23/01/2008

البيروقراطية والإدارة


 في العالم اليوم موجة جديدة عنوانها "تطبيق معايير الإدارة الصالحة". تستهدف هذه الفكرة وضع نظام محدد لاختبار وتقييم كفاءة الادارة العامة واهليتها لتحقيق اغراضها. انها بعبارة اخرى محاولة للاجابة على سؤال: كيف تحقق الادارة هدفها المحوري -اي خدمة المجتمع- على اكمل وجه؟.
في ما مضى من الزمن كان يقال انه لا يمكن وضع مقاييس مالية لتقييم كفاءة البيروقراطية الرسمية، لأنها لا تستهدف الربح بل الخدمة العامة. والخدمة العامة بطبيعتها انفاق من دون عائد فوري او ملموس. بخلاف الادارة التجارية التي تستهدف مباشرة زيادة الارباح من خلال زيادة الانتاج وتخفيض الكلف، والتي لهذا السبب يمكن قياس كفاءتها بالرجوع الى حجم الارباح وحجم الخسائر. لكن اقطاب الموجة الجديدة، وابرزهم -ربما- البنك الدولي، يرون جانبا آخر للمسألة. الادارة، ايا كانت طبيعتها، عمل انساني قابل للقياس والتقييم بالرجوع الى اهداف معينة ومسار عمل معين.
في بداية القرن الماضي شدد ماكس فيبر على اهمية البيروقراطية ودورها في عقلنة السياسة وتحديث الحياة العامة. واشار خصوصا الى العنصر الجوهري في البيروقراطية، اي اعتمادها على القوانين والتعليمات المكتوبة، الامر الذي يسهل المتابعة والمحاسبة ويخفف من الطابع الشخصي في العمل العام. نحن اليوم في عالمنا العربي نضيق من بطء البيروقراطيين وترددهم، لكن هذا افضل على اي حال من ادارة مفككة يعمل كل رئيس فيها بحسب مشتهياته واهوائه، وربما مصالحه وتوجهاته الشخصية.
لكننا مع ذلك بحاجة الى وضع نظام يحول دون تحول الادارة من صورتها المثالية كوسيلة لخدمة الجمهور، الى مؤسسة خاصة للافراد النافذين او ذوي المصالح. او ربما تحولها من وسيلة لتسهيل وتطوير الخدمة العامة الى عائق يسد ابواب الخير على الناس باسم القانون او باسم المصلحة العامة. ولهذا السبب بالتحديد ظهرت الموجة الجديدة التي تسعى لنزع الصورة السلبية التي ارتسمت في اذهان الناس عن البيروقراطية وقدرتها الفائقة على التعطيل والاعاقة. في فبراير 2005 استضاف الاردن مؤتمرا شاركت فيه 16 دولة عربية، لمناقشة العلاقة بين الادارة والتنمية. وكشفت مناقشات المؤتمر عن خسائر بمئات الملايين يتكبدها العالم العربي بسبب سوء الادارة. وضرب المشاركون امثلة كثيرة على تلك الخسائر، ومن بينها تعطيل استثمارات محلية واجنبية كانت ستوفر فرص عمل جديدة، وبينها ايضا مشروعات حكومية كانت سترفع الدخل القومي وتحسن مستوى المعيشة، وصولا الى ابطاء او اعاقة تحديث قطاعات الخدمة الحكومية.
حاولت مؤسسات عديدة وضع معايير للإدارة الصالحة، من بينها البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبرنامج الامم المتحدة الانمائي، واخيرا منتدى التنمية في مؤتمره الخامس والعشرين الذي انعقد في البحرين مطلع 2004. بالنسبة لهذه المؤسسات جميعا فان الاهداف الكبرى للادارة الحكومية هي: الارتقاء بمستوى معيشة المواطنين، حماية حقوقهم المدنية والمعالجة العقلانية للمشكلات التي تظهر في البيئة الاجتماعية. وبناء على هذه الاهداف فإن كل عمل مضاد او معطل لواحد منها يعتبر فسادا.
تختلف المعايير التي وضعتها كل من المؤسسات المذكورة عن بعضها في جوانب محددة، لكنها تتفق على مبادئ اساسية، من بينها: الشفافية، اي جعل عمل الادارة علنيا وقابلا للكشف لعامة المواطنين، واخضاع كل الاعمال للمساءلة والمحاسبة بغض النظر عن شخص المدير او رتبته، ووجود هيئات محايدة يرجع اليها المواطنون عند التنازع مع المؤسسات الحكومية. وأظن أن أبرز مشكلات الادارة في البلاد العربية هو افتقارها للحياد. ومن المؤسف ان هذا الجانب لم يتعرض للنقاش والدراسة بشكل مركز وموضوعي. الادارة العامة غرضها الخدمة العامة، ويجب ان يتم هذا من دون التفات الى أي جانب. بعبارة أخرى فإنه ينبغي التأكيد على ضرورة أن تكون محايدة، لأن حيادها واجب وضرورة وإلا دخلت في نفق الفساد، مهما حاولت اتقاءه.
  عكاظ 23 يناير 2008  

02/01/2008

الدور الممكن للمثقفين في تعميم العلم



يمكن لمثقفي البلاد ان يلعبوا دورا فعالا في انعاش الحركة الفكرية وتعميقها. يستبطن هذا القول ادعاء بان هذه الحركة ما تزال دون المستوى المطلوب، وان دور المثقفين ما زال ادنى من قدراتهم الفعلية. ولعل الجميع يتفق معي على ان بوسعنا ان نفعل اكثر مما هو قائم، سواء على مستوى الكم أو الكيف.

