15/02/2007

ما الذي نريد: دين يستوعبنا جميعاً أم دين يبرر الفتنة؟

؛؛ اسلام المتعصبين معناه أن الفتنة هي خلاصة ما تستطيع الامة الاسلامية فعله، او ان ديننا عاجز عن صياغة نموذج سليم للتعايش بين اتباعه؛؛

المتعصبون شيوخا كانوا او سياسيين ، لا يرون في الدنيا غير المؤامرات والصراعات. هؤلاء يقدمون الغذاء الذي يستهلكه مجاهدو الانترنت ذوو الوجوه الخفية والسيوف الافتراضية، والكتاب المتساهلون الذين يتعاملون مع أعظم القضايا وأصغرها مثلما يتعامل البقال وطالب الابتدائية الذي لا حظ له من المعرفة سوى ما يطالعه على شاشة التلفزيون او يسمعه في مجالس الكلام.


وراء ذلك الكم الهائل من مقالات الشتيمة والتحريض الطائفي والقومي، ثمة رسالة واحدة بسيطة فحواها ان المسلمين عاجزون عن اصلاح امورهم، عاجزون عن الاتفاق فيما بينهم، عاجزون عن التسالم والتعايش مع اختلافاتهم المذهبية والسياسية، منشغلون بإعادة كتابة التاريخ الماضي بدلا من التركيز على صناعة مستقبل افضل من حاضرهم.

هذه الرسالة التي ربما لم يلتفت اليها الكتاب المتساهلون، ولا يفهمها ابطال الانترنت، ولا يهتم بها المتعصبون والتكفيريون، تدمي ضمير المسلم العادي مثلما يدمي السيف نحر الضحية. المسلم العادي لا يربح شيئا من صراعات السياسيين ولا جدالات المشايخ ولا خيالات الكتاب، لكنه يخسر الكثير من وراء التشكيك في قدرة دينه على احتواء جميع ابنائه، المحسنين منهم والعصاة، المستقيمين والمائلين، المتحمسين والفاترين.

 *** أشد ما يؤرق ضمير المسلم المعاصر هو السؤال القديم الجديد :

-         لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟. قدم الغربيون جوابا بسيطا فحواه ان المسلمين مصابون بعجز ذاتي/ ثقافي عن الاقلاع عن حالة التخلف، لأنهم مشغولون بأنفسهم، منغمسون في تاريخهم، غافلون عن رؤية العالم الحاضر والآتي. وهم يرجعون هذا العجز إلى «التزام المسلمين بدينهم».

طوال العقود السابقة كافح المسلمون لدحض هذا الجواب وإثبات ان الاسلام ليس معيقا لنهضة المسلمين، الاسلام ليس عصبياً ولا يجيز العصبية، وأنه منفتح متسامح يستطيع احتواء الخلافات والاختلافات ويتعامل بالحسنى مع ابنائه وغير ابنائه.

 الاسلام ليس ضد العلم بل يحترم النقاش العلمي والخلاف في الافكار والمتبنيات. الاسلام لا يجيز التقاتل والتشاحن والشتم والتحريض. الاسلام يدعو الى السلم الاهلي والاحترام المتبادل بين ابنائه وبين الامم المختلفة.. الخ.

هذا هو الجواب الذي يرغب المسلم العادي في سماعه، وهذه هي الرؤية التي يريد المسلم العادي تحويلها الى واقع حي في حياته اليومية.

بعبارة اخرى فان المسلم العادي يريد ان يجمع في ضميره عنصر الايمان وعنصر المحبة وعنصر النهضة كي تشكل صورة واحدة هي صورة المسلم المعاصر وهويته وطموحه.

اذا اردنا تثبيت وصيانة هذا الضمير فعلينا ان نبحث في وقت الازمة عن خيوط الضوء، أي الطريق الذي يقودنا الى نهاية النفق.

علينا ان نفصل انفسنا عن ابطال الفتنة، لا ان نتحول الى جنود في كتائبهم او مصفقين لانتصاراتهم او بكائين على هزائمهم. في كل ازمة ثمة متقاتلون من اجل السلطة والسياسة، وثمة مستفيدون ومتاجرون بالصراعات، وثمة من يبحث عن مغانم وسط الاشلاء، وثمة من يركب الموجة بحثا عن دور او مكانة يعجز عن ضمانها من خلال المنافسات الشريفة العادلة. وثمة متساهلون لا يهمهم كم يراق من الدم وكم تراق من الكرامات وكم يدمى من ضمائر.

