29/08/2007

ميكنة الإدارة شيء.. وجودة الخدمة العامة شيء آخر



قرار مجلس الوزراء بتوحيد ادارات تقنية المعلومات في كل وزارة هو خطوة أخرى ضمن برنامج اقره المجلس في بداية العام الماضي (2006) بهدف تحويل المعاملات الحكومية إلى معاملات الكترونية خلال خمس سنوات. وخصص للمشروع مبلغ ثلاثة مليارات ريال. من الناحية الشكلية على الاقل نرى اجهزة الكمبيوتر في جميع الوزارات وفروعها والدوائر التابعة لها.
 لكن وجود هذه الاجهزة لم يقربنا من مفهوم الحكومة الالكترونية التي ينشدها جميع المخططين في عالم اليوم. امامنا على سبيل المثال تجربة وزارة التعليم العالي، فقد توقع الجميع ان تكون السباقة في تطبيق المفهوم لانها الجهة التي تعلم الناس جميعا كيف يمتلكون ناصية التكنولوجيا الرقمية. لكن ولشديد الاسف فان حالة استعلامات الوزارة وموقعها الالكتروني هي ابسط دليل على الفارق بين ما يقال على الورق وما يجري على الارض. يكفي الانسان مراجعة الوزارة شخصيا أو هاتفيا أو زيارة موقعها على الانترنت ليعرف أي تكنولوجيا واي حكومة الكترونية سوف نصل اليها الآن أو في المستقبل القريب
على أي حال فان المجال يضيق عن بسط هذه الهموم التي يعرفها كل الناس. وما يهمنا في هذه السطور هو التأكيد على الاطار المفهومي الذي يندرج فيه مفهوم الحكومة الالكترونية أو تسويد التعاملات الالكترونية بشكل اعم. افترض ان هذا الاطار هو تحقيق «الجودة النوعية» في اداء الدوائر الرسمية. وهو يعني على وجه التحديد انجاز الخدمات العامة على افضل وجه بأقل كلفة في اسرع وقت. اذا اعتبرنا هذه العناصر الثلاثة اهدافا للتطوير، فان تطبيق التعاملات الالكترونية يمثل احدى الوسائل الضرورية للوصول اليها. لكن انجازها بصورة كاملة يتوقف على مقدمات اخرى، قانونية ومالية وادارية
على المستوى القانوني، نحن بحاجة إلى مراجعة انظمة ولوائح العمل السائدة حاليا، ووضعها جميعا امام اسئلة محددة، منها مثلا: كم من الاجراءات المقررة في تلك اللوائح يعتبر ضروريا، وما هي هذه الضرورة على وجه التحديد، وما هي كلفتها من حيث الوقت والمال على الموظف والمواطن، وما هي البدائل الممكنة.
سوف اضرب مثالا على هذا بواقعة محددة. طفل لابوين سعوديين ولد خارج المملكة، بلغ السابعة عشرة فاحتاج إلى استصدار بطاقة شخصية، بحسب اللوائح الجارية فان من واجبه اثبات مشروعية دخوله إلى البلاد، لكن الامر حدث قبل سبعة عشر عاما، والجواز الذي دخل به حين كان رضيعا مفقود. خلال هذه السنوات جميعها كان الولد مقيما في البلاد ويدرس في مدارسها، وقد سبق لاخوته الذين ولدوا في الخارج مثله ان حصلوا على بطاقات