29/03/2010

من أبواب الفساد



؛؛ كلما عسر القانون وضاقت السبل النظامية لتحصيل الحقوق ، لجأ المواطن الى الطرق الخلفية وانفتح الباب للمحسوبية والفساد والرشوة ؛؛

في سنواته الأولى كان صندوق التنمية العقارية ينجز طلبات قروض السكن في ظرف أسابيع. أما في هذه الأيام فإنك لا تأمل في الحصول على قرض بعد عشر سنوات. وإذا ذهبت إلى البلدية أو الصحة أو الداخلية أو القضاء أو غيرها فسوف تجد شيئا مماثلا، لا يصل دائما إلى عشر سنوات لكنك لن تدري أبدا متى تنتهي. ويقول لك الموظفون ببساطة: راجع بعد أسبوع، أو راجع بعد شهر، أو راجع بعد..وإذا كنت مضطرا إلى إنجاز المعاملة فقد تجد من يخبرك بأنه رجل الساعة، لكن ساعته تحتاج إلى وقود كي تتحرك، وهو سيعطي هذا وذاك ممن تمر عليهم المعاملة، لأن ساعاتهم هي الأخرى تحتاج إلى وقود.
وسمعت رجلا يشكو في مجلس حظه العاثر بعدما فقد وظيفته جراء إصابة. وهو يعرف أنه يستحق تعويضا يقابل العلاج وفقدان الوظيفة، لكن الشركة ماطلته سبع سنين. واشتكى إلى مديرها، ثم اشتكى عليها في كل مكان يظن أنه قد يسمع الشكوى، فلم يجد جوابا. فرد عليه أحد الجالسين بأنه أخطأ الطريق، ولو كان حكيما لحصل على حقه في أسابيع. فالتفتنا جميعا لنفهم الحكمة الجديدة، فإذا بالرجل يتحدث عن واسطة في الجهة الفلانية، وذكر قصصا يقول إنها حدثت، وإن أصحابها حصلوا على كافة التعويضات التي طلبوها، بل إن واحدا منهم حصل على تعويض يعادل ستين راتبا إضافة إلى جميع نفقات علاجه. حديثنا عن الفساد الإداري لا يشير فقط إلى الرشوة أو استغلال الوظيفة، بل يشمل خصوصا التقصير الذي يفتح أبواب الفساد. ونفهم أن معظم الموظفين لا يقصرون في واجباتهم عمدا أو تعنتا. الأكثرية الساحقة من الناس، موظفين كانوا أو مراجعين، يريدون العيش في سلام مع أنفسهم ومع الآخرين، وهم يعلمون جميعا أن الفساد والتقصير والتعنت لا يأتي بسلام النفس ولا بالسلام مع الغير.
ربما تجد أقلية ممن فسدت طبائعهم لكن الأكثرية ليست كذلك. المشكلة ليست دائما في أشخاص الموظفين. بل تكمن ربما في آليات العمل والعلاقة بين الإدارة والمراجعين. بعض الوزارات استحدث نظاما للمتابعة الآلية. وزارة الداخلية والتعليم العالي مثلا تضع أرقام المعاملات المقدمة إليها على الإنترنت. يراجع الناس موقع الوزارة على الإنترنت فيعرفون أن معاملتهم قد سجلت، لكنهم لا يعلمون متى ستنتهي ولا يعلمون في أي مرحلة هي، وما إذا كانوا يحتاجون إلى المراجعة الشخصية أم لا. هذا تطوير مشكور، فهو يعطي المراجعين شيئا من الاطمئنان بأن معاملاتهم مسجلة فعلا وليست مهملة في درج من الأدراج. لكنه لازال خطوة صغيرة بالقياس إلى ما هو مطلوب. 
رغم أن معظم الوزارات تملك بنية تحتية ضخمة للمعاملات الإلكترونية، إلا أنها لا زالت متمسكة بنظام العمل التقليدي. فهنا وهناك لا بد من المراجعات الشخصية المتكررة، ولا بد من المعاملات الورقية، و«كتابنا وكتابكم»، و«كلم فلان» و«ماذا قال علان» و«راجعنا بعد أسبوع» وراجعنا بعد... إلخ. 
الحل المبدئي الذي أقترحه هو أن يتبنى مجلس الوزراء قرارا يتضمن أربعة مبادئ:
الأول: إلزام الدوائر الحكومية بتعيين الزمن الأقصى للبت في كل نوع من المعاملات بالسلب أو الإيجاب.
الثاني: وضع آلية للتظلم والاستئناف إذا لم يرض المراجع بالنتيجة تتضمن موعدا للفصل النهائي في الشكوى.
الثالث: التحديد المسبق لمسار المعاملة والوثائق المطلوبة لإنجازها والدوائر التي ستمر فيها بحيث لا يطلب غيرها إلا في الحالات الاستثنائية
الرابع: طريقة رد الإدارة على المواطن ويشمل العدد الأقصى للمراجعات الشخصية أو اعتماد الرد الكتابي بالبريد العادي أو الإلكتروني القابل للتوثيق والتأكيد.النسبة الكبرى من معاملات المواطنين صغيرة ولا تحتاج إلى تدخل رؤساء الدوائر، لكنها فعليا مختلطة مع معاملات كبرى معقدة. ولهذا فإن تحديد المسارات وتعيين المدد القصوى سوف يولد ضغطا في داخل كل إدارة لإنجاز تلك المعاملات التي تعد بمئات الآلاف وسوف يترك جانبا شريحة صغيرة من المعاملات التي تحتاج واقعيا إلى وقت طويل وتدخل من جانب مراتب عليا. 
مثل هذا العلاج المبدئي سوف يريح معظم المواطنين ويعزز رضاهم عن أداء الإدارة الرسمية كما سيغلق أبواب الفساد والواسطة التي تولد لنا اليوم أنواعا من الحكمة الغريبة.

