29/03/2010

من أبواب الفساد



؛؛ كلما عسر القانون وضاقت السبل النظامية لتحصيل الحقوق ، لجأ المواطن الى الطرق الخلفية وانفتح الباب للمحسوبية والفساد والرشوة ؛؛

في سنواته الأولى كان صندوق التنمية العقارية ينجز طلبات قروض السكن في ظرف أسابيع. أما في هذه الأيام فإنك لا تأمل في الحصول على قرض بعد عشر سنوات. وإذا ذهبت إلى البلدية أو الصحة أو الداخلية أو القضاء أو غيرها فسوف تجد شيئا مماثلا، لا يصل دائما إلى عشر سنوات لكنك لن تدري أبدا متى تنتهي. ويقول لك الموظفون ببساطة: راجع بعد أسبوع، أو راجع بعد شهر، أو راجع بعد..وإذا كنت مضطرا إلى إنجاز المعاملة فقد تجد من يخبرك بأنه رجل الساعة، لكن ساعته تحتاج إلى وقود كي تتحرك، وهو سيعطي هذا وذاك ممن تمر عليهم المعاملة، لأن ساعاتهم هي الأخرى تحتاج إلى وقود.
وسمعت رجلا يشكو في مجلس حظه العاثر بعدما فقد وظيفته جراء إصابة. وهو يعرف أنه يستحق تعويضا يقابل العلاج وفقدان الوظيفة، لكن الشركة ماطلته سبع سنين. واشتكى إلى مديرها، ثم اشتكى عليها في كل مكان يظن أنه قد يسمع الشكوى، فلم يجد جوابا. فرد عليه أحد الجالسين بأنه أخطأ الطريق، ولو كان حكيما لحصل على حقه في أسابيع. فالتفتنا جميعا لنفهم الحكمة الجديدة، فإذا بالرجل يتحدث عن واسطة في الجهة الفلانية، وذكر قصصا يقول إنها حدثت، وإن أصحابها حصلوا على كافة التعويضات التي طلبوها، بل إن واحدا منهم حصل على تعويض يعادل ستين راتبا إضافة إلى جميع نفقات علاجه. حديثنا عن الفساد الإداري لا يشير فقط إلى الرشوة أو استغلال الوظيفة، بل يشمل خصوصا التقصير الذي يفتح أبواب الفساد. ونفهم أن معظم الموظفين لا يقصرون في واجباتهم عمدا أو تعنتا. الأكثرية الساحقة من الناس، موظفين كانوا أو مراجعين، يريدون العيش في سلام مع أنفسهم ومع الآخرين، وهم يعلمون جميعا أن الفساد والتقصير والتعنت لا يأتي بسلام النفس ولا بالسلام مع الغير.
ربما تجد أقلية ممن فسدت طبائعهم لكن الأكثرية ليست كذلك. المشكلة ليست دائما في أشخاص الموظفين. بل تكمن ربما في آليات العمل والعلاقة بين الإدارة والمراجعين. بعض الوزارات استحدث نظاما للمتابعة الآلية. وزارة الداخلية والتعليم العالي مثلا تضع أرقام المعاملات المقدمة إليها على الإنترنت. يراجع الناس موقع الوزارة على الإنترنت فيعرفون أن معاملتهم قد سجلت، لكنهم لا يعلمون متى ستنتهي ولا يعلمون في أي مرحلة هي، وما إذا كانوا يحتاجون إلى المراجعة الشخصية أم لا. هذا تطوير مشكور، فهو يعطي المراجعين شيئا من الاطمئنان بأن معاملاتهم مسجلة فعلا وليست مهملة في درج من الأدراج. لكنه لازال خطوة صغيرة بالقياس إلى ما هو مطلوب. 
رغم أن معظم الوزارات تملك بنية تحتية ضخمة للمعاملات الإلكترونية، إلا أنها لا زالت متمسكة بنظام العمل التقليدي. فهنا وهناك لا بد من المراجعات الشخصية المتكررة، ولا بد من المعاملات الورقية، و«كتابنا وكتابكم»، و«كلم فلان» و«ماذا قال علان» و«راجعنا بعد أسبوع» وراجعنا بعد... إلخ. 
الحل المبدئي الذي أقترحه هو أن يتبنى مجلس الوزراء قرارا يتضمن أربعة مبادئ:
الأول: إلزام الدوائر الحكومية بتعيين الزمن الأقصى للبت في كل نوع من المعاملات بالسلب أو الإيجاب.
الثاني: وضع آلية للتظلم والاستئناف إذا لم يرض المراجع بالنتيجة تتضمن موعدا للفصل النهائي في الشكوى.
الثالث: التحديد المسبق لمسار المعاملة والوثائق المطلوبة لإنجازها والدوائر التي ستمر فيها بحيث لا يطلب غيرها إلا في الحالات الاستثنائية
الرابع: طريقة رد الإدارة على المواطن ويشمل العدد الأقصى للمراجعات الشخصية أو اعتماد الرد الكتابي بالبريد العادي أو الإلكتروني القابل للتوثيق والتأكيد.النسبة الكبرى من معاملات المواطنين صغيرة ولا تحتاج إلى تدخل رؤساء الدوائر، لكنها فعليا مختلطة مع معاملات كبرى معقدة. ولهذا فإن تحديد المسارات وتعيين المدد القصوى سوف يولد ضغطا في داخل كل إدارة لإنجاز تلك المعاملات التي تعد بمئات الآلاف وسوف يترك جانبا شريحة صغيرة من المعاملات التي تحتاج واقعيا إلى وقت طويل وتدخل من جانب مراتب عليا. 
مثل هذا العلاج المبدئي سوف يريح معظم المواطنين ويعزز رضاهم عن أداء الإدارة الرسمية كما سيغلق أبواب الفساد والواسطة التي تولد لنا اليوم أنواعا من الحكمة الغريبة.