كل واحد من هؤلاء يسعى لتبرير عمله وإقناع الاخرين بتأييده، وهو لا يتورع عن استعمال الرمز الديني او القومي، ولا يتورع عن استدعاء التاريخ واختزاله واستخدامه في غرضه الخاص.

أي رسالة نريد ايصالها الى عقول الناس؟. هل نريد القول بأن الفتنة المذهبية الراهنة هي خلاصة ما تستطيع الامة الاسلامية فعله، ام نريد القول بأن ديننا عاجز عن صياغة نموذج سليم للتعايش بين اتباعه على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم ؟.

أي رسالة يتمنى المسلم المعاصر سماعها : اهي رسالة المتقاتلين والمتاجرين بالفتنة والمتساهلين، ام رسالة التسالم والتعايش؟.

دعونا نستمع لصوت العقل ونداء الضمير، ليس من اجل مذهب او حزب او منصب، بل من اجل انفسنا جميعا، من اجل مستقبلنا، ومن اجل ديننا.

دعونا نثبت لانفسنا واولادنا فضلا عن الغرباء بأن ديننا قادر على استيعابنا جميعا مهما اختلفنا، قادر على توحيدنا مهما تباعدت أوطاننا او تعارضت آراؤنا.

 

 فبراير 2007

31/01/2007

تجربة التعامل مع العنف بين العلم والسياسة


يبدو ان موجة العنف التي شهدتها البلاد في السنوات القليلة الماضية قد انحسرت واصبح بالامكان دراستها وتوثيقها كتجربة تنطوي على كثير من الدروس. بعض الذين درسوا تلك الموجة اعتبروها حدثا عارضا لا علاقة له باي عامل فعلي في النظام الاجتماعي او استراتيجيات العمل السائدة. وعلى هذا الاساس فهم يصنفون اعمال العنف تلك كحوادث فردية، فهناك دائما احتمال ان يقدم فرد ما على عمل غير متوقع لاسباب او دوافع تخصه وحده ولا يمكن التنبؤ بها.
ثمة رأي اخر يميل الى اعتبارها انعكاسا كاملا لتطورات خارجية، فهي لا تستمد وجودها من أي عامل محلي، ولا يمكن ان تستمر في الحياة من دون ذلك العامل الخارجي. الذين يقولون بهذا الراي يخلصون الى ان الوسيلة الوحيدة لمعالجة هذه المشكلة تكمن في الردع الفوري على المستوى الداخلي والعمل الدبلوماسي لتحييد العوامل الخارجية. الرأي الثالث الذي تبناه كثير من الكتاب في البلاد ينسب تلك الموجة الى تركيب من العوامل المحلية والخارجية، كما يميز بين البيئة المنتجة للعنف وبين عوامل فردية تجعل شخصا بعينه مرشحا للمشاركة فيه دون بقية الناس.

على أي حال فهذه الاراء وكثير من الاراء الاخرى التي طرحت خلال السنوات القليلة الماضية، وكذلك السياسات والاجراءات الحكومية، والمبادرات الاهلية، تشكل في مجموعها ارضية مناسبة لتحويل مسألة العنف الى موضوع للبحث العلمي بغرض اكتشاف جميع العوامل التي انتجته او يمكن ان تنتجه في المستقبل، العوامل المتوفرة فعلا او المحتملة. وكذلك اكتشاف البيئة او البيئات الاجتماعية الاكثر اهلية لتوفير القوة البشرية لجماعات العنف. واخيرا دراسة الوسائل الكفيلة بالتصدي له كحدث طارئ ثم معالجته كمظهر لعلة او مرض ذي جذور، وهذا يتضمن دراسة السياسات الرسمية المكرسة للتعامل مع هذا النوع من الاحداث وتوجيه المجتمع ومؤسساته، ومساعدتها في ابداع وسائل العمل الاهلية الضرورية لاستيعاب وتحييد هذه المشكلة فور وقوعها

ثمة سببان وراء هذه الدعوة، سبب علمي وسبب سياسي. بالنسبة لبلد نام مثل المملكة فان تطوير الانتاج العلمي يتخذ في المقام الاول صيغة «اعادة انتاج العلم ضمن شروط البيئة المحلية» ويتحقق هذا من خلال التطبيق النقدي للمقولات النظرية العامة او المستخلصة من تجارب سابقة محلية او اجنبية على الحدث او الظاهرة بغرض اكتشاف صحة او خطأ تلك المقولات، ومدى ملاءمتها لهذه المشكلة او هذه البيئة بالذات، الامر الذي سيقود بالضرورة الى تعديلها او استبدالها بغيرها او ابتكار مفاهيم وقواعد نظرية جديدة كليا.

