17/05/2006

تركي الحمد



شعرت بالحزن حين قرأت مقابلة الدكتور تركي الحمد في موقع قناة العربية الاسبوع الماضي. يمثل تركي الحمد واحدا من العلامات البارزة في ميدان الثقافة العربية المعاصرة. فهو من ذلك النوع من المفكرين الذين قد تعشقهم او قد تبغضهم، لكنك لا تستطيع تجاوزهم او اغفالهم. انشغال الناس به يذكر بالمتنبي
انام مليء عيوني عن شواردها 
ويسهر الناس جراها ويختصموا
يقول تركي الحمد انه سيهجر مسكنه بحثا عن الامان، فان لم يجده فقد يهجر وطنه كليا. اتمنى ان لا يحدث ذلك واراهن على بقية من عقل عند هؤلاء الذين ضيقوا على الرجل حتى اضطروه الى الرحيل. لكن عليهم ان يفهموا ان هذا لو حصل فسيكون لوثة في تاريخهم الى يوم الدين

كل من قرأ التاريخ يذكر بالفخر والاكبار اولئك الزعماء الذين حموا اهل الفكر واحتضنوهم، كما يذكر باشمئزاز اولئك الذين قهروا اهل الفكر وآذوهم. حين تمر السنوات ستكون اخبار اليوم تاريخا. حينئذ سيقال ان تركي الحمد المفكر البارز قد تعرض للقهر على يد «فلان» الذي اهدر دمه او تسبب في تهجيره
وسيذكر المقهور الى جانب اهل القلم. بينما يضيع القاهر في عتمات التاريخ، او ربما يذكر في صف الجلادين والقتلة. نذكر اليوم ابن سينا، ونذكر ابا حامد الغزالي، ونصير الدين الطوسي، والجاحظ، وابن رشد. عاصر كل من هؤلاء الرجال عشرات من حملة السياط والسكاكين وكتاب فتاوى القتل، فمن يذكر هؤلاء ومن يعرفهم؟. لقد تعفنوا في قبورهم وذابت سكاكينهم في التراب، بينما تحولت اقلام اولئك الى اشجار شامخة، تؤتي اكلها كل حين باذن ربها. نصيحتى لاصحاب فتاوى القتل ولمنظمي حملات التهديد والارعاب، ان يرحموا انفسهم، وان يكرموا ذرياتهم واهليهم بالعودة عن هذا الطريق الذي نهايته سوء الذكر ابد الدهر.


في ماضي الايام كان شيخي يقول لي ان الاخلاق دار والسياسة دار اخرى، ولا تدخل الثانية حتى تخرج من الاولى. ومرت الايام وفهمت ان الدارين دار واحدة، وان المشكلة لا تكمن في السياسة، بل في الشعور بالقوة والاستغناء، اي امتلاك السلطة او الرغبة فيها. بعض الناس يملكون سلطة الدولة ويملك غيرهم سلطة على القلوب

كل صاحب سلطة يرغب في القهر او يمارسه قصدا او سهوا، فالقهر هو التعبير الوحيد الحقيقي عن القوة والتميز عن الغير. لكن الاخلاق هي لجام السلطة. وهي ما يحول بين صاحبها وبين تحويلها الى اداة للقهر. يمكن لشيخ الحارة ان يقهر الناس مثلما يمكن للامير والوزير، كلا بحسب قوته ونطاق سلطته. يمكن لهؤلاء ايضا ان يتورعوا عن القهر، اذا ربطوا نوازعهم بلجام الاخلاق. واول الاخلاق هو احترام حق المخالف في الحياة والامان الشخصي، والخصوصية وحرية العقل وحرية التعبير عن الراي.
حاجة السياسة الى الاخلاق قادت الفلاسفة المعاصرين الى التمييز بين نطاقين من الحقوق الفردية: الحقوق الطبيعية والحقوق التعاقدية. الحقوق الطبيعية هي تلك المساحة من الحياة الشخصية الخاصة بكل فرد، والتي لا يجوز لشخص آخر ولا لحكومة ولا لفقيه ولا لشيخ قبيلة ان يتدخل فيها تحت اي مبرر او عنوان



تضم هذه المساحة حق الحياة الامنة، وحق الملكية واختيار السكن وحق التفكير والراي. اعتبرت هذه الحقوق طبيعية لانها جزء من جوهر انسانية الفرد، وحرمانه منها انتهاك لانسانيته.
 لا يحصل الانسان على هذه الحقوق لانه يعيش في مجتمع معين، او يدين بدين معين، او ينتمي لجماعة او طبقة اجتماعية بعينها، بل يتمتع بها لانه انسان وحسب. وبهذا فان الجميع سواء فيها: المسلم والكافر، حامل الجنسية والغريب، المرأة والرجل، الغني والفقير، المثقف والجاهل، المؤمن والفاسق. اعطانا الله هذه الحقوق ساعة ولادتنا مثلما اعطانا اجسامنا وعقولنا وارواحنا، فلا يجوز لنا ان نتخلى عن اي منها كما لا يجوز لاحد ان يسلبها منا.


جوهر الاخلاق السياسية يكمن في احترام هذه الحقوق. فمن يهدد حياة الناس، او يهدد امانهم الشخصي، او خصوصيتهم او ملكيتهم او حريتهم في التفكير والرأي، فانه يخرج بالضرورة من دار السياسة الاخلاقية، ويتحول الى جبار او جلاد. الجلاد هو من يقهر الناس بسوطه او سكينه مباشرة، والجبار هو من يستخدم هؤلاء الجلادين، او يغريهم، او يؤثر على عقولهم، اي - بشكل عام - يقرر افعالهم وان لم يشارك فيها مباشرة.