شخصية. لكن حسب التعليمات فان عدم توفر الجواز يقتضي بحثا وربما قرارا من اعلى مرجع في الاحوال المدنية. يستغرق الامر شهورا مع ان الموافقة شبه مضمونة كما في كل الحالات المماثلة، تدور المعاملة بين العديد من الدوائر والموظفين، رغم ثبوت جنسية ابويه وسبق اخوته في المعاملة وكونه مقيما مؤكدا في البلاد (من خلال سجلات المدارس على الاقل).
 هذه المعاملة تكلف المواطن والدائرة الرسمية الكثير من الوقت والمراجعات (وكلها ذات قيمة مالية)، مع ان الجميع يقول لك بان جميع المعاملات المماثلة تنتهي بالموافقة بسبب القرائن الاخرى.السبب الوحيد لهذه المعاملة الطويلة هو ان الموظف المباشر وكذلك مديره المباشر لا يملك الصلاحيات الضرورية للموافقة أو الرفض. هذه المعاملة هي نموذج عن عشرات في مختلف دوائر الحكومة. والواضح انه لا يمكن حلها الا باجراءات قانونية تتلخص في مراجعة اللوائح واعادة هيكلة الصلاحيات.
على المستوى الاداري، ينبغي لكل وزارة الطلب من فروعها تحديد وقت اقصى لكل معاملة واخبار المراجعين بهذا باعتباره حقا لهم. ومنح الفرصة للمراجع كي يتظلم اذا تعرض للتأخير أو الاهمال. في نفس السياق ايضا فاننا نحتاج إلى تمييز دقيق بين المعاملات التي تحتاج إلى «موافقة» من الادارة الحكومية، وتلك التي تحتاج فقط إلى «علم» الدائرة بحدوثها. من ذلك مثلا الزام المواطنين بالكثير من التراخيص من البلدية أو وزارة التجارة أو غيرها من الوزارات.
وفي المنطقة الشرقية مثلا، انت تحتاج إلى موافقة وزارة الزراعة وشركة ارامكو اذا اردت استخراج صك ملكية لمزرعة. الواضح ان جوهر هذه الموافقات هو «عدم الاعتراض» أو ما يعرف احيانا بالعلم والخبر وليس الموافقة بمعناها الفني، لانه ليس لاي من هذه الدوائر شأن بما هو ملك ثابت للاشخاص بحسب رأي القاضي الشرعي.
هذه المعاملات تستغرق الكثير من الوقت والمال والجهد، وربما يجتهد موظف فيعترض على جانب من المعاملات لا يخص دائرته، وكثيرا ما تعطلت المعاملات لهذا السبب. والخلاصة اننا بحاجة إلى اعادة تعريف المقصود بالموافقات الرسمية، هل هي مجرد تبليغ لأخذ العلم ام هي حقا طلب موافقة على اثبات الملك، واذا كان الاخير هو الصحيح فيجب ان يسأل القاضي : وما شأن البلدية أو ارامكو في ذلك طالما ان المزرعة مملوكة في الاصل؟
مختصر القول ان تحقيق الجودة النوعية في العمل الحكومي هو اطار اوسع من مجرد الميكنة أو الانتقال إلى المعاملات الالكترونية. هذا التحول هو خطوة، لكن تحقيق الجودة بكمالها يتوقف على مقدمات اخرى، قانونية وادارية ومالية. ولنا عودة للموضوع في وقت اخر.
عكاظ   29 أغسطس /2007  العدد : 2264

