12/09/2006

قرشنا الابيض ليومنا الاسود

في ظرف الوفرة المالية الذي تعيشه دول الخليج اليوم ، يجب ان لا ننسى الظروف العسيرة التي مررنا بها في النصف الثاني من الثمانينات ومعظم عقد التسعينات. لا نسمع اليوم الشكاوى الكثيرة من البطالة التي كانت موضوعا يوميا للصحافة ومجالس المواطنين في تلك الفترة ، كما اختفت اصوات التذمر من السياسات الحكومية والمحسوبيات وسوء الادارة التي راجت يومئذ. ثبات المستويات العالية نسبيا لاسعار البترول وفر فرصة نادرة لاختفاء الكثير من المشكلات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي شهدناها قبل بضع سنوات. يؤدي ارتفاع الدخل الوطني الى زيادة الاستثمار المحلي وتوفير فرص عمل جديدة وتحسن مستوى المعيشة لعامة السكان .

 ولعل كثيرا منا يتذكر ما حصل في منتصف السبعينات حين شهدت المنطقة انقلابا اقتصاديا لم يسبق له مثيل في تاريخها كله. وكان ذلك بفضل ارتفاع اسعار البترول بعد حرب رمضان 1973. في منتصف التسعينات اقترح احد المحللين نموذجا دائريا لفهم الحراك الاقتصادي في المنطقة . ويربط هذا النموذج بين الطلب على البترول والنشاط الاقتصادي في العالم ، لا سيما في الدول الصناعية ، فانخفاض اسعار البترول يحفز النمو في هذه الدول ويؤدي الى رفع الطلب والاسعار ، الامر الذي ينعكس ايجابيا على اقتصاديات الدول الخليجية المصدرة او المستفيدة .
 لكن اذا تجاوزت الاسعار مستوى معينا فسوف يتراجع الطلب ومعه الدخل القومي للاقطار المصدرة . اذا صح هذا النموذج ، فان على دول الخليج ان تستعد لهبوط في عائداتها بعدما تتجاوز اسعار البترول حاجز الثمانين دولارا. اي ان تستعد في حقيقة الامر لحقبة من العسر شبيهة بتلك التي عرفتها في السنوات الماضية. من المحتمل طبعا ان لا يكون هذا التحليل صحيحا ، او لعل عوامل اضافية تدخل في السوق لم تكن متوقعة من قبل ، مثل النهوض الاقتصادي في الصين والهند الذي يرجع اليه جانب كبير من الانتعاش الحالي في الاسواق. 

لكن ايا كان الامر ، فان تجربة العسر والانتعاش التي تكررت للمرة الثانية خلال اقل من ثلاثة عقود توفر مبررا قويا لكل عاقل كي يتأمل ويخطط ويستعد لمختلف الاحتمالات. من المحتمل ان تتكرر مرة اخرى نفس المشكلات التي عرفناها في السنوات الماضية ، ومن المحتمل ان نواجه – بالاضافة اليها - مشكلات جديدة.

في سنوات العسر شهدنا بوادر اولية لما يمكن وصفه بالاحباط ولا سيما بين الاجيال الجديدة ، وتجسدت هذه البوادر في تأزم العلاقات الاسرية والاجتماعية وشيوع التطرف السياسي والديني ، وكان اخطر تمظهراتها هو ارتفاع مؤشرات العنف. وعلى المستوى السياسي والاداري شهدنا شيوع الفساد واستغلال النفوذ والمحسوبيات وظهور انواع من التحزبات والتحالفات التي تسعى للاستئثار بالموارد العامة . وهذه كلها ظواهر يمكن ان توجد في ظرف الرخاء كما توجد في ظرف العسر ، لكن اثرها اشد وقعا في ظروف العسر وندرة الموارد ، ولهذا فمن الممكن ان تؤدي الى خلق احباطات ترتد على شكل تمرد فردي او جمعي .

ثمة طرق كثيرة لاستثمار ظرف الوفرة في وضع اساس متين للوقاية من الانعكاسات السلبية لظروف العسر. ويكفينا مراجعة الدراسات القيمة التي وضعها باحثون عرب واجانب خلال العقود الثلاثة الماضية لمعرفة نقاط البداية ونقاط الاستهداف. ثمة اقتراحات اجمعت عليها تلك الدراسات ، من بينها مثلا تنويع مصادر الدخل الوطني لتخفيف الاعتماد المفرط على عائدات البترول الخام في تسيير معيشة الناس والدولة ، ومن بينها التعجيل في التكامل الاقتصادي بين الدول العربية المتجاورة كي نضمن استفادة قصوى من الاموال التي تنفق في كل بلد على حدة.