 في هذا الاطار فان عددا كبيرا من الباحثين سيعالجون مختلف الجوانب التي تشترك في تشكيل الحالة او الظاهرة، كل من زاوية اختصاصه او بناء على المدرسة النظرية التي يميل اليها. وبالنظر الى خلفيتهم الثقافية والاطار الاجتماعي الذي تدرس فيه المسألة فان الناتج العلمي سيكون محليا لكنه متواصل مع النتاج العلمي المتوفر في العالم. مثل هذه التجربة ستكون من غير شك اضافة بارزة الى البحث العلمي المحلي وقد تشكل منطلقا للعديد من البحوث في مجالات مقاربة

اما السبب السياسي، فهو يشير الى حاجتنا لوضع سيناريوهات عمل مسبقة التجهيز. سيناريو العمل هو عبارة عن اجراءات محددة تستند الى دراسات موضعية تربط بين النظرية المجردة وظروف العمل المتوفرة في الواقع، أي الامكانات المادية وغير المادية والحدود القصوى لما يمكن فعله ضمن اطار اجتماعي او سياسي محدد. ما يفرق بين سيناريوهات العمل وبين البحوث العلمية البحتة هو اهتمام الاولى بالتطبيق الفعلي، مقابل تركيز الثانية على فهم الحالة او الظاهرة بغض النظر عن الامكانيات المتاحة لعلاجها.

نحن بحاجة الى وضع سيناريوهات مختلفة للتعامل مع الظروف الطارئة لاسباب كثيرة، من ابرزها حاجتنا الى احتساب الكلفة التفصيلية للتعامل مع تلك الحالات. من المفهوم ان التخطيط العام يستهدف دائما تحديد المشروعات المراد القيام بها سلفا لتوفير الاموال والقوى البشرية والاطار القانوني والتمهيد الاعلامي والاجتماعي وغير ذلك مما يحتاجه المشروع لضمان انجازه في الوقت المحدد. يمثل التنبؤ ووضع الاحتمالات وسيناريوهات العمل المقابلة لها مرحلة متقدمة في مجال التخطيط، اذ انه يدرس حالة غير قائمة او مقررة بالفعل، لكنه – من خلال هذه الدراسة – يحولها من مجهول الى معلوم، فيتعامل معها عند وقوعها باستعداد كامل كما لو كانت حدثا معروفا، محددا ومنتظرا.

مثل هذا المستوى من التخطيط سوف يوفر على الادارة الحكومية والمجتمع مؤونة التجريب وربما اللجوء الى حلول غير مدروسة، بما تنطوي عليه من كلف غير ضرورية.
زبدة القول ان تجربة المجتمع السعودي مع العنف تمثل موضوعا جديرا بدراسات اوسع مما جرى حتى الان، واملي ان يتحول الى منطلق لتطوير اساسي في حقل البحوث الاجتماعية، وهو حقل لا يزال فقيرا في بلادنا.

عكاظ 31  يناير 2007  العدد : 2054

23/01/2007

كي نخرج من علاقة الارتياب


 انعقاد المجلس النيابي هو الخطوة الاولى الضرورية لمأسسة وترسيخ العملية الديمقراطية. لكنه بكل تأكيد ليس خلاصة التحول الديمقراطي، لا سيما في الديمقراطيات الجديدة والناشئة. وكما في تجربة البحرين والكثير من التجارب المماثلة في دول عربية ونامية أخرى، فان انجاز هذه الخطوة يتحقق بعد الكثير من الصعوبات والمماحكات، هي وسيلة كل طرف من اطراف المجتمع السياسي لتحقيق مراداته وتطلعاته من دون تقديم ما يقابلها من تنازلات

من هذه الزاوية فهي تشبه الى حد كبير صفقة ضخمة يجريها تجار في السوق، يحاول كل منهم الحصول على اكبر قدر من المكاسب مقابل اقل قدر من الالتزامات. ونعلم ان افضل الصفقات هي تلك التي يحصل التاجر من ورائها على الغنيمة كلها من دون غرم.

