01/12/2008

المؤتمر الاهلي الموازي لقمة الكويت الخليجية


يسعى عدد من الناشطين في المنطقة لعقد مؤتمر شعبي مواز للقمة الخليجية التي ستلتئم في الكويت منتصف الشهر الجاري. تستهدف الفكرة توجيه رسالة لحكومات المنطقة تتضمن المطالب الرئيسية للاهالي ، وهي مطالب لا تبتعد عن الوعود التي اطلقتها مؤتمرات سابقة لزعماء الخليج. وتدور بشكل رئيسي حول محورين :

تعزيز مشاركة المواطنين في الحياة السياسية وتسريع الخطوات الوحدوية بين الدول. جربت فكرة المؤتمر الاهلي الموازي لمؤتمرات القمة الرسمية في اوربا ، كوسيلة لاظهار قوة المجتمع المدني وحضوره على المستوى القاري . لا يزال المجتمع المدني في الخليج ضعيف التاثير على المستوى السياسي لكونه تجربة جديدة ولان الميدان السياسي ضيق ومحتكر من جانب النخب العليا. الانفتاح السياسي وضمان الحريات العامة هي شروط ضرورية لتحول المجتمع الاهلي الى قوة مؤثرة في الحياة العامة ، وهو ما نفتقر اليه في الخليج ، رغم التفاوت بين البلدان في مستوى الانفتاح ومؤدياته.

ليس سرا ان مجلس التعاون الخليجي قد خسر الكثير من بريقه وشعبيته في السنوات الاخيرة. بعيد تاسيسه في 1981 اعتقد اهالي الخليج ان المجلس قد ارسى اساسا قويا لتجربة وحدوية جديدة في العالم العربي . ورغم معرفة الجميع بالطبيعة المحافظة لحكومات المنطقة ، ورغم شكوك المتشائمين ، الا ان مجموع ما قيل في البيانات الرسمية وعلى هامش اجتماعات المجلس قد اوقد امالا بان وحدة الخليج اصبحت على الطريق. معظم هذه الامال تبخر الان ، ولم يعد الخليجيون يحتفلون بالقمم السنوية للمجلس كما كان الامر في البداية .

 ليس فقط لان الامر اصبح مكررا ومعتادا كما يقول بعض المراقبين ، بل لان السنوات العشر الماضية كشفت عن ميول معاكسة. نعرف على سبيل المثال ان موعد اطلاق العملة الخليجية قد تأجل فعلا ولم يبق سوى الاعلان الرسمي عن تاجيله ، بعدما كان مقررا ان يبدأ العمل الفعلي بها في اول الشهر القادم. ونعرف ايضا ان انتقال الرساميل بين دول الخليج ما زال مقيدا . كان المفترض ان يستطيع اي مواطن خليجي او شركة مسجلة في دولة خليجية العمل في الدول الاخرى كما لو كانت شركة محلية. لكن هذا الامر لا زال بعيد المنال ، اي ان فكرة السوق الخليجية الموحدة لم تتحقق رغم الاعلان الرسمي عن قيامها في يناير 2008.

اذا مررت باي منفذ حدودي بين دول الخليج فستواجهك المئات من الشاحنات التي تنتظر اياما قبل انهاء المعاملات الجمركية المعقدة بين بلدين يفترض – نظريا – ان لا حواجز جمركية بينهما. على مستوى تنقل الاشخاص لم تحدث تطورات مهمة فتنقل المواطنين بالبطاقة الشخصية لم يطبق بالكامل ، ولازال المواطن مضطرا للانتظار في كل منفذ ، خلافا للنموذج الاوربي الذي كان مأخوذا بعين الاعتبار ، حيث يتنقل المواطن والاجنبي المقيم من دون تفتيش او توقف بين الدول الاعضاء في الاتحاد الاوربي.

على مستوى الاصلاح السياسي ثمة تفاوت ملحوظ ، يشبه تماما ما كان عليه الحال قبل قيام المجلس . في قمم سابقة تحدث كل من الملك عبد الله وامير الكويت السابق الشيخ جابر الاحمد وامير قطر  الشيخ حمد بن خليفة عن ضرورة توسيع المشاركة الشعبية في العمل السياسي ، وكان ثمة اتجاه الى تشكيل ما يشبه البرلمان الاهلي في اطار المجلس ، لكن هذه الدعوات لم تقترن بوضع التزامات محددة او برنامج زمني . من المفهوم ان مثل هذا الموضوع يدخل في الاطار المحلي الذي لا يناقش في مؤتمرات القمة ، لكن كان الامل ان تسهم تلك الدعوات ، ولا سيما بسبب صدورها في اجتماعات القمة في اطلاق روحية جديدة  تؤدي الى نوع من الالتزام الادبي تجاه شعوب المنطقة.

هذه التراجعات احبطت الامال القديمة ، فهل يستطيع المؤتمر الموازي اعادة تدوير العجلة ؟.

اشرت الى ان المجتمع الاهلي ليس قويا بما يكفي لتوليد ضغط يتناسب مع حجم المهمة المطروحة ، لكن المبادرة بذاتها تستحق التقدير . انه في اقل الاحوال تحرك يستهدف اثبات وجود المجتمع الاهلي واعلان تطلعاته . واذا لم يستطع المبادرون تحقيق اهدافهم المعلنة اليوم ، فان لكل شيء بداية ، وقد تكون هذه المحاولة هي البداية المنتظرة لشيء اكبر ياتي في قادم الايام . من المهم على اي حال ان يقوم الاهالي بما يستطيعون ولو اقتصر على اعلان موقف او توجيه رسالة .
ديسمبر 2008

12/11/2008

حول قدرة المجتمعات على التحكم في حياتها


 انتخاب باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة الامريكية هو دليل آخرعلى قابلية الليبرالية السياسية لتجديد نفسها وتصحيح عيوبها. تتدخل في عملية الانتخاب عوامل كثيرة سياسية وثقافية ، تشكل بمجموعها ما نسميه بالظرف التاريخي. النجاح او الفشل في كسب اصوات الناخبين هو في اغلب الاحوال نتاج ذلك الظرف الذي قد يكون مساعدا او العكس.