 واريد الاشارة ايضا الى ضرورة التعريف الدقيق للمرحلة الزمنية التي تمر بها المنطقة من الناحية التنموية ، واظن ان هذا التعريف يجب ان يلحظ كون المنطقة في مرحلة انتقال بين التقاليد والحداثة ، اي بين بداية النمو وبلوغ التنمية غاياتها. المقصود من تعريف كهذا هو تحديد قيمة السياسات والبرامج التي تتبناها الحكومات ، وتحديد القيمة السياسية او الثقافية للتفاعل الاجتماعي مع هذه السياسات . بديهي ان اعتبار الوضع انتقاليا يعني ان ما يجرى فيه هو مجرد مرحلة وليس نهائيا ، وبالتالي فاننا ننظر الى قيمته من زاوية عملية بحتة. وعندئذ فسوف ننظر الى المطالبات والنقد الموجه لهذه السياسات باعتباره تطلعا مشروعا الى الافضل وليس مؤشرا على رفض قطعي لما هو قائم ، كما ننظر الى الاعتراضات او حتى التمرد السياسي باعتباره ناتجا جانبيا للتغيير وليس موقفا نهائيا .

خلاصة القول ان ظرف الرخاء هو فرصة للتوقي من الانعكاسات السلبية لظرف الشدة ، واظن ان اي عاقل يستوعب حقيقة ان كلا الظرفين هو احتمال قائم لفترة قد تطول او تقصر وان الاعداد لكل منهما ضرورة في جميع الاوقات.

