29/04/2007

عدالة ارسطو التي ربما نستحقها


 العدالة الاجتماعية هي واحد من الاسئلة المحورية في الفلسفة السياسية. بل قد لا نبالغ اذا اعتبرناها السؤال الاول لهذا الحقل من العلوم منذ قديم الزمان وحتى اليوم. ونشير بالمناسبة الى ضآلة الابحاث المتعلقة بالموضوع في الفكر الاسلامي القديم والمعاصر، رغم الاهمية الكبيرة التي توليها النصوص الاسلامية لمسألة العدل.
تمثال ارسطو
وقد سألت شيخي في قديم الايام عن سر افتقار المكتبة العربية الى بحوث معمقة في الموضوع فقال لي ان فكرة العدالة مفقودة في التراث الديني الغربي ولهذا احتاج الغربيون الى بحثها. بينما اعتقد المسلمون ان ما وصلهم عنها من اسلافهم فيه غنى وزيادة، فلم يجدوا حاجة الى مزيد بحث عنها. وظننت انني قد قنعت بهذا التبرير.

 لكن سرعان ما اطاح بهذه القناعة اسئلة اخرى مثل: اذا كان لدينا نصوص او بحوث سابقة، فقد كان احرى ان تشق الطريق الى مزيد من البحث والدراسة، لا أن تترك او تهمل. ثم قرأت مجادلات الاسلاميين حول الماركسية والرأسمالية وفضل الاسلام عليهما، فوجدت معظمهم يتجنب - غفلة او عمدا - الجوانب الاشكالية من مسألة العدل الاجتماعي وتطبيقاتها، ولا سيما علاقتها بالتنظيم الاقتصادي والسياسي وهيكل القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية وتطبيق الاحكام والاعراف.. الخ.

بعض الذين تطرقوا الى مسألة العدالة، ولا سيما من قدامى الاسلاميين ومن سار على نهجهم من المعاصرين، ذهبوا مذهب الفيلسوف اليوناني ارسطو الذي رأى ان جوهر العدالة يكمن في معاملة المتساوين بالسوية، والتمييز بين غير المتساوين.

 قامت نظرية ارسطو على فرضيات سابقة حول التمايز بين الناس، كانت متعارفة ومقبولة في زمنه، وقد اضاف اليها ومنحها مبررات فلسفية واجتماعية. من ذلك مثلا ان نظام المدينة اليونانية كان يميز سكان اثينا على غيرهم، ويميز الرجال على النساء، والاحرار على العبيد، والجنود على الزراع والحرفيين، واهل الملكات الفكرية كالفلاسفة والاطباء على بقية العاملين، ورجال السياسة على سائر الناس.

بطبيعة الحال فان هذا التمييز ليس مقبولا في عالم اليوم. لكنه - في ذلك الزمان على الاقل - لم يكن اعتباطيا، فقد استند الى قائمة من المبررات التي بدت لاصحابها معقولة. وابرز تلك المبررات هو القول بان الناس ليسوا متساوين اساسا، فبعضهم اعلى - معنويا - من غيره لاسباب ذاتية او عضوية، وبعضهم كافح لاكتساب ملكات اضافية فاصبح اعلى من غيره. ومن النوع الاول مثلا منع النساء من المشاركة في السياسة والامور العامة لان المرأة - حسب رأي ارسطو - عاجزة عضويا عن التفكير السليم في الامور العامة والسياسة. وكذلك الامر بالنسبة لابناء المهاجرين الى اثينا، لانهم لم يتشربوا روح المدينة وقانونها، ومثلهم اصحاب الحرف اليدوية الصغيرة لان عقولهم غير نشطة.. الخ.

ولو اتيحت لك الفرصة للتأمل في بعض ما كتبه قدامى الاسلاميين واتباعهم من المعاصرين حول النساء وحقوقهن، وحول العلاقة مع غير المسلمين، بل وحتى المسلمين من غير اهل الديار، وحول حقوق الطبقات الاجتماعية المختلفة والقيم الناظمة للعلاقة بينها، فسوف تجد هذه الاراء نفسها او قريبا منها بنفس المبررات او مع مبررات اضافية.