يتكون الظرف التاريخي نتيجة لنوعين من العوامل ، اولها العوامل االثقافية او البنيوية ، وهي في العادة طويلة الامد من حيث التكوين ومن حيث التاثير . وقد نستطيع تسميتها بالعوامل الثابتة . اما النوع الثاني فهو العوامل السياسية التي تظهر في حالات محددة وتختفي بزوالها. يمكن التمثيل على النوع الاول بموقف الاكثرية من الاقلية . العرف الجاري في جميع الانظمة السياسية يقضي بان ينتمي رئيس الدولة الى الاكثرية. اما مثال النوع الثاني فهو تاثير التطورات الاقتصادية او السياسية في تغيير موقف الجمهور من بعض المرشحين .

 ما يهمنا في هذا المجال هو سلوك المجتمعات المختلفة من حيث نسبة انفعالها بالعوامل الثابتة قياسا الى مجموع العوامل ومن حيث قابليتها لاعادة النظر في هذه العوامل بتاثير العوامل المتغيرة. ثمة مجتمعات تلعب عواملها الثابتة الدور الحاسم في معظم مواقفها من القضايا المطروحة .

مثال ذلك موقف الولايات المتحدة وايران من التفاوض المباشر بينهما ، فمنذ قيام الثورة قبل ثلاثين عاما لم تستطع الدولتان تجاوز العوامل المانعة للتفاوض المباشر ، الامر الذي حول النزاع بينهما من خلاف سياسي الى معضلة ايديولوجية وتقليد ثابت يعجز كلاهما عن تجاوزه. ما نراه اليوم من كلام كثير حول البرنامج النووي هو مجرد وعاء للعلة الجوهرية اي العجز عن اختراق العائق التاريخي . قبل المسالة النووية تمحور الكلام حول دعم الارهاب وقبله عن اعاقة السلام في الشرق الاوسط وقبله عن تهديد امن الخليج وقبله عن تصدير الثورة. وهكذا فاننا نشهد في كل حقبة مبررا جديدا لكن المحصلة النهائية هي التاكيد على العائق التاريخي اي العجز عن التفاوض المباشر.

معظم من ناقش احتمالات فوز باراك اوباما مالوا الى التشكيك في قدرته على تجاوز العائق التاريخي او مجموع عوامل التاثير الثابتة مثل رفض الاكثرية البيضاء تولية رئيس اسود ، او رفض قطاع الاعمال المؤثر على الاعلام والراي العام تولية مرشح مصنف على يسار الحزب الديمقراطي او رفض اللوبي اليهودي دعم مرشح ذي جذور اسلامية الخ..

لا نستطيع الان لومهم على التسرع في اصدار ذلك الحكم ، لانهم قراوا التناسب بين تاثير العوامل الثابتة والمتغيرة . ولم يكن بين المتغيرات ما هو قوي الى درجة زحزحة العوامل الثابتة. لكن الذين ايدوا اختيار باراك اوباما كواحد من المرشحين الاوائل للحزب الديمقراطي ، ثم اختاروه واحدا من اثنين في التصفيات قبل النهائية ، ثم دعموه كمرشح وحيد في مقابل هيلاري كلينتون ، كل هؤلاء كانوا واثقين من قابلية المجتمع الامريكي لتجاوز العوامل الثابتة التي اصبحت عرفا عاما او تقليدا راسخا . لقد حدث هذا قبل تفاقم ازمة سوق المال في اغسطس الماضي ، اي قبل ان تبدأ العوامل المتغيرة في الاشتغال. اولئك الناس لم يكونوا قلة ، ولم يكن غالبيتهم من السود الذين ربما يشك في انحيازهم . كل ما في الامر انهم كانوا واثقين في قدرة النظام الاجتماعي الليبرالي على تجاوز تقاليده واعرافه مهما كانت عميقة الجذور.

المجتمعات المسكونة بالتاريخ ، وتلك الخاضعة لتاثير الايدولوجيا ، وكذلك المبتلاة بعلة الارتياب ، هي اقل المجتمعات قدرة على تجديد نفسها ، لانها اقل جرأة على تحدي اعرافها وتقاليدها ، واقل رغبة في الانتصار على نفسها وثوابتها ، اي في نهاية المطاف مملوكة لتجربتها الماضية وعاجزة عن التحكم في حياتها . وعلى العكس من ذلك تبدو المجتمعات الاميل الى الليبرالية اقدر على التحكم في مسارات حياتها وتغيير هذه المسارات حيثما وجدت حاجة . حينما يعجز المجتمع عن التحكم في تقاليده وذاكرته التاريخية ، فسوف يبقى سجينا لها ، يكرر صورة الماضي في الحاضر ويعيش زمنه منفصلا عن حقيقة هذا الزمن . وحينما يتحرر المجتمع من قيود اعرافه وقيود تجربته التاريخية ، يصبح الحاضر والماضي ملكا له فيعيد صياغة حاضره كما يعيد صياغة ذاته فيولد من جديد .

15-11-2008

10/11/2008

اوباما : عودة امريكا الى حلم الانسان الاول



وصول باراك اوباما الى البيت الابيض هو دليل آخر على فضائل الليبرالية السياسية . يميز الليبرالية عن غيرها من المذاهب الفلسفية خيط دقيق هو ايمانها بان الانسان الفرد هو صانع مصيره . لدى كل فرد نوعان من الصفات ، موروث عن ابويه ومكتسب بجهده . لا يختار الانسان صفاته الموروثة مثل لونه وعرقه وجنسه ودينه وانتمائه الاجتماعي ، وقد لا يستطيع التحكم فيها . لكنه يستطيع اختيار صفاته المكتسبة مثل الارادة والمستوى العلمي والكفاءة التنظيمية والعملية والمقبولية الاجتماعية. في نظام اجتماعي ليبرالي يمكن للصفات الموروثة ان تلعب دورا مساعدا او معيقا في سعي الفرد الى الرقي والصعود في مدارج الحياة . لكنها جميعا ليست عوامل حاسمة. الصفات المكتسبة هي العامل الحاسم .

