26/04/2010

كي تستمر المنتديات الأهلية رافدا للحياة الثقافية

تمثل المنتديات الثقافية الأهلية رافدا هاما للنشاط الثقافي في المملكة، ولعل أبرز ما يميزها هو :

 أ) كونها أهلية تطوعية.

 ب) انتظامها طوال العام، أسبوعية أو شهرية.

 ج) اعتمادها على الجدل والحوار الشفهي الحر كبديل عن المحاضرات التوجيهية.

ثمة أجهزة رسمية كثيرة تعمل في المجال الثقافي، بدءا من وزارة الثقافة والإعلام المشرفة على هذا القطاع مرورا بالهيئات الدعوية وانتهاء بوزارتي التربية، والتعليم العالي، فضلا عن العديد من المؤسسات الأخرى. لكن تبقى للنشاطات الأهلية ميزة التنوع في الطروحات والآراء وكونها نافذة لتوجهات لا تتسع لها قنوات الثقافة الرسمية.

 المرحوم عبد المقصود خوجة مؤسس منتدى الاثنينية بجدة

حسنا فعل وزير الإعلام بتكريمه المنتديات الثقافية في المملكة. وقد وفق في اختياره لثلاثة نماذج مضيئة، هي منتدى الدكتور راشد المبارك، الذي عرف بتنوعه وثرائه العلمي، ومنتدى الثلاثاء، الأشهر في المنطقة الشرقية والأكثر تعبيرا عن تنوعها وغناها الثقافي، ومنتدى الشيخ عبد المقصود خوجه الذي أضاف إلى الجدل الثقافي بدعا كثيرة طيبة مثل تكريم أهل الفكر وطباعة كتبهم وشكل لسنوات طويلة وجها مشرقا لبلدنا في داخلها وفي الخارج.

أعرف في محافظة القطيف وحدها خمسة عشر منتدى ثقافيا، ويوجد مثلها أو أقل أو أكثر في معظم محافظات المملكة، تشكل بمجموعها روافد غنية للحراك الثقافي وإنتاج الأفكار أو نقد الأفكار . لكن أغلبها غير منتظم. وهذا وإن كانت له مبررات قابلة للتفهم، إلا أنه في نهاية المطاف يقلل من أهمية الغاية، أي إغناء الحياة الثقافية في المجتمع. لن يكون لدينا حياة ثقافية نشطة ما لم تتحول الثقافة إلى عمل مستمر، منتظم، ومتزايد.

ثمة آلاف من الناس يرغبون في تطوير معارفهم، وثمة عشرات يشعرون بأن لديهم شيئا يستحق أن يقال، ونشعر جميعا بأن هناك العديد من الأفكار الجديدة التي تستحق أن تطرح للنقاش. هذه الحاجات لا تجد فرصتها إلا بوجود إطارات نشطة، فعالة، ومنتظمة، يرجع إليها كل صاحب فكرة وكل باحث عن فكرة.

في أواخر القرن التاسع عشر نشر الفيلسوف الإنكليزي جون ستيوارت ميل رسالة عنوانها «حول الحرية»، أصبحت فيما بعد مرجعا في الفلسفة السياسية. في هذه الرسالة الهامة ركز ستيوارت ميل على ما وصفه بـ «السوق الحر للأفكار»، وكان يعني ضرورة إلغاء القيود التي تعيق تدفق المعلومات أو تقيد حرية التعبير. رغم المعارضة الشديدة التي واجهت تلك الرسالة في وقتها، إلا أننا نعرف اليوم أن الرجل كان يرى المستقبل، فقد أكد على أن المجتمع الذي يطلق حرية الرأي والتعبير ويلغي القيود المفروضة على العقول، سوف يتقدم علميا واقتصاديا وسوف يزدهر ويكون أمة قوية وغالبة. وبالعكس فإن المجتمعات التي تقيد التعبير وتحدد نوع المعلومات المسموحة والممنوعة، سوف تبتلى بالهزال الفكري وسوف تبقى ضعيفة متخلفة، تعتمد على الأولى وتتبعها في كل شأن من شؤون حياتها.

