14/02/2011

الفقر والإحباط والغضب

 مقتل الشاب خالد سعيد على يد ضباط الشرطة كان الشرارة التي أطلقت الغضب في مصر، مثلما أطلق مقتل الشاب محمد بوعزيزي شرارة التغيير في تونس. تلك الحادثة كانت صدمة لعشرات من الشباب الذين أنشأوا صفحة على الفيس بوك تحت اسم «كلنا خالد سعيد»، كما نشروا العديد من الأفلام القصيرة عن مقتله وتشييعه وردود الفعل على هذه الحادثة. شاهد الفيلم الرئيسي على اليوتيوب أكثر من مئتي ألف، وانضم إلى مناصري الحملة على الفيس بوك نحو خمسين ألفا.

كان الاحتجاج على الفقر وضيق العيش أبرز المبررات المطروحة لتظاهرات مصر وتونس وبقية البلدان العربية التي شهدت أحداثا مماثلة خلال الأسابيع الماضية.

لكنا نعلم أيضا أن معظم الذين شاركوا في هذه الأحداث لم يكونوا أفقر أهل البلاد. في مصر على الأقل، تركزت الاحتجاجات في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية والمحلة وبور سعيد والسويس. ولم نسمع كثيرا عن تظاهرات ذات شأن في الريف المصري. ومعظم أهل تلك المدن من الطبقة الوسطى. نعلم أيضا أن الشباب هم الذين حملوا راية الاحتجاجات وبادروا بها، وأنهم تواصلوا مع بعضهم من خلال الإنترنت. بطبيعة الحال فإن امتلاك جهاز كمبيوتر والدخول على الإنترنت هو من سمات الحياة المدنية وخصوصا طبقتها الوسطى. زبدة القول إن الأكثر فقرا لم يبادروا بالتظاهر، والذين قادوا المسيرة، بل والكثير ممن شارك فيها لاحقا، كان غنيا أو متوسط الحال.

بعض الناس يرى في الأمر نوعا من التناقض، وبعضهم يتجاوز المسألة للتأكيد على حاجة العالم العربي للتعجيل في معالجة الفقر والبطالة ومشكلات المعيشة الأخرى، وهو يرى في ذلك وقاية لازمة من احتمالات الانهيار السياسي الذي نرى اليوم بعض تجلياته. لكن هذا ليس حلا في نظري.

يكشف تاريخ الحركات الشعبية في العديد من دول العالم أن الطبقة الوسطى كانت على الدوام بؤرة التوتر وصانعة التغيير. تتسم الطبقة الوسطى بالقلق وعدم الاستقرار، ليس لأسباب اقتصادية دائما، بل لأسباب سياسية وثقافية في معظم الأحيان. الطبقة الوسطى هي الظرف الاجتماعي الذي تجري في وسطه التحولات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما تدهور القيم والأعراف والتقاليد القديمة.

 يتحدث أهل الطبقة الوسطى عن الفقر في إطار المقارنة بالأكثر ثراء وليس بالأكثر فقرا، ويتحدثون عن البطالة وهم ينظرون إلى مستوى الوظيفة وعائدها، وليس مجرد لقمة العيش. الطبقة الوسطى هي مكان التطلع والطموح والبحث عن الذات، ولهذه الأسباب فهي أيضا موقع الصدمات والإحباطات. على الجانب الثاني فإن الطبقة الوسطى تملك وسائل فهم الذات والتعبير عنها، وتملك أدوات التواصل الجمعي التي تحول الهموم الشخصية إلى قضايا عامة..

لهذه الأسباب، يقول الباحثون في التنمية إن حل المشكلات الاقتصادية قد يؤجل انفجار الغضب أو ربما ينقل نقاط تركيزه، لكنه لا ينهي التوتر ولا يطفئ مصادره. أحد الحلول التي جربت في أكثر من بلد هو فتح الأبواب للتعبير الحر عن الرأي الفردي والجمعي، وتمكين الناس من البحث عن حلولهم الخاصة لمشكلاتهم. الحوار العلني والصريح بين الجمهور ولا سيما الجيل الجديد وبين رجال الدولة هو بالتأكيد وسيلة لفتح الأبواب وتجديد الأمل في نفوس الناس، وهو قد يكشف بعض مسارات الحل. يجب أن يشارك الناس في صناعة الحلول كي ترضى أنفسهم. فرض الحلول ــ حتى الجيدة منها ــ قد يشعر الناس بالمزيد من الاغتراب والإحباط.

