17/01/2011

وقت للأسى: نهاية السودان كما عرفناه

قد يشهد هذا الأسبوع نهاية السودان بحدوده التي عرفناها منذ درسنا الجغرافيا. أتذكر اليوم خطابا حماسيا للزعيم السوداني استشهد فيه بالآية المباركة «ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض» وقد طبقها على المجموعة العسكرية التي كانت قد استلمت السلطة للتو. وقد كنت ــ في العموم ــ كنت متعاطفا مع هذا البلد وأهله، وتعزز هذا التعاطف بعدما التقيت العديد من شخوصه البارزين. لحظة الصدمة جاءت حين رويت لأحد زملائي بعض ما دار في لقاء جمعني بالدكتور حسن الترابي الذي أخبرنا يومها أنه كان وراء انقلاب 1989. رفض الزميل تفاؤلي وقال إن هذا الانقلاب سيقود السودان إلى التفكك. منذ ذلك الوقت وأنا أشعر بالحيرة إزاء تطور الأحداث في هذا البلد. وحصل أن جادلت السيد الصادق المهدي، وهو سياسي محنك، في مواقفه المعارضة للنظام القائم، فأجابني مع ابتسامة عريضة أن الأمور تسير ــ على المدى البعيد ــ في اتجاه معاكس لما أقوله. أفهم الآن أن هذا الرأي ورأي الزميل السابق كان هو الصواب. لا يمكن لك أن تصلح شخصا إذا وضعت المسدس في فمه، ولا يمكن لك أن تجبر مجتمعا على تصديق ما تقول إذا كان يرى عكس كلامك في الشارع وفي تفاصيل الحياة المختلفة.
خلال العقدين الماضيين، أنعم الله على السودان بالنفط الذي تدفق معظمه في أراضي الجنوب، لكن الجنوب بمجمله بقي فقيرا، وبقيت الأكثرية الساحقة من سكانه خارج دائرة التنمية. خلال الأيام المنصرمة استمعت لجنوبيين من أديان مختلفة، وبينهم مسلمون، يدعون للانفصال، لأنهم ببساطة يرون أن الهوية الوطنية السودانية لم تستطع منحهم المساواة التي هي حقهم. منذ استقلال السودان كان الحكم حكرا على الشماليين. بعد اتفاقية السلام في 2005 بدا أن الوضع يميل إلى التغيير، فقد دخل الحكومة عدد كبير من الجنوبيين. لكن هذه التطورات بدت أشبه بترتيبات مؤقتة. بقيت العلاقة بين الطرفين مشحونة بالريبة والخوف، وحاول كل منهما كبح نفوذ الآخر قدر ما استطاع. لا يمكن لسلوك كهذا أن يبني إجماعا وطنيا ولا أن يؤسس لدولة قوية. بل سيؤدي بالضرورة إلى نوع من تقسيم السلطة يؤدي إلى إضعافها.
يقول السودانيون اليوم إن الحكومة لم تبذل ما يكفي لجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين؛ أي أنها ــ بعبارة أخرى ــ أغفلت ما هو ضروري لإقناع الجنوبيين بالوحدة مع الشمال، وأهمه في رأيي هو العدالة الاجتماعية. العدالة الاجتماعية تدور حول محورين: تنمية متوازنة وشراكة في القرار. ويبدو أن هذا وذاك لم يكن موضع اهتمام كبير.
على أي حال سيكون هذا الأسبوع موسما للحزن في السودان الشقيق، والحق أن الحزن هو أقل ما يمكن فعله إزاء الخسارة الفادحة التي أصابته، لكننا نتحدث اليوم عن موضوع أصبح تاريخا، ومن الخير للسودان أن يستوعب الدرس كي لا يتحول الإنقسام إلى هدف للأقاليم الأخرى التي كانت ولا تزال تعاني مثل ما عانى الجنوب.
عكاظ 17 يناير 2011


30/12/2010

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا

الصحافة السعودية مشغولة هذا الاسبوع بتداعيات هجوم المفكر السعودي عبد الله الغذامي على الليبرالية والليبراليين. احاديث الغذامي هذه جاءت في سياق محاضرة عامة ثم مقابلة تلفزيونية. يرجع الاهتمام الاعلامي بهذا الموضوع الى حقيقة ان المسألة ليس مجرد جدل في الثقافة. تشهد المملكة هذه الايام صراعا شديدا بين جبهتين: تجمع الاولى شرائح وافرادا ينتمون الى التيار الديني التقليدي ، وتجمع الثانية نظراء لهم يدعون الى الاصلاح والانفتاح ، وتضم في اطارها تيارات دينية اصلاحية وليبراليين وبيروقراطيين ونشطاء سياسيين. يتهم الطرف الاول منافسه بالليبرالية وتمييع الدين والعلمانية ، بينما يتهم هؤلاء اولئك بالتعصب والانغلاق وتعطيل الاصلاح السياسي والاجتماعي.
حديث الغذامي الشديد ضد الليبرالية وانصارها تحول الى جزء من هذا الصراع الطويل والمتشعب. الغذامي كان مصنفا في الاصل ضمن التيار الحداثي وقد حاربه التقليديون في سنوات سابقة وصدرت فتاوى بتكفيره واستحلال دمه. ولهذا اعتبر هجومه الحالي على الليبراليين مكسبا سياسيا هاما احتفى به التقليديون ايما احتفاء . بينما – في المقابل – واجهه انصار الغذامي السابقون ودعاة الاصلاح بشكل عام ، بالاستنكار والرفض.