27/08/2007

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية



شيوع الحريات الفردية والعامة لا يؤدي الى الفوضى ولا يؤدي الى التحلل من الضوابط الاخلاقية كما يجادل التقليديون. الانسان بطبعه ميال الى المسالمة والتعقل والتعاون مع اقرانه. وحتى في حال التنافس فانه مستعد للتوافق على ترتيبات تتيح له وللغير الحصول على حقوق أو مكاسب متساوية. هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا ما ثبت من تجارب الامم التي آمنت بالحرية وطبقت مقتضياتها. وهي تجارب تكررت على مدى زمني طويل، مما يؤكد سلامة الاساس الذي قامت عليه. مجتمع المواطنين الاحرار اقرب الى المسالمة والمساومة والتعاون من مجتمع العبيد والمقهورين.

liberalism
لكن الحرية في مجتمع مدني يحكمه القانون ليست مثل الحرية في مجتمع الغابة. فالمجتمع المدني يقوم على مبادئ وقيم وضوابط تجعل الحرية ممكنة وفعالة ومنزهة في الوقت نفسه عن الفوضى والتفلت. تلك المبادئ ليست قوانين قمع، بل تقاليد حياة وتوافقات بين الناس تشكل قاعدة لما يعرف في علم السياسة بالاجماع الوطني. من تلك المبادئ مثلاً:
أ) توضيح الحدود الفاصلة بين المجالين الشخصي والعام. يتمثل المجال الاول في عدد من الحقوق الثابتة للفرد بغض النظر عن أي قانون أو تعاقد، وابرز هذه الحقوق هي حق الحياة، حرية الرأي، وحق التملك. في هذا الحريم لا سلطة لاي جهة على الفرد سوى سلطة ضميره. كما لا يجوز وضع قوانين مقيدة له، مثل تحديد ما ياكل الانسان وما يشرب وما يقرأ وكيف يفكر.. الخ. القانون الوحيد الذي يجوز اتخاذه في هذا الصدد هو القانون الذي يكفل ويحمي الحريم الشخصي ويمنع خرقه أو التدخل فيه.
 أما المجال العام فيتمثل في مساحة العمل والتفاعل المشتركة بين المواطنين، التي يحصلون فيها على حقوق اضافية (مدنية) تقابلها واجبات ومسؤوليات عليهم تجاه بقية اعضاء المجتمع. وهي الثمن الذي يدفعه الفرد مقابل التمتع بفضائل الحياة الاجتماعية. يلعب القانون وسلطة الدولة دورا هاما في تحديد وتنظيم هذا المجال. ويجب على المواطنين الالتزام بالحدود والضوابط التي يقررها القانون، لانها الوسيلة الوحيدة لكي يحصل كل منهم على حقوق متساوية مع الغير.
ب) لكل فرد حق ثابت في التعبير عن رأيه في مجتمعه وطريقة عمله واستراتيجياته وما يسعى اليه من اهداف، سواء جاء رأيه متوافقا مع الراي السائد أو مختلفا معه. ويكفل القانون لكل فرد حق التعبير عن ارائه تلك من خلال الاطر القانونية السلمية.
ج ) يتألف المجتمع من افراد متكافئين، ولا يوجد فرد في هذا المجتمع اعلى قيمة أو ارفع مكانة من الاخر، على نحو يتيح له سلطة الزام الاخرين برأيه أو قناعاته أو اخلاقياته أو القيم التي يؤمن بها أو طريقة العيش التي ينتهجها. جميع القيم تعتبر شخصية، يلتزم به من اراد، من دون فرض أو الزام، مالم تتحول الى قانون عام.
يقوم المجتمع المتسالم على قيم توافقية، بمعنى ان الالتزام بها قائم على الاقناع والرغبة الفردية وليس الالزام الخارجي من جانب الفرقاء الاقوى في المجتمع. وعلى هذا الاساس تقوم المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات ورفض الرق وعبودية البشر ورفض استغلال الغير أو حرمانه من ثمرات جهده.
د) مع احترام القناعات والمبادئ والاعراف السائدة في المجتمع، فان أي قيمة أو عرف أو فكرة أو مبدأ لا يكتسب قوة القانون ولا يجوز الزام الافراد به الا اذا جرى اقراره من خلال المؤسسات المكلفة بوضع القوانين والتشريعات، أي تلك التي لها حق قانوني في وضع الزامات أو قيود على حرية المواطن.
على انه لا بد من التذكير بان نطاق تطبيق القانون محصور في المجال العام، فلا يجوز فرض قوانين تنطوي على تدخل في الحريم الخاص للافراد مثل فرض رؤية محددةة، أو طريقة في الحياة أو اللبس أو المأكل، أو طريقة في التفكير والتعبير عن الافكار، أو تحديد لحق الملكية أو العمل أو التصرف العقلائي في الاملاك الخاصة.
بناء على هذا فليس من حق أحد أن يلزم عامة الناس بنظام قيم محدد أو قناعات معينة أو اجتهاد خاص أو منظومة من الاخلاق والقيم ولو كانت في رأيه فاضلة أو صحيحة. فهذه الامور كلها متروكة للافراد وهم يختارون ما شاؤوا ويتحملون المسؤولية عما تقود اليه خياراتهم الشخصية.

على ضوء هذه المبادئ الاربعة وصف المجتمع المدني المحكوم بالقانون بأنه مجتمع تعاقدي توافقي، يرتبط افراده بخيوط متينة من المصالح المشتركة والافهام المشتركة حتى لو تباعدوا في النسب أو المذهب. هذا النظام الاجتماعي هو اذن تعبير عن وحدة اختيارية بين افراد متكافئين وليس جبرا عليهم ولا سجنا لعقولهم وابدانهم. من هذه الزاوية فان النظام الاجتماعي هو ثمرة لمجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا، وبالتالي فان الهوية الاجتماعية، هي حصيلة اشتراك الافراد جميعا في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.
http://www.okaz.com.sa/okaz/osf/20070827/Con20070827135158.htm
 عكاظ - الإثنين 14/08/1428هـ ) 27/ أغسطس /2007  العدد : 2262

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...