« صحيفة عكاظ » - 14 / 2 / 2011م    https://www.okaz.com.sa/article/637605

مقالات ذات علاقة

17/01/2011

وقت للأسى: نهاية السودان كما عرفناه

قد يشهد هذا الأسبوع نهاية السودان بحدوده التي عرفناها منذ درسنا الجغرافيا. أتذكر اليوم خطابا حماسيا للزعيم السوداني استشهد فيه بالآية المباركة «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض» وقد طبقها على المجموعة العسكرية التي كانت قد استلمت السلطة للتو. وقد كنت ــ في العموم ــ كنت متعاطفا مع هذا البلد وأهله، وتعزز هذا التعاطف بعدما التقيت العديد من شخوصه البارزين. لحظة الصدمة جاءت حين رويت لأحد زملائي بعض ما دار في لقاء جمعني بالدكتور حسن الترابي الذي أخبرنا يومها أنه كان وراء انقلاب 1989. رفض الزميل تفاؤلي وقال إن هذا الانقلاب سيقود السودان إلى التفكك. منذ ذلك الوقت وأنا أشعر بالحيرة إزاء تطور الأحداث في هذا البلد. وحصل أن جادلت السيد الصادق المهدي، وهو سياسي محنك، في مواقفه المعارضة للنظام القائم، فأجابني مع ابتسامة عريضة أن الأمور تسير ــ على المدى البعيد ــ في اتجاه معاكس لما أقوله. أفهم الآن أن هذا الرأي ورأي الزميل السابق كان هو الصواب. لا يمكن لك أن تصلح شخصا إذا وضعت المسدس في فمه، ولا يمكن لك أن تجبر مجتمعا على تصديق ما تقول إذا كان يرى عكس كلامك في الشارع وفي تفاصيل الحياة المختلفة.
خلال العقدين الماضيين، أنعم الله على السودان بالنفط الذي تدفق معظمه في أراضي الجنوب، لكن الجنوب بمجمله بقي فقيرا، وبقيت الأكثرية الساحقة من سكانه خارج دائرة التنمية. خلال الأيام المنصرمة استمعت لجنوبيين من أديان مختلفة، وبينهم مسلمون، يدعون للانفصال، لأنهم ببساطة يرون أن الهوية الوطنية السودانية لم تستطع منحهم المساواة التي هي حقهم. منذ استقلال السودان كان الحكم حكرا على الشماليين. بعد اتفاقية السلام في 2005 بدا أن الوضع يميل إلى التغيير، فقد دخل الحكومة عدد كبير من الجنوبيين. لكن هذه التطورات بدت أشبه بترتيبات مؤقتة. بقيت العلاقة بين الطرفين مشحونة بالريبة والخوف، وحاول كل منهما كبح نفوذ الآخر قدر ما استطاع. لا يمكن لسلوك كهذا أن يبني إجماعا وطنيا ولا أن يؤسس لدولة قوية. بل سيؤدي بالضرورة إلى نوع من تقسيم السلطة يؤدي إلى إضعافها.
يقول السودانيون اليوم إن الحكومة لم تبذل ما يكفي لجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين؛ أي أنها ــ بعبارة أخرى ــ أغفلت ما هو ضروري لإقناع الجنوبيين بالوحدة مع الشمال، وأهمه في رأيي هو العدالة الاجتماعية. العدالة الاجتماعية تدور حول محورين: تنمية متوازنة وشراكة في القرار. ويبدو أن هذا وذاك لم يكن موضع اهتمام كبير.
على أي حال سيكون هذا الأسبوع موسما للحزن في السودان الشقيق، والحق أن الحزن هو أقل ما يمكن فعله إزاء الخسارة الفادحة التي أصابته، لكننا نتحدث اليوم عن موضوع أصبح تاريخا، ومن الخير للسودان أن يستوعب الدرس كي لا يتحول الإنقسام إلى هدف للأقاليم الأخرى التي كانت ولا تزال تعاني مثل ما عانى الجنوب.
عكاظ 17 يناير 2011


الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...