يقول الغذامي ان الليبرالية السعودية وهم ، وانه لا يوجد في هذه البلاد اتجاه ليبرالي حقيقي ولا ليبراليون مخلصون لمبادئهم. واظن ان الفكرة قد راقت لبعض الناس ، اما لانهم يضعون الليبرالية الاوربية كمعيار للمقارنة ، او لانهم ينظرون اليها كايديولوجيا منجزة ، او لانهم – ببساطة – يميلون الى جلد الذات بدلا من فهمها وتفسيرها.
اغفل حديث الغذامي محطات منهجية هامة ، مثل التمييز بين الاطار الاجتماعي/السياسي للافكار وبين حقيقتها الفلسفية او النموذجية. وقفز على شروط المرحلة الاجتماعية/الثقافية التي تحكم الموضوع محل النقاش. وفي وقت سابق جادله احدهم في هذا فرد بانه ينظرالى المسالة كناقد ومفكر يهتم بحقيقة الاشياء لا بظرفها.
خلافا لما يبدو من النظرة الاولى ، اظن ان هجوم الغذامي سيكون له مردود ايجابي. كثير من الناشطين في المجال السياسي والثقافي ، وبعضهم ينتمي الى تيارات دينية ، ينظرون الى الليبرالية كتفسير مناسب او اطار لطروحات بديلة عن تلك التي ورثناها من الاسلاف وسادت في المجتمع السعودي باعتبارها فهما وحيدا للدين وتعبيرا مفردا عن الفضيلة. يعتقد الاصلاحيون ان حقيقة الدين لا تتجلى في غياب الحرية والتعددية ، وان الفضيلة لا يمكن ان تنمو في ظرف المجتمع الشبيه بالمعسكر. تتجلى فضائل الانسان الحقيقية حين يطورها بنفسه ويختارها بين بدائل عديدة. وهذا مستحيل التحقيق في غياب الحرية وصراع الافكار وتوفر الفرص والبدائل.
الخلافات الدائرة حول الحرية وتطبيقاتها لا تنفي قيمة الحرية وضرورتها . انها – في الجوهر – شكوك في اولوية الحرية على غيرها من الخيرات الاجتماعية.  كان الماركسيون يضعونها في مرتبة متاخرة عن العدالة الاجتماعية. ويقولون بان الحرية لا معنى لها اذا كنت جائعا او فقيرا معدما. واعتبر القوميون العرب الوحدة وتحرير الارض مقدمة على الحرية الفردية. وفي وقتنا الحاضر يرتاب الاسلاميون التقليديون في عواقب الحرية ، لا سيما انفلات الزمام وتدهور المعايير والاعراف التي يرونها ضرورية لصيانة اخلاقيات المجتمع والتزاماته الدينية.
رغم قناعة الجميع بالحرية ، ورغم قناعتهم ايضا بان النموذج الليبرالي يوفر منصة مناسبة للتعبير عن تطلعاتهم السياسية والاجتماعية ، الا ان معظم هؤلاء يتردد في الاقرار بانه ليبرالي او الدعوة صراحة التي تبني الليبرالية كمنصة او اطار نظري وتفسيري لدعوة الاصلاح. سبب هذا التردد يكمن في الصورة المشوهة عن الليبرالية التي عممها التقليديون .

اقول ان هجوم الغذامي سيكون ذا مردود ايجابي ، لانه سيعجل في اخراج دعاة الاصلاح من دائرة التردد. وسنجد في الايام القادمة من يقول صراحة انه ليبرالي وان الليبرالية تمثل اطارا مناسبا لمباديء الاصلاح السياسي والاجتماعي الذي ندعو اليه. نحن ندعو الى الليبرالية ، ليس فقط لانها تتوافق - في الجوهر - مع القيم الدينية ، بل لانها ايضا تخلق الظرف الضروري لتحويل القيم الاسلامية الرفيعة من كلام نظري في الدين الى تفسير للحياة ودافع للتقدم.
شبكة مصدر 30 ديسمبر 2010

مقالات ذات علاقة 


الطريق الليبرالي http://talsaif.blogspot.com/2009/06/blog-post.html

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_28.html

الليبرالية ليست خيارا http://talsaif.blogspot.com/2004/03/blog-post_27.html

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون  http://talsaif.blogspot.com/2007/10/blog-post.html

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...