يشير هذا - من ناحية - الى واحد من الاسئلة الهامة حول مبدأ العدالة وموقعه من سلم القيم الاساسية في حياة البشر. من الواضح ان التطبيق اليوناني لمبدأ العدالة كان مشروطا بالتنظيم الخاص لمدينة اثينا، ولعل بعضنا يرى ان التطبيق الاسلامي لمبدأ العدالة ينبغي ان يخضع ايضا للتنظيم الخاص للمجتمع الاسلامي.

ومعنى ذلك ان العدالة ليست من القيم العقلية المستقلة - كما يدعي جميع الفلاسفة-، وليست جزءا من الجوهر الانساني للانسان - كما يدعي الاخلاقيون - وليست معيارا اعلى لصلاح النظام الاجتماعي - كما يدعي علماء الاجتماع والسياسة. بل هي قيمة اجتماعية يتحدد مفهومها ومعناها وتطبيقها تبعا لثقافة المجتمع وما توافق عليه من نظم وأعراف. بعبارة اخرى فان المضمون النهائي لهذا الفهم يقرر ان العدالة ليست من القيم المطلقة الموضوعية، بل هي قيمة نسبية، وليست مصدرا لقواعد العمل بل فرع عنها.

وهو يشير - من ناحية اخرى - الى سؤال جوهري، يتعلق بالعامل الاساس في تحديد قيمة الانسان. يمكن صياغة السؤال على النحو التالي :

 هل تتحدد قيمة الانسان قبل ولادته ؟. بعبارة اخرى هل يتساوى جميع المواليد من حيث القيمة - وبالتالي الاهلية لاستحقاق نفس القدر من العدالة، ام ان بعضهم يولد ارقى من غيره، اي مستحقا لشريحة اعلى من العدل؟. هذا يقودنا بالتاكيد الى جدل حول ما يستحقه الفرد بالولادة وما يستحقه بالكفاءة والجهد. طبقا للرؤية الاولى فان نسب الفرد ولونه ودينه او مذهبه وانتماءه الى بلد معين هي قدر لا مفر منه، فهي التي تحدد قيمة الفرد وحياته. والفرق بين الرؤيتين لا يخفى على بصير.