بعد أكثر من قرن على آراء ستيوارت ميل، نشهد اليوم ما تحقق فعليا. فالذين اتبعوا نصيحته أصبحوا سادة العالم في كل فن، والذين سخروا منها أو جبنوا من عواقب تطبيقها أصبحوا أتباعا للفريق الأول، وشتان بين التابع والمتبوع في القيمة والمكانة.

إذا أردنا أن نتحول من مستهلكين لأفكار الآخرين وعلومهم إلى منتجين أو مشاركين في إنتاج العلم، فإن أول الطريق هو الإقرار بحرية التعبير والجدل لأنفسنا ولغيرنا. الإقرار بحرية التعبير هو الطريق إلى تحرير الفكر والعقل. لا يمكن للعقل أن يتحرر وينطلق ما لم يجد أمامه قنوات للتعبير عما ينتجه من أفكار.

نحن لا نحتاج إلى التوجيه والإرشاد والوعظ بقدر حاجتنا إلى النقاشات الحرة ومضاربة الأقوال والآراء. إحياء الثقافة لا ينتظر المواعظ والتوجيهات بل ينتظر الجدل الحر حتى لو بدا عسيرا في أول الأمر. لهذا السبب فإني آمل أن تحافظ المنتديات الأهلية على هذه الميزة الغالية وأن تتوسع فيها. فبها وبالاعتماد عليها تزدهر الثقافة ومن دونها تتحول إلى كلام مكرور، يقال بأشكال شتى وفي صيغ منمقة، مثل سجين يدور طوال يومه في زنزانة صغيرة، يقطع عشرات الأميال لكنه يبقى ملتصقا في النقطة التي انطلق منها.

https://www.okaz.com.sa/article/328863
مقالات ذات صلة

20/04/2010

حقوق الانسان : قراءة معاصرة لتراث قديم



؛؛ في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم؛؛




تعرف المجتمع العربي على مباديء حقوق الانسان منذ زمن طويل نسبيا. لكنها مع ذلك لا تزال موضوع جدل عريض بين الباحثين في المجال الاسلامي و السياسة العربية. ويدور معظم الجدل حول موقف الدين من تلك المباديء وما اذا كان ممكنا الرجوع الى التراث الاسلامي لاعادة انتاج المفاهيم المعاصرة على ارضيته او في اطاره. لا شك ان تراثنا القديم يتضمن بعض الاساسات المناسبة لبناء منظومة قيم ومباديء تضمن حقوق الانسان. لكن من المبالغة اعتبار تلك الاساسات منظومة كاملة او قابلة لحل اشكاليات الموضوع في صورته المعاصرة.
لاحظ المفكر المغربي عبد الله العروي ان قدامى الاسلاميين قد ناقشوا مسألة الحرية التي تمثل المبدأ الاول في منظومة حقوق الانسان من زاويتين : اولاهما ضمن اطار الجدل المعروف حول الجبر والاختيار، أي استقلال الفرد بارادته، وبالتالي فعله، او كون ارادة الفرد وفعله امتدادا مباشرا لارادة الخالق. 
اما الزاوية الثانية فدار النقاش فيها حول الدوافع الداخلية للفعل الفردي، ومدى قدرة الانسان على التحكم في نزعاته الانفعالية، وهو ما يعرف في الفلسفة بالعلاقة بين النفس العليا والنفس الدنيا. واهتم بالزاوية الاولى المتكلمون بينما اهتم بالثاني المتصوفون والفلاسفة ولا سيما في اطار نظرية الكمال الذاتي التي تحدث عنها ابن عربي وغيره.
في كلا الزاويتين عولج موضوع الحرية كشأن فردي. موضوع النقاش ضمن الزاوية الاولى، اي حصة الفرد من المسؤولية عن فعله، مثل موضوع الزاوية الثانية، اي قدرته على بلوغ الكمال من خلال قهر شهواته والتزام القيم العليا في افعاله، كلاهما يشير الى حرية الفرد في ذاته وضمن عالمه الخاص المنفصل عن الجماعة. اما موضوع الحرية وحقوق الانسان الذي يتحدث عنه العالم اليوم فهو يدور حول التزاحم بين ارادة الفرد وارادة الجماعة. يقصد بالحرية في المفهوم المعاصر "المساحة التي يتمتع الفرد فيها بحق التصرف من دون تدخل الاخرين، بل ومن دون الحاجة الى استئذانهم". حقوق الانسان تعني ان المجتمع والقانون يقر لكل فرد بتلك المساحة باعتبارها حقا يضمنه القانون ويمنع سلبه او خرقه او استنقاصه او العدوان عليه. 