الوضع المحزن الذي عبر عنه تركي الحمد هو مثال على ما يمر به المثقفون والمفكرون واهل الراي من عسر حين يمارسون ابسط حقوقهم. وهو اشارة على الخلط المؤلم بين ما يفترض في الداعية من الالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي احسن، وبين واقع دعاة اليوم، او بعضهم على الاقل، الذين لا يميزون بين الاقلام والسكاكين. هؤلاء الذين غفلوا عن الواجبات الاخلاقية في السياسة والحياة، لا يفرقون بين مجادلة المخالف بالحكمة والعمل على اسكاته بالقوة والتهديد.


13/05/2006

العواجي وغباره وحرية رايه


تعقيب على مقالة «العواجي مثير الغبار» للاستاذ منصور النقيدان
اظن ان اخي الاستاذ منصور النقيدان قد ذهب بعيدا في نقد مسيرة الدكتور محسن العواجي وتحولاته. لم التق بشخص السيد العواجي، لكني اعرف انه يعبر عن راي شريحة معتبرة من المجتمع السعودي. قد نتفق مع قليل من ارائها ونختلف مع اكثرها، لكنها في نهاية المطاف جزء من الراي العام الذي ينبغي لكل صاحب قلم وكل داعية اصلاح ان يحترمه بغض النظر عن موقفه الخاص منه.
منصور النقيدان
لم يؤخذ العواجي بجناية تعيب صاحبها، بل براي توصل اليه عقله، وعبر في لحظته عن مشاعر اراد كثير من الناس التعبير عنها، فخانهم القلم او خانتهم الشجاعة او حال بينهم وبينها ضيق المسارب وانعدام القنوات. لا اتفق مع الاستاذ النقيدان ايضا في محاولته الايحاء بان العواجي قد تجاوز «حجمه» او خرج عن حده او حاول استغلال حادثة معينة او حوادث كي يرتدي عباءة حيكت لغيره. فالبديهي ان التطلع للمكانة الاجتماعية حق ثابت وطبيعي لكل فرد. خاصة اذا استعان بكفاءته ونشاطه في الوصول الى ذلك المكان ، ولم يركب اعناق الناس ، او يستثمر جهود غيره في الانفراد بما هو مشترك بينه وبينهم.
على ان المسألة في جوهرها لا تتعلق بالعواجي شخصيا، بل بحقه في التعبير عن رأيه، وحقه في التعبير عن مشاعر تلك الشريحة من المجتمع التي يمثلها او ينتمي اليها. ربما يعيب النقيدان على الرجل اسلوبه القاسي في التعبير عن هذا الراي، او بشكل عام اسلوبه في العمل السياسي، وربما يتفق كثير من الناس معه على هذا الجانب بالخصوص. لكن لا اظن احدا يشك في ان العواجي كان شجاعا في اعلان موقفه ، وهو يعلم انه قد جاوز او اوشك ما اعتبره غيره خطوطا سوداء وحمراء وصفراء.
في الوقت الذي نتفهم الحاجة الى احترام اعراف اخذ بها مجتمعنا لوقت طويل، فان الحاجة تدعو - بنفس القدر - الى مناقشة الحدود النهائية لهذه الاعراف، ولا سيما حين تتصادم مع حرية الناس في التفكير وفي التعبير عن افكارهم. البلد ملك لجميع اهله، وكل واحد من هؤلاء صاحب حق في تقرير حاضره ومستقبله، وكلهم صاحب حق في اظهار القلق اذا رآها تسير في طريق لا تؤمن نهايته.
عبر العواجي عن قلقه بطريقة سلمية. وكان الاولى ان يجاب على ذلك بمثله. في هذه الايام لا يعتبر انتقاد سياسات الدولة جريمة تستوجب العقاب. ولا يظن احد ان نقدها ، ولو كان بمثل القسوة التي اتبعها العواجي ، سوف يؤدي الى الاضرار بالامن العام والاستقرار. على العكس، فلعل التعبيرعن مشاعر القلق بهذه الصورة السلمية هو صمام امان يحول دون تحوله الى مغذ للمنازعة ومشاعر العدوان.
كان دور الدكتور غازي القصيبي وزير العمل ، هو محور مقالة العواجي التي اخذته الى السجن. ونعرف القصيبي شاعرا واديبا قبل ان يكون وزيرا. مر بالبلاد عشرات الوزراء لا يذكر الناس اسماءهم، لكن اسم القصيبي اشهر من نار على علم، ليس لوزارته بل لادبه وفكره وشعره. ولهذا السبب بالذات فان القصيبي المفكر مدعو الى السعي بكل ما لديه من وجاهة في الدولة وفي المجتمع ، لاطلاق سراح العواجي. ان خطوة مثل هذه ستزيد من مكانة القصيبي في النفوس، وهي ستخفف من حنق الناقمين عليه ، ممن عبر العواجي عن رايهم. وفوق ذلك فهي ستعطي مثالا على التسامي فوق جراح الذات ، اذا تعلق الامر بحرية الراي وحرية الفكر وحرية التعبير.
اخيرا فاني اناشد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، الذي كانت له مواقف سابقة في الحيلولة دون قمع اصحاب الراي، اناشده ان يجعل من حرية التعبير سنة في عهده. وان يشمل بعفوه السيد العواجي مثلما فعل بغيره من قبل. فالعواجي وكل صاحب راي في هذا البلد، هم راس مالها الثقافي ، وهم اعمدة استقرارها ، مهما اختلفت اراؤهم او تعارضت مع هذه السياسة او تلك.
  - 15 / 3 / 2006م 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...