01/08/2010

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم


   تتشكل هوية الأفراد، طبقا لاريك اريكسون الذي يعتبر مرجعا في هذا الحقل، خلال كفاح طويل هدفه تركيب عنصرين:
 أ) الكفاءة الفردية التي يتحدد معناها وتطبيقاتها على ضوء العرف السائد في المحيط الاجتماعي.

ب) حاجة الفرد للاندماج في عالم ذي معنى، أي محيط تعارف مناسب يقدر وجود الفرد وقيمته ودوره. يصوغ الفرد شخصيته وطريقة عيشه على نحو يجعله مألوفا ومقبولا في محيطه الاجتماعي. حين يولد الفرد وسط جماعة محددة، فإن موقفها العام وموقف الآخرين منها يصبح جزءا من هويته، حيث تعمق الصراعات ميل الفرد للاندماج في جماعته الخاصة، كوسيلة لتوفير الأمان الروحي والثقافي.
اريك اريكسون
 طبقا لأمين معلوف فإننا «غالبا ما نتعرف إلى أنفسنا في الانتماء الأكثر عرضة للتهجم».. الأصل الإفريقي يمثل رابطة بين السود في الولايات المتحدة، والانتماء إلى الإسلام يمثل رابطة تجمع بين الألبان في صربيا. العامل المحوري في تشكيل الهوية الفرعية، سواء كان دينا أو مذهبا أو لغة أو عرقا أو لونا، يمثل رمز التعريف للجماعة وجوهر الرابطة التي تجمع أفرادها.
يبرز تمايز الجماعة عن غيرها عندما يشار إلى الرابطة الجمعية أو العامل المشترك بين أفرادها «مثل المذهب أو الجنس أو الانتماء الأثني» كمبرر لموقف مضاد. وتتحول تلك الرابطة إلى عامل تصليب وتوحيد حين تتعرض الجماعة للقمع أو الإذلال أو التهديد. ويرى اريكسون أن الامتهان يولد ميلا شديدا عند الأفراد لصياغة هوية جمعية جوهرها الشعور بالتمايز، وربما العداوة مع الطرف الذي يمارس الامتهان.
ينطلق الامتهان من دوافع سياسية، حتى لو حمل مبررات أخرى، ويستهدف غالبا تبرير الهيمنة. وهو يبدأ بما يصفه اريكسون بالتصنيف الزائف الذي يغفل الكفاءة والفروق الفردية، ويعطي لجميع المنتمين إلى شريحة محددة وصفا واحدا، قد يكون بذاته محايدا، لكنه ينطوي على تنميط سلبي في أذهان الآخرين مثل القول بأن «المرأة عورة» أو «السود متخلفون»، وهو تنميط يؤدي بالضرورة إلى تسويغ العدوان على تلك الشريحة أو انتقاص حقوقها:
حين نقرر انتقاص ذلك الآخر، أي الفرد الذي يقع في رأينا في الموضع الخطأ أو الصنف الخطأ أو اللباس  ، فإننا نهون قدره، ونخرجه من دائرة التعامل الأخلاقي، فنتساهل في عيبه وذمه، ويصبح من ثم هدفا محتملا لنوازع العداون في نفوسنا، ولا نتردد في خرق إنسانيته، بل حتى حياته نفسها..
رد فعل الجماعة التي تتعرض للامتهان سوف يتراوح بين الميل للاستسلام والتخلي عن ذلك العامل الذي يميزها عن الآخرين، وصولا إلى الذوبان في الجماعة الأكبر، وبين تحويله إلى رمز للمقاومة، بالإصرار عليه وأحيانا المبالغة في تضخيم قيمته، حتى يتحول إلى محور رئيس للحياة اليومية أو مضمون لشريحة واسعة من النشاطات الحيوية للجماعة.
فهم هوية الآخر المختلف واحترامها هو المفتاح لعلاقة طبيعية تحكمها المثل الأخلاقية ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات. جميع الذين نتعرف عليهم أو نتصل بهم في حياتنا اليومية مختلفون عنا بشكل أو بآخر. ويميل الإنسان بشكل طبيعي إلى تحديد نمط علاقة بينه وبين هؤلاء الناس، تبدأ عادة بتصنيف ذلك الفرد، أي تحديد هويته وتحديد الخطوط التي تصله به أو المسافة التي تفصله عنه. وفي هذه النقطة بالذات تبرز الحاجة إلى تصنيف الفرد ضمن الطيف الاجتماعي الذي ينتمي إليه، سواء كان قبيلة أو دينا أو منطقة أو بلدا أو تيارا اجتماعيا أو ثقافيا أو اتجاها مذهبيا أو ايديولوجيا.
التصنيف الصحيح والمنصف هو الذي ينظر إلى الفرد بذاته، أي صفاته الشخصية وكفاءته ودوره الفعلي. والتصنيف الخطأ أو الظالم هو الذي ينتهي إلى تحديد موقف من الفرد طبقا لنظرة «نمطية» للإطار الاجتماعي الذي ينتمي إليه. ينطلق التصنيف السلبي من صورة ذهنية نمطية نحملها عن الآخرين كمجموعات لا كأفراد. هذا التصوير النمطي هو الذي يجعل مواقفنا منحازة ومتشددة، وهو الذي يجعلنا عاجزين عن فهم العالم كما هو.
- « صحيفة عكاظ » الأحد / 20 / شعبان / 1431 هـ  1 أغسطس 2010 
https://www.okaz.com.sa/article/346600

