30/04/2008

رأي الفقيه ليس حكم الله

؛؛ تفكير الفقيه في الموضوعات والحوادث ومحاولاته لاستنباط احكام شرعية، يتاثر- مثل سائر الناس – بما حوله وما يعيشه من ظروف وضغوط وسبل حياة ؛؛

لعلك ترغب أيضا في معرفة "متى يصبح رأي الفقيه حكم الله"

الأصل في الفتوى أنها رأي شخصي للفقيه، وهو رأي قد يوافق آراء الفقهاء الآخرين وقد يخالفهم. واتفق الأصوليون والدعاة معاً على أن اختلاف الفتوى سبب للتيسير على المكلفين، والتيسير أصل في سلامة الحكم الشرعي. وذهب كثيرون إلى أن اختلاف الفتوى من أسباب استيعاب الشريعة المقدسة للتحديات المتولدة عن اختلاف الأزمنة وتغير ظروف المعيشة والثقافة وحاجات المجتمع. وكان من سمات عصور التخلف توقف الفقهاء عن نقد فتاوى أساتذتهم وذوي الشهرة من معاصريهم وقدمائهم.
 وشهدنا في السنوات الأخيرة عدول عدد ملحوظ من الفقهاء عن آراء مشهورة لأسلافهم، بل وعدولهم عن آراء خاصة سبق لهم أن استدلوا عليها وتبنوها وأفتوا بها ودافعوا عنها. وبين أبرز ما يذكر هنا رأيهم في عمل النساء وشروط الزواج، ورأيهم في أشكال الممارسة السياسية الحديثة، وفي التعاملات المصرفية والتأمين، وفي السفر إلى غير بلاد الإسلام.. الخ.
واختلاف الفتوى هو السياق الطبيعي؛ لنأخذ مثلا القروض البنكية التي دار حولها خلاف كبير، فقد ركز أكثر الفقهاء على الفائدة المشروطة كسبب لتصنيف القروض ضمن المعاملات الربوية المحرمة. بينما ميز كل من شيخ الأزهر السابق ، وكذلك اية الله صانعي بين القرض الاستهلاكي والاستثماري، ورأوا أن الثاني لا تعيبه الفائدة لأن المقرض شريك في فائض القيمة التي يولدها رأس المال فله حق في الربح، كما ركز الرجلان على ناتج الاستثمار وهو العمران في الأرض وتحسن المعيشة للمقترض وغيره. ونظر المرحوم شمس الدين إلى اختلاف النظام الاقتصادي ودورة رأس المال في زمن النص عنه في الزمن الحاضر، ولاسيما اختلاف مفهوم العمل والتباين بين حصة كل من رأس المال والعمل في تكوين الناتج.
ويقال مثل ذلك عن تحريم السفر الى بلاد الكفار، فقد استدل المانعون بنصوص صريحة من السنة، بينما ركز المجيزون على اختلاف الظرف الذي وردت فيه تلك النصوص عن ظرف العالم الراهن، كما استدلوا بالتجربة التي تثبت بوضوح أن المسلمين الذين سافروا الى بلاد الكفر قد حافظوا على دينهم ولم يتحولوا كفارا. فالواضح أن هؤلاء نظروا الى الرسالة الداخلية للنص أو غرض الحكم وليس ظاهره أو منطوقه ولو كان صريحا بينا في التحريم.
والفقيه - مثل سائر خلق الله - يتفاعل مع محيطه، يتأثر بظروفه المادية والثقافية، وبما يجيش في صدور الناس حوله من هموم وتوجهات وانفعالات ومصالح ومصادر قلق ورغبات وتطلعات، وما في نظامهم الاجتماعي من أعراف وتقاليد وأنماط معيشة. وهو - مثل غيره - يتعرض لعوامل الجذب والطرد في داخل البيئة الاجتماعية، كما يتعرض لمصادر الضغط وردود الفعل، سواء تلك التي تتولد في داخلها أو تنعكس عليها من الخارج. يضاف إلى هذه ايضا العوامل الشخصية التي تشمل الانتماء الطبقي أو الاثني، المستوى المعيشي، مصادر التعلم والثقافة، ومقدار المعلومات والمعارف المتوفرة له، والتجربة الحياتية الشخصية. فمجموع هذه العوامل يؤثر تاثيرا قويا على رؤية الفقيه للموضوعات وظروفها، وبالتالي على اختياره للقواعد الشرعية التي يطبقها على الموضوع. ولهذا السبب تأتي آراء الفقهاء متباينة في الموضوع الواحد.
هذا التمهيد يثير سؤالين ضروريين:
الأول: اذا كان رأي الفقيه - كبيرا كان او صغيرا - على النحو المذكور، فهل يعتبر مطابقا لحكم الله، أو هل يصح أن نطلق عليه صفة (حكم الله) أو (حكم الدين)، أم يبقى مجرد رأي شخصي محترم مثل سائر النظريات والآراء العلمية التي يلتزم بها المتلقي أو يعرض عنها بحسب اختياره؟.
الثاني: هناك على الدوام حاجة لأحكام ملزمة، مثل الأحكام التي تصدر عن جهات سيادية في الدولة، او الأحكام التي يصدرها القاضي في النزاعات. وهي أحكام تؤثر في الناس وفي مصالحهم، وقد تقيم حقوقا وتبطل أخرى. فهل يصح الرجوع الى رأي شخصي معرض للعيب والقصور في مثل هذه الاحكام، أم نختار طريقة مختلفة للحكم في مثل هذه المسائل، تعين على تقليص احتمالات الخطأ الشخصي؟.