ايا كان راينا في المفهوم التراثي للحرية وحقوق الانسان، فلسنا بحاجة الى مناقشته الان. لان جميع المسلمين المعاصرين، التقليديين منهم والحداثيين، يرون في ضمان حرية الانسان وحقوقه الاساسية مسلمات شرعية وعقلية، فوق كونها ضرورة لانتظام الحياة الاجتماعية وارتقاء المجتمع.
لكن الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقول المثل الانجليزي. فوراء التسليم بالحرية وحقوق الانسان، ثمة مجادلات عريضة حول معنى تلك الحقوق وحدودها، ومرجعيتها، وما يترتب عليها من واجبات وما يلزم ارفاقها بها من ضوابط.. الخ. في هذه المجادلات تعود الحاجة الى قراءة التراث المتعلق بالموضوع. فالذين يجادلون الفكرة يبحثون عن مرجعية لها او هم يستندون الى مرجعية يتصورنها اطارا مناسبا لفهم الفكرة والتعبير عنها. من هنا فقد اقترح بعض المفكرين التمييز بين ما سبق درسه في التراث الاسلامي وما لم يطرح فيه. 
في الحالة الاولى اقترحوا تطوير الافكار او البناء عليها، واقترحوا للثانية الرجوع الى القواعد العامة في التشريع او تحكيم العقل رجوعا الى اصل البراءة او الاباحة او عدم التكليف.
في كلا الحالين فاننا بحاجة الى الاهتمام بالفوارق بين ذهنيتنا وذهنية من ننقل عنهم، اي بين عصرنا وعصرهم. ذلك ان كل مسالة هي نتاج الظرف الخاص الذي ولدت فيه، وكل جواب هو ثمرة الثقافة والهموم السائدة في بيئة السائل والمجيب، ونعرف ان هذه تختلف بين عصر واخر ومكان واخر، فكيف اذا كنا نتحدث عن فارق زمني يبلغ عدة قرون.
كثير من المفاهيم التي نتحدث عنها اليوم هي نتاج لتطور الثقافة الانسانية، وكثير منها لم يكن مطروحا لا بلفظه ولا بمضمونه، وبعضها له مضمون بلفظ اخر او ان فكرته مبثوثة في سياقات اخرى. لا يمكن لنا ان نستخرج من التراث نظرية تطابق ما نتحدث عنه اليوم. وليس هذا مطلوبا ولا سليما. في كل عصر يطور البشر مفهومات جديدة تتفاعل في الوقت نفسه مع تراثهم ومع ثقافتهم الراهنة، لكن الصيغة التي يطورونها لتلك المفاهيم هي الصورة التي تعبرعن زمنهم وواقعهم. استعمال المسميات التي تشي باصول تاريخية ليس امرا ضارا ، فهو يسهم في جعل المفهوم الجديد مالوفا وقابلا للفهم من جانب المتلقين. لكن على اي حال علينا ان نوضح الفارق بين النقل عن التاريخ وبين استخدام صوره او رموزه.


مقالات ذات علاقة


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...