قبل اربعين عاما دعا زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر مواطنيه الامريكيين الى جهاد انفسهم الميالة للاستئثار واحتكار الحقوق والفضائل ، وطالبهم بالمشاركة في تحقيق الحلم الانساني الاجمل " المساواة بين الناس في الفرص والحقوق والمسؤوليات". كان همه يومذاك هو التمييز العنصري الذي يصنف السود والملونين كمواطنين من الدرجة الثانية .

 بعد مارتن لوثر كافح الافارقة الامريكيون من اجل فرص متساوية في السياسة والاقتصاد . المتفائلون والحالمون منهم راهنوا على الكفاح السلمي في ظل القانون ، انطلاقا من الايمان بان الليبرالية قادرة على تجديد نفسها واصلاح اخطائها. المتشائمون منهم قالوا ان الليبرالية  عاجزة عن تغيير ما في داخل الانسان من نزعات الاستئثار . لكن الذي ثبت اليوم هو حلم مارتن لوثر ، الذي فكر في كفاح سلمي وراهن على فضائل الليبرالية.

في اواخر القرن العشرين بدأت معالم التغيير تتجلى ، وكان ابرز مظاهرها تعيين كولن باول كاول امريكي اسود قائدا للقوات المسلحة الامريكية. رغم الصفحات الكثيرة السوداء في سجله ، سوف يذكر جورج بوش بانه الرئيس الذي قطع الميل الاخير في تحقيق المساواة العرقية ، فقد عين اثنين من السود في اعلى مناصب الادارة للمرة الاولى في التاريخ الامريكي: اختار كولن باول وزيرا للخارجية  وكوندوليزا رايس مستشارة لمجلس الامن القومي .

يمثل اوباما املا جديدا للشعب الامريكي في تلافي الاخطاء الكثيرة التي ارتكبتها ادارته السابقة وقادت الى المزيد من الحروب والمزيد من القلق ، والمزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية كما زادت ايضا من كراهية امريكا على امتداد العالم .

في ظل نظام سياسي ليبرالي يستطيع المجتمع تعديل توازنات القوة واتجاهاتها بصورة سلمية ، بل والى حد ما بصورة احتفالية. انتخاب اوباما ليس مجرد تغيير للرئيس بل هو اعلان عن تحقق الحلم الامريكي في اقرار تكافؤ الفرص وتجسيد التعدد والتنوع على المستوى السياسي كما هو على المستوى الثقافي والمادي ، الحلم بمجتمع يسمح بالتنافس الحر ، مجتمع تستطيع اكثريته ان تجعل ممثل الاقلية قائدا لها من دون ان تسيطر عليها هواجس الارتياب .

حتى يوم امس كان رمز امريكا رجلا ابيض هاجر اليها في القرن السابع عشر ، اما اليوم فان الذي يراس هؤلاء  شاب اسود من اب مسلم هاجر اليها في منتصف القرن العشرين . وبدأ حياته بين اقل الناس حظا ، ثم تغلب على صعوبات حياته الاولى حين اختار ان يصعد عبر الطريق الطبيعي الذي يسلكه ابناء الاقلية ، اي التفوق الدراسي . ثم اصبح ناشطا في السياسة عبر الحزب الديمقراطي ومنظمات المجتمع المدني حتى انتخب نائبا في الكونغرس ومن هناك مهد طريقه الى البيت الابيض.

في مجتمع ليبرالي يستطيع ولد فقير ان يصبح رئيسا للجمهورية ، لان الليبرالية لا تتوقف عند انتماء موروث ولا ثروة . الليبرالية هي الاطار الوحيد الذي يسمح لاي كان بالصعود من خلال الكفاح السلمي المدني وخدمة الاخرين والتنافس معهم .

امريكا التي اوجعت العالم واوجعت نفسها بالحروب والتهديدات والازمات والقلق ، جاهدت نفسها وجاهدت تقاليدها العتيقة فانتصرت على ذاتها وانتصرت على تقاليدها وجددت حياتها . كانت حياتها وهويتها احادية اللون وهي اليوم ملونة ومشرقة . امريكا لم تصبح الدولة الاعظم لانها الاغنى والاكثر تقدما في العلوم ، بل اصبحت اغنى واكثر تقدما لانها آمنت بالمساواة وحرية المبادرة وتكافؤ الفرص . هذا درس لكل المتشائمين من الكفاح السلمي ولكل المتحفظين على الليبرالية ولكل المتشككين فيها او الخائفين منها.

28/10/2008

حدود الديمقراطية الدينية : عرض كتاب


حدود الديمقراطية الدينية : عرض بقلم عمر كوش 
تأليف: توفيق السيف
الناشر: دار الساقي، بيروت، 2008

أضحت العلاقة بين الدين والديمقراطية موضوع دراسات ونقاشات عدَّة في البلدان العربية، نظراً لأن الديمقراطية باتت تشكل استحقاقاً لا يحتمل التأجيل، وتفرض نفسها على مختلف البلدان الإسلامية والعربية، إضافة إلى تأثير تيارات وحركات الإسلام السياسي في مجرى الأحداث الراهنة في العالم. وفي هذا السياق ينطلق مؤلف الكتاب من النقاش المستجد في منطقة الشرق الأوسط حول العلاقة بين الدين والديمقراطية، وإمكانية إيجاد نموذج ديمقراطي قادر على التفاعل مع الهوية الدينية للمجتمعات المحلية. ويحدد هدف كتابه في اختبار إمكان تطوير خطاب سياسي من هذا النوع، من خلال اتخاذ مدخل سوسيولوجي يركِّز على مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. ويتخذ من تجربة إيران بعد الثورة الإسلامية كموضوع اختبار لفرضياته، مع التركيز على التجربة السياسية للتيار الإصلاحي بين عامي 1997 و2004، بغية تحديد المبررات الموضوعية لفشل النموذج الديني التقليدي في الحكم، وظهور التيار الإصلاحي الداعي إلى الديمقراطية في السياسة، ونظام السوق الحرة في الاقتصاد.