عكاظ 29-3-2010

مقالات ذات علاقة

18/03/2010

تحولات التيار الديني-3 اعباء السياسة

ما يشاهد من جرأة على معارضة المؤسسات الدينية ونقد رجال الدين ، ليس ناتجا عن تراجع الايمان في نفوس الناس ، وليس سببه قيام جماعات او منظمات ، هدفها النيل من مكانة الدين ورجاله في المجتمع المسلم. خلال الثلاثين عاما الاخيرة تحولت شريحة كبيرة من العاملين في الحقل الديني ، الى العمل السياسي الصريح او الضمني ، بعدما كان همها الوحيد اخلاقيا يتمحور في الدعوة الى مكارم الاخلاق ، واحسان العمل وتعليم الناس عقائدهم وعباداتهم. تبعا لذلك نشأت حالة استقطاب متعدد في  المجتمع ، بين المحاور التي تمثلها الجماعات الدينية – السياسية المختلفة ، وكذلك بين الاتجاه الجديد المائل للسياسة ، وذلك الذي يصر على الاستمرار في الطريق التقليدي.

حين تتبنى خطابا سياسيا وحين تدعو لاهداف سياسية ، فانت بالضرورة تسعى لخلق نظام علاقة بينك وبين الناس ينطوي على نوع من السلطة. وهذا يستدعي اوتوماتيكيا بروز معارضة من جانب الاطراف التي تشعر بالمزاحمة او التهديد او حتى التدخل البسيط. هذه الاطراف تشمل الحكومات في المقام الاول ، لكنها تضم ايضا المجموعات الاخرى التي تتبنى خطابا مماثلا او تتمتع بنفوذ في المجتمع ، او تشعر بان ظهور دوائر  مصالح جديدة ينطوي على تهديد لدوائرها الخاصة.

نحن نتحدث اذن عن تطور طبيعي يمكن ان يحدث في اي مجتمع: السعي لفرض دائرة مصالح جديدة ، يؤدي الى رد فعل من جانب الدوائر الاخرى ، كما يؤدي  الى انشقاقات باعثها هو الاختلاف في تحديد تفاصيل المصلحة المنشودة وكيفية انجازها. وهذا وذاك يؤدي الى ظهور صراعات بين اطراف التيار نفسه.

شهدنا مثل هذا التطور في التيار السلفي السعودي ، خلال العقد الاخير من القرن المنصرم. اطلق الغزو العراقي للكويت في اغسطس 1990 سلسلة من التفاعلات داخل المجتمع السعودي ، ابرزت لاول مرة تيارا يتسع بالتدريج ويطالب بالاصلاح. بروز هذا التيار اثار رد فعل فوري وسط السلفيين ، الذي خشي قادتهم من ان تتجه البلاد الى الليبرالية ، بسبب الضغط الاجتماعي الداخلي ، او بسبب التحالف مع الولايات المتحدة الامريكية ، الذي عمقته الحاجات المتبادلة خلال الحرب على العراق.

