04/07/2006

الاسلام الجديد

بعد ربع قرن من انطلاقه ، تحول النهوض الديني الى ظاهرة اجتماعية واسعة النطاق ، ولم يعد مقتصرا على عدد من القادة البارزين او المجموعات المنظمة. من هذه الزاوية فان الاسلام السياسي يخضع لذات القواعد السلوكية التي تخضع لها بقية الظواهر الاجتماعية ، واشير هنا خصوصا الى عنصر التعددية والتنوع الثقافي في داخل الظاهرة ، اضافة الى عنصر التحول او ما يمكن وصفه بالمزامنة ، اي تغير الافكار والسلوكيات والتوجهات بتاثير التجاذب بين الفكرة (او الجماعة) والبيئة التي تنشط فيها . لو رسمنا مصفوفة لعدد نموذجي من الجماعات الاسلامية النشطة اليوم وقارنا دعواتها او سلوكها السياسي بنظيره قبل عشرين عاما فسوف نكتشف دون كبير جهد ان تحولا يمكن وصفه بالانقلابي قد حدث خلال هذه الفترة .

Related image
جمال البنا
 ولو نظرنا الى التحرك الاسلامي من زاوية اوسع من حدود الجماعات المنظمة ، فسوف نجد ان هذا التحول لم يعد قاصرا على السلوك السياسي بل تمدد ايضا الى المتبنيات والاراء والمعتقدات . قبل ثلاثة عقود مثلا كان معظم الاسلاميين يرفض تفويض البرلمان سلطة التشريع لان التشريع حق خاص لله والرسول ، واذا اقتضى الامر تفسيرا او اجتهادا فهو من حق علماء الشريعة دون غيرهم. لكن جميع الاسلاميين المعاصرين يشاركون او يدعمون من يشارك في الانتخابات البرلمانية التي تقود في النهاية الى الاشتراك فيما كان يعتبر حتى وقت قريب عملا محرما وتحديا لحاكمية الله وحقه.

هناك بطبيعة الحال اقلية لا تزال ترفض المشاركة وتعتبرها كفرا من عمل الشيطان او خديعة للمؤمنين ، وهي ترى ان النموذج الوحيد للحكم المشروع هو نموذج "الامارة الاسلامية" الذي اقامته حركة طالبان في افغانستان ، لكن هذه الاقلية لا ثقل لها في المسار العام ، وهي على اي حال مثال على التنوع الفعلي داخل الظاهرة الاسلامية.

في المقابل فهناك من ذهب الى مدى ابعد في التعبير عن ذلك النوع من التحولات. واشير مثلا الى المعالجات القيمة التي قدمها الفيلسوف الايراني عبد الكريم سروش حولالحكومة الدينية الديمقراطية ، وحول عدد من القضايا المثيرة للجدل مثل دور الشعب في توليد الشرعية السياسية للحكومة ، والفارق بين تطبيق الشريعة واقامة العدل بين الناس ، والطبيعة التاريخية للمعرفة الدينية . ومن بين القضايا التي تثير الاهتمام في اعمال سروش ، اشير خصوصا الى معالجته للتصورات القائمة على الفلسفة المثالية ، والتي تنتشر بين الدعاة الاسلاميين عن وعي احيانا وعن غفلة في معظم الاحيان. فهو يرى ان التصورات المثالية عن الدين او المجتمع الديني يمكن ان تشكل ارضية نظرية او مبررا روحيا للدعوات الشمولية التي هي بالضرورة دكتاتورية ولا انسانية. 

قرأت في هذه الايام احاديث للدكتور حسن الترابي ، وهو فقيه ومفكر معروف سبق ان قدم معالجات قيمة في اصول الفقه كما ان له الكثير من الاراء المثيرة للجدل من بينها مثلا تشديده على دور العرف الاجتماعي في تحديد موضوع الحكم الشرعي وكيفية تطبيقه.  وهو يميل الى الاعتقاد بان ما هو ملزم في الحكم الشرعي هو غرضه وجوهره وليس تعبيراته ، وعلى هذا الاساس فهو ينفي مثلا ان يكون لحجاب المراة شكل محدد في كل زمان ومكان ، بل يرى تركه لتحديد العرف ، ومن هنا فان من الممكن ان نرى اشكالا عديدة للحجاب بحسب التحديد العرفي لمعنى "الستر" الذي قد يختلف من مجتمع الى اخر او من زمن الى اخر.

