
تجربة الانتخابات الامريكية حركت فعلا السكون الثقافي والعقيدي وطرحت تحديا جديا على حراس النسق المهيمن , ومن المؤكد اننا سنسمع عن تحولات ايجابية في المستقبل القريب. التحول في المدرسة السلفية السعودية مهم جدا لانها التيار الوحيد الذي قاوم – حتى الان – اي تغيير جوهري في ايديولوجيا تجاوزها الزمن.

مقالات  ذات علاقة
-------------------


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...