12/07/2010

التيار الديني ليس عصيا على التغيير

؛؛ جيل ما بعد الصحوة اقل اهتماما بالسلوكيات التقليدية والهموم الجهادية. لا نتوقع انقلابا في التيار الديني على المدى القصير ، لكن التعارضات في داخله تتفاقم ، وبعضها يعبر عن نفسه بلغة شبه ليبرالية ؛؛

         زميلنا الاستاذ سعيد الحمد يرى ان التيار الديني لا يستطيع اصلاح خطابه السياسي (الايام 29 يونيو 2010 http://www.alayam.com/Articles.aspx?aid=28016) وان نهاية دعوات الاصلاح لن تكون اكثر من العودة الى "بيت الطاعة" لانه ليس في الامكان ابدع مما كان. راي الاستاذ الحمد ينبيء عن شعور بالمرارة والاسى تجاه التعبيرات السياسية للتيار الديني ، وهذا موقف يمكن تفهمه واحترامه. لكن لا يمكن اعتباره في اي حال تحليلا موضوعيا. التيار الديني مثل جميع الافكار والمواقف التي يصنعها البشر تتغير وتتحول ، لان التغيير طبع في الانسان يستحيل تلافيه.

         عدا الكلام عن الامكانية المنطقية ، فثمة ادلة واضحة ميدانية واقعية تشير الى تحولات في جسم التيار الديني نفسه ، في نوعية المشاركين فيه ، وفي افكارهم ، وفي اهتماماتهم ، وفي المبررات النظرية التي يطرحونها كاساس لمواقفهم الجديدة . هذه وتلك تشير الى تغير مقصود احيانا وعفوي في معظم الاحيان. نعرف من البحوث الاجتماعية ان مواقف الانسان ليست انعكاسا لتقريرات ايديولوجية فقط ، حتى وان حاول تصويرها على هذا النحو. ثمة عوامل كثيرة تتدخل في تشكيل تلك المواقف ويؤدي تكرارها الى بروز "ذهنية جديدة".

         لفت نظري هذا الاسبوع دراسة بعنوان "جيل ما بعد الصحوة" للاستاذ ماجد البلوشي. ويعرف الكاتب نفسه كمنتم الى التيار السلفي او الصحوي كما يسميه. وهي منشورة في موقع لجينيات الذي يعبر عن تيار سلفي/سياسي متشدد. تستهدف الدراسة لفت نظر زعماء التيار الى الحقائق الاجتماعية الجديدة التي تستوجب تغييرا جذريا في خطابهم العام. راينا دراسات مماثلة نشرها اسلاميون اصلاحيون خلال السنوات القليلة الماضية ، لكن هذه الدراسة تحظى باهمية اضافية لانها تصدر من داخل البيت السلفي التقليدي ، وتعبر الى حد ما عن روحية جديدة وغير مألوفة. يركز الكاتب على عنصرين محوريين:

 الاول : ان التيار السلفي لم يعد لاعبا وحيدا على الساحة المحلية ولا متفردا بقيادة المشهد الثقافي، فقد برز اليسار الاسلامي والليبرالي كقوة مؤثرة في الساحة الدينية، كما برز توجه شيعي يحمل خطابا فكريا وحقوقيا عميقا، ويتمتع بتجربة حركية ونضج سياسي، ويقدم وعيا جديدا مبنيا على خطاب تصالحي.