في سياق مقارب دعا الاستاذ جمال البنا ، الى تجديد في الفقه الاسلامي لا ينتهي عند حدود الاحكام وموضوعاتها ، بل يتناول ايضا اصول التشريع والفلسفة التي يقوم عليها فهم الدين واستنباط احكامه ، والبنا هو  الاخر مفكر اسلامي معروف بارائه المثيرة للجدل ، ومن بينها دعوته الاخيرة الى تمكين النساء من امامة الجماعة والتخلي عن الاحكام التي تعتبر المناصب السيادية والقضاء ولايات دينية او محصورة في الرجال.

هذه امثلة قليلة عن نقاشات واسعة وعميقة يشارك فيها عدد كبير من المفكرين واهل الراي والسياسة في التيار الاسلامي ، وهي تساهم فعليا في الانتقال بالاسلام السياسي من الدائرة التقليدية التي انطلق منها الى دائرة اكثر قربا من هموم الانسان المعاصر وتطلعاته.  والغرض من هذا العرض هو دعوة الناشطين الاسلاميين وسواهم من الفاعلين في الحقل السياسي الى المشاركة الواعية في هذا التحول ودعم النقاشات الدائرة ضمنه . وكما سلف القول فان الاسلام السياسي لم يعد محصورا في قائد بارز او حزب سياسي ، بل هو ظاهرة عامة تنطوي على تنوع كبير في الافكار ، وهو تنوع يتزايد باستمرار . لا ينبغي الشعور بالقلق من هذا التنوع ، ولا النظر اليه كتغريد خارج السرب ، فليس من المعلوم ابدا ان المتمسكين بتقاليد الماضي وما ساد فيه من افكار هم اكثر هدى او شرعية او مصداقية من دعاة التخلي عن تلك التقاليد او اصحاب الافكار الجديدة.