ويقدم الكتاب كذلك صورة مقارنة عن الأيديولوجيا السياسية للتيار الديني المحافظ، ونظيرتها الإصلاحية التي تجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية- الليبرالية. كما يقدم تحليلاً مفصلاً للأسباب التي أدت إلى فشل النموذج الديني التقليدي ومهَّدت لظهور منافسه الإصلاحي، ومحاولة معرفة المواضع التي يمكن للإسلاميين أن ينجحوا في ممارسة السلطة فيها، والمواضع التي يفشلون فيها أيضاً، وذلك من خلال دراسة حالة محددة، تتجسد في كيفية تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية على المستوى الاقتصادي، والعلاقة بين الدولة والمجتمع.

ويعرض الكتاب موجزاً للعوامل التاريخية التي أثرت في تكوين الفكر السياسي الشيعي، ثم يناقش دور الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر. كما يقدم صورة عن التحولات في بنية النظام والمجتمع الإيراني وانعكاسها على الثقافة والفكر الديني في السنوات اللاحقة للثورة الإسلامية. ثم يناقش التباينات الأيديولوجية الحادة بين التيارين المتنافسين على السلطة، الإصلاحي والمحافظ، وخلفيتها الاجتماعية والثقافية، وانعكاسها على مفهوم الدولة وممارسة السلطة عند كل منهما. ويعرض كذلك بعض المفاهيم الأساسية التي يدور حولها الجدل بين الفريقين، مثل مفاهيم الجمهورية، ومصادر الشرعية السياسية، ودور الشعب، سيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة. إلى جانب مناقشة التفسيرات التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية، والأرضية المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين في أطروحاته، مع تقديم صورة عن الأحزاب الرئيسة الفاعلة في السياسة الإيرانية، بغية الإحاطة بالوضع الإيراني وتقديم قراءة دقيقة للقوة الشعبية التي تدعم الخطابين الإصلاحي والمحافظ، ومدى فاعليتها في المحافظة على زخمه.

ويهتم المدخل السوسيولوجي بالتمظهرات الاجتماعية للأفكار، ويسعى إلى اكتشاف العوامل البنيوية وراء تغيرها وتطورها، انطلاقاً من فرضية مسبقة، تعتبر أن فهم الإطار الاجتماعي الذي ظهرت فيه الفكرة وتطورت ضروري لفهم الفكرة نفسها وتقدير أهميتها ومدى تأثيرها، ذلك أن الأفكار، مثل جميع عناصر الحياة الاجتماعية الأخرى، هي كائنات متفاعلة مع محيطها، تتطور وتتغير بتأثير من مختلف العوامل التي تسهم في تشكيل منظومة الحياة، كما أنها تؤثر في تلك العوامل. ثم يجري الانتقال إلى تطور الفكر السياسي الشيعي، لاسيَّما نظرية السلطة الدينية في إيران خلال ربع القرن الماضي، أي منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979 حتى العام 2005، والظروف الاجتماعية والسياسية التي جرى في ظلها ذلك التطور، بهدف اختبار العوامل الكامنة وراءه، وما إذا كان ممكناً في ضوئها تطوير خطاب سياسي ديمقراطي على أرضية دينية.

ويرى المؤلف أنه خلافاً للفرضية السائدة التي تقول إن الدين بذاته معوق للديمقراطية، تدلّ الملاحظة الميدانية لتجربة إيران خلال القرن العشرين على أن الدين يمكن أن يلعب هذا الدور أو يلعب نقيضه، حيث يتحدد دور الدين كمساعد للديمقراطية أو معوق لها، بتأثير عوامل خارج إطار الدين نفسه.
وهنالك معادلة خاطئة تجعل من الديمقراطية نداً منافساً للدين وهذا غير صحيح، إنه يشبه أن نسأل: هل نختار الدين أم مكارم الأخلاق؟ لقد بذل كثير من الكتاب المسلمين جهودا كبيرة ليقنعوا الناس أن الديمقراطية ليست من الدين بل هي كفر.. وهذا في الحقيقة ظلم للديمقراطية وتجنٍّ عليها، إن الديمقراطية هي الحل الأمثل للمجتمعات متعددة الأديان والمذاهب والاتجاهات، وهي حال معظم الدول في عصرنا هذا، وهي تشابه حال الدولة التي نشأت في المدينة المنورة بعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها، فقد أصبح في المدينة أكثرية مسلمة وأقلية يهودية، وكان الحل هو إبرام عقد اجتماعي واقعي عادل ولكي تتم المصالحة بين الدين والديمقراطية، يجب أن يجرى تعديل في الرؤية الدينية وتعديل مواز في مبادئ الديمقراطية. وهذا التعديل المتوازي ضروري للتوصل إلى نموذج حكم يلبي في وقت واحد المعايير الأساسية للديمقراطية والقيم الدينية التي يؤمن بها المجتمع. وليست هذه العملية سهلة أو سريعة بطبيعة الحال، إذ ثمة تعقيدات نظرية وتعقيدات اجتماعية لابد من التعامل معها بأعلى قدر من الحساسية والالتزام كي نصل بالعملية إلى نهايتها السعيدة.

