09/12/2008

في التسامح الحر والتسامح المشروط


ثلاث لافتات ضخمة على ناصية شارع رئيسي تتحدث عن التسامح. محاضرة لرئيس الادارة التي انفقت على هذه اللافتات تحدث في ندوة عامة عن التسامح وعرض العديد من الاحاديث النبوية والحوادث التاريخية التي تدعم تصوره عن مبدأ التسامح . وضرب في الاثناء امثلة عن حروب وحوادث تكذب ادعاء الغربيين للتسامح ، ولم ينس الاشارة الى ان دعوى حقوق الانسان والحوار بين المختلفين التي يروج لها الاوربيون والامريكان هي دعوى كاذبة وغرضها الدعاية لانفسهم ومنتجاتهم وتسويغ تدخلهم في شؤون المجتمعات الاخرى.


 في النقاش الذي تلى المحاضرة سأله احدهم عن رأيه في جدل يدور في دولة اوربية واظنها سويسرا حول السماح للمسلمين ببناء مآذنة في احد مساجدهم ، فتهلل وجه المحاضر وقال ان هذا يثبت ما قاله سلفا عن سياسة الكيل بمكيالين ، ثم اكد هذه المقولة بذكر قصة الحجاب في فرنسا ومنعه في المدارس الرسمية. سأله شخص آخر حول امكانية السماح للفرنسيات المقيمات في البلدان الاسلامية بدخول المدارس الحكومية بملابسهن المعتادة في فرنسا ، وحول امكانية السماح للسويسريين باقامة كنيسة من دون برج للصليب ، وكان الجواب معروفا للجميع ، لهذا لم ينتظر السائل ، بل عقب على اسئلته بان سلوك الغربيين الذي نذمه لا يختلف عن سلوكنا الذي نبرره . لدينا مبررات نطرحها ولديهم مبررات اخرى ، هذه المبررات مثل تلك مستمدة من الثقافة الخاصة لاصحابها وليست معيارية او ملزمة لكل الاطراف.

لم يشأ المحاضر ترك الكلام دون تعقيب ، لكنه بدلا من مناقشة السائل دخل في موضوع قتل محاضرته كلها فقد بدأ بالسخرية من "تلك الاكذوبة الكبرى التي يسمونها الحرية وهي في واقع الامر عبودية للاهواء والشهوات وضلال ما بعده ضلال" وذهب في حديث طويل نسبيا حول ما وصفه بالانهيار الاخلاقي في الغرب من كثرة الجرائم والمخدرات والشذوذ.. الخ . ولم نفهم علاقة هذا كله بمبدا التسامح ، الا حين عاد في نهاية الحديث الى التاكيد بان التسامح الذي يعنيه هو "التسامح المضبوط باحكام الشرع ونظر العلماء وتقاليد المجتمع والمصلحة العامة" وليس التسامح الذي "يدندن به رويبضات الصحافة والمبتدعة واهل الاهواء". قال الشخص الجالس ورائي ساخرا "ريحتنا يا اخي ، ظننتك ستقول شيئا جديدا علينا". وكان هذا ختام الندوة ، فحتى الذين سجلوا اسماءهم للمداخلة تخلوا عنها وسكتوا عدا شخص واحد قال كلاما حول الاختلاط والعفة والقنوات الفضائية والغزو الثقافي وتطاول النساء على الرجال ، وأطال حتى اضطر مدير الندوة الى مطالبته بانهاء المداخلة لاتاحة الفرصة للكثير من الذين سجلوا اسماءهم . وحين سكت المتحدث لم يتقدم احد للحديث . نادى المدير على ثلاثة اسماء فاعتذروا بان المحاضر قال كل شيء .

سألت زميلي ونحن نحث الخطى خارجين : هل خرجنا من هذه الندوة بفكرة جديدة ؟ اجابني ضاحكا : تعلمنا التسامح ، لقد جلسنا ساعة ونصف نستمع الى متحدث يقدم مفهوما زائفا عن قيمة اخلاقية عالية ولم نقاطعه او نجادله .. اليس هذا مثال على التسامح؟. قلت للزميل : لعله مثال على الهروب من المواجهة ، قال لي : مواجهة من ؟.. الذي امامك ليس الا طاحونة هواء تدور وتدور وتدور ، هذا عملها وهذا عالمها وغرض وجودها ، فهي لا تعرف شيئا سوى ان تدور وتدور . صاحبك المحاضر مثل الطاحونة ، عمله الكلام والهجوم اللفظي على الاعداء الحقيقيين والمفترضين ، الواقعيين والمتخيلين ، هذه هو علمه وهذا هو عالمه. هل تريد مواجهة الطاحونة؟. 

قلت للزميل : الا ترى ان المحاضر كان واضحا في الربط بين التسامح والحرية؟ . معنى كلام الرجل ان التسامح نوعان : تسامح مقترن بالحرية : انا متسامح معك بمعنى انني اعترف بحقك في انتخاب خياراتك الخاصة ، وهو المعنى الذي يتحدث عنه العالم اليوم ، وتسامح مشروط بالتقاليد واراء العلماء والمصلحة العامة ، ولولا الخجل لربما اضاف اليه شرط رضا الاب والزوج والاخ الاكبر وشيخ القبيلة وامام مسجد الحي وعمدة القرية وربما اشخاص اخرين ، فالتسامح هنا يعني ان تبحث عما يوافق عليه كل هؤلاء ثم تفعله ، وتستمتع بتسامحهم معك . الا ترى اننا تعلمنا شيئا جديدا؟.