لكننا نعلم ايضا ان هذه الصفقة مستحيلة، بل انها لا تجري في الواقع ابدا. يمكن بطبيعة الحال لرجل قوي ان يستعمل قوته في فرض ما يريد فيحصل عليه لأن الاخرين يهابون قهره او يخشون سطوته. لكن هذا لا يسمى توافقا، نحن لا نتحدث عن حالات مثل هذه، لان الديمقراطية هي في الجوهر عملية مساومة وغرضها التوصل الى عمل يقوم على التفاهم والتوافق، وهذا يتطلب تنازلا من كل طرف عن بعض ما يريد كي يحصل على غيره. واذا لم يقبل اي طرف بالتنازل عن شيء فلن تحصل صفقة. واذا لم تحصل صفقة فلن تكون ديمقراطية بل حكم جبري يقوم على الاستبداد والاستعباد، او فشل كلي يقود الى الاعتزال والتباعد والانقسام.

قبل قرن ونصف تقريبا وضع الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو قاعدة بسيطة توضح اهمية التوافق في الحياة السياسية. هذه القاعدة نسميها اليوم »الشرعية السياسية«. كل عمل انساني ينبغي ان يستند الى مبرر صحيح او مقبول عند العقلاء والا عد عبثا. في هذا السياق فان العمل السياسي ينبغي ان يستند الى قاعدة »الشرعية السياسية« والا عد باطلا او غير عقلائي.

التوافق ضروري للسياسة لانه يوفر شرعية العمل السياسي، وحسب تعبير روسو فان »الاقوى ليس قويا تماما حتى يتقبل الاخرون سلطته باعتبارها حقا وطاعتهم اياه كواجب«. من المفهوم ان هذا الزمان لم يترك فرصة لأحد كي يملي على الناس قناعاتهم او يفرض عليهم الطريقة التي يفكرون بها ويصنعون اراءهم. الطريقة الوحيدة للحصول على تأييد الغير هو الاقناع او التوافق. وكلا الامرين مستحيل من دون مساومة تنطوي على تنازلات.

يجب ان لا ننكر حقيقة ان تأخير الديمقراطية في بلادنا قد تسبب في تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، واثمر عن تحويل التنوع الطبيعي في الثقافات والمصالح والهموم الى مطبخ يغذي التنافر والارتياب. والارتياب هو مكمن المرض في التجربة الديمقراطية، ولا سيما في بداياتها.

ينبغي ان لا نتوهم بان جلسة او اثنتين او اكثر سوف تنهي حالة الارتياب، مهما بالغنا في كشف الاوراق والتصارح. فالريبة من الجينات الوراثية الاساسية في السياسة، كل سياسة بلا استثناء، ولهذا قال علماء السياسة بان العلاقة بين الحكومة والمعارضة، محكومة اساسا بالشك وليس بالثقة، بل ان العلاقة بين اطراف الحكومة نفسها، سواء بين السلطات الثلاث، او بين مراتب البيروقراطية المختلفة لا تخلو من قدر من الشك، يزيد او ينقص بحسب درجة التفاهم واختلاف الظروف والاحوال.
ما ينبغي السعي اليه اذن ليس التناغم القلبي والانسجام الكامل، فهو ليس من الامور الضرورية في السياسة.

ما نحتاجه على وجه التحديد هو درجة متقدمة من التفاهم والتوافق على الخطوط الاساسية للسياسة، اي قبول كل من اطراف اللعبة الديمقراطية ببعض مرادات الآخرين كي نتوصل الى صفقة تحقق حدا وسطا بين توازنات القوى الواقعية وحاجات المجتمع السياسي. هذا التوافق يتطلب انفتاحا متبادلا كما يتطلب وضع اوراق اللعبة جميعها فوق الطاولة وليس تحتها، اي جعل السياسة المشتركة شفافة ومكشوفة لجميع اطرافها.

نفهم ان كشف اوراق السياسة ليس من التقاليد الراسخة في مجتمعنا العربي، ونفهم ان التكتم هو صفة ملازمة للعمل السياسي في المجتمعات التقليدية، ولهذا فان دعوتنا هذه لا ترمي الى القفز على الواقع القائم او انكاره، بل التأكيد على الحاجة الى علاج تدريجي يقوم على تفهم كل طرف من اطراف العملية الديمقراطية لحاجات الآخر، كمقدمة لا بد منها للتوصل الى توافقات على السياسة المشتركة التي تحظى بالمشروعية ودعم الجميع.