الثاني : نتيجة للعامل الاول ، اضافة الى تطور وسائل الاتصال والانفتاح الاعلامي ، فقد برز جيل جديد يصفه بجيل "ما بعد الصحوة" وهو جيل مختلف تماما عن الجيل السابق في تعاطيه مع الفكرة الدينية وفي علاقته برموزها. ويشير خصوصا الى نزعة فردانية متفاقمة بين الشباب، سببها تنامي قدرتهم على الوصول المباشر الى المعلومات، والتعبير عن الذات من خلال وسائل الاتصال الحديثة، الامر الذي اغناهم عن العلاقة الشخصية مع رجال الدين او العودة الى ارائهم. تطور معرفة الشباب بامور الدين واطلاعهم على الاراء المختلفة اعطاهم ثقة بالنفس وجرأة على مجادلة اراء العلماء التي كانت – قبل ذلك – تتمتع بنوع من القداسة والعصمة عن النقد، فضلا عن شيوع الرجوع الى مصادر غير دينية في مجادلة اراء العلماء.

        كما يلاحظ الكاتب ان الجيل الجديد متجه الى الدراسات العلمية والتقنية الجديدة، خلافا للجيل السابق الذي ركز على الدراسات الشرعية. و يرجع هذا التغير الى هيمنة الاقتصاديات الجديدة وظهور فرص اكبر للاثراء والرفاهية في المجتمع السعودي. جيل ما بعد الصحوة لا يظهر كبير اهتمام بالسلوكيات التقليدية ولا بالهموم الجهادية والدعوية التي كانت شاغلا للجيل السابق.

       يعتقد الكاتب ان هذه التحولات هي نتيجة لانتشار ثقافة دينية اصلاحية يحمل لواءها مفكرون تخلوا عن السلفية التقليدية، واتخذوا منهجا قريبا من الليبرالية. وهو يصفهم باليسار الاسلامي. هؤلاء المفكرون يملكون معرفة دينية عميقة ويجيدون استعمال ادوات الخطاب المؤثرة في الوسط الديني.  وقد ساعدهم على ذلك هامش حرية التعبير النسبي الذي وفرته الصحافة المحلية، واسهم في ايصال رسالتهم الى شريحة واسعة من القراء،  كما مكنهم من ممارسة نقد غير مسبوق للخطاب التقليدي ومؤسساته ورموزه.

        تعبر هذه الدراسة عن سياق من النقاش يدور فعليا في وسط التيار الديني التقليدي والسلفي المتشدد ، فضلا عن التيار الديني المعتدل الذي يتطلع الى تقديم صورة جديدة عن نفسه. لا نتوقع ان نرى انقلابا في التيار الديني خلال وقت قصير ، لكن المؤكد انه ينطوي اليوم على توجهات عديدة ومتعارضة ، يعبر بعضها عن مواقفه بصورة لا تختلف كثيرا عن التعبيرات الليبرالية او شبه الليبرالية المحلية. هذه التوجهات تتمايز عن بعضها تدريجيا. ومن المقدر ان نرى في يوم قريب ظهور تيار ديني لا يختلف عن التيار الاصلاحي في ايران او حزب العدالة والتنمية في  تركيا ، تيارات اقرب الى التيار المحافظ في  اوربا ، يتبنى ابرز المباديء الليبرالية لكنه يحافظ على مكانة رفيعة للقيم الدينية والاخلاقيات واولوية العائلة في التنظيم الاجتماعي.

 

مقالات ذات علاقة

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

تحولات التيار الديني – 4 الخروج من عباءة الاموات

تحولات التيار الديني - 6 اسلام اليوم بين عالم افتراضي وعالم واقعي

تحولات التيار الديني -1 : تصدعات وقلق المؤامرة

تحولات التيار الديني-3 اعباء السياسة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

المضمون السياسي للجدل حول حقوق المرأة السعودية

من الحلم الى السياسة

النسوية والأقليات الثقافية

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

الوجه السياسي لسد الذرائع

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...