مقالات ذات علاقة


01/12/2008

جدل حول مسار الطائفة الشيعية



البيان المعنون "نحوتصحيح مسار الطائفة الشيعية" حظي باهتمام استثنائي ، فاشاد به كثير من كتاب الصحف ورفضه مثلهم وتبرأ منه بعض من شارك فيه ودعمه بعض من لم يوقع عليه. وهكذا فقد نجح في الانفلات من قبضة الاغفال والنسيان واصبح قضية عامة . وهذا بذاته درجة من النجاح تسجل لكاتبيه سواء وافقناهم او اختلفنا معهم.
يلخص البيان جانبا من النقاشات الواسعة التي يتداولها الجيل الجديد من الشيعة السعوديين وغيرهم ، وهي نقاشات اثمرت حتى الان عن تجاوز للكثير من المسلمات الموروثة حول الدين والسياسة والنظام الاجتماعي.


حمل البيان وكذلك المقالات المؤيدة والناقدة له الكثير من الاحكام الانطباعية حول "امكانية" التصحيح في الفكر الشيعي ، وحول "مسار" التصحيح الفعلي ايضا. دعنا في البداية نستبدل تعبير التصحيح بتعبير التجديد . فالمصطلح الاول يحمل رؤية ايديولوجية او افتراضا ايديولوجيا ، بينما يحمل الثاني مضمونا وصفيا وتحليليا . دعا البيان ومن ايده الى نبذ مسلمات فقهية وعقيدية وسلوكية وسياسية باعتبارها غير منسجمة مع احكام العقل او متطلبات العصر او مصلحة الجماعة. الدعوة موجهة بطبيعة الحال الى حملة هذه الافكار كي يقوموا بنقد ذاتي يؤدي – كما هو المفترض – الى انتخاب بدائل افضل .

 نحن اذن نتحدث عن تحول اختياري اي تطوير للمعرفة ، وهذا يقع تحت عنوان التجديد او التغيير وليس التصحيح. التجديد او التغيير هو انتقال من حالة معرفية او روحية مقبولة الى حالة اخرى مقبولة ايضا دون شعور بحرج الانفلات من دائرة القيم الخاصة بالجماعة . هذا يعني بطبيعة الحال ان ياتي التجديد او التغيير تدريجيا ومن داخل النظام الاجتماعي حتى لو استعمل ادوات نقدية مختلفة . نتطلع الى تغيير من الداخل كي يحصل على الشرعية الاجتماعية الضرورية لتنسيج الافكار الجديدة في نظام القيم وشبكة العلاقات الداخلية الخاصة بالجماعة.

خلافا للانطباع الاولي الذي يشي به البيان وكذلك المقالات الناقدة والمؤيدة له ، فان معظم الافكار التي دعا البيان الى نبذها هي موضع نقاش جدي ومعمق في الوسط الديني الشيعي . وللمفارقة فان نظرية ولاية الفقيه مثلا تتعرض لنقد واسع وهناك عدد كبير نسبيا من المقالات العلمية والكتب التي نشرت في ايران نفسها حول هذا الموضوع . وقد عرض كاتب هذه السطور في ثلاثة كتب صدرت خلال السنوات القليلة الماضية جانبا من تلك الاراء ، لكن يؤسفني القول ان قيود الرقابة لا تسمح بوصول مثل هذه الكتب الى القراء في بلادنا .

"ولاية الفقيه" هي نظرية فقهية يقبل بها بعض الفقهاء ويعارضها اخرون . وقد شخص الدكتور محسن كديور تسع نظريات اخرى تبناها فقهاء شيعة حول شرعية السلطة . لكن التيار الاصلاحي الايراني الذي يقوده الرئيس السابق محمد خاتمي يدعو الى نظرية تجمع بين القيم الدينية العليا ونظام العمل المتعارف في الديمقراطية الليبرالية . بعض الناس يجد هذا الجمع مستحيلا ، لكن التيار المذكور قدم دراسات نظرية وتجربة ميدانية تكشف عن امكانات كبيرة للجمع بين القيم الاسلامية واليات العمل الديمقراطية.

من بين القضايا الهامة التي حملها البيان ، نشير الى مسألة العلاقة بين الشيعة واخوتهم من المذاهب الاسلامية الاخرى . ولاحظت ان البيان قد وقع في خلط غير مقبول بين مسألتين مختلفتين تماما ، احدها هي العلاقة بين "الجماعة" الشيعية وسائر "الجماعات" التي تشكل المجتمع الوطني ، وهذه مسألة سياسية . والثانية المعتقدات والمسلمات التي تساعد على الانسجام او الفرقة ، وهي مسألة نظرية تبحث في الاطار العقيدي او الفقهي.

 نحن ندعو بطبيعة الحال الى نبذ جميع الافكار التي تؤدي الى الفرقة ، سواء كان مصدرها معارف دينية او اعرافا اجتماعية . لكن من المهم التاكيد على ان العلاقة بين الجماعات المختلفة الدينية او الاثنية ، هي موضوع تحكمه الاعراف السياسية والقوانين الوطنية. العلاقة الحسنة لا يمكن ان تقوم الا على قاعدة المواطنة ، والمساواة الكاملة في الفرص والحقوق والواجبات. ولهذا السبب فان تنظيم العلاقة بين الاطياف الوطنية ، هو مسؤولية الدولة ، فهي الجهة الوحيدة القادرة على وضع القانون وتطبيقه ، وهي المسؤولة بالتالي عن طبيعة العلاقة القائمة بين هذه الجماعة وتلك.

1 ديسمبر 2008

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...