الايام 12-9-2006

22/08/2006

سياسة ما بعد الحرب


فشلُ الاسرائيليين في تحقيق انتصار مدو على الجبهة اللبنانية ستكون له نتائج سياسية كبيرة الاهمية في الجانب العربي، ابرزها هو دخول القوى الشعبية كعامل فعال في الصراع مع اسرائيل وفي اي صراع قادم مع قوى اجنبية. صحيح ان المقاومة الخلاقة التي جسدها اللبنانيون لم تكن الاولى في تاريخ العرب الحديث، لكنها تميزت على ما سبقها بعوامل استثنائية، من بينها مثلا: ان حزبا سياسيا اهليا تحمل الجزء الاعظم من المسؤولية في هذا الصراع واداره بكفاءة يحسده عليها جنرالات الجيوش العربية.
في الثمانينات وقبلها حذر باحثون عرب مما وصفوه بالانكشاف الاستراتيجي تجاه الخارج. وتتلخص فكرة الانكشاف في ان دولة أو امة ما يجب ان تتمتع بقابلية لصد التدخلات الخارجية من خلال توفير مجموعة من العوامل الضرورية للامن القومي، ويدخل ضمنها كفاءة القوات المسلحة والاجماع الوطني وكفاءة توفير مصادر العيش الضرورية في الاوقات العادية واوقات الازمة. وأشار معظم تلك البحوث الى ضرورة ردم الهوة التي تفصل المجتمع عن الدولة كعامل حاسم في التعبئة للحرب أو لمنع الحرب، لكن ايا من اولئك الباحثين لم يتخيل ان المجتمع يمكن ان يقوم بالمهمة كاملة من دون الدولة. من هذه الزاوية فان التجربة اللبنانية هي سابقة في تاريخ العرب وثقافتهم السياسية، واظن ان آثارها ستنعكس ايضا على مجمل علاقات العرب الدولية.
من المرجح ان الولايات المتحدة الامريكية او غيرها سوف تتردد الان قبل اتخاذ قرار بفرض غاياتها على العالم العربي، لا سيما حين يتعلق الامر بفرض الرؤية الاسرائيلية للسلام، خلافا لما كان عليه الامر منذ منتصف العقد السابق، حين جرت عادة السياسيين الامريكيين على لعب دور المراسل الدبلوماسي لحكومة اسرائيل بدل دور الوسيط الذي يملك اوراق الحل كما كان يقول الرئيس السابق انور السادات.
من الناحية النظرية البحتة فانه لا توجد دولة عربية مكشوفة بقدر لبنان، عدا عن التركيبة الطائفية للنظام التي تحول بذاتها دون تحقيق اجماع وطني على الخيارات الاستراتيجية، فان صراعات القوى المشاركة في المشهد السياسي الداخلي هي بصورة أو باخرى انعكاسات لصراعات في الخارج، الجيش اللبناني هو اقرب ما يكون الى قوات احتياط للشرطة منه الى شبيه لما عند الدول المحاذية، لكن مع ذلك فان لبنان هزم اسرائيل مرتين، وجاءت الهزيمة الثانية استثنائية بمقاييس عديدة.
لا شك ان الموقف العربي اصبح اليوم اكثر قوة، فالمساهمة الشعبية في اي صراع مع الخارج تعطي للمفاوضين والدبلوماسيين اوراقا اضافية مهمة. نتذكر مثلا ما نقله الاستاذ هيكل عن لقاء رئيس الوزراء فؤاد السنيورة مع وزيرة الخارجية الامريكية، فقد قال لها: ببساطة انه سيستقيل اذا فرضت واشنطن تصورها للحل على لبنان. ومعنى استقالة الحكومة، هو تحول حزب الله الى شبه حكومة ومفاوض وحيد، وهذا أسوأ كابوس يمكن ان تتخيله رايس واصدقاؤها، الخوف من مواجهة هذا الخيار هو الذي حمل واشنطن وباريس وبالطبع تل ابيب على تليين موقفها واتخاذ قرار في مجلس الامن يختلف جوهريا عن المشروع الاصلي الذي دعمته فرنسا والولايات المتحدة، وحتى بعد وقف اطلاق النار، فمن الواضح لاسرائيل وغيرها ان لبنان ليس بالارض الرخوة التي يمكن لهم ان يفرضوا فيها ما شاؤوا، وقد بدا هذا جليا في تراجع فرنسا عن القيام بدور محوري في القوات الدولية المنتظر نشرها في الجنوب، اضافة الى تراجع الدعوات المتشددة التي كانت تصر على تجريد سلاح المقاومة قبل انسحاب اسرائيل.
ما فعله حزب الله اذن كان بالنسبة للدول العربية رمية من غير رام، فقد اعطاها ما لم تحلم به طوال العقدين الماضيين. وجدير بالدول العربية جميعا ان تعزز اليوم هذا المكسب باطلاق حملة واسعة رسمية وشعبية لاعادة بناء البيوت والمرافق العامة التي دمرت، وعلاج الجرحى، والتعويض عن مصادر الرزق التي خسرها اصحابها، هذه بلاشك مهمة مكلفة، لكنها ممكنة بتظافر الجهد الاهلي والرسمي.
اعلن حزب الله انه سيقوم من جانبه بهذه المهمة، واذا بدأ فيها بنفس الدرجة من التجرد والاخلاص والجدية التي رأيناها خلال الحرب، فسيكون هذا اضافة عظيمة الى دوره كلاعب محوري في الساحة اللبنانية، وربما يتحول الى انموذج للعمل الاهلي في بقية الدول العربية، نعلم ان هذا ليس من الاحتمالات المريحة للكثير من الحكومات العربية. ومن الافضل لها اذن ان تبادر للمساهمة في هذا الجهد كي تعوض ما فات وكي تعزز موقفها السياسي امام شعوبها وامام العالم.
اغلى الامنيات ان نرى قادة الدولة وممثلي المجتمع الاهلي يدا واحدة في الحرب والسلم، فاذا فات الاول فلا ينبغي ان يفوت الثاني، خاصة وانه خال من بواعث القلق الذي عبرت عنه الحكومات العربية اثناء الحرب، ويجب ان يشعر القادة العرب بقلق جدي فيما لو واصلوا موقف المتفرج بينما يعيد اللبنانيون بناء ما دمره اعداء العرب جميعا، فمثل هذا الموقف سيوجد ارضية ذهنية وربما اجتماعية لتبلور نماذج مثل نموذج حزب الله، اي قوة اهلية تأخذ المبادرة ولا تنتظر رأي الحاكم.
   - 22 / 8 / 2006م - 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...