في نوفمبر 1990 نظم 47 سيدة سعودية تظاهرة بالسيارات في شوارع الرياض ، من اجل اقرار حقهن في قيادتها . ردا على ذلك امر الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ اعضاء هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بوقف المظاهرة واعتقال السيدات . لكن الشيخ عزل من منصبه بامر ملكي في منتصف ديسمبر التالي. اثارت تلك الحادثة جدلا شديدا في الوسط الديني ، وتحولت الى موضوع رئيسي لخطب الجمعة طيلة الاشهر الثلاثة التالية. ولاحظ عدد من الخطباء ان الحكومة لم تتخذ موقفا صارما مما اعتبروه هجوما تغريبيا ، بل على العكس من ذلك فان عزل رئيس الهيئة كان اشارة الى عزم الحكومة تقييد المؤسسات الدينية التي تتصرف دون اوامر رسمية مباشرة.

في يناير 1991 نشر عدد من الشخصيات البارزة ، وثيقة مطالب موجهة الى الحكومة ، تطالبها باجراء اصلاحات رئيسية في الادارة الرسمية وعلاقة الدولة بالمجتمع . وقع على الوثيقة مثقفون بارزون ومسؤولون سابقون وشخصيات ذات نفوذ اجتماعي ، ولم يكن بينهم اي رجل دين. وفي مايو 1991 قدم 200 من العلماء السلفيين البارزين خطابا مماثلا الى الملك فهد ، لكنه – بدلا من المطالبة باصلاحات سياسية – ركز على نقد  ما وصفه بالتباعد المشهود عن احكام الشريعة . وطالب الملك بتعزيز دور العلماء والمؤسسة الدينية في الدولة والمجتمع. تلى ذلك نشر وثيقة اكثر تفصيلا ، عرفت بمذكرة النصيحة ، وضعت في يونيو 1992 ووقع عليها 400 من المشايخ والدعاة من الطبقة الثانية والثالثة. كانت هذه المذكرة التي تشبه في صياغتها البرامج السياسية للاحزاب ، اول ظهور سياسي منظم وواسع النطاق للتيار السلفي المستقل والمعارض للحكومة. ايد كبار العلماء هذه المذكرة في اول الامر ، لكنهم سارعوا بادانتها ، كما تنصلوا من الخطاب السابق لان نشرهما يعد خروجا على تقاليد النصيحة لولي الامر. على خلفية هذا الموقف ، جرى اعتقال معظم الموقعين على "مذكرة النصيحة" او منعهم من السفر ، وكان هذا بداية لاوسع انشقاق في التيار السلفي.

 خلال السنوات التالية تحول عدد من موقعي مذكرة النصيحة الى رموز سياسية او شبه سياسية ، يلتف حولهم جيل الشباب ، بينما جرى تصنيف كبار العلماء كتقليديين او حكوميين. وشهدت البلاد للمرة الاولى حالة استقطاب في الوسط السلفي ، بين القطب الذي يدور في فلك الدولة ، وذلك الذي يحاول البقاء مستقلا خارج اطارها.



نشر في الايام  Thursday 18th March 2010 - NO 7647 https://www.alayam.com/alayam/Variety/392130/News.html

15/03/2010

كتاب اخر يستحق القراءة : كارل بوبر "منطق البحث العلمي"