عكاظ العدد 2509 - 30 أبريل/2008   https://www.okaz.com.sa/article/181336
مقالات ذات علاقة
·          


23/04/2008

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات



يقول الاستاذ جمال سلطان إنه ضرب كفا بكف بعدما وجدنا نستعيد جدلا حول العلاقة بين الدين والعلم، انتهى منذ نصف قرن أو أكثر. ولا ينسى الإشارة إلى أن هذه الاستعادة هي ثمرة انبهار بالتطور التقني في الغرب، وانها قد تعمق العجز عن النهضة. وهو لا يرى في هذه النقاشات جدوى، لأنها تماثل الإسلام الذي يعلي شأن العلم مع الديانات التي لا تقيم له وزنا (عكاظ 17 ابريل 2008).
عبد العزيز قاسم
يرى الأستاذ سلطان اذن ان المشاركين في هذا الجدل لا يعرفون عما يتحدثون؛ فهم يخلطون بين الموضوعات والإشكاليات. وبحسب روايته في مقالة أخرى فقد رأى قبل عشر سنوات شبابا سعوديين يغلب عليهم ما وصفه بـ(المراهقة الثقافية) في نقاشاتهم حول الدين ودوره (المصريون 1 ابريل 2008). ولعله وجد الجدل الحاضر دليلا على استمرار تلك المراهقة بين المثقفين السعوديين، لا سيما كاتب هذه السطور وزميله في النقاش. واني لأعجب لمثقف يكتب مثل هذا الكلام.

الاستاذ سلطان يكرر كلام الزميل د. قاسم حول إعلاء الإسلام لشأن العلم. وهذا ليس موضوعا لنقاشنا ولم أتطرق إليه البتة. واستغرب قوله بأن المتحاورين يخلطون بين الإسلام وغيره في موقفهم من العلم. على العكس من ذلك فقد أكدنا على أن الروح العلمية في الإسلام تقتضي بالضرورة تحديد نطاقات مختلفة لكل من الدين والعلم. وقد شرحت هذا المعنى في أكثر من مقال. وأكدت تكرارا أن الدين مصدر للقيم والأحكام، أما العلم فغرضه كشف الواقع وتفسير حركة الاشياء التي هي أجزاء لهذا الواقع وكيفية تطورها والعلاقة بينها وسبل التحكم فيها وتسخيرها.

هذه النقطة بالذات كانت موضوعا لمقالتين كتبهما د. خالد الدخيل (الاتحاد الاماراتية 2، 16 ابريل)، وهو يضيف الى النقاش بعدا جديدا. اضافة الى هذه، عرض الدخيل نقطة جديرة بالاهتمام في النقاش حول الدين ودوره، ألا وهي القلق الايديولوجي الذي يسكن كثيرا منا، القلق من أن الجدل حول الدين ربما يستبطن (نية) للتهوين من شأن الدين أو قيمته الدنيوية أو لاقصائه عن الحياة اليومية. ونجد تمثيلات لذلك القلق في صورة اتهام صريح أو مبطن بأن المشاركين في الجدل منبهرون بالغرب أو ثقافته أو قوته، كما نجده في صورة اتهام بأن من يجادل لا يعرف الإسلام، أو على شكل تحدٍ انفعالي.

هذه الظنون والأحكام اراء محترمة لأصحابها، وهم لا يحتاجون الى التخفيف منها او تليين الكلام حولها. إني لا أشك ابدا أن المحرك الرئيس للنقاش حول الدين ودوره هو شعور بعض المسلمين بالأسى لما آلت إليه الأمور. تولد هذا الشعور في رحم المقارنة بين حالنا وحال العالم. قد تسمي هذا انبهارا وقد تسميه انفتاحا وقد تسميه تأملا في الذات. سمّه ما شئت، لكن جميع العقلاء يعرفون ان التفكير لا يبدأ الا اذا حركه دافع خارجي. وأبرز الدوافع هو اكتشاف الفارق بين الواقع والمثال، أو بين مستوى من مستويات الواقع والمستوى الاعلى منه.

الإسلام ليس في قفص الاتهام، ولن يزيده أو ينقصه قلمي أو قلم غيري. نحن، أهل الاسلام، في قفص الاتهام، ثقافتنا وافهامنا وتطبيقاتنا، وعلاقتنا بالدين والدنيا، كلها موضوعات للنقاش. ما يعمق الاحباط والعجز ليس النقاش في الدين كما اشار الاستاذ سلطان، بل الخوف من مجادلة المسلمات التي اصطنعها البشر من مسلمين وغير مسلمين، من حملة العلم الديني وغيره، فضلا عن عامة الناس. بعض هذه المسلمات هي أغلال على عقولنا وأغلال على حياتنا.

 وهي بين العلل الأولى لتخلفنا عن مسيرة المدنية في عالم اليوم. نحن لا نفهم العلم والتقنية كنشاط خرافي، كما رأى سلطان، بل نعرفه كمنتج إنساني لصيق بتاريخه وبيئته. ونعرف أيضا أن الخلط بين الدين والخرافة ورفع الخرافات إلى مقام القيم الدينية هو واحد من أسباب التخلف والعجز. نحن ندعو الى إعلاء مقام العقل وتحرير البحث العلمي من قيود القيم والتصورات، وهدفنا هو كشف الخط الفاصل بين القيمة الدينية والخرافة، بين ما هو موضوع للوحي وما هو موضوع للعقل، بين ما يتجه إلى الأشياء وما يتجه إلى الإنسان.
عكاظ 23 ابريل 2008
https://www.okaz.com.sa/article/179735

مقالات ذات علاقة


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...