ليس من الصحيح مطالبة طرف واحد بتقديم تنازلات كاملة دون مقابل، وليس من الصحيح دعوته للانقلاع الفوري من تقاليد مترسخة، بل ان مثل هذه المطالبات قد تعزز الارتياب الذي نطمح الى الخلاص منه. الصحيح في اعتقادنا هو الاقرار بالمشكلة والعمل على تفكيكها تدريجيا، خطوة مقابل خطوة، وتنازلا مقابل تنازل. من نافل القول ان الوصول الى حياة ديمقراطية كاملة ليس قرارا ينفذ بين يوم وليلة، بل عملية طويلة يحتاج اولها الى قرار، لكنها في جميع المراحل تحتاج الى عزم كما تحتاج الى صبر.
صحيفة الأيام البحرينية      23 / 1 / 2007م

17/01/2007

عن طقوس الطائفية وحماسة الاتباع


يقول لي كثير من الناس ان الفتنة المذهبية في العراق سوف تؤدي الى كثير من النتائج الوخيمة. لكني لا اشك ان اسوأ تلك النتائج سوف يكون تراجع الايمان الديني في نفوس الناس. بل قد لا يكون من ضروب المبالغة القول بان هذا التراجع قد بدأ فعلا، رغم ما يظهر على السطح من تضخم في التيار الديني– السياسي وتضخم في ممارسة الطقوس ذات اللون الديني من جانب الجمهور. كثير من الدعاة غافل عن هذه المفارقة، أي تضخم التيار وممارسة الطقوس من جهة وتراجع الايمان من جهة أخرى. وسبب الغفلة هو التباس الايمان الديني بالتدين الطائفي، وتحول الانتماء الديني الى انتماء طائفي.
 ثمة علامات واضحة تسهل التمييز بين الايمان الديني والتدين الطائفي، فالايمان قرين التواضع والمسالمة والمحبة والصبر والايثار، بينما الطائفية قرين الترفع والكبر والكراهية والوجل والاستئثار. المؤمن محب لخير الناس متعاطف معهم في مصابهم ولو كانوا بعيدين عنه او مخالفين له. اما المتدين الطائفي فهو محب لنفسه منحاز لقومه حين يصيبون وحين يخطئون. والمؤمن منشغل بحياة الروح وصيانة جمالها، اما الطائفي فهو منشغل بحسابات الربح والخسارة المادية الدنيوية. من كل هذه الصفات نستطيع التمييز اذن بين دعاة الطائفية ودعاة الإيمان ، فدعوة الطائفيين محورها الصراع مع الغير، وهم لا يرون الدين الا منابذا للغير، اما دعاة الايمان فمحور اهتمامهم هو المسالمة والتقارب والمحبة والحوار.

 في تسعينات القرن المنصرم، اهرق الكتاب والخطباء المسلمون انهارا من الحبر وساعات طويلة من الكلام في تفنيد نظرية المفكر الامريكي صمويل هنتينجتون عن صدام الحضارات، وهاهم اليوم يتفرجون على انهار من دماء المسلمين تراق في سبيل مقعد اضافي في الحكومة، او مكسب هنا او هناك. والغريب في هذه المقارنة ان متفرجي اليوم لا يسألون انفسهم عما اذا كان الدين الذي خافوا عليه عندما نشر هينتنجتون نظريته المشهورة هو دين الله الذي يجمع المسلمين كافة، وهو رسالة الرحمة والمحبة لجميع البشر – كما هو المفهوم في العموم-، ام هو الدين الشخصي (او المدني حسب وصف جان جاك روسو) الذي لا يتجاوز حدود الفرد والجماعة الخاصة التي ينتمي اليها.

 يتبارى دعاة الطائفية في تحليل مكاسب وخسائر الصراع الطائفي في العراق وغير العراق، ويستدلون بكل منها على وجوب تشديد النكير على الغريم (أي المسلم من الطائفة الاخرى) والتنكيل به والمبالغة في النيل منه، ويكيلون الشتائم ضد الداعين الى السلام ونبذ العداوة والكف عن العدوان. جميع هؤلاء يعرفون تجاوز اصحابهم لحدود الله بقتل الآمنين وتدمير دورهم ومصادر رزقهم ونيلهم من الضعيف والمسكين، لكنهم يغضون الطرف عن هذا وذاك بينما يضخمون ما فعل الغريم ولو كان تافها او صغيرا، ويصحّ عندهم قول من قال «قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر».