|| معيار التمييز بين العلمي وغير العلمي عند بوبر هو القابلية للتفنيد. ما لا يمكن دحضه او تفنيده فليس علما||
"منطق البحث العلمي" للفيلسوف البريطاني – النمساوي كارل بوبر هو كتاب اخر وجدته في معرض الرياض للكتاب ، واظنه يستحق الاقتناء والقراءة . افترض ان قراء الفلسفة قليلون ، لكني مع ذلك انصح به الكتاب والدعاة واي مثقف يرغب في عصف ذهني يجادل من خلاله ذاته ومتبنياته.
يعتبر بوبر واحدا من ابرز فلاسفة العصر . وقد خلفت بحوثه اثارا عميقة على التفكير الفلسفي والنقدي وعلى الفلسفة السياسية في العالم المعاصر. ورغم ان كثيرا من كتبه قد ترجم الى العربية ، الا اني وجدت الاهتمام به بين المثقفين العرب محدودا . ولعل مرجع ذلك هو قلة اهتمامنا بالفلسفة وتياراتها الجديدة ، رغم انها ضرورية ليس فقط للمختصين ، بل لكل باحث يريد التحول من مستهلك للمعلومات والآراء التي ينتجها الاخرون الى ناقد لتلك الآراء ثم الى منتج للفكر والعلم.
Image result for ‫تحميل كتاب كارل بوبر منطق البحث العلمي‬‎
قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات . رأى بوبر ان ملاحظة الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك.
هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع وقد يجافيه.
يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي . ما نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس.
 اولئك مثل هؤلاء يتبعون نفس الطريق التجريبي في التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة . سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول . هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.
وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ، اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علمية . كلما ازدادت العناصر القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد.
كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل النفسي. غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لأنك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف . يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان . نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.

11/03/2010

تحولات التيار الديني - 2 نهايات المعارك


تحولات التيار الديني - 2
نهايات المعارك 


 قبل ثلاث سنوات اتخذ وزير العمل السعودي قرارا يمنع الرجال من العمل في بيع الملابس النسائية الداخلية . وكان غرض القرار هو توفير فرص عمل جديدة للنساء اللاتي يزيد معدل البطالة بينهن عن ضعف مثيله بين الذكور. لكن حملة مضادة تبناها تجار وناشطون في التيار الديني التقليدي افشلت البرنامج وعطلته. كانت هذه اخر المعارك الكبرى بين التيار الديني ومعارضيه. وقد نجح فيها لانه استطاع استثمار الجدل الدائر حول توجهات وزير العمل الدكتور غازي القصيبي ودوره.


لكن هذا الانتصار كان مكلفا جدا. فقد ادى الى تشديد عزلة التيار وتوسيع الجدل حول دوره السياسي واساليبه في التعبير عن مواقفه.


كما طال الجدل سلامة الاجتهادات الدينية التي يتبناها. ومنذ اوائل 2007 اصبحت "هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر" هدفا ثابتا لحملات صحفية تتبعت نشاطاتها وسلوكيات اعضائها وتصريحات مسؤوليها . وفي سابقة هي الاولى من نوعها اقيمت دعاوى قضائية ضد الهيئة على خلفية اتهامات باقتحام منزل وقتل صاحبه في  المدينة المنورة . كما اتهمت الهيئة في دعاوى اخرى بمطاردة اشخاص والتسبب في اضرار مادية وبدنية .



 وتعتبر  "الهيئة" حصنا منيعا للتيار الديني التقليدي واحد اهم مواقع نفوذه في المجتمع السعودي. ورغم ان القضاء قد برأ الهيئة في جميع تلك الدعاوى. الا ان صورتها كجهة دينية تعرضت لجرح عميق. وترتب على تلك الحوادث تغيير طاقمها الاداري وفرض قيود جديدة على عملها . من بين تلك القيود خصوصا نشير الى منعها من الاستعانة بمتطوعين في اعمالها . وفي الماضي كانت مجموعات المتطوعين الشباب هي الاكثر نشاطا وتشددا بين العاملين في صفوف "الهيئة". وكان هذا العمل يستخدم من جانب بعض الشيوخ كنوع من التدريب الحركي للشباب والدعاة الجدد. 