عكاظ 29-3-2010

مقالات ذات علاقة

18/03/2010

تحولات التيار الديني-3 اعباء السياسة

ما يشاهد من جرأة على معارضة المؤسسات الدينية ونقد رجال الدين ، ليس ناتجا عن تراجع الايمان في نفوس الناس ، وليس سببه قيام جماعات او منظمات ، هدفها النيل من مكانة الدين ورجاله في المجتمع المسلم. خلال الثلاثين عاما الاخيرة تحولت شريحة كبيرة من العاملين في الحقل الديني ، الى العمل السياسي الصريح او الضمني ، بعدما كان همها الوحيد اخلاقيا يتمحور في الدعوة الى مكارم الاخلاق ، واحسان العمل وتعليم الناس عقائدهم وعباداتهم. تبعا لذلك نشأت حالة استقطاب متعدد في  المجتمع ، بين المحاور التي تمثلها الجماعات الدينية – السياسية المختلفة ، وكذلك بين الاتجاه الجديد المائل للسياسة ، وذلك الذي يصر على الاستمرار في الطريق التقليدي.

حين تتبنى خطابا سياسيا وحين تدعو لاهداف سياسية ، فانت بالضرورة تسعى لخلق نظام علاقة بينك وبين الناس ينطوي على نوع من السلطة. وهذا يستدعي اوتوماتيكيا بروز معارضة من جانب الاطراف التي تشعر بالمزاحمة او التهديد او حتى التدخل البسيط. هذه الاطراف تشمل الحكومات في المقام الاول ، لكنها تضم ايضا المجموعات الاخرى التي تتبنى خطابا مماثلا او تتمتع بنفوذ في المجتمع ، او تشعر بان ظهور دوائر  مصالح جديدة ينطوي على تهديد لدوائرها الخاصة.

نحن نتحدث اذن عن تطور طبيعي يمكن ان يحدث في اي مجتمع: السعي لفرض دائرة مصالح جديدة ، يؤدي الى رد فعل من جانب الدوائر الاخرى ، كما يؤدي  الى انشقاقات باعثها هو الاختلاف في تحديد تفاصيل المصلحة المنشودة وكيفية انجازها. وهذا وذاك يؤدي الى ظهور صراعات بين اطراف التيار نفسه.