 وبالنسبة إلى التجربة الإيرانية، ورغم ما تنطوي عليه الجدالات الراهنة من وعود وما حققته فعلياً من تقدم على أكثر من صعيد، فإنه من الواضح أنه ما زال على الإيرانيين التوصل إلى حل للعديد من القضايا الإشكالية العسيرة قبل بلوغ الغاية المنشودة، أي صوغ معادلة تحقق التناغم والانسجام الكلي بين الديمقراطية والدين. وتبقى مسائل مثل مصدر السيادة، ووظيفة الدولة فيما يتعلق بالدين، والحقوق الدستورية، وما إلى ذلك، هي جميعاً مسائل جديدة في الفكر الديني.

ويعتبر المؤلف هيمنة الروحانيين على الحياة السياسية والاجتماعية معوقاً رئيساً للتحول الديمقراطي في الجمهورية الإسلامية، لأن الروحانيين يعتبرون أنفسهم أصحاب النظام وأولى الناس باحتلال المناصب الرئيسة في الدولة. وهم لا يكتفون بممارسة الأعمال التي تدخل ضمن نطاق اختصاصهم كطلاب شريعة، بل يتدخلون في كل أمر بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وفي بعض الأوقات، يشير بعضهم إلى ضرورة بقاء رئاسة الجمهورية في يد الروحانيين لنصف قرن على الأقل.

وتنطوي هذه المسألة على نوع من التمييز ضد عامة المواطنين، كما تؤسس لمبدأ خاطئ يتمثل في تقديم المكانة على الكفاية. لكن أخطر ما فيها هو إلقاء نوع من العصمة على الحاكمين باعتبارهم متحدثين باسم الله وممثلين رمزيين للإمام المعصوم. وأصبح من الصعب، من الناحية الواقعية، إخضاع الروحانيين للمراقبة والمحاسبة أو تحدي سلطتهم بالوسائل الديمقراطية. أما الديمقراطية فتتجسد أولاً وأخيراً في تحديد سلطات الحاكمين وتمكين الشعب أو ممثليه من مراقبة أعمالهم ومحاسبتهم عليها.
وقد عرفت إيران صعود حركة إصلاحية، تُوِّجت بوصول محمد خاتمي إلى كرسي الرئاسة، ثم ما لبث التيار المحافظ أن عاد إلى تسلم السلطة من جديد.

وهناك أسباب عدَّة أفضت إلى عودة المحافظين بخلفياتهم السياسية والاقتصادية والأيديولوجية. ومن الصعب الحديث عن الديمقراطية في إيران في ظل نظام لا يسمح بالتعددية وحرية التعبير والرأي، مع أن الديمقراطية بالإضافة إلى أنها تقتضي الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، فإنها تقوم أيضا على مجموعة من المبادئ السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية التي تصلح لأن تجتمع عليها أصوات ثلثي الأمة أو أكثر، وهو المقدار الذي يلزم لإجراء تعديل دستوري في أغلب الأنظمة الديمقراطية.
ويحاول بعض المفكرين الإيرانيين البحث عن إمكانية تركيب مفهومي بين الدين والديمقراطية، وفي المجال نفسه يجادل مؤلف الكتاب مفترضاً أن الديمقراطية، بوصفها حكم الشعب، هي نظام ممكن من الناحية الدينية، بل هي نظام أفضل من الناحية الدينية، فيجري توافقاً وتطابقاً بين القبول التوافقي وإجماع الأمة، معتبراً أن القبول التوافقي بالقيم الديمقراطية والحكومة التي تجسدها سوف يوفر ظرفاً أفضل للاعتقاد الحر والممارسة الحرة لمقتضيات الإيمان، وعليه فإن النظام الديمقراطي أكثر إنسانية، كما أنه أكثر دينية من أي نظام استبدادي.

جريدة العرب القطرية 2008-10-26

مقالات ذات صلة:

09/10/2008

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟



قبل عقدين من الزمن حذر باحثون من افراط دول الخليج في ربط حياة سكانها واقتصادياتها بتصدير البترول الخام . وظهرت في هذا السياق دراسات كثيرة تدعو الى تنويع مصادر الدخل القومي ، توسيع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، والاهتمام بتطوير القدرات البشرية. اواخر الثمانينات من القرن المنصرم تدهورت اسواق البترول ، فانخفضت اسعاره ومعها الدخل القومي في دول الخليج .
ونتيجة لذلك فقد شهدت جميع هذه الدول هزات اقتصادية اظهرت ان التحذيرات السابقة لم تكن كوابيس متشائمة ، بل رؤيا صادقة مستمدة من دراسات محايدة وتجارب فعلية . فقد بدأنا نسمع عن ازمة بطالة لا تستطيع الحكومات علاجها حتى في اقل الدول سكانا واكثرها ثروة . بطبيعة الحال فقد سالت انهار من الحبر في رثاء مرحلة الطفرة والدعوة للترشيد وحماية المال العام وما اشبه . لكن احدا من السياسيين والمخططين لم يخرج الى العلن ليقول انه قد اخطأ في حساباته القديمة وانه كان بحاجة الى توجيه معظم الاموال التي كانت متوفرة بكثرة الى الاستثمار المحلي ، ولا سيما في ايجاد مصادر جديدة للدخل القومي الى جانب البترول.

 لا نتوقع من الحكومات العربية الاعتراف بالخطأ ، فهذه ليست عادة عربية. لكننا ايضا لم نسمع عن دراسة لنقاط الضعف التي شابت السياسات الاقتصادية السابقة ، ولم نسمع عن استراتيجيات بديلة ، واقعية او افتراضية ، لتعويض ما فات . استراتيجيات تجيب على سؤال : ماذا سنفعل لو عاد زمن الطفرة النفطية وتوفر لنا نفس القدر من المال الذي غفلنا عن استثماره في عقد السبعينات؟.