26/04/2007

عن العدالة الاجتماعية ومبدأ المواطنة المتساوية


الارث الثقيل
تحقيق العدالة الاجتماعية هو المعيار الاول والاهم للتمييز بين الحكومات الناجحة ونظيرتها الفاشلة . منذ سقراط وحتى اليوم سالت انهار من الحبر في الجدل الفلسفي والسياسي حول "العدالة الاجتماعية". لكن حظنا من هذه الجدالات كان ولا يزال ضئيلا. بالمقارنة مع ما كتب في سائر ابواب الفقه وعلوم الشريعة الاخرى ، وما كتب في الادب والتاريخ ، حظيت مسألة العدالة الاجتماعية بعدد من الكتب يعد على الاصابع . ولا يحتلف الامر بين تراثنا القديم والمعاصر. وقد حاول عدد من الاسلاميين المعاصرين معالجة المسألة ، لا سيما في سياق السجال مع النموذجين الراسمالي والماركسي ، لكن معظم هؤلاء الكتاب تجنبوا – غفلة او عمدا – الجوانب الاشكالية من مسألة العدل الاجتماعي وتطبيقاتها ، ولا سيما علاقتها بالتنظيم الاقتصادي والسياسي وهيكل القيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية وتطبيق الاحكام والاعراف .. الخ.
مال قدامى الاسلاميين ومن تبعهم من المعاصرين الى مذهب الفيلسوف اليوناني ارسطو ، الذي رأى ان جوهر العدالة يكمن في معاملة المتساوين بالسوية ، والتمييز بين غير المتساوين. وينسجم هذا المذهب مع نظام المدينة اليونانية الذي ميز سكان اثينا على غيرهم ، كما ميز الرجال على النساء ، والاحرار على العبيد ، والجنود على الزراع والحرفيين ، واهل الملكات الفكرية كالفلاسفة والاطباء على بقية العاملين ، ورجال السياسة على سائر الناس
.
بطبيعة الحال فان هذا التمييز ليس مقبولا في عالم اليوم . لكنه – في ذلك الزمان على الاقل – لم يكن اعتباطيا ، فقد استند الى قائمة من المبررات التي بدت لاصحابها معقولة. وابرز تلك المبررات هو القول بان الناس ليسوا متساوين اساسا ، فبعضهم اعلى – معنويا – من غيره لاسباب ذاتية او عضوية ، وبعضهم كافح لاكتساب ملكات اضافية فاصبح اعلى من غيره . ومن النوع الاول مثلا منع النساء من المشاركة في السياسة والامور العامة لان المرأة – حسب رأي ارسطو – عاجزة عضويا عن التفكير السليم في الامور العامة والسياسة. وكذلك الامر بالنسبة لابناء المهاجرين الى اثينا ، لانهم لم يتشربوا روح المدينة وقانونها ، ومثلهم اصحاب الحرف اليدوية الصغيرة لان عقولهم غير نشطة .. الخ.
ولو اتيحت لك الفرصة للتأمل في بعض ما كتبه قدامى الاسلاميين واتباعهم من المعاصرين حول النساء وحقوقهن ، وحول العلاقة مع غير المسلمين ، بل وحتى المسلمين من غير اهل الديار ، وحول حقوق الطبقات الاجتماعية المختلفة والقيم الناظمة للعلاقة بينها ، فسوف تجد هذه الاراء نفسها او قريبا منها . بنفس المبررات او مع مبررات اضافية.
تبدأ المشكلة بطبيعة الحال عند العامل الاساس في تحديد قيمة الانسان. حيث يمكن صياغة السؤال على النحو التالي : هل تتحدد قيمة الانسان قبل ولادته ؟. بعبارة اخرى هل يتساوى جميع المواليد من حيث القيمة – وبالتالي الاهلية لاستحقاق نفس القدر من العدالة ، ام ان بعضهم يولد ارقى من غيره ، اي مستحقا لشريحة اعلى من العدل؟.
على المستوى النظري البحت يتفق الاسلاميون وغيرهم على تكافؤ الناس عند الولادة ، لكن هذا الاتفاق النظري سرعان ما يتبدد حين يصل النقاش الى التطبيقات . فهنا تجد الرق والتجارة في البشر ممكنا ، وتجد التمييز ضد النساء اعتياديا ، والتهوين من حقوق المواطنة للاقليات مشروعا ومبررا .  بل وتجد من يجادل دون المفاضلة بين الناس بناء على عراقة انسابهم او اصولهم القبلية. بديهي ان الميل الى تقسيم الناس الى طبقات ومراتب ليس امتيازا خاصا بالمسلمين او العرب . فالمعروف ان بعض المذاهب السياسية (كالنازية مثلا) اعتبرت اتباعها (ابناء العرق الجرماني) ارقى من سواهم. وقد اقامت نظامها السياسي على هذا الاساس.  وكذلك الامر في نظام التمييز العنصري الذي اتبعته الولايات المتحدة الامريكية حتى منتصف القرن الماضي . ونجد حالات قريبة من هذا في تراثنا القديم وتقاليدنا المعاصرة ، فبعض القبائل العربية لا زالت ترى في نسبها القبلي الخاص عنصر امتياز على الغير . ولا بد ان القراء يذكرون حكم احد القضاة قبل شهور بالتفريق بين زوجين بعدما وجد ان الزوجة اعلى نسبا من قرينها . وهو حكم يستند الى مرجعية معروفة في التراث الفقهي ، لكن اساسه هو القول بامكانية التفاوت العرقي او الطبيعي بين الناس.
اضافة الى هذا ، فهناك من يقر بتكافؤ البشر عند الولادة ، لكنه يقبل ايضا بفكرة التفاوت المكتسب.  اي التفاوت بين الناس بسبب انتماءاتهم . ونعرف ان بعض الاقطار (ومنها الكويت مثلا) كانت حتى وقت قريب تتبع نظام مواطنة مزدوجا ، يقسم الناس الى مواطن درجة اولى وثانية ، ويترتب على هذا الفارق تفاوت في بعض حقوق المواطنة. ومن الامور الرائجة في كثير من البلدان التمييز بين المواطنين المنحدرين من اصول محلية وبين المهاجرين. وثمة فقهاء مسلمون يحكمون بنجاسة غير المسلمين عامة ، وهناك من يقصر الحكم على المشركين دون اهل الكتاب .  وذهب بعض فقهاء العصور السالفة الى اشتراط الاصل العربي في التأهل للخلافة وامرة المسلمين ، واشترط آخرون النسب القرشي دون سائر العرب ، وحصرها بعضهم في بني هاشم دون سائر قريش .

مقالات ذات علاقة
من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...