شهدنا مثل هذا التطور في التيار السلفي السعودي ، خلال العقد الاخير من القرن المنصرم. اطلق الغزو العراقي للكويت في اغسطس 1990 سلسلة من التفاعلات داخل المجتمع السعودي ، ابرزت لاول مرة تيارا يتسع بالتدريج ويطالب بالاصلاح. بروز هذا التيار اثار رد فعل فوري وسط السلفيين ، الذي خشي قادتهم من ان تتجه البلاد الى الليبرالية ، بسبب الضغط الاجتماعي الداخلي ، او بسبب التحالف مع الولايات المتحدة الامريكية ، الذي عمقته الحاجات المتبادلة خلال الحرب على العراق.

في نوفمبر 1990 نظم 47 سيدة سعودية تظاهرة بالسيارات في شوارع الرياض ، من اجل اقرار حقهن في قيادتها . ردا على ذلك امر الشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ اعضاء هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بوقف المظاهرة واعتقال السيدات . لكن الشيخ عزل من منصبه بامر ملكي في منتصف ديسمبر التالي. اثارت تلك الحادثة جدلا شديدا في الوسط الديني ، وتحولت الى موضوع رئيسي لخطب الجمعة طيلة الاشهر الثلاثة التالية. ولاحظ عدد من الخطباء ان الحكومة لم تتخذ موقفا صارما مما اعتبروه هجوما تغريبيا ، بل على العكس من ذلك فان عزل رئيس الهيئة كان اشارة الى عزم الحكومة تقييد المؤسسات الدينية التي تتصرف دون اوامر رسمية مباشرة.

في يناير 1991 نشر عدد من الشخصيات البارزة ، وثيقة مطالب موجهة الى الحكومة ، تطالبها باجراء اصلاحات رئيسية في الادارة الرسمية وعلاقة الدولة بالمجتمع . وقع على الوثيقة مثقفون بارزون ومسؤولون سابقون وشخصيات ذات نفوذ اجتماعي ، ولم يكن بينهم اي رجل دين. وفي مايو 1991 قدم 200 من العلماء السلفيين البارزين خطابا مماثلا الى الملك فهد ، لكنه – بدلا من المطالبة باصلاحات سياسية – ركز على نقد  ما وصفه بالتباعد المشهود عن احكام الشريعة . وطالب الملك بتعزيز دور العلماء والمؤسسة الدينية في الدولة والمجتمع. تلى ذلك نشر وثيقة اكثر تفصيلا ، عرفت بمذكرة النصيحة ، وضعت في يونيو 1992 ووقع عليها 400 من المشايخ والدعاة من الطبقة الثانية والثالثة. كانت هذه المذكرة التي تشبه في صياغتها البرامج السياسية للاحزاب ، اول ظهور سياسي منظم وواسع النطاق للتيار السلفي المستقل والمعارض للحكومة. ايد كبار العلماء هذه المذكرة في اول الامر ، لكنهم سارعوا بادانتها ، كما تنصلوا من الخطاب السابق لان نشرهما يعد خروجا على تقاليد النصيحة لولي الامر. على خلفية هذا الموقف ، جرى اعتقال معظم الموقعين على "مذكرة النصيحة" او منعهم من السفر ، وكان هذا بداية لاوسع انشقاق في التيار السلفي.

 خلال السنوات التالية تحول عدد من موقعي مذكرة النصيحة الى رموز سياسية او شبه سياسية ، يلتف حولهم جيل الشباب ، بينما جرى تصنيف كبار العلماء كتقليديين او حكوميين. وشهدت البلاد للمرة الاولى حالة استقطاب في الوسط السلفي ، بين القطب الذي يدور في فلك الدولة ، وذلك الذي يحاول البقاء مستقلا خارج اطارها.



نشر في الايام  Thursday 18th March 2010 - NO 7647 https://www.alayam.com/alayam/Variety/392130/News.html

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...