خلال السنوات الخمس الماضية ، واصلت اسعار البترول ارتفاعها وحققت مستويات غير مسبوقة . واثمر هذا عن حل الكثير من المشكلات المؤرقة مثل مشكلة البطالة والسكن وانخفاض الاستثمار في الخدمات العامة. لكن يبدو اننا لا نتعلم من تجاربنا الخاصة فضلا عن تجارب غيرنا . خلال هذه الفترة تضاعف الدخل القومي في الخليج عدة مرات وحققنا للمرة الاولى منذ عقدين فوائض هائلة . لكن الاهتمام بتنويع مصادر الدخل القومي لا زال فاترا .

 نجد ان قطاع التطوير العقاري قد استحوذ على حصة الاسد من مجمل الاستثمار الاهلي والحكومي خلال هذه الفترة . نعرف طبعا ان هذا القطاع هو الاقرب الى قلوب الناس ، لان الثقافة التقليدية السائدة في الخليج تقول عادة "ان العقار يمرض لكنه لا يموت". بعبارة اخرى فان المخاطرة في هذا القطاع شبه معدومة. بخلاف الاستثمار في الصناعة والتقنية الذي يعتبر عندنا خطيرا بسبب احتياجه الى رساميل كبيرة وكفاءة تشغيل وادارة عالية.

لا يستطيع احد ان يلوم القطاع الخاص اذا ابتعد عن المغامرة ، لكننا بالطبع نلوم الحكومات اذا تبنت نفس هذا المنظور الكسيح. في كل دول العالم ، الراسمالية فضلا عن غيرها ، تتحمل الحكومات عبء المغامرة في القطاعات التي يعرض عنها بقية الناس . ولا سيما تلك القطاعات الضرورية للحفاظ على الثروة الوطنية او تطوير مستوى الحياة ، ومن بينها بطبيعة الحال الاستثمارات الضرورية لتنويع مصادر الدخل القومي وتعزيز الدورة المحلية لرؤوس الاموال.
كما نلوم الحكومات اذا وجدنا القطاع الخاص خائفا او مترددا . الخوف من المخاطرة الاستثمارية ليس صفة ثابتة او نهائية ، فهي تتناسب مع تقدير المستثمر للعناصر التي تشكل البيئة الاستثمارية في بلده. خلق البيئة الاستثمارية الجاذبة ليس مسؤولية المستثمرين بل مسؤولية الدولة. الدولة وحدها تستطيع اقناع الناس بان القانون سيد وحاكم ، وان الجميع يحصل على نفس الامتيازات ويتحمل نفس المسؤوليات. الدولة وحدها تستطيع اقناع المستثمرين بان السياسات توضع لتسهيل الاعمال لا لتعقيدها ، وانها مرنة في معالجة الاشكالات والعوائق التي تظهر بين حين واخر.
 اذا وجدت البيئة الاستثمارية المناسبة ، فسيقبل المستثمرون – بعضهم على الاقل – على العمل في بلدهم. لكنهم سيبحثون عن الفرص المتاحة خارجها اذا وجدوا الابواب مغلقة والاذان صماء.

رغم ان اسعار البترول لا زالت اعلى من اي وقت في السنوات الماضية ، الا ان الفوضى العارمة في اسواق العالم المالية تلقي بظلال سوداء على النشاط الاقتصادي في الدول المستهلكة للبترول . واذا حصل ذلك فسوف نشهد بالتاكيد تراجعا منتظما في اسعاره ، ربما تعيدنا الى الظروف التي عرفناها في الثمانينات ولم نتعظ بدروسها. قد لا يحدث الاسوأ ، لكن من يضمن ذلك؟. من كان يعرف ان اسعار البترول التي بلغت 45 دولارا في اواخر السبعينات ستعود الى 15 دولارا في منتصف الثمانينات ؟. من كان يعرف ان مئات المليارات من الفوائض التي تراكمت في تلك الحقبة سوف تتبخر مثل قطعة ثلج في عز الصيف ؟.

دعونا نقف الان لنفكر في الاجابة على ذات السؤال الذي سكتنا عنه خلال الازمة السابقة : ما هو العيوب التي ظهرت في نظامنا الاقتصادي ، وماذا كنا سنفعل لو توفر لدينا المال الكافي ؟.
الايام 9-10-2008

20/09/2008

من يستطيع اتخاذ قرار القتل

انشغلت البلاد هذا الاسبوع بفتوى الشيخ صالح اللحيدان الذي اجاز قتل ملاك القنوات التلفزيونية غير الملتزمة بتعاليم الدين الحنيف. ومع ان اللحيدان الذي يراس مجلس القضاء الاعلى حاول لاحقا التخفيف من حدة فتواه واصدر ما يشبه الاعتذار عنها ، الا ان الجدل حولها لم يتوقف. واللحيدان واحد من الثلاثة الكبار في المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية ، وهو ينتمي الى مدينة البكيرية بمنطقة القصيم التي جاء منها معظم الزعماء الدينيين وكبار رجال الدولة. 

هل يُعذر الجاهل بجهله في أمور دينه ؟ : الشيخ صالح اللحيدان حفظه ...

وخلال العقد الاخير اصبح مع زميله الشيخ صالح الفوزان نقطة جذب للتيار التقليدي المتشدد ، واتخذ مواقف معارضة للملك عبد الله ، كان ابرزها معارضته لالحاق تعليم البنات بوزارة التربية بعدما بقي نصف قرن تحت هيمنة المؤسسة الدينية ، فضلا عن تجميده لبرنامج اصلاحات في الجهاز القضائي. كما اظهر في مناسبات عدة قلقه من تساهل الحكومة مع ما يعتبره تناميا مضطردا للاتجاه الليبرالي بين السعوديين.

ولفت الانتباه في الجدل المذكور سكوت الاعلام الرسمي عن الهجوم الشرس الذي تعرض له اللحيدان. كما ان مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز ال الشيخ ، ناى بنفسه عن الجدل قائلا انه لم يبلغ بحيثياته . اما الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار في وزارة العدل وعضو مجلس الشورى فقد نشر ردا عنيفا على اللحيدان واتهمه بتبرير الارهاب والاساءة الى سمعة البلاد . وياتي الهجوم الصحفي على اللحيدان بعد ايام قليلة من هجوم مماثل على زميله في هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان على خلفية معارك مع صحفيين وكتاب راي. ويقول كثير من السعوديين ان ما جرى يدل على نهاية العصر الذي كان محرما فيه توجيه النقد الى رجال الدين ولا سيما الكبار منهم.