على المستوى الكمي والافقي، ثمة شريحة واسعة من العلوم غير مطروقة اصلا في المجال العام. من ذلك مثلا الفلسفة بمختلف فروعها. فهي على ضرورتها للتفكير والبحث العلمي والثقافة في مختلف اشكالها وممارساتها، الا انها غائبة تماما عن مناقشاتنا وكتاباتنا. ولا تكاد تجدها الا في عدد قليل من المحاضرات الجامعية. وقد عبر الدكتور راشد المبارك في محاضرة له الاسبوع الماضي في القطيف عن شعور عميق بالحسرة لان احدا لا يهتم لهذا العلم، بل ان هناك من يمانع الحديث فيه ومناقشة قضاياه. من تلك العلوم ايضا، علم الاجتماع، وهو ايضا من العلوم الاساسية التي يتفرع عنها طائفة مهمة من العلوم مثل السياسة والتربية كما ان قضاياها وبحوثها تؤثر في شريحة واسعة من نشاطاتنا الحياتية من التنمية الاقتصادية الى العمران والادارة والتنظيم، الخ. ومثله ايضا علم القانون واهميته اوضح من اي بيان

نضيف الى العلوم الغائبة، تلك العلوم الحاضرة لكن في بعد واحد، منهجي أو اجتماعي أو تطبيقي. من ذلك مثلا الهندسة بمختلف تخصصاتها، فرغم امتلاكنا لعدد كبير نسبيا من الكليات الجامعية المتخصصة، ورغم العدد الكبير جدا من خريجي فروع الهندسة، اولئك الذين درسوا في المملكة أو خارجها، الا ان الانتاج العلمي في مختلف التخصصات الهندسية لا يزال ضئيلا جدا. يعرف حجم الانتاج العلمي من خلال الكتب والمقالات العلمية والمؤتمرات والنقاشات العلمية فضلا عن التطبيقات. بالرجوع الى الاحصاءات التي تنشرها هيئات عالمية متخصصة، فان نشاطنا في مختلف هذه الجوانب لا يزال في مستوى متدن جدا حتى بالقياس الى البلدان المجاورة مثل مصر وايران وباكستان

على المستوى الاجتماعي فان العلم ليس من موضوعات الاهتمام اليومي عند الاغلبية الساحقة من المواطنين. ويرجع هذا في ظني الى الفاصلة الاجتماعية الكبيرة بين النخبة العلمية والمثقفة وبين عامة الناس. اجد ان الغالبية الكبرى من اولادنا يستعملون الكمبيوتر ويقودون السيارة، لكنهم في المجمل يستعملونها كمنتج جاهز ونهائي، لا كموضوع للتجربة والاختبار. بعبارة اخرى فان تعاملهم مع العلوم ذو طابع استهلاكي في المجمل، وان معرفتهم بالتقنية لا تتجاوز استهلاكها ولا تصل الى انتاجها أو تعديلها أو تطويرها

في هذا الجانب والجوانب السابقة، تستطيع الحكومة فعل الكثير، لكن المسؤولية الكبرى تقع على المثقفين الافراد. بامكان هؤلاء ان يتنادوا الى عرض العلوم الغائبة أو المغيبة على الساحة، كي يجعلوها مألوفة لعامة الناس. كما ان بامكان حملة العلوم الطبيعية والهندسية فعل الشيء نفسه بطرح الجوانب التي تمس حياة الناس من تلك العلوم. في البلدان الغربية مثلا اصبحت قضايا مثل البيئة والتلوث والتنظيم العمراني وقضايا الاقتصاد والتمويل والطاقة، اصبحت مسائل متداولة ومفهومة حتى لطلبة المدارس، حين طرحها المتخصصون في اطارات بسيطة وقريبة من يوميات الناس وهمومهم المعيشية

يمكن للاعلام ان يلعب دورا هاما في ردم الفجوة التي تفصل العلماء والمتخصصين عن عامة الناس، واجد في تجربة التلفزيون البريطاني مثلا، دليلا قويا على جدوى هذا النوع من النشاط. ان معظم البرامج التي تسمى اجمالا بالوثائقية التي تعدها البي بي سي مثلا، تهدف اساسا الى توضيح قضايا علمية وتوصيلها الى عامة الناس. ووجدت ان وزارة التعليم البريطانية تمول وتدعم مثل هذه البرامج وتستعملها في مدارسها كاضافة الى برامج تعليم العلوم. خلاصة الكلام ان مبادرات المثقفين يمكن ان تسد جانبا من الفراغ المشهود في التداول الاجتماعي للثقافة والعلم ولعلها – من خلال ذلك - تسهم ايضا في استنقاذ الاعلام المحلي من حالة الهبوط والتكرار التي تغلب عليه، وهذا بذاته مطلب وحاجة.
عكاظ 2 يناير 2008  العدد : 2390
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20080102/Con20080102163163.htm

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...