الايام 4 يوليو 2006

مقالات  ذات علاقة
-------------------


06/06/2006

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية



|| معظم نقاشات الفلسفة السياسية تتناول سؤال: الى اي حد نسمح للدولة بتقييد حرية الفرد، وكيف نمنعها من تحويل الانسان الى عبد||.
  النقاش الدائر في الصحافة ومجالس المثقفين السعوديين حول صفة الدولة  ، هل هي دينية ام مدنية ، يخفي وراء سطوره خلافا اساسيا حول مفهوم "الحرية". في حقيقة الامر فان الخلاف حول الحريات المدنية وحقوق الانسان الاساسية هو الباعث الرئيس وراء هذا الجدل وان لم يصرح به المتجادلون. مشكلة الحرية تراها ماثلة في كل سطر من سطور ذلك النقاش الطويل ، وهي ايضا ماثلة في الاطار الموضوعي "الاجتماعي والزمني" لهذا النقاش. المدافعون عن فكرة "الدولة الدينية" لا يقولون بان الدين ضرورة لتعزيز العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر ، او المساواة بين خلق الله الذين يعيشون على ارض واحدة ويشتركون في عمرانها. فيما يتعلق بالاطار الموضوعي للجدل ، فالمعروف انه ثار على خلفية التغير الذي شهده المجتمع السعودي خلال الفترة  الاخيرة ، والذي عبر عنه في توسع الصحافة المحلية في تناول القضايا التي جرى التعارف سابقا على تحاشيها ، مثل نقد الهيمنة المذهبية الاحادية ونقد ممارسة الهيئات الدينية ، اضافة الى نقد ما يعتبر مغالاة في الدين ولا سيما استعماله لقهر القوى الاجتماعية الخارجة عن هيمنة التيار الديني المتشدد. وكان عود الكبريت الذي اشعل النار هو قرار وزارة العمل بالسماح للنساء بالعمل في محلات بيع الملابس النسائية ، خلافا لما جرى عليه العرف حتى الان من منع النساء من العمل في الاسواق .
كتب الكثير من الكلام حول جزئيات هذه القضايا ، لكن المسألة التي بقيت معلقة هي مسألة الحرية والحقوق المدنية. السؤال المطروح باستمرار على الفاعلين السياسيين هو: ما هو تعريفهم لمفهوم الحرية ؟. وما هو الحد الادنى من الحقوق المدنية التي يتمتع بها الفرد ولا يجوز خرقها او التدخل فيها من جانب اي سلطة ؟. مثل هذه الاسئلة هي جوهر العلاقة بين اعضاء اي مجتمع. من البديهي ان يسأل كل انسان نفسه: هل انا حر ام عبد ؟. وماذا يعني ان يكون الانسان حرا او يكون عبدا.
الذين يصنفون انفسهم كاسلاميين – في الاطار السعودي على الاقل – يقولون بانهم يدعون لحرية منضبطة ، فما هو معنى الحرية المنضبطة ؟. هل انا حر في ان استعمل عقلي وافكر كما اشاء ، ام على ان استأذن احدا قبل التفكير في اي مسألة ؟. هل استطيع اختيار نمط حياتي ومعتقداتي بناء على ما يوصلني اليه عقلي ، ام يجب على الرجوع الى "دليل المستعمل" كي اتبع ما يقرره واضع الدليل ؟. هل اتمتع بحقوق متساوية مع الغير ، وهل اختار مكاني الاجتماعي بحسب كفاءتي ، ام ان مكاني محدد سلفا ونهائيا على ضوء المخطط الكلي الذي وضعه مهندس هذا المجتمع ؟. وفي نهاية المطاف: هل املك مساحة خاصة من الحياة الشخصية استطيع ان اعيش فيها متحررا من كل احد ام ان حياتي كلها ، من الحمام وغرفة النوم الى الشارع والمدرسة ومكان العمل ، كلها خاضعة لولاية شخص ما وسلطته ؟.
"الحرية المنضبطة" مفهوم متناقض ، يشبه الى حد كبير مفهوم "المستبد العادل" الذي طرحه الفلاسفة اليونانيون قبل قرون ، وكرره بعض مفكري العرب في اواثل القرن العشرين. ثمة تعارض داخلي بين جزئي الحرية والانضباط ، مثلما يتعارض الاستبداد مع العدالة. يمكن لنا ان نتحدث عن المسؤولية كمقابل للحرية، اي ان يكون الانسان حرا ويتحمل مسؤولية قراره وعمله ، وهذا يختلف عن مفهوم "الحرية المسؤولة" الذي لا يقل تناقضا عن سابقه.
مسؤولية الانسان مثل حريته ليست تكليفا تفرضه سلطة ما على الفرد ، بل هي اختيار يقرره الفرد بارادته وقناعته ومعرفته . انت تقرر تحمل المسؤوليات (التي تؤدي بالضرورة الى تحديد بعض حرياتك) مقابل شيء تأخذه من المجتمع مثل الضمانات القانونية التي تحميك من عسف الاقوياء ، ومثل الفرصة في ان تحصل على منصب عام يتوقف الوصول اليه على موافقة المجتمع ، ومثل التمتع بفضائل الحياة الاجتماعية الاخرى التي لا تستطيع ضمانها حين تعيش منفردا . لكن هذا لا ينبغي ان يؤدي ابدا الى تجريد الانسان من حريته الشخصية وحقوقه المدنية الاساسية التي هي جزء من جوهر وجوده كانسان .
 بكلمة اخرى فان العاقل لا يقبل بان يتحول الى عبد مقابل انضمامه الى المجتمع او حصوله على وظيفة او تمتعه بحماية القانون . السجناء جميعا يتمتعون بحماية الشرطة ، وهم يحصلون على وجبتهم اليومية كما يحصلون على فرشة او سرير ينامون عليه ، وكل منهم - اضافة الى ذلك - يعيش وسط جماعة ، فهل هذا ما نرغب في الحصول عليه ؟ . السجن مثال لنوع من الحياة الاجتماعية لكنه مثال لا يريد احد ان يشارك فيه لانها ببساطة حياة تنعدم فيها الحرية .

يمكن للدين ان ياتي بالحرية ويمكن له ان يزيلها ، كما يمكن للدولة المدنية ان تحمي حريات المواطنين او تحولهم الى عبيد . وبناء عليه فان ما هو مهم في هذا النقاش ليس صفة الدولة ، بل انعكاس وجودها على حقوق الفرد وحريته . من البديهي ان وجود الدولة بذاته هو سبب لتقييد الحرية ، ولهذا فان  كل النقاشات الفلسفية والنظرية منذ ظهور علم السياسة وحتى اليوم ، تدور حول نقطة جوهرية هي : الى اي حد نسمح للدولة بتقييد حرية الفرد ، وكيف نمنعها من تجاوز الحدود النهائية التي اذا اخترقت تحول الانسان الى عبد.

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...