وتشكل القضية في مجملها دليلا على تصاعد الصراع بين جيلين من رجال الدين. الجيل القديم الذي استمد قوته من المؤسسة الرسمية ونجح في تحويلها الى مركز قوة شخصي ، والجيل الجديد الذي يحاول الاستقواء بالشارع ، ولا سيما الطبقة الوسطى ، لازاحة سلفه. ولم تحسم الحكومة امرها ، فهي من الناحية الرسمية تقف مع الجيل القديم الذي يعتبر حليفا معروفا ، لكنه في الوقت نفسه عاجز عن تفهم الحاجات السياسية للدولة ، سيما بعد احداث 11 سبتمبر التي رسمت صورة قاتمة للمملكة وتوجهاتها الدينية. من ناحية اخرى فان كثيرا من كبار مسؤولي الدولة يميلون الى الخطاب المعتدل نسبيا الذي يعبر عنه دعاة من الجيل الجديد مثل عبد المحسن العبيكان وعايض القرني وسلمان العودة . ويعتقد ان هؤلاء اقدر على اعاقة انتشار التيار الذي يوصف بالسلفية الجهادية ، المؤيد لزعيم القاعدة اسامة بن لادن . لكن الاجهزة الحكومية ، لا سيما الامنية منها ، لا تثق تماما في الدعاة الجدد ، خاصة وانهم جميعا صنعوا نفوذهم خارج الاطار الرسمي ، وكانت لهم توجهات معارضة في الماضي.

  من ناحية اخرى فان الجدل يمثل نوعا من الاختبار لنفوذ الاطراف المشاركة فيه. تساءل احد المراقبين : اذا كان اللحيدان يرى ان ملاك القنوات الفضائية يستحقون القتل ، فلماذا لم يحرك القضاء الذي يرأسه لاتخاذ اجراءات فعلية ، خاصة وان معظم القنوات التي يدور حولها الجدل مملوكة لسعوديين او يشارك في تمويلها سعوديون. "حين تكون خارج السلطة – يقول احدهم - فان فتواك هي مجرد رأي ودعوة ، اما حين تملك السلطة اللازمة فانك مسؤول عن تنفيذ ما تراه حقا وضروريا". لكن الجميع يعلم ان اللحيدان لا يستطيع تنفيذ فتواه حتى لو كان رئيسا للجهاز القضائي . قضية مثل هذه تحتاج الى قرار سياسي يتجاوز السلطة القضائية ، وهو يعلم انه لا يملك هذا القرار وان قرارا  كهذا لن يتخذ في اي وقت . في مناسبات سابقة تدخلت الحكومة لصالح منتقدين للمؤسسة الدينية الرسمية ورجال الدين . وقبل عامين حكم احد القضاء بالجلد على الدكتور حمزة المزيني ، وهو اكاديمي ومفكر اشتهر بنقده العنيف للمؤسسة الدينية ، لكن تدخل الحكومة ادى الى تعطيل الحكم استنادا الى نص في قانون المطبوعات يخص وزارة الاعلام بالحكم في جرائم النشر . وقيل يومئذ ان الحكومة لم تشأ السماح لرجال الدين المتشددين باستثمار سيطرتهم على القضاء في تصفية حسابات خاصة .

من المؤكد ان سكوت الهيئات الرسمية عن الجدل الحاضر هو اسلم الخيارات . فهو سيكفل من جهة تفهيم كل طرف بالحدود التي ينبغي ان يتوقف عندها ، وسيضمن من جهة اخرى اضعاف موقف رجال الدين الكبار الذين ربما فكروا في استثمار مكانتهم لاعاقة سياسات حكومية لا يرتضونها .

تكشف هذه القضية عن جانب من التجاذبات الكثيرة التي يحفل بها المشهد السياسي في منطقة الخليج ، ولا سيما تلك التجاذبات الدائرة حول مكانة الدين في الحياة العامة وحدود الدور السياسي لرجال الدين ، الذين في مؤسسة الدولة والذين في خارجها.

20 سبتمبر 2008

مقالات ذات صلة

تحولات الاسلام السياسي في السعودية ومستقبله

التيار الديني والدولة في المملكة : تحليل لمسار العلاقة

بعد عام على صدوره : بيان "نحو دولة الحقوق والمؤسسات" حجر زاوية في تاريخ التيار الديني السعودي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

ثوب فقهي لمعركة سياسية

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

رأي الفقيه ليس حكم الله

 فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

 في الفتوى والتخصص

 تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

الشيخ القرني في باريس وجهات "الخطر" وقهر العامة

  لتفاصيل حول فتوى الشيخ اللحيدان ، انظر  العربية.نت (14-9-2008)

12/09/2008

خدمات الشرطة التي لا يرغب فيها احد


نشرت الجمعية الوطنية لحقوق الانسان في المملكة العربية السعودية كتيبا بحجم الجيب عنوانه "حقوق السجناء والسجينات وواجباتهم". هذا الكتاب الصغير الحجم هو – في ظني – واحد من افضل ما نشر في مجال حقوق الانسان خلال السنوات الاخيرة. هناك بطبيعة الحال كتب عظيمة الاهمية في هذا الحقل ، لكن ميزة هذا الكتيب تكمن في مباشرته ، انه اشبه بدليل عمل لمن القت بهم اقدارهم الى التوقيف او السجن.