 حين يسيطر الطائفيون على ساحة الفعل يتوارى دعاة الفضيلة والايمان. فاذا سمعت قعقعة السلاح، واذا سمعت الاصوات العالية المنادية بالويل والثبور وعظائم الامور، فاعلم ان الايمان قد انحسر. يُروى في الاثر ان الله عز اسمه قد اوحى الى احد انبيائه عليهم وعلى نبينا افضل الصلاة والسلام «تجدني عند المنكسرة قلوبهم»، فأين انكسار القلب عند من يدعو الى القتل والتدمير او يبرر القتل والتدمير؟.

 الايمان مثل النسيم يهب على النفوس فينعش فيها الامل و الرغبة في البناء والكمال. والطائفية مثل النار تشعل القلوب والنفوس اينما حلت. وفي مثل هذا العصر الذي تجاور اهله واتصلت اطرافهم وتواصلت احوالهم، فان اندلاع النار الطائفية في أي بلد حري بان يوقظ مخاوف الاباعد فضلا عن اهل الجوار. وحري بنا نحن جيران العراق ان نتبادر الى اطفاء هذه النار قبل امتدادها. ثمة من قومنا من ترك هموم العالم كله وفرغ نفسه كي يستثمر ما يجري في العراق وغير العراق في شحن النفوس بالعداوة والبغضاء لهذه الطائفة او تلك.

اولا يخشى هذا وامثاله من امتداد تلك النار، ام انه لا يفرق بين صراع من اجل الدين وصراع من اجل الطائفة؟، او لعله نسي ما يمتاز به الدين الحنيف من دعوة الى المسالمة والرحمة والحوار والاخوة، مع الابعدين فضلا عن الاقارب. لقد كنا نقارع الذين اتهموا ديننا بالارهاب وتبرير الارهاب بحجج من مثل ان الاسلام الحنيف يحض على السلام وانه دين السلام، فاين هذا الكلام من الخطب النارية التي نسمعها اليوم في بعض المساجد او نقرأها في بعض الصحف ومواقع الانترنت والمجالس من تهجم على بعض طوائف المسلمين وسخرية بمعتقداتهم ونيل من اشخاصهم وتحريض للاتباع والجهال عليهم ؟.

 اول العقل هو التمييز، والعاقل هو من يميز بين الاشياء المختلفة فيضع كلا منها في موضعه، خلافا للجاهل الذي يخلط بين الشيء ونقيضه. بدأ الخصام في العراق بين احزاب وجماعات سياسية يسعى كل منها للحصول على حصة الاسد من الغنيمة وهذا طبع السياسة، واستثمر كل منها بيئته الاجتماعية للوصول الى اغرضه. وقد اثمر هذا عما نعرفه اليوم من اصطفاف طائفي وقبلي يوشك ان يقود الى تقسيم العراق.

وسط هذا الموج المظلم نسي الكثير من الناس ضرورات الايمان وحلت في انفسهم ضرورات القبيلة والطائفة. يفهم العاقل ان هذا شأن يخص العراقيين، وليس له من علاقة ضرورية بمعتقدات او قناعات. انه بعبارة اخرى حراك اجتماعي مرتبط بالشروط الاجتماعية الخاصة بالعراق لا بعقائد اهله. 
ومن العقل حينئذ ان لا نخلط بين هذا وذاك، فضلا عن ان نتلبس بأوصاف لا تخصنا ولا مبرر لها في بلدنا، وهي ليست من الطيبات كي نتشبه بأهلها، وليس اهلها قدوة لنا كي نفعل ما فعلوا.

 بدل نقل النار الى ثيابنا، دعونا نسعى في اطفائها، فهذا خير واقرب لرضا الله من ذاك. واذا لم نسع في اصلاح ذات البين فان الدين سيكون الخاسر الاكبر. ربما يزيد الاتباع ويشتد حماسهم، وربما تتضخم الممارسات الطقوسية، لكن ايا منها لا يدل على ارتقاء الايمان بل هيمنة الطائفية، والفارق بين الطائفية والايمان مثل الفارق بين النار والنسيم.

عكاظ 17 يناير 2007     

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...