تمدد نقد الصحافة من نشاطات هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى فتاوى رجال الدين المؤيدين لها . وقدم هؤلاء ما يمكن اعتباره فرصة ذهبية لناقديهم ، واعني بها تلك الفتاوى التي تثير السخط واحيانا السخرية ويصعب تبريرها او الدفاع عنها. في 2008 نشرت فتوى للشيخ اللحيدان الذي يعتبر الرجل الثاني في سلم المراتب الدينية ، تهاجم القنوات الفضائية وتنص على تكفيرهم وجواز قتلهم . كما نشر بيان للشيخ نفسه ينتقد فتح كليات علمية في جامعة الامام محمد بن سعود الدينية ويقول ان البلاد لا تحتاج الى اطباء ومهندسين بقدر حاجتها الى دعاة وعلماء دين . وبعدها بايام قليلة نشر كلام للشيخ المنجد هاجم فيه البرامج التلفزيونية الاجنبية وقال ان "ميكي ماوس" يستحق القتل. وجرى تصوير هذا الكلام في الصحافة كما لو كان فتوى بقتل ميكي ماوس. هذه الفتاوى والاراء اصبحت مادة اثيرة للاعلام المحلي. ونتيجة لذلك فقد اصبحت كفاءة رجال الدين وسلامة ارائهم موضع جدل في المجالس العامة والخاصة. ولم يسبق للمملكة ان شهدت خلال تاريخها الماضي جدلا بهذا الحجم حول المؤسسة الدينية ورجالها. بل كان ينظر اليهم في العادة كشركاء في النظام السياسي واصحاب نفوذ في الوسط الاجتماعي يستعصي على الجدل والمساءلة.

اثمر هذا الجدل عن كبح التطلعات السياسية للعديد من الحركيين ورجال الدين التقليديين. حتى سنوات قليلة كان هؤلاء يعتبرون انفسهم "شركاء طبيعيين" في السلطة السياسية. بل واستعمل بعضهم تعبيرات محددة تشير الى ان نظام البلاد مدين لجهودهم ودعمهم . اما في الوقت الحاضر فان اولئك يتجنبون الاشارة الى هذا الموضوع بعدما اصبح التصوير العام للتيار الديني ينحو الى اعتباره عبئا ثقيلا على النظام السياسي والبلاد ككل. لم يعد التيار الديني السلفي فعالا او صاحب مبادرة في السياسة كما كان في بداية العقد المنصرم ، ولم يعد شديدا وموحدا في الصراع ضد المنافسين كما كان حتى منتصف العقد الجاري. يبدو هذا التيار في الوقت الراهن مفككا ومختلفا حول نفسه وصورته وطريقة عمله واستهدافاته المباشرة والمستقبلية.

هذا الظرف الذي يبدو ملائما لاعداء التيار الديني ، ينطوي على فرص جديدة لهذا التيار ، لكنه ينطوي ايضا على تحديات ومخاطر. في الجانب الايجابي ، يبدو الظرف مناسبا جدا لمراجعة المتبنيات القديمة وتصحيح العلاقة المأزومة مع القوى الاجتماعية غير السلفية. لكنه في الجانب السلبي ينطوي على احتمال توسع حالات الاحباط ، مما يقود الى انشقاقات جديدة في داخل التيار، بعضها متشدد ايديولوجيا وبعضها انتهازي . وربما تواجه البلاد مخاطر ظهور نسخ شبيهة لحزب التحرير في حدها الادنى او "القاعدة" في حدها الاعلى. 



نشر في الايام  Thursday 11th March 2010 - NO 7640  http://alayam2.epkss.com/Issue/7640/PDF/Page20.pdf



08/03/2010

الليبرالية في نسخة جديدة: رؤية جون رولز

 

من بين الكتب التي أثارت انتباهي في معرض الرياض لهذه السنة (2010)، كتاب «العدالة كإنصاف» للفيلسوف الأمريكي جون رولز. هذا الكتاب الذي ترجمه د. حيدر حاج إسماعيل هو الصيغة الأخيرة من هذا العمل المهم والمثير للجدل، والذي واصل مؤلفه تعديله على ضوء النقاشات والنقد طيلة العقود الثلاثة التي تلت صدور طبعته الأولى في 1971.

 يقدم رولز في هذا الكتاب نظرية جديدة في فلسفة الدولة والتنظيم الاجتماعي/ السياسي، تبتعد شيئا ما عن الرؤية الليبرالية الكلاسيكية رغم أنها تنطلق من نفس المنطلقات، لا سيما الحرية الفردية في حدها الأعلى ومبدأ العقد الاجتماعي كأساس للنظام السياسي / الاجتماعي.

قدم رولز حلا لإشكالية المغالاة في الفردانية، والتي تعتبر أحد العيوب الرئيسية في الليبرالية، لا سيما بسبب تركيزها على الجانب الغرائزي في الفرد، وتمحور فكرة السعادة والنجاح ــ وبالتالي العوامل المؤثرة على قرار الفرد ــ حول التملك والاستحواذ. انطلق رولز من رؤية متفائلة للطبيعة الإنسانية.