من دون مقدمات او ديباجة ، يبدأ الكتاب بعرض مختصر لحقوق الموقوفين والمتهمين التي تضمنها نظام الاجراءات الجزائية مثل المادة التي تنص على حق المتهم في معرفة اسباب توقيفه فورا ، وان يستند التوقيف الى امر مسبب من جهة ذات اختصاص. وتعالج المادتان مشكلة كانت شائعة في البلاد ، ويبدو انها لا زالت قائمة في بعض المناطق وبعض الظروف ، حيث يجري توقيف شخص بتهمة لكنه يحاكم او يسجن بتهمة اخرى ، او يجري توقيفه بامر اداري تصدره جهة غير امنية او قضائية. ويلخص هذه الحالة مثل مشهور ، مضمونه ان الداخل الى دار الشرطة مفقود والخارج منها مولود. بعبارة اخرى فقد كانت جهة التوقيف تعتبر الموقوف مكسبا لا يفرط فيه ، فاذا لم تستطع اثبات الاتهام الاول ، فهي ستناضل لايجاد تهمة اخرى قابلة للاثبات ، وبالتالي محاكمة المتهم او سجنه. مثل هذه الممارسة لم تعد شائعة كما كان الامر في الماضي ، لكنها لم تنته تماما ، ولا زال متهمون كثيرون يذهبون ضحية جهلهم بحقوقهم ، او ضحية اصرار جهة الضبط او الاتهام على انجاح قضيتها ، بغض النظر عن حقوق المتهم ومقتضيات العدالة.

وحسب علمي فان هذه الممارسة شائعة في دول عربية كثيرة. وهي بالتاكيد احد اسباب الهوة القائمة بين المواطنين واجهزة الامن خصوصا ، وبين المجتمع والدولة بشكل عام. واذكر من الحقبة التي عشتها في العراق شعار "الشرطة في خدمة الشعب" الذي يرفع امام دوائر الشرطة ، لكني لم اجد شخصا واحدا يثق في خدمات الشرطة او يرغب في التمتع بها. الجميع كانوا يخشون التورط مع الشرطة في اي قضية صغيرة او كبيرة ، لانهم اذا دخلوا فان خروجهم يحتاج الى معجزة. وكان الشعار الذي يتردد – عفويا - في نفوس الناس حين يجري الحديث عن اجهزة الامن : "ابعد عن الشر وغني له".

ومن ضمن الحقوق التي يعرضها الكتاب المذكور ، نشير الى حق الموقوف في الاتصال بمن يراه ، لابلاغه بواقعة القبض. وكانت العادة الجارية هي منع المتهم من الاتصال باي كان ، قبل اقراره بالتهمة وتوقيعه على محضر التحقيق. والمؤسف ان هذه العادة السيئة كانت تستند الى امر مكتوب من جانب احدى الجهات العليا. وقد سبق ان جادلت فيه احد المسؤولين المختصين ، ظنا مني انها مجرد تقليد لا يستند الى اساس قانوني. لكنه اطلعني على نص الامر الذي يخرق ابسط مقتضيات العدالة.

ويؤكد الكتيب – استنادا الى نظام الاجراءات الجزائية – على ان لا تتجاوز مدة التوقيف 24 ساعة ، ويجب ان يحال بعدها الى هيئة التحقيق والادعاء العام ، او يطلق سراحه. واذا حول الى هيئة التحقيق فيجب ان لا تتجاوز المدة القصوى للتحقيق ستة اشهر ، يسلم بعدها الى المحكمة او يطلق سراحه.

والمؤسف ان هذا البند لا يطبق الا نادرا. هناك الان عشرات من السجناء لم يوجه اليهم اتهام رسمي ولم يحدد موعد لمحاكمتهم رغم مضي شهور طويلة على توقيفهم ، ربما لعدم توفر عدد كاف من المحققين ، او لعدم توفر الادلة على الاتهام الاصلي ، او لاسباب اخرى. وكان حريا باجهزة الامن اطلاق سراحهم استنادا الى ذلك النص الصريح. لكن لسبب لا نعلمه بقي هؤلاء قيد التوقيف ، فلا هم مسجونون بشكل رسمي ولا هم احرار.

يعرض الكتاب ايضا حق المتهم في الاستعانة بمحام في مرحلتي التحقيق والمحاكمة. وهذا ايضا من الحقوق المعطلة ، لان جهات التوقيف لا تنتظر حصول المتهم على محام ، ولان الناس لا يعرفون ان من حقهم عدم الرد على اي سؤال قبل ان يحصلوا على مساعدة قانونية. واود الاشارة هنا الى ان من ابرز سمات النظام القضائي في الدول الغربية ، هو ضمان الدولة لحق المتهم في الحصول على مساعدة قانونية على نفقته ان استطاع ، وعلى نفقة الدولة اذا عجز. والمبدأ السائد هناك ، هو ان للمتهم الحق في رفض التعاون مع جهة التوقيف او الاتهام ، اذا كان تعاونه سيؤدي الى ادانته باي جرم. من حق المتهم ان يحظى بكل فرصة ممكنة لاسقاط الاتهام او تخفيف التهمة ، ولا يعتبر هذا تحايلا على القانون ، بل هو حق ثابت وطبيعي للمتهم حتى لو كان قد ارتكب جريمة بالفعل.

هذا الكتيب يمثل اضافة هامة الى ثقافة حقوق الانسان ، واتمنى ان يطلع عليه كل مواطن ، كما اتمنى ان يقراه خصوصا ضباط ورجال الامن في البلاد ، كي يضمنوا التزامهم بحدود القانون ومقتضيات العدالة ، عندما يتعاملون مع المتهمين او الموقوفين. التزام رجل الامن بالقانون ليس فقط ضرورة وظيفية ، بل هو ايضا واجب ديني ووطني واخلاقي. يمكن لرجل الامن ان يكون حافظا لحقوق الناس كما يمكنه ان يكون جلادا ، والفارق بين الحالتين هي التزامه بحدود القانون المكتوب.



صحيفة الأيام البحرينية - 12 / 9 / 2008م 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...