المثال الذي يشكل خلفية لرؤيته هو مثال الإنسان الراشد الذي يتمتع بقوى ذهنية ونفسية تسمح له بانتخاب الخيار الأقرب للعدالة فيما لو عاش تحت نظام تعاون اجتماعي يقوم على الإنصاف ويضمن لاعضائه الحرية والمساواة. أهلية الإنسان للاختيار الصحيح قائمة على تمتعه بعنصرين معنويين يحملهما معه منذ الولادة:

 أولهما هو إحساسه بقيمة العدالة، أي قابليته لإدراكها وتمييزها وفهمها وتطبيقها والعمل بموجبها ولأجلها..

 والثانية هي إحساسه بمنفعته الخاصة، أي قدرته على استيعاب تطبيقاتها وتشكيلها ومراجعتها وتنظيم حياته على نحو عقلاني يمكنه من نيلها. بفضل هذين العنصرين يستطيع الفرد أن يفهم ذاته كما يفهم الآخرين باعتباره وإياهم أحرارا يتحملون مسؤولية أفعالهم. وبهذا فهما يمثلان الأرضية التي يقوم عليها استقلال الفرد وأهليته للتعاقد مع الغير والمشاركة في تشكيل النظام الاجتماعي الذي يعيش في إطاره.

جون رولز  (1921-2002)
احتذى منهج رولز عشرات من الباحثين، وتشكل على ضوء أفكاره تيار في الفلسفة السياسية يتوسع بالتدريج، ويقدم بديلا جديا عن التصور الاشتراكي للعدالة الاجتماعية الذي يسمح بتأجيل أو تحجيم حرية الفرد من أجل منافع أخرى مادية أو غير مادية. بينما قرر رولز أن تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة حقوقهم وحرياتهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة ومعيارا لتوفر العدالة في نظام اجتماعي معين.

والحق أن توظيف مصطلح «عادل» أو «ظالم» في وصف مجموع النظام الاجتماعي وبنيته القانونية والاقتصادية والمؤسسية هو واحد من أبرز تجليات الفهم الجديد، خلافا للمفهوم السابق الذي كان يطلق الوصف على أفعال الأفراد أو الدولة فقط. رأى رولز أن جميع عناصر وأجزاء النظام يجب أن تقيم وفقا لمعيار مشترك كي نستطيع وصفها ــ كمجموع ــ بالعدالة أو الظلم. نظرا للتأثير الديناميكي لكل مسار من مسارات النظام الاجتماعي على حياة أعضائه، فإن تقرير ما هي حقوق المواطنين وواجباتهم في جانب معين، الاقتصاد مثلا، يجب أن يسبقه تعريف لانعكاس النظام الاقتصادي وتطبيقاته على حياة الأفراد الذين يعملون في إطاره أو تتأثر حياتهم بمفاعيله، ولا سيما في تمكينهم أو إعاقتهم من ممارسة حقوقهم الأولية وحرياتهم.

من بين التطبيقات العديدة لمفهوم الحرية، صنف رولز عددا منها كحريات أساسية، وتشمل الحقوق الخاصة بالضمير مثل حرية الديانة والتفكير والتعبير والتنظيم، كما تشمل الحقوق الضرورية لصيانة الكرامة الشخصية مثل حرية الحركة والعمل واختيار المهنة والملكية الشخصية، إضافة إلى شريحة من الحقوق المرتبطة بالمشاركة في الشان العام. هذه الحريات أساسية لأنها أكثر أهمية وأعلى قيمة من غيرها من المنافع الاجتماعية أو الحريات الأخرى، وهي عنده تشكل معيارا لحدود سلطة المجتمع..

طبقا لرولز فإن توفر منظومة الحريات الأساسية ضروري لتبلور هوية الإنسان المستقل، الكفء، القابل لتحمل المسؤولية عن عمله، والمشارك في الحياة العامة. ومن هذا المنطلق فإن نظرية العدالة التي اقترحها رولز تعطي للحريات الأساسية أولوية على كافة المنافع الاجتماعية الأخرى. فلا تصح التضحية بها من أجل سعادة المجتمع أو زيادة الثروة الوطنية أو مساعدة الفرد على بلوغ الكمال الذاتي، أو غير ذلك من المنافع.

عكاظ 8 مارس 2010

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...